أخرج مجدي يده من تحت الغطاء وأوقف منبه الهاتف..في كل مرة تنجح هذه النغمة في إيقاظه فزعا،وفي كل مرة كان يتذكر عبارة زوجته المتكررة:هذه النغمة مزعجة جدا..حاول أن تضبط منبهك على نغمة توقظك لوحدك..نغمة مهذبة وغير متعدية. لو كانت زوجته لم تتفوه بتلك العبارة الاعتراضية لربما غير النغمة منذ وقت طويل،لكنه بعد اعتراضها بات يملك سببا وجيها للتمسك بالنغمة..قفز من السرير ودلف مباشرة إلى الحمام..خلع ملابسه بالكامل ووقف أمام المرآة الكبيرة ونظر،هناك زائدة لحمية صغيرة ظهرت مؤخرا على تخوم المنطقة الحساسة..هي ليست مؤلمة لكنها كانت تقلقه..ماذا لو نمت واستطالت واحتاجت لتدخل جراحي مثلا؟سريعا تفقد باقي الجسد،شكله أمام المرآة دائما مايبدو غير مألوف بالنسبة له..ترى لو صادفت يوما هذا الشخص في إحدى الحانات هل سأعرف أنه أنا..هناك أناس يمكثون دهورا لم ينظروا في المرآة،ومع ذلك يعرفون أشكالهم جيدا..الطفل الذي لم يعرف بعد فيزياء المرآة عندما يقف أمامها يعرف أنه يشاهد نفسه..فتح الماء واستحم بتمهل..خرج مسرعا نحو المسجد لأداء صلاة الفجر..دائما مايفشل في إدراك الصلاة من أولها..تفوته باستمرار سورة الفاتحة في الركعة الأولى..المصلي الذي بجهة اليمين يصر على مضايقته بلصق القدم بالقدم..سحب قدمه مرة ومرة ثم تركها..الإمام أخطأ في آية ما،هو يعرف ذلك عندما يفتعل الإمام كحة..إذا احتاجت الشامة لتدخل جراحي فسيعمل العملية بمستشفى آخر غير مستشفى التأمين..لديه تجارب مريرة مع مستشفى التأمين..بعد الصلاة مباشرة هرول مسرعا نحو البيت،وجد زوجته مازالت نائمة،قرّب الهاتف من أذنها وشغل نغمة المنبه،قفزت فزعة:بكسرو،والله يوم أكسرو ليك.. :الشاي،الشاييي. بعد الانتهاء من شراب الشاي يحين موعد ارتداء ملابس الخروج،لكن قبل الخروج لابد من تناول القهوة..الفاصل الزمني بين شاي اللبن والقهوة أقصر من الفسحة بين هم وهم..عم عبدو سائق حافلة الترحيل رجل صعب المراس،يقال أنه كان يقود عربة آخر حاكم عام في فترة الاستعمار..لذا فهو مستاء باستمرار..لكن المقلق حقيقة،هو أن مظهره يبدو وكأنه سيموت أثناء القيادة..مجدي في كل مرة كان يفكر في هذا الاحتمال ويحاول أن يضع له المعالجات اللازمة..مع آخر رشفة من القهوة ينطلق إلى الشارع..إذا تأخر دقيقة واحدة سيجد الحافلة قد مضت..عم عبدو لاينتظر أحدا أبدا..موقع الشركة البعيد حتم القسوة الادارية في التعامل مع الترحيل،وعم عبدو محتفي دائما بهذه القسوة..في أحد الأيام خرج فوجد عم عبدو قد غادر،بعدها ولمدة إسبوع كامل،كان مجدي يدخل حذاءه في البالوعة قبل أن يركب مباشرة..حنان زميلته في القسم،تحب أن تجلس في المقعد الملاصق لمقعده.. منزلها يقع بعد منزله مباشرة في ترتيب الترحيل،لذلك تنجح دائما في الجلوس بقربه على المقعد،في أحد الأيام أحضر معه حقيبة كبيرة ووضعها على المقعد الفارغ،ذلك المقعد الذي من المتوقع أن تجلس فيه حنان..عندما وقفت لها الحالة ودخلت، توجهت مباشرة نحو مقعدها المفضل المستديم..رأت الحقيبة فصاحت في وجهه:شيل الزفت دي من هنا.. منذ ذلك اليوم حرص مجدي على ترك المقعد خاليا..المكتب الذي نقل إليه أخيرا مريح جدا،لايقارن أبدا بمكتبه السابق..عندما جلس لأول مرة على المقعد الموضوع أمام الطاولة الواسعة،عرف أنه كان يخدم الشركة من خلال جحر ضيق.. :كنت فأرا في شركة.. عم عبدو يقود آخر اليوم بتمهل شديد،في الصباح يستهلك المشوار 45دقيقة،وفي آخر اليوم يستهلك ساعة وربع..لكن ربما الأمر يخضع لحسابات ساعات الذروة..أبدل ملابسه وتناول غداءه،استراح قليلا،استحم ثم انسرب خارجا..اليوم موعد اجتماع الحزب،في الاجتماع السابق حدثت فضيحة ديمقراطية،الأعضاء تجادلوا في مسألة خوض الانتخابات..كثر الهرج،في النهاية رئيس الحزب حسم الأمر بالقسم بالطلاق.. :علي الطلاق كان ندخل الانتخابات.. حاول أحد الأعضاء أن يعقب على هذا الطلاق،لكن نائب الرئيس عاجله :خلاص الرئيس حلف طلاق،تاني في شنو... في تلك الجلسة فكر مجدي في أن يحلف بالطلاق على شئ لايمكن تنفيذه حتى يقع الطلاق ويتخلص من زوجته..شئ مستحيل تماما.. :علي الطلاق كان نعمل إنقلاب.. أو :علي الطلاق كان نعمل توأمة مع الحزب الجمهوري الأمريكي.. لكن أحد الجالسين بقربه لكزه ليقول له شيئا،فقطع عليه حبل تفكيره.. بمجرد أن خرج من الاجتماع اتصل به صديقه خالد.. :ألو :وين إنت؟ :خلاص طلعت..أمشي قدامي بجي لاحقك طوالي.. :تمام.. بعد وقت قصير كانا يجلسان سويا في الاستاد..اليوم موعد المباراة المصيرية لفريقهما ضد أحد الفرق المنافسة..المباراة التي ستوصل لمباراة الكأس..انتهى الشوط الأول بالتعادل الأبيض،في منتصف الشوط الثاني نجح فريقهما في إحراز الهدف الأول..ضجت المقاعد بالحركة والصياح الهستيري،كل جمهور الفريق أصبح في حالة نشوى بالغة..لكن مجدي كان له نصيب الأسد من تلك النشوى،أخذ يقفز مقلدا حركة الكانغارو،وتوجه بقفزاته تلك نحو جمهور الفريق المنافس..حاول خالد أن يوقفه،لكن الكانغارو كان مصرا..جماهير فريقه قطعت احتفالها بالهدف وأصبحت تراقب ذلك الكانغارو المجنون..ثواني،فقط مجرد ثوان وتلقى الكانغارو حوالى 13 طوبة من الوزن الثقيل..بعضها جانب الهدف وبعضها اصطدم بالجسد القفاز..في المستشفى قال الطبيب:يمكنك الآن الانصراف..الجروح سطحية،وقد أجرينا اللازم.. :داير راحة من العمل لمدة 48 ساعة.. :جدا.. عندما عاد لمنزله،سألته زوجته فزعة:دا شنو الدم دا؟ الحصل شنو؟.. :دقشتني عربية.. :لاحولا،وحصلتيك حاجة.. :لا،لكن خالد مات.. :ياسلااام،البركة فيكم.. :يستاهل. ضبط المنبه على وقت متأخر قليلا،لن يذهب غدا لأداء صلاة الفجر في المسجد،لديه راحة لمدة 48ساعة وهذه قد تعتبر رخصة شرعية..لكنه سيذهب لأداء اختبار رخصة القيادة.. موعده صباح الغد حسب الجدولة التي وضعها قسم المرور،فجأة أصبح الناس شغوفين باستخراج رخص القيادة..الزحام مستديم،لدرجة أن تأتي فتسجل ثم يعطونك موعدا قادما،بالضبط مثل أخصائي المخ والأعصاب..لقد أدى هذا الاختبار أكثر من 7 مرات، وكان الفشل نصيبه المستديم..هذه السبع مرات استهلكت حوالى ستة أشهر..السبب في فشله ليس قيادته السيئة،لكن لأنه قد تعارك مع العسكري الممتحن..طبعا لم يتعاركا بالأيدي، لكنهما أوشكا على ذلك..ومنذ ذلك الوقت وهو يفشل في اختبار القيادة..دائما عندما يأتي يجد هذا العسكري بالذات..في إحدى المرات نفذ صبره فصاح فيه:ياخي إنت لابنقلوك ولا برقوك؟ لكن اليوم عليه تغطية جروحه وخاصة التي في الوجه..سيتعامل بانضباط تام..لابد من إنهاء هذه المهزلة..عندما وصل إلى هناك،سدد الرسوم ثم ناولوه استمارة الطلب..في كل مرة استمارة جديدة،وفي كل مرة رسوم جديدة..لقد ساهمت في الميزانية العامة للدولة بنصيب معتبر..لم يتصفح الاستمارة،هو يحفظها عن ظهر قلب..بدأ مباشرة بالبيانات الثبوتية.. الاسم ................ في خانة النوع ـــ كالعادة ـــ كُتب ذكر و أنثى..نوعان فقط ،فليس هناك نوع ثالث بطبيعة الحال.. هناك مستطيلان صغيران،أمام كل نوع مستطيل..رسم مجدي علامة (صاح) داخل المستطيل المرسوم أمام ذكر..ثم شرع في ملئ خانات الاستمارة..لكنه توقف فجأة..رفع القلم وعضه ساهيا،ثم كشط العلامة التي وضعها في مستطيل ذكر.. في خانة النوع،حذاء النوعين المعهودين،على أقصى يسار الصفحة،كتب أمكنة ..ثم رسم مستطيلا أمامها ،ووضع في منتصفه علامة صاح.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عليش الريدة
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست