سعدت بقضاء ليلة رأس السنة (2005؟) بين جمهرة غفيرة من جيل الإنقاذ شباباً وشابات نستمع الي عقد الجلاد بكازينو النيل الأزرق. وانا مدين بهذه السانحة من العمل الميداني في علم اجتماع الأجيال الي الأستاذ علاء الدين بشير الذي أحسن الي بدعوتي الي تلك الليلة الغراء. ولم يفتني بالطبع أن ألحظ فرط عدد الحضور. فلم يكن مثل هذا العدد على أيامنا ليحضر حتى مباراة مشهودة للهلال والمريخ ناهيك عن حفلة واحدة بين عشرات الحفلات التي انعقدت في ليلة رأس السنة. لقد جاء شباب تلك الليلة من عاصمة إسكوب لم نقتحمها بعد بالفكر لنتعرف على تضاريسها. فما زالت الخرطوم عندنا هي خرطوم زمان. فقد لاحظت في الحفل أن المدينة قد استكملت لها عدة إزجاء الفراغ. فقد راقبت الطريقة التي غني بها كل شاب نص الأغنية مع المغني سطراً سطراً إما لنفسه او لشلته. وهذا وجد عجيب، و"نهب" للأغنية، و"تخصيص" لها صدق فيه قول أهلنا يغني المغني وكل زول على هواه. كما شدتني حركة المجموعات الراقصة التي تنعقد وتنفض، ثم تعود الي الرقص مرة اخري. وأخذتني عموماً طلاقة الجسد وإندلاقه بين الذكور خاصة. فالواحد منهم ينهض راقصاً متي انتشى، ثم يعود الي مقعده. ولم نكن نفعل ذلك في جيلنا إلا بعد أن يغيب منا الوعي في قعدات ليلية قاصرة على الشلة. ثم نظل نسخر في نهارنا ممن فقدوا وقارهم بالطشمة. ولا زلت أذكر كيف سارت الركبان بذكر الاستاذ عبد الله مسعود حين اعتلي كرسيه مصفراً راقصاً في حفل أم كلثوم الشهير بالمسرح القومي. وكنا إذا انتشينا صفقنا او قلنا "أحسنت". وهذا تجاوب ناشف جاء من قلتنا وطليعيتنا ومراقبتنا جسدنا وضبطه حتى لا تلهيه أغنية عن ذكر الصرامة الإدارية التي تربينا عليها. كلبت شعرة جلدي حين حل منتصف الليلة ووقف الحضور عن بكرة أبيهم بفرح حقيقي لدي سماعهم “لن ننسي أياماً مضت" من عقد الجلاد. ثم تكرر المشهد لما اعقبوها بالسلام الجمهوري. لقد حيرني في الشباب فرحهم بعيدهم وأيامهم التي مضت وازدرائهم قول المتنبيء المدمر: عيد بأية حال عدت ياعيد بما مضي ام لأمر فيك تجديد أصدقكم القول إن عيني جرت بدمعة. وقلت لنفسي أي أيام مضت أسعدت هذا الجيل الذي وصفته اغنية للجلاد مضت في الحفل بأنه جيل "الدردرة"! وكيف ما يزال يدين بسلام جمهوري لم يدن به جيل بعد جيل من الحكومات القميئة والمعارضين البائسين الذين استرخصوا بالوطن و "شعبه" الفضل"، ونشروا ثقافة اليأس فوق البلاد تشفياً من حكومة غلظت عليهم. هل ماشعر به الحضور سعادة حقاً تلك التي أنهضت الشباب على أمشاطهم أم أنها "فسحة الأمل" المشهورة؟ ووجدت نفسي أفكر طوال استماعي الي "لن ننسي أياماً مضت" في الاستاذ أحمد محمد سعد الذي قال لي في معتقل كوبر عام 1971 ‘نه ترجم نص هذه الأنشودة العالمية الي العربية. فلنذكره بالخير لأننا حين "وقفنا حذا" مع العام كان الرجل قد وفر لنا من لغتنا ما نهتف به فرحاً للقاء الدنيا. تأكد لي من الاستماع إلى أغاني عقد الجلاد وتجاوب الشباب معها أنني احضر كرنفالاً للعلمانية. وقد أوحي بهذا المفهوم الدكتور سيمون الذي كتب عن إسلام الخرطوم. فقد قال إن خلطة لناس في العاصمة أنشات فيها مجتمعاً حضرياً متساهلاً تجاه الآخر. فالأغنية الغالبة عند عقد الجلاد هي "الكولاج"، أي التي تحتشد فيها أصوات من كل الوطن. وقد اعجبتني مثلاً الطريقة التي جعلوا من "يا ربوع سودان" إطاراً لكولاج عذب. وكما خرج فنانو الكولاج يهدون هؤلاء الشباب في ضوضاء المدينة سيخرج سياسيو الكولاج يرتبون للمدينة مجتمعها المتآخي لتكسد بضاعة ساسة الخلاف والثوابت والصفاء.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة