(أقدم كحلقة وصل للجزء الثاني من هذا المقال تعليقاً على طلب من الأستاذ ناصر جامع على السودانيزأونلاين أن أسحب ما ذكرته في الحلقة الأولى من أن الفيلم الوثائقي "خال الطرف"، الذي عرى ممارسات سلبية لكنيسة الساينتولجي أمريكية المنشأ، قد جرى حجبه من الجمهور في المملكة المتحدة. وكانت الكنيسة المحججاجة لوحت بمقاضاة من تسول له نفسه عرضه في المملكة منتهزة وجود قانون ساري المفعول في إيرلندا الشمالية (دون غيرها من بلدان المملكة منذ 2008 فقط) يجرم الإساءة للدين متى ثبتت.وبنى ناصر طلبه بشهادة نص من الويكبيدا يقول إن الوثائقية قد عرضت على جمهور المملكة المتحدة في سبتمبر الماضي وسط حفاوة إقبال واسعين. وجاء في أول نص الويكبيدا أن الوثائقية (eventually) عُرضت في المملكة. ومفاد هذا أن الوثائقية قد عرضت (في نهاية الأمر) على ذلك الجمهور. فالحقيقة التي لا مراء فيها أنها حجبت ثم عرضت. فما منطق ناصر في طلبه سحبي لحقيقة حجب هذه الوثائقية في الملابسات التي فصلتها، والناضحة بخرق حرية التعبير، فارضة على المشاهدين في المملكة أن ينتظروا الإفراج عنها منذ إبريل 2015 وهو الموعد المحدد لعرضها عليهم لولا تهديد الساينتلوجي؟ ولم أجد بياناً واضحاً لماذا أدخلت الكنيسة سيف القذف في غمده فأذنت بعرض الوثائقية. ربما صح قول ناصر لو سألني أن أجدد علمي بمآل الوثائقية وأنها عرضت بعد حجب. ولما كنت قد خرجت لبيان إشكالية حرية التعبير في الغرب لمن ظنها منتجاً نهائياً، وهي مشروع تحت التشطيب في أحسن الأحوال، فأنا غير معني بمن استدرك خرقه لحرية التعبير وآب بل لخرقه الأول لها معززاً بالقانون. وهذا التعزيز هو مربط الفرس كما سترى في هذا الجزء الأخير من المقال)كانت شارلي هبدو مناسبة لأوربا أن تنظر إلى حقائق حرية التعبير فيها بواقعية . فعلى خلاف التظاهرة في أعقاب شارلي هبدو التي روجت لاكتمال بدر حرية التعبير بأوربا نجد أن أوربا، متى كفت عن الإدعاء، ما تزال بعيدة عن الوفاء بمطلوب تلك الحرية من وجوه عديدة. فقد وجدت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أنه ماتزال دول أعضاء بالاتحاد الأوربي تدين "الإساءة" للدين وتعاقب عليها. فما تزال النمسا والدنمارك وفنلندا واليونان وإيطاليا وإيرلندا تتمسك بتجريم التجديف بالدين (blasphemy). أما الإهانة للدين والإساءة للشعور الديني فمُوجبة للعقاب في كل من قبرص والتشيك والدنمارك وأسبانيا، وفنلندا، وألمانيا، وإيطاليا، ولوتوانيا، وهولندا، وبولندا، والبرتغال، وسلوفاكيا. وما تزال هذه القوانين في كتب حقوقها مع أن العمل بها قد قل. وكانت فرنسا، التي استضافت هَلولَة ما بعد شارلي هبدو، أولى بلاد الله إلى التواضع بشأن سجلها في حرية التعبير. فبدا أن الموكب الأوربي المهيب في باريس قد حجب الرئيس أوولند عن حقائق حرية التعبير المؤسفة في بلده. فيكفي أن 42% من شعبه لم ير في استطلاع للرأي رأيه في أن التشهير بالدين حرية فأستهجنوا نشر الكاريكاتيرات المسيئة للنبي صلوات الله عليه في ذيل حادثة شارلي هبدو. فهم أهل دين وخلق ورموز أيضاً لا يريدون استباحتها جزافاً. ونبه بروفسير جوناثان تيرلي (من جامعة جورج واشنطون) إلى فساد مزاعم أوولند عن عقيدة فرنسا في حرية التعبير. فقال إن فرنسا قبل شارلي هبدو كانت قائدة الدنيا في التعدي على حرية التعبير باشتراطها ممارسة تلك الحرية مستردفة حساً كبيراً بالمسؤولية مما جعل هذه الحرية امتيازاً لا حقاً. وهزيء تيرلي بتصدر رئيس اتحاد الطلاب اليهود، ساشا راينقيويتز، تظاهرة فرنسا العالمية لتوقير حرية التعبير بينما كان هو نفسه من قاضى منظومة تويتر في 2014 عن بوستات على صفحاتها زعم أنها معادية للسامية. ووصف رانقيويتز منبر تويتر بأنه جعل من نفسه شريكاً في الجرم بتوفيره طريقاً رحباً للعنصريين وعداة السامية.ولا يقف سجل فرنسا حليفاً لحرية التعبير برغم مزاعمها. فمشهور تعقب فرنسا لمن ظنت بهم عداءً للسامية أو نقداً لعقائد الهولكست اليهودي. وعلاوة على ذلك قاضت فرنسا الممثلة الإيطالية القديمة بريجيت باردو لرسالة بعثت بها لنكولاي ساكوزي، وزير الداخلية في 2008، تنذره بأن المثليين والمسلمين خربوا فرنسا. وفي 2011 أدانت جون قاللينو، مصمم الثياب العالمي، بالعداء للسامية. وفي 2012 جرّمت الدولة من أنكر مقتل الأرمن في تركيا. كما منعت في 2013 عروض الكوميدي ديدودون ما بالا متهماً بالتكريه العرقي والعداء السلمية. وقالوا عنه إنه لم يعد كوميدياً بل معاد للسامية وعنصرياً حتى النخاع. أما إنجلترا فلم تزل مادة تجريم التجديف الديني، التي قصرت فعلها على الإساءة للمسيحية دون غيرها من الديانات، في كتاب قوانينها حتى ألغتها في 2008. ومن العجب أن بريطانيا احتفظت بهذه المادة برغم أن آخر محاكمة علنية بمنطوقها كانت في 1922، وآخر محكمة خاصة بذلك المنطوق انعقدت في 1977 لناشر صحيفة، دينس ليمون، أورد قصيدة عن حب شاذ للمسيح. وقضت المحكمة بسجنه مع إيقاف التنفيذ. وظلت الجمعية العلمانية البريطانية تدعو إلى إزالة مادة تجريم التجديف الديني من دفتر القانون لمائة وأربعين عاماً. بل عُرض الإلغاء على البرلمان البريطاني خمس مرات منذ 1995 ولم يجزه إلا في 2008. وسيروعك النفاق الغربي والبريطاني عن حرية التعبير خاصة إذا علمت أن وصم المسلمين بالتخلف والرعاعية لمطلب جمهرتهم محاكمة سلمان رشدي بالتجديف في 1988 جرى وبريطانيا معتصمة بقانون كان سيجرم رشدي نفسه (متى أساء للمسيح) كمرتكب كبيرة لو عرض على المحاكم البريطانية. ومن أفضل من نبه إلى هذا النفاق الأوربي الصحافي كيم ميرفي من صحيفة اللوس إنجلس تايمز. فقال إن بريطانيا استنكرت في 2007 إتهام المعلمة البريطانية بالسودان، جيلان قيبونز، بالإساءة للإسلام حين سمت دبودباً باسم "محمد" في المدرسة التي عملت بها في الخرطوم. وقال ميرفي إنه فات على بريطانيا أن قوانينها كانت تقاضي لوقتها المسيء إلى الدين المسيحي.أما حجب حرية التعبير في أمريكا فهو مما تقوم به دوائر المال والأعمال كما تقدم. وعلاوة على ذلك فالقوانين ضد التجديف الديني تحديداً ماثلة ما تزال في قوانين ولايات في استنارة ميريلاند، وماسوشتس، وبنسلفانيا. ولم يسلم منه في بنسلفانيا، التي شّرعت ضد التجديف في 1977، مرتكب هذه الكبيرة إلا بتدخل قضاة الفدرالية وإعمالهم التعديل الأول من الدستور الأمريكي الكافل لحرية التعبير. وكانت الولاية وقتها مسرحاً لمحاكمة العرض الموسيقي "جيري سبرنقر: الأوبرا" إدعت فيها منظمة مسيحية إساءة العرض لدينها.لا تثريب على الغرب أن يغش في عرض بضاعة حرية التعبير ولكن المعيب حقاً أن تصدق صفوتنا المستتبعة اكتمال تلك القيمة واستدارتها بين ظهرانيه. فبمثل هذه الغفلة نأذن له أن يشهر بأفضل البشر باسمها وهي هلال لم تكتمل بدراً بعد. ومتى أفحم الغرب الصفوة بقدسية حرية التعبير تواروا عن مشهد الغيرة على أفضل البشر وتركوا الدفاع عنه لغمار المسلمين بما وسعهم من حيلة. وما أحرانا هنا بقدوة غاندي. قيل له ما رأيكم في الحضارة الغربية؟ قال: هذه فكرة بديعة تنتظر التنفيذ. أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة