تسعٌ و تسعون جُثة خرجت من بئر النطرون، كل واحدة تجرُّ الثانية بيد، خرج مقاتلوا الكبابيش القتلى كالسبحة، كل خرزة تمرّ بيد الشيخ الأعظم، و يخرجُ منها مُقاتل، يدوس بقدمٍ جافة أرض بيكربونات الصوديوم اللامعة مُصدراً صوت التّكسُر المُخيف. كان ذلك بعد سنين طويلة، من عبور سفنهم لدنقلا، السنين التي أحضرو في مخلاياتهم نبتة الصحراء، حيث تقهقروا بسفنهم جنوباً بسبب الحروب التي خاضوها، ثم أطلقوا هيفاتهم في الرمال، هكذا يأتي العرب كالرياح. عندما وصلت السفن الشراعية العظيمة، أحرقوها و خاضوا في كنجرت إحدى أعظم المعارك، قاتلت معهم الجموعية، حيث سيطروا بعدها على الصحراء العظمى و آبار النطرون. حملوا ذلك الوسم المرعب، تميمةً حملوها من جُزر السحرة في دنقلا العجوز، تميمةُ أبدية مخيفة، مقابل أن تؤخذ قلوبهم؛ عندما أُخذت جثة قائدهم و مُثل بها، فزِعّ الأعداء من ذلك الجوف الفارغ، لم يكن ثمة شئ في قفصه الصدري، و لا حتى قصعة لحم. كان جنود الأتراك غاضبين من المحرقة و يضرمون النار في الجميع، لكن المقاتلين المخلوقين من الرمل لم يعيروا رصاصات الدفتردار إهتماماً، و ظنتهم الكتل اللحمية الحمراء العابرة أشجاراً. واجهوا شياطين التعايشي التي تركب أحصنة سوداء، و إشتبكوا معهم، رآى الجهادية بأم أعينهم الرصاص يغوص في أجساد أعدائهم و لا يخرج، جربوا البول على البنادق لكي يبطلوا ذلك السحر، و سرعان ما إختفى الملثمين. أطلقوا عليهم إسم تيراب البنية، على إسم الفتاة التي قذفوها في مسنن البندقية و إخترقها، خرجت من ظهرها عبر بطنها، بينما ظلت تضحك، و ركضت بالسونكي، حيث أصيبوا بالشلل التام. في أمدرمان، جاء الجنود بقصصهم المهزومة أخبرهم العجوز الذي يستخدم الكجور، بأن ينسوا البُذور المُلقاة في الصحاري فتلك السُلالة ملعونة، تحمي الجبة الزرقاء لشيخ الصحراء، و لا مناص إلا بإلقائهم في الآبار، لكن الخليفة أصرّ على جمع التيراب و أن يصلّه في صُرّة قماش. خاضت الجهادية الرمال ليصلوا للكتيبة الأولى لشيخ النوراب، عددهم ثلاثة و ثلاثون و إسمهم كتيبة سبحان الله، يحملون سياطاً نارية و ملثمين، مهمتهم حراسة الصحراء الجنوبية، يعرفهم الحجاج المارون بآبار المياه بإسمهم الوارد، و يرفعون عقيرتهم بالتسبيح ليمرو. تتوقف الرياح الشمالية الشرقية عن الحركة، و تصير الأشجار ثابته، كلحظة قبل حريق، تملأ الرطوبة الجو، و تعطن الأجساد الرابضة في وديان قرى حمرة الشيخ، يصبح إستنشاق الهواء مهمة صعبة، يضع أمير الحجاج آوانيه التي تحمل ماء زمزم كهدية أمام بئر الدخول، و عندما يصل الصحراء الشرقية، يغيرون تسبيحهم للحمدلله، حتى وصولهم لدرب الأربعين تتغير النغمة، و بذلك يأمنون شر الأفاعي المُضللة، و الرياح، و تيراب البنية. جاءت الجهادية كمياه النيل الداكنة، يقودهم القائد السابق في جيوش الزبير باشا رحمة، و في المقدمة شيخ الكجور، في أعلى التلال الرملية ظهر مقاتلوا ترّب البنية، يابسين كأشجار الهشاب، يحملون سياطاً نارية، ملثمين تتناثر من وجوههم الرمال، و يتخلل الهواء المارّ أقدامهم مصدراً صريراً مرعباً. أعمّل الكجوري يديه في السماء، فتقاطرت سحب جنوبية، سحب كان يحملها من أمدرمان في جرة، و نفثها في الهواء، تعطن الجو و ثبتت الأرض تحت أقدام أحصنة الخليفة السوداء، من التلال الرملية بدأت تتعالى أصوات السياط و هي تضرب الهواء، تخلخل السُحب لكي لا تتبلل الصحراء، و لكن الطرفة البكاية بدأت بالهطول من السماء، و أظلمت الأرض. في الصباح بدأ جنود الخليفة بالتمثيل بجثث المقاتليين، صنع أحد الجهادية شقاً في صدر عدوه، و من بين ذلك الشق أبصر ذلك الخواء، لم يكن ثمة هناك قلب، أمرهم الكجوري بربط الصحراويين بالصخور و رميهم في الآبار. بعد أيام إستيقظت لعنة الصحراء، فالبئر التي باتو بداخلها، هي وتد تمسك الصحراء، و يلهج بإسمها الجميع. تسع و تسعون جثة، خرجت من بئر النطرون، كل واحدة تجر الثانية، البذور الصحراوية يكررون بإنتظام بلهجتهم العربية الخاصة كلمتي إنتقام و ما يمكن وصفه بنهاية فصل في مسرح الصحراء، و بداية موت الضآن في أمدبيكرات، من تحت سجادة الخليفة عبدالله التعايشي و من مخلايته التي يحملها، كانت البذور الصحراوية تغرس جذورها بين أقدام الرجل المستسلم. الكتيبة الأمامية لكتشنر، كانت من الرجال الجُوّف، كتائب الله أكبر.
منقول من صفحة فيسبوك Ayman Hashim September 12 at 1:02 AM
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة