خرف صباح بذيء

خرف صباح بذيء
ها أنا أعقد يدي خلف ظهري..لأن الصباح ليس كأي الصباح...والخرطوم في هذا الصباح ليست الخرطوم...السماء تبدو قريبة.قريبة تتذوقها بطرف لسانك..أنا لا أنظر أمامي.. إلى أعلى..وأتنشق صباح قريب. سأمشي اليوم..المسافة لا تبعد لأقرب حافلة تقلني إلى العمل . لكن كنت أقول دوما هذه المدينة صفيقة! نعم الخرطوم صفيقة..ومدينة بذيئة...سأخبر عاطف أن لا يكتب لي ثانية عن مغربيات المدينة الخبيثة...هذه المدينة لا تمغرب...تظهر..وتليل..فقط..كرجل بذيء ..يأكل فيضاجع.. قلت وأنا أضحك سرا على نفسي ...هذا الصباح ليس صباح الخرطوم..هذا صباح أعد للناس..نفحة إله..وجه إله صبوح..."يا سلام..يا سلام!" لم أمكث على هذه الحال كثيرا...ولأن الخرطوم مدينة "صفيقة" فهي لا تسمح للفتيات أن...أممـ أن يكونوا! وفي هذا الصباح كنت.. لذا لم تمضي دقائق..حتى جاءت عربة أمجاد مسرعة..ودلقت بذاءة ما من نافذة سائقها.. عبست لثوان سريعة..لأني لن أفسد يومي.. و بعده صفير غريب (أشبه بجرس الباب العصفوري) . اقترب شاب مني..وقال "السلام عليكم" (هذه إحدى بذاءات الخرطوم)..رددت السلام... قال شيء ما، لم أتبينه وإن فهمت مقصده..فقلت بوضوح (وأنا وقحة بعض الشيء) أنا عاوزة أتمشى ما عاوزة أتكلم.. فصمت وخلفني لكني فوجئت بصوته يدعو لي (ربنا يوفقك)...ذهلت ..لكن فهمت أنه يشير إلى سيارة بوكس مظللة وقفت أمامي..همممـ.. ذهبت حتى النافذة وأنا أحفظ كلمتي الجديدة (بلاش صفاقة وقلة أدب) فأنطلق الشابان بسيارتهم مسرعين. وخلاص!....المدينة البذيئة سرقت صباحي.. هذه المرة لن يفارق العبوس وجهي. محظوظة!!.وجدت مكانا في حافلة (وهذه معجزة صباحية). ما إن وضعت قدمي على درج الحافلة...حتى اقتحمني صوته (حتجي البت الحديقة)... لا أدري كيف بوسعه وهو هناك.. أن ينتزع من المدينة صباحي ويعيده إلي. (شي لله يا مصطفى)..تناسيت أمر المدينة لدقائق.... لذا سأنزل عن الحافلة هنا..نعم المحطة تبعد مسافة بعيدة..لكن السماء قريبة وما هي إلا دقائق وتبتعد...حسن..أنا في شارع المطار... العربات المسرعة تنثر رذاذ بذاءاتها من النوافذ! لكن سأتشبث بصباحي..لأن الناس كانوا يستيقظون حول ابخرة الشاي...ونساتها الصباحية المقتضبة..."أمطرت عندكم؟" "أمطرت!" "رشت عندنا".... ابتسامات كسولة فاترة والعقل يسرح..في المدينة البذيئة..التي شيئا فشيئا لم تبدو لي بذيئة...أغني... أبدا بفيروز وأنتهي بسكر سكر (لا أدري كيف؟) عقلي بدأ يدور، لأني تنشقت الخريف أكثر مما يجب.. هل الخرف يأتي من كلمة خريف؟ لأن الشجر يتعرى...يتحرر من ورقه السخيف؟ عند الخرف نتخفف من ثيابنا وذكرياتنا .. من سرق طائر السمبر؟..كان يأتي كثيفا في الخريف..لكنه بدأ يعود..قلت لأخي "السمبر بدأ يعود مع توقيع اتفاقية السلام" الخاطرة غريبة ولكنها بدت لي معقولة جدا..لكن السؤال هنا..أين كان السمبر؟ الهواء يقلب رأسي..سكر..كانت المشاغلات في الشارع بالسكر...وعندما استعاض الناس عنه بالعسل في أزمة السكر..صارت المشاغلات عسلية.. ثم مع الصدمة الحضارية (ماذا يسمونها هنا ؟..حقيقة نسيت) اختفى الكلام..فأصبحت المشاغلة "وين يا؟ شنو يا؟" ..هكذا مبتسرة. لكن يا ألطاف الله كيف تلونت ألسنة الطريق بالبذاءة..أصبحت لا تحتمل.. بدأ الأمر مقرونا بالإسم الإلهي (الله) و (الله..أنا)... هذه المدينة تزداد بذاءة كلما قرنت نفسها بالإسم الإلهي. منذ بدأ الناس يحملون سبحهم في الطرقات ..وينكبون على أدعية السفر في المواصلات.. ويفترشون الكتب ذات الألوان الصفيقة .."الجنس في الإسلام".." العلاج الشافي للضعف الجنسي" " التداوي بالأعشاب" "النكاح الإسلامي"... منذ الفتيات يرتدين القفازات السوداء... منذ رسائل الهواتف التي تحمل عجائب الرب..و فظائع الرب. منذ مكبرات الصوت تجرح الاذان بالوعيد. تلك اليافطة الغريبة لكلية السودان التقنية (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) هكذا يبتسرون الاية.. ليرسموا صورة الرب القبضاي. و على الجهة الثانية من اليافطة (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) لا أحد يفهم...اللهم بمقدار ما يتكئون على هذه اليافطة، الملتهبة بشمس النهار، في انتظارهم لحافلة تقلهم إلى جحيم اخر. أمر قرب يافطة روضة دار الحنان...كنت أقرأها من نافذة الحافلة "دار الختان" .. أقول لكم المدينة بذيئة! تريدون لعقلي أن لا يلتهب ببذاءتها...هو ملتهب! ربما الأمر ليس سيئا كما يصور لي رأسي المتقرح...سائق الأمجاد كان حزينا على صفقة خاسرة..أراد أن يتاساها أن يطردها عن رأسه بسرعة..أن يبتلعها غصة كي يدفر حياته إلى اخرها...ربما بصق همومه بذاءة في طريقي... والشاب الذي رافق صباحي كان صغيرا..ربما ظن أني في عمره... ربما أمنى نفسه بقصة حب قصيرة تتشابك أيدينا في طرقاتها لمغارب قصيرة..فنفترق.. لأن أمامة ثلاثون عاما قبل أن يفكر جديا في الإرتباط. اليافعين في البوكس...في هذا الصباح الباكر... قطعا سرقا مفاتيح العربة من عمهم الصارم.. يكتسحون بها الطرقات...وها هم سيتلقطون فتاة..كأول مغامرة لهم..وعند بوش الفطور أو العشاء..سيحكونها لأصدقائهم فيضحكون ويربتون على ظهورهم استحسانا لبطولاتهم..ولماذا أحزن؟ ..مدينتي سلبت منها كل البطولات إلا هذه... فـ...خلاص! حسنا ... أهز كتفي ..وأطرد شياطين الصباح... السماء بدأت تبتعد بعض الشيء...مبنى المؤتمر الوطني سرق كل الأخضر في البلاد ليطلي به حيطانه...(المبنى كان شيئا اخر لا أذكره) وكان هناك مصحفا كبيرا مضحكا أمام مدخله..كنت أود أن أعرف على أي صفحة كان مفتوحا... أيضا كان المصحف متكئا لركاب الحافلات. المدخل تغير...المدخل لا يفتح على الشارع..يفتح على نادي الضباط!! ليس في الأمر رمزية..بل واضح وضوح الشمس التي بدأت تقطع طريقها إلينا وسط الغيوم المتكاثفة...هنا أمام المبنى الأخضر سأرفع صوتي بفيروز.... ولأن الخريف في رأسي..سأتمشى على التلتوار... امشي على الأسود وأفط الأبيض..ويداي مفرودتان كطائر.أحفظ توازني في هذه المدينة ...البذاءات تنسكب من كل النوافذ وفي كل الاتجهات علي..ولا أبالي قلت لصديقي البارحة هذه المدينة..تكره الألوان... أوما إيجابا ..وقلنا سوية "صفيقة"!!!

[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1: << 1 >>

احدث عناوين سودانيز اون لاين الان

اراء حرة و مقالات	Latest Posts in English Forum
Articles and Views	اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases	اخبار و بيانات

الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة

About Us
Contact Us
About Sudanese Online

اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين

News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums

If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]