أرجو أن يكف عبدة "الزمن الجميل" عن إرهابنا به. ويتفق سدنة هذا الزمن بأنه قد سبق الإنقاذ ثم يختلفون. فبعضهم قد يزج حتى المرحوم نميري فيه بينما يمتنع آخرون عن ذلك. وعليه فهو ماض ذهبي متوهم يريد أكثر دعاته منه النيل من الإنقاذ الحارسانا الجات كايسنا. وتجد هذه العقيدة متمكنة من أبناء المدينة القديمة وبناتها في أم درمان وغيرها ممن صحوا ذات صباح ليجدوا أن مدينتهم الصغيرة قد انبعجت. أعوج ما في التغني بهذا الزمن الجميل المزعوم تعطيلنا إعمال النقد في شغل ذلك الزمن ورجاله ونسائه. فمن شغفنا النفسي بذلك الزمن المتوهم تجدنا نتغاضى عن أخطاء أهله الكبيرة جداً. وأكثر أهله النافذين شماليون ممن ذاع وصفهم ب"العربسلامي" عند ناقديهم. ومتى عطلنا نقد هذه الرموز جزافاً غبشنا الوعي بأزمة الوطن التي أصلها في ذلك الزمن الجميل. اكتشفت من قراءة عابرة لمضابط البرلمان أن البرلمان كان ميداناً قحاً للاستعلاء العرقي. وكان من أفصح الناطقين بهذا الاستعلاء "العربسمالي" رموز الزمن الجميل الذين ما ذكرنا النيابة البرلمانية حتى سجدنا لهم خاشعين: الشريف حسين الهندي ومبارك زروق وكبيرهم المحجوب. ووجدت أنهم كثيراً ما غطوا على مناطق ضعفهم السياسية بالعنف اللفظي الجاهلي حيال من العربية ليست لغة أم لهم . لن أعيد سخرية الهندي من السيد أحمد إبراهيم دريج، زعيم المعارضة عن حزب الأمة جناح السيد الصادق المهدي في برلمان 1968، حين أخذ عليه نطقه "القروض" وكأنها "القرود". فقد كثرت إشارتي لها. ووجدت لاحقاً أن زروق، الفتى الأنيق المعطر في وصف الدكتور منصور خالد، لم ينج من هذا العيب. وهجم بغير لطف على السيد إبراهيم أحمد، وزير المالية، في البرلمان الأول (1954-1958) الذي قال إنه لم يفهم أمراً ما قاله نائب دائرة مدني. وأضاف: "أنا مش شديد في العربي وخصوصاً الكلمات الغويصة." فنهض زروق وقال له إن كلمة "غويصة" ليست من العربية في شئ وصحيحها "عويصة". وواصل قائلاً إن الفرق نقطة واحدة. ثم تلاعب باللغة: "والسيد وزير المالية يخفض نقاط غلاء المعيشة ويزيد نقاط الحروف في كرم زائد لأن الأخيرة مجاناً لا تكلف شئيا أكثر من أنها تجعل عظام المرحوم سيبويه تهتز هلعاً". فأنظر أيها القاريء هذا النضم الزائد الخطر. وبالطبع لا يتأخر المحجوب الخطيب المفوه عن ركب هذا العنف اللغوي. كنت أقلب قبل أيام كلمات له في محاضر الجمعية التأسيسية (19-6-1968) يرد فيها، المحجوب كرئيس للوزراء، على المعارضين "العجم". وقد أسفت لها لأنها نضحت بإستعلاء صفوي وعربي مبين. فمن الزهو الثقافي قوله لنائب معارض لم يرتح لإستشهاداته بالشعر إنه من جهلاء المعارضة "الذين لم تمنحهم الحياة فرصة التعليم لتذوقه (أي الشعر)". وقال نائب آخر إنه بحث عن كلمة عربية للبشكير فلم يجدها. فتصدى له المحجوب بقوله إنه لن يجدها "لأنه لا يعرف غير ثلاثمائة كلمة عربية". أما ما أخجلني حقاً فما قاله لدريج، زعيم المعارضة. فقد استنكر نقده للحكومة للتراخي في نصرة الحق العربي. وقال إن زعيم المعارضة ظل يتحدث ساعة ونصف الساعة فلم ينطق جملة عربية صحيحة. وزاد أنه لولا وجود نائب معارض ما (يبدو انه عربي اللسان) "لحسبت أن هذه المعارضة من بلد غير هذا البلد ولا تمت للعرب بأي صلة". تلك رموز الزمن الجميل غاب عنا وجه قمرها الآخر. وهو الوجه الذي يرخي بسدوله على بلدنا هذه . . . في الزمن القبيح.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة