وفي أوروبا الثامنة عشر ، كانت سفن الحمقى تمخر عباب المحيطات حاملة داخلها المصابين بأمراض عقلية ، حيث تهيم السفن على وجهها لتغرق أو تستقر بأي يابسة...كان الأوروبيون يعتقدون أن المجانين يحملون لعنات الله وغضبه ولذلك يتشاءمون منهم فيبعدونهم عن بلادهم عبر تلك السفن التي اشتهرت بإسمها "سفن الحمقى". قبل ذلك بثلاثة آلاف عام كان للفراعنة مستشفيات خاصة بالمرضى العقليين ، وقبلهم بحوالى ألف عام انشأ العرب أول مستشفى ونزل للمرضى العقليين. ثم انقلب الحال...فقد وصلت سفن الحمقى لبلاد العرب وتهجنوا مع راكبيها...فأصبحت الشعوب العربية مختلة عقليا ولكنها تقبع في سفنها على اليابسة. وبالعودة لسفن الحمقى فقد كان المريض العقلي في اوروبا يتعرض لتعذيب بشع يصل حد وضعه في إناء ضخم مليء بالماء وغليه لطرد الأرواح الشريرة ، ثم كان يتم ضربه وكيه بالنار ، وكثيرا ما ينتهي به الأمر إلى الموت. وهذا الأمر لا زال عندنا قائما ، فكثيرون ماتوا تحت هذا التعذيب لطرد الجن والشياطين منهم ، ولا زال كثير منهم يتم تقييده تحت الأشجار عند شيوخ الدين وبعضهم يتعرض للاغتصاب والضرب حتى الموت برضى اهل المريض بل وسعادتهم بذلك. والسبب أن هؤلاء يعتقدون أن الاعتراف بمرض أحدهم وصمة عار في حين أن وجود جن او جنية داخل الجسد يبروء ابنهم ويلقي باللائمة على كائن خارجي لا سبيل إلى دفع عدوانه. ونظرا لأن من يحكمون الدولة هم أنفسهم من المؤمنين بتلك الخرافات لذلك لا تجدهم يكترثون ولو قليلا لتناول أمر العناية بالمرضى العقليين العناية اللازمة. وربما تجد وزيرا يرسل بابنه إلى اؤلئك الشيوخ لينال من الضرب والتعذيب والتحرش نصيبه المكتوب...ثم غالبا ما يتفاقم وضع المريض نتيجة الضعف والهزال فيلقى حتفه ويصلى عليه ويدفن مع شياطينه وجنه تحت الأرض. وليس غريبا أن تزور بعض الأسر وتشعر بغموض ما لتكتشف أن في تلك الغرفة البعيدة أحد المجانين مقيدا داخلها بالجنازير والسلاسل. ولا توفر الدولة قوانين صارمة ليتم عبرها تنظيم معاملة المجانين سواء عند أسرهم أو عند الثكنات الصحية.. فصحيح هناك قانون يتيم ولكنه حتى غير معروف لكثير من المشتغلين بالصحة العقلية. لقد كتبت كتيبا صغيرا عن الجوانب القانونية لهذه المشكلة قبل سنوات ومع ذلك فحتى الأطباء لا يكترثون لمعرفة الأمر ولم ينل هذا الدليل أي اهتمام. فالسقف الإدراكي للمجتمع هابط جدا ، وغالبا ما تبدو تلك القضايا ترفية ، وعموما فلا توجد رغبة ملحة لاكتشاف هذه الشعوب محيطهم الإنساني من زوايا وأبعاد خلاف التناطح حول السلطة والثروة والجنس. أو كما قال عليه أفضل السلام: (شر رقيقكم السودان فهم إذا جاعوا سرقوا وإذا شبعوا زنوا). ولكم هو وصف بليغ يختصر واقع اليوم وماضي الأمس والقادم في المستقبل. لقد قال لي أحد الأصدقاء أن البلادة درجة من درجات الجنون. والحق يقال أنه صدق ، ولو تتبعنا واقعنا الراهن لاكتشفنا أن جل مأساتنا ناتجة عن بلادة أفضت لسلوكيات لا عقلانية ملؤها الشر والتحاسد والتباغض وحب الاحتكار مع التسلط مع نزعة تدميرية مزمنة..وهذا ليس بأقل من الإضطراب العقلي المرضي الذي يجب أن نبحث عن أسبابه الجينية أو المعرفية السوسيولوجية. ولا يبدو بأن في الأفق ضياءا يخرجنا من سفينة الحمقى هذه ، ويبدو أننا سنهيم داخلها قرون عددا دون أن نرسوا في بر العقلانية أبدا....
العنوان
الكاتب
Date
سفينة الحمقى The ship of fools بقلم د.أمل الكردفاني
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة