من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أبوبكر

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 07:58 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.جون قرنق
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-13-2003, 05:54 PM

WadalBalad
<aWadalBalad
تاريخ التسجيل: 12-20-2002
مجموع المشاركات: 737

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)

    منصور خالد

    ابتزاز الجنوب للشمال
    وقد وصلنا لهذه النقطة من المقال يصبح الحديث عن ابتزاز الجنوب للشمال، حديث لا يستند إلى ساق، فمطالب الجنوب كانت واضحة لا تَزيُد فيها ولا ابتزاز حتى اتفاق أديس أبابا، وإلى أن نقض ذلك الاتفاق الطرفان اللذان رعياه (جعفر نميري وجوزيف لاقو). ولكي لا نحمل حكومات الشمال وحدها المسئولية، ذهبنا في كتابنا إلى إبراز صور لأنماط من رحالة الجنوب السياسيين (political nomads) الذين ما انفكوا يتنقلون بين حكومات الشمال وأحزابه. كلما نَكِد الماء في بئر واحدة منها، ارتحلوا إلى غدير لم ينقطع سيله، بلا اعتبار لما ألحقته تلك الأحزاب والحكومات بأهليهم وبأهل الشمال أنفسهم من ويلات. إلغاء اتفاق أديس أبابا، كما قلنا في أكثر من مقال، هو الذي جعلنا أكثر إدراكاً لأطروحة قرنق التي تغيأ منها الوصول إلى لب المشكل : "نعم للوحدة، ولكـن لابـد من إقامـة الوحـدة علـى أسس جديـدة والعـودة، إلـى منصـة التـأسيس (drawing board) لكي نصوغ مقوماتها مجتمعين". هذا قلب للمناضد السياسية لم يألفه أهل السياسة في الشمال الذين دبوا ودرجوا يؤمنون بتراتبية رأسية في السياسة يخضع فيها الأدنى للأعلى، وترسخت في الأذهان حتى عمقت من الجرأة على الحق.
    إن كان هذا هو ما يسميه الكاتب الابتزاز والتصاعد بالمطالب فهو محق، ولكن العليمين بديناميكية السياسة يعرفون جيداً أن لكل فعل رد فعل إن لم يحسب حسابه الفاعل، فعليه وحده يقع الوزر. فمثلاً، قبيل إعلان الاستقلال الأمريكي في عام 1776 كان مطلب الولايات الثلاث عشر هو حق التمثيل في البرلمان البريطاني، واعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الحكومة البريطانية وولاياتها المُستَعَمرة. ذلك المطلب تلكأت حكومة اللورد نورث في قبوله وعدته تمرداً على التاج مما حمل توماس بين على المجاهرة بالدعوة للاستقلال، فكانت الثورة الأمريكية التي انتهت بإعلان الاستقلال. ولو استجاب الملك الأحمق، جورج الثالث وحكومته لطلب الولايات المتواضع يومذاك لبقيت تلك الولايات حتى اليوم جزءاً من الكمنولث البريطاني كما بقيت كندا.
    وضع الحركة في السودان يختلف، إذ ظلت تتواصل مع كل القوى السياسية بكل ما يقتضيه التواصل السياسي من حكمة ودبلوماسية واستعداد للاستماع إلى وجهة النظر الأخرى. حدث هذا في لقاء البشير مع قرنق كما حدث من قبل في كوكادام، وفي اجتماع الميرغني – قرنق، وفي حوارات أسمرا، وفي المجابهة بين قرنق وصادق المهدي في أديس أبابا (1986). تلك المجابهة دامت دام تسع ساعات وكانت مثيرة. ختمها قرنق بقوله: "نحن معشر السودانيين نتصف بخاصية غريبة، فليس من السهل في أي مكان آخر في العالم أن يلتقي رئيس وزراء نظام قائداً متمرداً عليه بمثل هذا الروح من الاخاء. ومن حقنا أن نسأل أنفسنا لماذا نعرض بلادنا وأهلنا لويلات الحرب. أقول لك أخ الصادق، بعد إيضاح المواقف، أننى سأخطو خطوتين لقاء كل خطوة تخطوها للأمام" . والتاريخ شهيد على من تزيدوا على الصادق حتى لا يكون وفاق.
    التصاعد بالمواقف إتخذ بعداً جديداً عندما جاء نظام الحكم القائم باجندة دينية- سياسية، حدية في مواقفها، واستئصاليه في بنيويتها، وقاطعة في أحكامها. هذا أمر لا نبتغي الاسترسال في شرحه فقد اوفيناه حقه من الشرح في كتابنا. نتلبث فقط عند أمرين لما لهما من صلة مباشرة بأطروحة الكاتب، الأول هو تحويل الحرب الأهلية إلى حرب دينية، والثاني هو دعاوي الكاتب أنه، فيما قال، يمثل رأي شريحة كبيرة من أهل الشمال. أعجبُ وأطَم أن لا يكون لأدبيات الجهاد، وثقافه العنف التي زُوِد بها المجاهدون مكان في ذاكرة الكاتب الذي كان يشرف على برامج ساحات الفداء. يا لتلك من فجوة فاغرة في الذاكرة.
    أدبيات الجهاد لا يدركها الذين حملوا السلاح ضد النظام في جنوب السودان، لأنها تنطلق في تقديرهم، من مفاهيم ميتافيزيقية، لا مكان لها في عالم السياسة العملية، بصرف النظر عن إيمان أصحابها بها. فالسياسة علم فيزيقي، وأثر السياسات ـ مهما كانت القاعدة المعرفية التي تنطلق منها ـ يجب أن لا تغيب عن بال المبادرين بها. الجهاد، حسب الطريقة التي مورس بها والشعارات التي صحبته، كان دعوة للإبادة، أو هكذا فهمه الخصوم، وفهمه العالم. ومن المؤسي أن الجهاد كان حقاً هو ما تصوره هؤلاء، إذ كان أبعد ما يكون عن وصايا الإسلام نفسه حول الجهاد. ففي وصاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وقد خرج لقتال المشركين : "لا تقاتلهم حتى تدعوهم. فأن أبوا فلا تقاتلهم حتى يبدأوكم. فأن بدأوكم فلا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً. ثم قولوا لهم هل إلى خير من هذا السبيل. فلئن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير مما طلعت عليه الشمس وغربت". لم تكن هذه هي اللغة التي كان يبتعث بها النظام مجاهديه لقتال "المشركين" في الجنوب، بل طغى عليها خذوهم، احصروهم، اقعدوا لهم كل مرصد، "واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، وبجرعات مكثفة. لهذا لن تفيد الكاتب في شئ الروايات التي أوردها عن عنف الحركة في الحرب ونسبها إلى الأسرى العائدين، حتى وإن صدقناها، إن لم يصحبها تحليل لثقافة العنف التي تولدت من تديين الحرب. ومن المفارق أن الكاتب لم يشر ـ ولو مرة واحدة ـ لأسرى الحركة الذين وقعوا في قبضة المجاهدين. ما كان في مقدوره أن يفعل لأن منطق ثقافة العنف هو: "اقتلوهم جميعاً لا تستحيوا منهم أحداً". ثقافة السلام التي نريد لها أن تسود تقضى بنزع ما في النفوس من حقد كامن وغِل غليظ "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين" (الحِجْر 15/47). هذا هو حال أهل الجنة لا يمسسهم فيها نَصَب، فلماذا يريد لنا البعض في هذه الحياة الدنيا عيشاً ذا منصبة.
    نذكر أيضاً أن هذه الحرب الذي ظلت رحالها تدور منذ بدايات الاستقلال كانت دوماً في الجنوب. لم يتوجه الجنوبيون بمتمرديهم إلى الشمال الجغرافي لاحتلال رقعة من أرضه. ولم يذهب هؤلاء الموسومون بالحنق، كما ذهب التأميل في سيريلانكا، أو الجيش الجمهوري الايرلندي في المملكة المتحدة، أو ايتا الباسكية في أسبانيا، إلى اغتيال المسئولين أو الاعتداء على البشر وممتلكاتهم في العواصم والأقاليم الأخرى. ولم يسجل التاريخ منذ اشتداد أوار الحرب في الستينيات اعتداءً وقع على مواطن عادي في الشمال من التجار والموظفين والعاملين هناك، وإن سجل أحداثاً للإبادة المنظمة لمثقفي الجنوب في جوبا وواو في منتصف الستينيات كما أثبت ذلك تقرير قاضي المحكمة العليا دفع الله الرضي. وان شاء الكاتب أن يعود بالقارئ إلى أحداث توريت (1955) التي يتلكأ عندها دوماً بعضنا، فيحسن به ـ كما يحسن بغيره ـ أن يعود إلى تقرير لجنة قطران ليرى فيه تحليلاً نصيفاً لأسباب تلك الأحداث. ذلك التقرير وان اختفى من مطبعة ماكوركوديل ـ كما اختفت المطبعة نفسها ـ أجلاه على الناس من جديد مركز الدراسات السودانية لمن يشاء أن يقرأ.
    حكوماتنا التي أخذتها العزة بالإثم هي التي حملت جيش السودان، على غير رضى من اغلبه، بخيله ورجله ومجنزراته وأخيراً بطائراته إلى جنوب السودان ليقول لأهله "أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم"، وما فعل هذا غير قليل من رحالة السياسة. الجنوب لم يكن أرضاً قَواء (خالية من البشر)، بل له أهل، وما اقتحمناه إلا لتقديرنا أن السودان بلد واحد. لهذا لن نصدق اليوم الذين ظلوا يقضون دوماً في أمر السودان بالأغلب، عندما يقولون أن السودان، في حقيقة أمره، بلدان. أو لا يحق لنا أن نقول، إزاء كل هذه الوقائع، إن حال الذين ضاقوا ذرعاً بحرب الجنوب بعد أن استخدموا كل الوسائل (بما فيها الدين) لقهر الجنوب فلم تُجد، كحال الثعلب الذي أنهكه الجري وراء عناقيد العنب، فلما لم يطلها قال : "ما أمر العناقيد !" .
    من اللافت للنظر أيضاً أن حروب السودان رغم كل المرارات التي صحبتها لم تنحدر إلى عداء واستعداء ذي طابع عرقي بين جموع أهل الشمال والجنوب في أقاليم السودان وعواصمه المختلفة كما وقع بين الهوتو والتوتسي في رواندا، أو يتكرر بين الهوسا واليوروبا في نيجيريا. حرى بنا، إذن، أن نعترف ونشيد بالحكمة الفطرية (village wisdom) لعامة الناس من أهلنا في الشمال والجنوب التي ألجمتهم عن الضِغن والتباغض.
    أن المعاسرة التي يجدها النظام في مفاوضاته مع الحركة تعود إلى وضع خلقه بنفسه، ولهذا فليس من الأمانة في شئ أن يستذري بعض نصرائه بأهل الشمال، أو يكتنوا بحماهم. أهل الشمال هؤلاء لم يستشاروا في سياسات النظام التي ألحقت أذى بالغاً بوحدة السودان. ولم يكن لهم مكان في خارطة طريق السلام التي رسمها يوم أن قال قائله (علي الحاج) لقرنق في عنتبي في مطلع التسعينيات، وعندما دعا قرنق لشمول محادثات السلام للقوى السياسية الأخرى : " نحن لا نتحدث إلا مع من يحمل السلاح". كما كان نصيبهم الالغاء الكامل يوم بعث مندوبه قطبي المهدي إلى نيروبي غداة وصول نائب رئيس التجمع، عبد الرحمن سعيد يصحبه نيهال دينق يطالبان بإدخال التجمع في مفاوضات الإيقاد. قال قطبي: "لو دخل التجمع من النافذة، خرجنا من الباب". وأخيراً يوم قال الفريق البشير لكبار أهل الشمال عند افتتاح ميناء بشاير "لا مكان لهؤلاء في السودان إلا بعد أن يتطهروا بمياه البحر الأحمر". فأي شمال هذا يتحدث الكاتب باسمه؟ أو ليس الأجدر بالحديث عن الشمال الرجل الذي ظل يدعو إلى إشراك قواه الفاعلة في كل مرحلة من مراحل العملية السياسية.
    الجنوب وتخريب الاقتصاد
    تخريب الجنوب للاقتصاد السوداني تعبير لا معنى له، فالحرب، كما قلنا، هي التي قادت بالضرورة إلى تخريب الاقتصاد، وعمقت من تشوهاته الهيكلية، وقادت ـ بجانب الهدر في الإنفاق ـ إلى إضاعة فرص التنمية. على أنا نقترب من هذه القضية من وجهين، الوجه الأول يتعلق بمسئولية أنظمة الحكم السابقة عن الخراب الاقتصادي، والثاني يتعلق بدور النظام الذي ينتمي إليه الكاتب في تعميق الخراب الراهن. حول الوجه الأول نقول أنه بالرغم من أن قضية تنمية الجنوب استغرقت حيزاً كبيراً في مقررات لجنة الاثني عشر، إلا أن التوصيات بشأنها بقيت حبراً على ورق حتى اتفاق أديس أبابا 1972. السبب بالقطع لم يكن هو رغبة تلك الحكومات في إفقار الجنوب والإبقاء على تخلفه، وإنما كان هو ضمور خيالها عند الإقبال على قضية التنمية في السودان بوجه عام. تلك الحكومات أبقت على نهج التنمية الاستعماري الموروث والذي كان موجها،ً بطبعه، لخدمة أهداف المستعمر باستغلال اكثر المناطق قابلية للاستثمار، وأقرب لِمواني التصـدير، وأجـدى بمعـايير فعاليـة التكلفــة (cost - effectiveness). لهذا لم تسقط فقط تنمية الجنوب، بل تنمية كل الأقاليم المهمشة من شاشة السياسة الاقتصادية الاستعمارية. فخلال الفترة من مؤتمر جوبا وحتى الاستقلال بلغ إجمالي حجم الاستثمار التنموي لكل السودان 14.6 مليون جنية سوداني، انفق منها على الجنوب 1.3 مليون. ذلك الإنفاق ذهب كله لإقليم واحد فيه (الاستوائية)، بل لمشروع واحد هو مشروع الزاندي الذي أعده المستر توتهل (مدير الزراعة وأول مدير لجامعة الخرطوم). أما في الفترة 1956 – 1960 ارتفعت مخصصات التنمية إلى 69.5 مليون جنية توجه أغلبها إلى مشروعات الري الكبرى في الشمال، مشروع المناقل، توليد الطاقة الهيدروكهربائية في سنار، مشروع الجنيد، وبدايات العمل في خزاني الرصيرص وخشم القربة. فالباحث الذي يريد أن يقضي في أمر مصيري مثل تقطيع أوصال القطر عليه أولاً أن يتثبت من الحقائق بدلاً عن إرسال القول على عواهنه. وحين يكون الحديث عن الاقتصاد فلا تعنى تعبيرات مثل "إغداق الشمال على الجنوب" شيئاً إن لم تصحبها أرقام، فالاقتصاد ـ في وجه منه ـ علم حساب. مع ذلك نقول أن الشمال "أغدق كثيراً" من ماله ورأسماله البشري، لا على الجنوب، بل على حرب الجنوب. وكما قلنا لا يتحمل المسئولية عن تلك الحرب إلا الذين انتهوا بعد ثلاثة عقود من الزمان إلى مالو كانوا قد أذعنوا له منذ البداية لكفوا الشمال والجنوب معاً عناء الحرب وتكلفتها الباهظة.
    لم تبلغ الحرب ما بلغته من كرب وهلاك ودمور ما بلغته منذ تحويلها إلي جهاد. فالنظام هو الذي جعل من القتال واجباً مقدساً يفرض على القادر وغير القادر، وعلى الراغب وغير الراغب. والنظام هو الذي حول الاقتصاد الوطني كله إلى اقتصاد حرب. والنظام هو الذي تجاوز كل قوانين الحرب بتعديه، للمرة الأولى في تاريخ الحرب الأهلية، على المنشآت المدنية. فأن دمرت الحرب الراهنة المدارس، فالتدمير لحق بمدرسة كمبوني في قرية كاودا بجبال النوبة، لا بكمبوني الخرطوم. وان طالت تلك الحرب المستشفيات، فقد كان ذلك هو نصيب مستشفى محفظة السامري في لوي، لا مستشفى سوبا. وان بلغ أغلب أهل الشمال حد الفقر، ولم يبقَ لبعضهم غير فضلات المقمات وقِرْف الحَتىِّ (الدوم) طعاماً، فليس لأن الجنوبيين قد سطوا على خزائن قارون يتوزعونها بين أنفسهم، وإنما لأن الامناء على تلك الأموال حددوا أولويات لإنفاقه يأتي الفقراء والمساكين والعاملين عليها في أسفلها. لهذا عندما يزرف الكاتب الدمع السخين على آثار الحرب على الاقتصاد، ويغفل كل الإنفاق الرسمي والأهلي الذي سخر للحرب، خاصة منذ مطلع التسعينيات، يكشف عن عَوار كبير في دعاواه. ومن الاستخفاف بمكان أن لا يجد الكاتب من كل المنشآت الكبرى التي عطلها قرنق، كما قال، غير قناة جونقلي التي ستدر على مصر 4 مليار متر مكعب من المياه (الصحيح أن هذه المياه ستقتسم مناصفة بين البلدين: مصر والسودان). جونقلي أوقفتها الحرب، وكانت ضحية لها بالتداعي. مع ذلك كان أول طلب توجه به قرنق إلى المهندس عوض الكريم محمد أحمد في لقاء كوكادام هو إرسال وفد من نقابة المهندسين لمعاينة الحفارة وصيانتها. نفس الطلب تقدم به قرنق إلى الرئيس مبارك في أول لقاء له معه في منزل السفير روبير اسكندر بأديس أبابا. على أن الحرص الذي يبديه الكاتب على مصالح مصر المائية في السودان حرص زائف، خاصة وقد صدر ممن كان ينتمي إلى أول حكومة سودانية صادرت منازل الري المصري، وطردت عامليها بالرغم مما تنص عليه اتفاقية مياه النيل (1959) حول اللجنة الفنية المشتركة.
    الحقد العنصري نحو الشمال
    لا ينكر أحد أن بين متعلمي الجنوب من لا ينظر إلى الشمالي ـ أي شمالي ـ إلا كعربي مسترق، هؤلاء هم ورثة أقري جادين، وجلهم ضحية لمتلازمة الرفـض (syndrome of denial). بيد أن في أوساطنا من يؤكد لهم كل يوم صدق توجسهم ومخاوفهم، ولا تسألن عن نوازع هذا الرفض، فكل ثقافتنا السائدة تقوم على الاستعلاء، أو ما أسماه عبد الله علي إبراهيم الخيلاء العرقية. ذلك الاستعلاء المنتفخ لا مكان له في عالم اليوم منذ أن تواضعت الإنسانية على إعلان حقوق الإنسان وما تبعته من عقود وعهود. وسرعان ما يقول قائلنا: نحن أصل هذه العهود، فمنا عمر الذي قال "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". هذه خفه لا تغنى ولا تفيد، فالذين يعانون من القمع المعنوي لا يخاصمون عمر بن الخطاب المخزومي، وإنما ينازعون محمد احمد السوداني (أمثال الكاتب) في حقوق يكتسبها المرء بحكم إنسانيته. فالمحسوس الواقعي لا يغنى عنه المجرد النظري. ذلك المحسوس تعبر عنه ممارسات فعلية هي، في جوهرها، انعكاس لصراع القوى والمصالح. وعلى أي، ذلك موضوع لن نوفيه حقه سنظلمه إن اختزلناه في بضع سطور في هذا المقال، خاصة وقد أفردنا له مكان ربما في كل فصل من فصول كتابنا العشرة. ولئن يختزل الكاتب كل القضية في قوله "لن أتردد في قبول زواج أي مسلم جنوبي من ابنتي عند موافقتها على ذلك" يكشف عن مقاتله. أصحاب هذا اللون من التفكير يلخصون كل قضية الجنوبيين في الابتعال ببنات ذوي الاحساب والذؤابة من نسل العباس بن عبد المطلب. القضية، يا شيخنا، سياسية تتعلق بالتمكين السياسي والاقتصادي، فالذين "استضعفوا في الأرض" ليسوا هم فقط أصحاب تيار سياسي بعينه. هناك أيضاً غيرهم من المستضعفين الذين يسألون الله أن يَمُن عليهم ويمكنهم في أرضهم. هؤلاء لم يكتفوا بسؤال الله، وما كان لهم إلا شحذ أسنة رماحهم في زمان ساد فيه القول "لن نتحدث إلا مع من يحمل السلاح".
    هذه النظرة "الجنسية" المنحرفة للقضية أيضاً، لا تختلف كثيراً عن رؤية المتعصبين البيض في الولايات الجنوبية بأمريكا. قال لهم مارتن لوثر كينق : "أريد أن أكون أخاً لكـم، لا بعـلاً لأخواتكـم" (I want to be your brother, not your brother - in law). ولا شك في أن الذين يخشون من التمكين السياسي يلجأون دوماً إلى استثارة أدني الغرائز في الناس. إلى استثارة العواطف ذهب كاتب إسلامى آخر كنا نحسب أنه بمنجاة من أبطولات الاستعلاء العرقي. كتب حسن مكي منذ بضع سنوات مقالاً حول جموع الوافدين إلى الخرطوم من غير المستعربة يقول إن تكاثرهم قد يذيب العنصر العربي فيها. ومضي الدكتور الأريب لوصف العاصمة التي أخذ "يجللها السواد" بسويتو، (المدينة الأفريقية المجاورة لجوهانسبرج)، أي أنها أصبحت جزيرة من السود وسط بحر من البيض. ولأهل السودان في الشمال والجنوب نظرة معتلة للألوان، فبياض أهلنا وأهل أخينا حسن لا يختلف كثيراً عن بياض "بحر أبيض"، ذلك النهر الخانع العبيط. اللون ليس هو القضية وإنما القضية هي المقاربة بين جنوب أفريقيا والسودان. ولعل غلاة دعاة الابارثايد كانوا أكثر حكمة منا عندما أدركوا ديناميكية السياسة وتنزلوا عن حصانهم الجامح وقبلوا الواقع، بعد أن تعالوا على ذلك الواقع زماناً. الواقع لا يقضي بتنكرنا في الشمال لعروبتنا الثقافية وإسلامنا، كما لا ينبغي أن لا يفرض على غير العربي وغير المسلم أن يكون عربياً ومسلماً. تنوع السودان هو مصدر قوته، بل هو آيـة من آيات الله: "ومن آياته خلـق السمـوات والأرض واختـلاف ألسنتـكم وألوانـكم" (الروم 22 /30). هذا تنوع صنعه البديع الذي أتقن كل شئ. الواقع أيضاً يقول نحن جميعاً سودانيون، منا قوم اصليون عاش أسلافهم في أرض السودان منذ أن كان هناك فضاء سوداني (النوبة، البجة، النيلويون، الفور)، ومنا قوم وفد أسلافهم إلى هذه الأرض واستقروا فيها وتوطنوا. وهكذا تكونت الأمم جميعها. هذه الحقيقة يتأبى بعضنا الإذعان لها لأنهم لم يلغوا بعد التناقض الفج داخل نفوسهم، كما يرفضون النظر إلى وجههم في المرآة، وإن نظروا فلا ينظرون إليها إلا في مرآة مقعرة. فلا غرو، إذن إن اختلت الصورة.
    بلا مناسبة شاء الكاتب أن يزج باسمنا في الفتنة التي ألهب نيرانها، وأنكرها حتى الاقربين. أسمانا ومن معنا ممن أطلق عليه أسم "الشماليين" خبراء التجميل في "الحركة العنصرية الحاقدة". العنصريون، حقاً هم الذين يزيحون عن خارطتهم الادراكية الآخر المختلف أو المغاير، ولا يقبلونه إلا كرديف مطاوع. والعنصريون هم الذين يبيحون لأنفسهم تحت بيارق الأيديولوجية السياسية، أو رايات الدين، أو أوهام التمايز الثقافي، إبادة الآخر حساً في بعض الأحيان، ومجازاً في كل حين. ندرك أن للكاتب ثأراً مع من يسميهم "الخوارج" في السودان يمضه كما أمض مقتل على قلب الشريف الرضي وأضغنه على خوارج النهروان. ذلك الضغن لم ينزعه الشريف عن نفسه، بل تمنى عليها أن تدركه بقطع كل قرن منهم حتى وإن كانوا نطفاً في أصلاب الرجال وأرحام النساء (نهج البلاغة). وما كان العفو والتراضي ليجد طريقه إلى قلب الشريف فاخر النفس وقد شهد جبال المجد تنهد أمامه، واحداً تلو الآخر:
    يا جبال المجد عزاً وعُلا وبدورَ الأرض نـوراً وسنـا
    جعل الله الـذي نَاَبكـمُ سبب الوجد طـويلاً والبُكـا
    لا أرى حزنكم يُسلى ولا رُزءَكم يُنسى وان طال المدى
    كان، بحق، موتوراً ثائراً على تعدى مهووسين نقضوا العهد، وأخذوا ولي أمرهم امام العادلين من حيث لا يدري، ونازعوه في ولايته وهم ليسوا في شرف موضعه وحسن ديانته. فالعزاء بمثل عليٍ مغلوب. أما حرب السودان اللعينة فهي حرب سياسية، لا غادر فيها ولا مغدور به. هي أيضاً حرب خاضتها أحزاب الشمال وحكوماته في ارض يقطنها أناس لا يعترفون لتلك الأحزاب والحكومات بولاية، ولم يتخذوا معهم عهداً في كل الفترات التي نقضوا فيها العهود، أو تلك التي اقتسروا الولاية فيها غلاباً. القراءة المتأنية والبعيدة عن الانفعال ستقودنا، بلا ريب، إلى أن نكون أكثر موضوعية في التقويم والحكم. ولكن إن تحامس بعضنا لا يبتغي غير الثأر المنيم، فعلم الله لنفتحن باب جهنم علينا لأن الدماء ستجري في الخرطوم قبل جوبا، وفي الخرطوم البحرية قبل توريت بين أهل الشمال أنفسهم بين أصحاب الثارات. أو ليس الأوفق أن يطفئ العقلاء نار الغضب تفادياً لنيران جهنم.
    أقول، من بعد، أنا لست شمالياً بعد أن اختلق لي الكاتب هوية معينة. وبالقطع أنا لست جنوبياً. أنا سوداني فحسب. هذه الرحلة التي قطعت لأتجاوز بها كل نوازع التمييز الجهوي، والعرقي، والديني بين أبناء الوطن الواحد لما يفلح بعد في سلوكها كثيرون في الشمال والجنوب. لو فعلوا لتصالحوا مع أنفسهم وتأنسنوا. ثم إننى سوداني بالصدفة التاريخية والجغرافية، أنا إنسان في البدء والمنتهي، وليس الإنسان هو كل من مشى على قدمين. الإنسان هو المخلوق القادر على التماهي مع بني البشر بحكم إنسانيتهم، وهو الحريص على مد جسور التفاهم مع كل الثقافات ومحاياة كل الشعوب والقبائل، وهو المدرك لأن الرؤية تتسع كلما انسجم مع المغاير والمفارق. هذا مجال تضيق فيه العبارة، وكما يقول الصوفي عبد الجبار النفري: "كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة". أصحاب النظرة الأحادية للحياة، والأحكام القاطعة على الأحياء، هم وحدهم الذين لا تضيق عباراتهم، ولم لا وقد احتكروا الحقيقة كلها! الإنسانية، يا صحاب، هي التي تعمق في الوجدان معاني الحب والخير والجمال. ولا يحسبن أحد أن رجلاً عاش في شرخ شبابه يعمل في محافل ما قامت إلا لخير الإنسانية، رغم كل عثراتها، يتنكر لما تعلمه في صباه بعد أن أصبح في معترك المنايا من العمر. فالذي يستنكر الابارتايد في جنوب أفريقيا ينبغي أن لا يقبل شبيهاته في عقر داره. والذي عايش وشهد مآسي الاستعلاء العرقي الصريح فـي أمريكـا، يقمن بـه أن لا يصمت عـن العرقية الخفية غيـر المسماة (anonymous) في بلاده. لهذا نسعى، مع كل ما نحس به من ألم ومضاضة، لاستنطاق المسكوت عنه، واستبصار اللامرئي سعياً لاستنقاذ بعض أهلنا من أنفسهم. هذا "الشمالي" أيضاً لن يستكين للتزيد والابتزاز باسم العروبة والإسلام، كما لن يسمح لنفسه البتة مجاراة النفاق الذائع حول أفريقية أهل السودان أو دور السودان الرائد في أفريقيا. لن يستكين للتزيد رجل أنضجته أرحام طاهرة من سرارة ذوي الأنساب في بلاد فيها للأنساب شأن، وتلبسته الثقافة العربية وتلبسها (إن كانت العروبة ثقافة)، وورث دينه عن أهل فقه ورواية. ليس مقامي بمقام مفاخرة، ولا در دري إن تفاخرت. ولكن ماحيلتي في بلد يتظنى بعض أهلها أن فيها هامات وأعجاز. تلك جاهلية، لا يرتد إليها إلا "الذين كفروا وفي قلوبهم الحَميةَّ حميَّةَ الجاهلية" (الفتح 26/4. هذا تزيد لن ننكفئ معه، بل نقول
    إلا لا ليجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
    أما أفريقية أهل السودان، فدعاتها مدخولو القلب في الانتماء إليها، طالما ظلوا عاجزين عن احتمال "أفريقيا" التي تتساكن معهم في نفس الوطن. كثر من هؤلاء ذهب به النفاق إلى تصنيم قيادات أفريقية مثل باتريس لوممبا ونلسون مانديلا، وجومو كينياتا، ولا يصنمون إلا الأساطير والرموز. هي أساطير ورموز لأنهم افرغوا أولئك الأبطال المغاوير من كل العناصر التي كونتهم، ومن كل المواريث الثقافية التي غَذ
                  

العنوان الكاتب Date
من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أبوبكر WadalBalad04-13-03, 05:21 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:26 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:28 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:30 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:32 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:35 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:39 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:42 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:45 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:50 PM
  Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب WadalBalad04-13-03, 05:54 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de