رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 09:52 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-27-2020, 01:03 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار

    12:03 PM December, 27 2020

    سودانيز اون لاين
    mustafa bashar-
    مكتبتى
    رابط مختصر




    21
    كنت أحمل معي عشر أرباع من التمباك، إشتريتها من جوار موقف محطة الصحافة،
    هدية متواضعة لمن إرتبط الكيف عندهم بالبلد. شفاههم ترتجف عندما تمر، بإنوفهم رائحة التمباك،
    داخل أقبية السوق العربي، المتراص بقدورٍ أُسّطوانيةٍ ضخمةٍ من الألمونيوم.
    يختمر فيها تبغ من وديان دارفور. مثل حلم عشته، عشب لخيول الجنجويد.
    جموع أيدي إمتدت للبائع خلال نافذة صغيرة. تتشابى.
    الكل يريد أن يُحقّق طلبه أولاً. سفه يخامر بها البال المحترق.
    شارداً من وهدة بلد، ممحّن بوجائع. عندما نفحته التمباك، شكرني بحرارة،
    ثم بعد أن إطّلع على رسالةٍ، وصلت لهاتِفِه النقّال المتواضع،
    قال غاضباً: خطيبتي طلبت أن أرسل لها هاتفاً ذكياً، وهاتف ثانٍ لأمها،
    وآخر لصاحبتها، قلت له :( أنسى هذا الكلام، أقرأ الصحف التي جلبتها معي من الخرطوم).
    كم من حوادث قتل، كم عدد قضايا الطلاق التي تنتظر في المحاكم.
    صحف متقرفصة، من كثرة ما مرت عليها الأيدي في الطائرة.
    صحافيون بليدون، مازالوا يكتبون بتلك الطريقة القديمة.
    جديدون في المدح، ولا يعرفون طريقته.
    شجوى وأنفاس متلاحقة. يلهثون مثلما الهث. أضاعوا حبيباتهم الجشعات.
    أفضل أنهم أضاعوهنّ في زحمة الحياة، لانهنّ جعلنّ أنفسهنّ مركزاً للفكرة.
    جعلنّ كل الفلك تجري حولهنّ. جاءت تستقبل مسافرة قادمة من الخرطوم على نفس طائرتنا.
    خرجت أخيراً، تسحب معها فتاة سمراء بأكمام عارية،
    وشعر دقيق المشاط وأسنان بيضاء، قالت لها:( كيف أتيت من الخرطوم بهذا الشكل؟
    ألم يوقفوك في المطار، وشرطة النظام العام؟
    ردت عليها السمراء والتي كانت بملامح بائنة:( موظفة التفتيش الشخصي عندما دخلت معاي غرفة التفتيش،
    لم تفتشني، سألتني عن عنوان الكوفير الذي مشّطت شعري فيه.
    ثم تركتني أخرج أمامها، وأنا أهزهز شعري. كنت حينها من كثرة الأسفار أبدلت الحلم.
    ورأيت تجاراً آخرين غير فضلوباقي. لم تعد تلك التي أسافر من أجلها.


    22


    تذكرت حفل الوداع الذي أقمتموه على شرفي. كنت وجلاً وأنا أحضر الحفل.
    هل يعني إلاّ أعود قريبا. فتحي شريف يطيب خاطري: خذ لك سفره،
    وجدد معنوياتك وأشياؤك ثم تعال). عادت علينا الأغاني. كل البنات.
    فتاه سمهرية العود، تخالس النظرات والغناء يصاحب جمعنا( ست الفريق النادر قوامها،
    السمراء عادت بالصوت المبحوح، ناصعة أسنانها كأكواز الذرة .
    إبتسامتها مشرقة، تكون القاعة أحيانًا خالية تماما من أي صوت،
    سوى صوت مكّيف الهواء يهدر، بعد محاضرة تدريب. أختلس لحيظات.
    عانقني سريعاً، بالله سريعا. عبدالله البواب سيدخل علينا،
    وتقوم فينا النار). (الله، ماشاء الله. تتقطع أنفاسي وأنفاسها.
    نسكت في إرتعاشات. أقدام تقترب، نعدّل في أوضاعنا،
    وكذلك الحديث. قلت لك، أن البرنامج المصاحب للندوة يحتاج ترتيبا.
    نقلب طاولة الحديث على من يدخل، بما يخالف ما كان يجري بيننا.
    لا مشكلة، سأكتب لك التصور يوم غدٍ. ياعبدالله دعنا قليلاً. لا أبدا،
    إنتهى الزمن. الساعة الآن ناهزت الخامسة، ألا تردنّ الذهاب إلى بيوتكنّ؟
    تتداخل أصوات مختلفة، هازئة، وضاحكة: ( ماذا سنفعل في البيوت إذا ذهبنا من الآن؟
    يمضي بي الحال إلى مدارات لا أعرف نهايتها.
    وإرتد على أثري غبار الخرطوم الناعم، الذي (يُعشّرق) في الحلوق.
    أمّر بأرصفة وشوارع متربة وأسفلت مشقوق. وريبة تنطلق من المبني الذي يجاورنا.
    ومال النفط يهاجر إلى آسيا. والمارة في شارع ترابي.
    سفارة أفريقية يحرسها جند شديدي السمرة، يخرج قنصلها في جلباب داكن مثل لونه.
    الأنس يختلط بحاجاتنا التي لا يمكن أن تتحقق في ذاك الوقت.
    نمشي يمينا ويساراً. سالم المحولجي وسعيد المسنوح،
    يلاحقان بأعينهما كل من مدت عنقها خارج أي منزل من منازل حي العمارات العتيق.
    ينقبان عن نسوة ضائعات. حامد الدخري أشعل فيهم نار موقدة.
    حاج التوم، وحاج البشرى، جاءا مرافقان لمريض،
    فعندما خرج من الإنعاش، مضيا يبحثان في الطرقات عن مايقوله حامد الدخري.
    مجاري مكسوة بطبقة خضراء من طحالب يانعة،
    تمددت فوق جزء من مجرى ترابي. الجزء الآخر كان يابساً،
    تفصله عن الجزء الرطب حجارة خرصانية من ما تبقى من مواد البناء.
    يأتيان جوار منزل يستأجره رجل أوروبي. على مقربة من المجرى المتطحّلب.
    زجاجة طويلة القامة، عليها ديباجة حمراء لويسكي إسكوتلندي.
    (بالله، هل هناك أناس فارقوا الفقر إلى هذه الدرجة؟).
    سالم يحمل الزجاجة الفارغة إلاّ من ما تبقى في نهايتها. نصر يقتطعه من مسامات تذُّكره.
    سعيد المسنوح:( والله أني سآخد الزجاجة الفارغة. سأضعها تزكاراً في منزلي.
    إذا لم نشرب، فيجب على الاقل أن نتذكر.
    الباقي يأتي علي حساب ما تركناه بجواركم من طيب،
    يا مجلّد العناقريب! وإنفجرا بالضحك.






                  

12-27-2020, 01:45 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)


    وضِّع سالم المحولجي وصديقه سعيد المسنوح في الحبس لليوم التالي.
    أرسل العمدة ولده لمركز الشرطة، ليتأكد أنهما مايزالان في الحبس.
    جاء محجوب الكفيف يقوده حاج البشرى (يا العمده حاج الخير، منذ الأمس سالم وسعيد في مخفر الشرطة،
    قبض عليهم الأمباشي، يحملان قنينة شراب مستورد. لم يستغرب العمدة،
    كان رده تلقائيا: من هنا سأذهب لهما. تلفع بعمامته، وأتقن تدويرها حول رأسه،
    وإنتعل حذاءه المصنوع من جلد البقر.
    تحّسس قلمي الحبر الجاف، بجيبه الأمامي. كريمته الرضية،
    زوجة سالم، تبطن في نفسها أن العمدة يحب أن يكون على أحسن لباس
    : يا أبوي ألبس مركوب جلد النمر)، يرد بحزم: يابتي نحن ذاهبون لمصيبه،
    كيف أنتعل مركوب جلد النمر؟)
    وصل العمدة إلى قسم الشرطة، قابل الضابط، فتح باب السجن،
    تأبط ذراعي سالم المحولجي وسعيد المسنوح، وخرج بهما،
    وعندما عبر بهما خط السكة الحديد، تركهما يعبران المحطة بتودة. مضى سالم ليُحوّل الخط ، لقطار قادم من بعيد. يهرع إلى الجانب الشمالي. صف خمارات. رايات بالية تخفق، من قماش غير معروف الخامة. التاية أحجزي لي نصف زجاجة. ترد عليه : (سمح يا الظريف. لكن أنا طالباك، قروشي وين؟ لا تفضحني مع الجماعة الشيريبين ديل). يتكلم بخجل مشوباً بحمرة على خده، ويحك بيده على خصره الأيمن: ( والله ياالتايةأنت عارفه الشهر في نهايته،
    أرسلت لك نص كيلو لحم ضان مع المريود.
    ترد بتزلف :( والله يخربني ماشفتو. شايفاهو مع موزه،
    معاهم كيس بلاستيك. بعدها نفل لي الهواء رائحة شواء. فنصفك ما وصلني).
    ( لا مشكلة، ُصبي قدح شراب. القطار يداخل المحطة،
    سأعود للباقي بعد مغيب الشمس. تحدق فيه،
    كأنها قرأت خواطره في هذه اللحظة بالذات.
    يتجرع كأس العرق، بتكشيرة ظاهرة، وعروقه تنهض من تحت جبهته المجعدة،
    مهرولاً ناحية محطة خالية. ريح تعصف بأعواد شجر النيم.
    تصاعدت مع الحر رائحة بقايا فحم حجري،
    تمددت الرائحة مع سخونة الجو. ظهيرة لاهبة.
    بيوت تقف بلا أنتظام، تجاورت بحيشانها المسورة بالشوك،
    وأعواد (النال). كانت محطة عامرة في السابق، يتوقف قطار،
    وينزل ركابه ويرتاحون على الرمل. يعبرون جنوب المحطة.
    رايات تخفق عالية فوق خمارة التايه، يدخلون أكثر حاجة للنسيان،
    ويخرجون أشد تذكراً، يدخلون بغلظة ويخرحون أشد رهافة،
    يوغلون في صمت ويعودون بصوت جهير.
    كأن القدر قد صاغ هذه القرية، لتكون بين قطبين،
    شديدي التنافر والحساسية. يطبقان على مشيئة كل شيء يتحرك داخلها.
    فكي عثمان في أقصى الشمال، والتايه في أقصى الجنوب.
    كأن المدى الذي بينهما تحيطه هالة مغناطيسية هائلة.
    تجذب أناسا وأشخاصاً كأنهم فاقدي بوصلة.
    غارقون في عذابات لاتنتهي. جحيم تكاثف من زمن سحيق،
    أطبق على فضاء قرية مسالمة، متلفعة بهموم بسطاء منسيون.
    أمنيتهم أن يعيشوا بسلام. خمارة ومسجد. طبول وأوراد.
    رحمة الخالق وسعت كل شي. مطر يغسل شرور حاكم هناك.
    قطار يمر بقرية صغيرة، كأنه يمغنط ركابة،
    ثم ينقلهم إلى محطة أخرى وهم جديدون في كل شي.
    أولئك الإنجليز، وضعوا منازل العمال مع بعضها البعض،
    وتركوا منزل الناظر يتوسط المحطة، كأنه يتسيدها،
    ويشرف من مكتبه على الجوار. في الجانب الآخر مستودع الماء.
    يأتي قطار ويفرغ الماء في مستودعات أسمنتية تحت الأرض،
    تغلق بإحكام خشية سرقة الماء في الصيف من جانب القرويين.
    قرية تنتظر الخريف. صيف يذهب برونق كل شيء.
    كان زماناً جميلاً. تعد جدتي الشاي صباحاً. تضيف إلى أكواب الحليب
    ملاعق صغيرة من سمن بلدي. أقترب منها : حبوبه زيديني سمنا)،
    ترفع وجنتيها، وتدليهما، ويوشكان أن يلمسا منكبيها:
    (ياولد، السمن في الحراية دي بشقك).
    جند عابرون، وآخرون في مهمات رسمية، يلتقون تحت خفق راية التايه،
    بزيهم الأخضر الغامغ. يشترون مناديلاً مشغولة بإبرة الكروشيه،
    من حرير كشميري، عليها أحرف بالإنجليزية. كل يشتري راضياً حرفه أو حرف حبيبته.
    كم داست الأقدار زهرك والمحيا، وغضنت تعبير وجهك في المرايا.
    وإلتقيتك حافي الأقدام، لا أقوى على وطأة الجمر، في ليل حلوك،
    وتجيء أنوار المعابر خافتة. صوت الحداة، ترنموا وترنموا،
    وبعيدها. وتقيدوا بسلسلة الحروف اللاهبة،
    تطأ المطاحن والمداخن، والمخافر في ليالي الجند،
    في لمع البروق. هناك عند الجسر تختفي المواجع.
    وصوت جيفارا تبدى لاهثاً. عند الخوف تختبيء البراءة.
    وقهقهة الصغار الحالمون. حيث يجيء وهجها الفضي،
    إبراً من تلاق. حقنة من البارود. أشباح من المارة تجيء،
    وأشباح في جلابيب خيبتها تروح. أسعل من دخانك،
    تصتك أسناني تجاوبها مسامير الحذاء. الليل في عواصم الصحراء ضاج،
    لسعات من سياط الضوء. نهش تذكار يوغل في منافي الضوء.
    أشعلني ياساري الليل.
    bold
                  

12-27-2020, 04:04 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    up
                  

12-28-2020, 03:49 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)


    24
    أردف جدي فضل الأزرق خلفه محجوب الكفيف، وصل به أول القريةـ أنزله أمام بيت العمدة،
    وبعدها لم نرى جدي، بحثنا عنه أياما وأياماً، ولم نعثر له على أثر،
    مشى الناعي بين العربان، والقري المجاورة لقريتنا. لا أثر له،
    لا هو ولا حصانه. جدتي لم يغلقها الأمر في البداية،
    قالت أن جدي دخل غاره، كان سابقاً ما يختفي لعدة شهور أو نصف عام،
    ففي أحدى المرات بقى سنة كاملة، حمل معه ثلاثة عشرة تمرة،
    وأبريق ماء، تحكي لنا، قبل أن ننام في حجرها أو على الرمل حولها،
    ثم تأتي أمي، وتضعنا على الفراش. ثملون بحكاياتها.
    يستغرقني الليل، أنشودة أغريقية. سيمفونية خالصة لحد الإغراق.
    مطر يسقط بلا هوادة. أحجية صادعة. رماد ماثل أمام عينيّ،
    أدعكها بأبهامي، لا أبصر شيئاً. أصرخ، أطلب النجدة،
    لا شخص يأتي ليخرجني من ورطتي الخاصة. لا صوت يخرج من فمي،
    محض هواء حار، قناديل من اللهب. أتِنِينٌ أنا؟
    أمي راقدة أمامي على عنقريب من حبال السعف.
    وجوه تدنو مني وتسحب غطائي. تَجفّل وتقترب.
    أمي أفعلي شيئاً. أستحلفك بالله، أنت ترين ولا تستجيبين.
    أنقلبت أمي على جانبها الأيمن، وقابلت غرفة جدتي.
    سهد شديد. بدايات يناير. أوغل الوقت. مساء وهزيم رعد.
    ليس من عادة المطر أن يهطل عندنا في يناير.
    علامة لشيء سيحدث أول مرة. كنت أرقد على سجادة من السعف،
    بعد صلاة العشاء. ذهب الناس إلى بيوتهم، وبقيت وحدي.
    أرقب هاتفاً، أو شيء ما. أحسست أول الأمر كأن ضغط دمي إنخفض،
    أو نوبة نقص لمستوى السكر في دمي. رغم علمي بعدم إصابتي بشيء.
    إرتخى تنفسي، صار متباعداً. همد الجسد كلياً. ظلام شديد.
    نجوم تلمع في الأعلى وحيدة. صمت عميم. حاولت أن أنهض من رقدتي،
    فخذيَّ ميتتان تماماً. ماعدت أحس بهما. وسطي لأسفل غائب عني كلياً.
    فقدت الإتصال به. أرى رجليَّ وفخذيَّ دهمتان غاصتان في الدكنّة.
    بطني ويديَّ وصدري. رأسي وحده يقف على مايجري.
    لا أفهم وأنا منبسط كحقل أخضّر من نشوة.
    عابقاً ببخور لا أدري أي ريح هبت وجلبته لأنفي. دار حولي عبق.
    خلق حولي هالة رمادية أو بيضاء، حسب ماتميزه عين في دهمة شديدة.
    إنهمر سيل من أُناس يرتدون عمائماً، وجلبابات بيض،
    داروا حولي كثيراً، حسبتها مئات المرات. كانوا يتبعون توجيهات معمم كبير أول الدائرة،
    حين إنتظمت. وجه أعرفه تماماً. ظلمة مكدّرة. هالة بيضاء كست من لونها،
    وجوه الدائرون حولي، فضلوباقي، خالي حامد الدخري، أبي، ود طه،
    العمدة حاج الخير، حاج البشرى، وجدي فضل الأزرق، فكي عثمان،
    حتى فتحي شريف، كان حاضراً، يدور وسط الدائرة ببنطال جينز أزرق.
    ومن فرط دورانهم، كأنهم خلفوا مجالاً ممغنطاً. أشلاء كثيرة عالقة في فراغ.
    بدأ جسدي يهتز. يرتج مع الأرض، كأنه يحاول أن يقلع عمودياً مثل طائرة مروحية.
    تخبط الجسد أول الأمر. بين إضطراب وتوازن. كنت ممدداً على الأرض.
    طفوت. إرتفعت قليلاً قليلا. ذكرني بحالة حمى دماغية سابقة.
    لايسعني أن أفهم مايجري حولي. إرتفع جسدي حتى صار أعلى هامات الرجال المعممون.
    تكبيراتهم وتهليلاتهم تعلو رويداً رويدا، إرتقيت فوقهم.
    تختلط حمحمات بضربات حوافر على أرض صلبة.
    إتسعت الدائرة برجالها المعممون، وجلباباتهم البيضاء.
    صلاة إستسقاء في غير أوانها؟ حاولت أن أتبين أعلاهم. أجسام تروح وتجيء.
    الله، الله. خيول مجنحة تطوي مسافة بين مشرق ومغرب.
    وأنا مسجى على سجادة سعف. إرتقى بي الجذب إلى أعلى رؤوس معممة.
    كأنهم وضعوني على شيٍء، ليس مريح تماماً، ولا بقاءوه يزعجني.
    عاينت على جانبي الأيمن. دائرة تتسع. جعلوني مركزها.
    أجذبهم إلىَّ دون وعي مني. دائرة متناغمة مع مركزها.
    صهيل وحمحمة في السماء. أرض مائرة بتهليل متواصل.
    ظلمة تخنق شهاباً بإصبعين. حصاناً ناشزاً ترده إلى دائرة أعلى.
    كانت هناك دائرتان متوازيتان تمام التواز. بعضها فوق بعض.
    معممون على أرضٍ، وأحصنة صاهلة في فضاء. فرحة من تلقاء أفعالها.
    تتقافز علانية في سرور.
    بدأت أتحسس الشيء الذي تحتي. شيء خشنٌ. مترابط في جهة،
    ومتفرق في ناحية أخرى. غير مترابط حين ألصق جسمي به.
    جسدي والشيء الذي من تحتي، كلنا مرتقيان. أدركت كأني أعرفه.
    كأن لي معه ذكريات قديمة. ألفته حين مددت يدي وتحسسته.
    آه .. جدي أو جدتي. سرير داخل غرفة جدتي.
    هل أنا الآن أحلق في سماء الغرفة الممنوعة؟ ما أدركه الآن،
    أن فضاء حولي، إنفتحت طاقته إلى ما لانهاية. بالكاد أحصنة مجنحة تحدد سماؤه،
    ومعممون يلاصقون أرضه. هل سيقدموني قرباناً لإله هنا؟
    وحدي مسجى على عنقريب. هل سينصبوني ملكاً على مقاطعة هناك؟
    ربما، حانت إلتفاتة من تاريخ سحيق. زمن غير مكرور،
    أعاد بسطاؤه إلى مقدمة موجة عابرة. مد جديد، وجذر متقادم.
    خلط أوراق لعب، وقلبها من وراء، فأعادني لطاولة،
    يحتشد أمامها شعب مغبون. أمة كاملة ولغت في سم زعاف.
    عميت دون إذن من أحد. تاهت في محيط متلاطم،
    وعادت في مايشبه غيبوبة كاملة. حزمة من أسئلة.
    ورتاج مصفح بوعيد. أسعفتني ذاكرة حكيمة،
    ولغت في شتات لاشعور غاص بأمنيات.
    مخيلة عادت للوراء. أُسعِفّت لحظة بتّذكر ناصع.
    ما شأن هذه الجلبة بي؟ أنا شخص عادي بلا أهمية،
    بالكاد حسناتي تقترب من سيئاتي. لا أدّع أني قمت بعمل أستحق عليه تكريماً.
    جدي نفسه، لم يظفر من الحاكم العام سوى،
    ببندقية عتيقة من نوع (رومنتجتون)،
    رغم أياديه الطويلة في عمل الخير، بل أين جدي الآن ليفسر لي سر هذه الجلبة!
    أي قدر إختارني في هذه اللحظة بالذات،
    ليؤرخ لحدث فريد، في بداية عام جديد.
    هل أنتهز هذه الفرصة لأُعلن نفسي حاكماً عسكرياً،
    أقرأ بياناً أولاً على الملأ؟ أتلوه من وسط مشانقي. معلقة وسط دائرة.
    حالة لاتحتاج مذياعاً. الكل سيتسرب إليه الخبر من مجال ممغنط حولي.
    يتنفسون الصعداء. تتوالى برقيات من حاميات طرفية،
    تأذت بالنسيان والعسف. مأموريات طويلة،
    إنزال مظلي خلف خطوط عدو وهمي.
    أن تنصروا الله ينصركم،
    أو على شاكلة أضربوا الخونة بأيدي من حديد.
                  

12-30-2020, 01:01 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)


    دائرتان مضيئتان. صار شكلها إسطواني، بسبب تلاحم دائرتي الفضاء والأرض.
    أحصنة ومعممون. وأنا على سرير جدي. تنساب أنساق دون تدخل شفاهي مني.
    ذاكرتي ترتبط بهالةٍ واسعةٍ من نور. فلنقل كل ذلك ممكناً. أحصنةٌ مجنحةٌ في سماءِ،
    ومُعممون بجلبابات بيضاء على أرض. أين أنا؟
    صحيح أنهم جعلوني مركز الدائرة التي على الأرض،
    وعلى نسقها استدارت الدائرة التي في الفضاء. ما مغزى كل ذلك؟ ما شأن جدي بي؟
    فهو اختفى من حياتي بعد أن حمل بندقيته ال(رومنجتون)،
    وامتطى حِصانه. الموت سُنة الحياة وفرضها. جدي أنجّب والدتي،
    وأخيها حامد الدخري، وأتيت أنا من صُلب أمِي، وغداً يأتي من طرفِي،
    ما يشير إلى هذا الجد. لا أعتقد أن ذلك يحتاج كل هذا القلق!
    جمهرة أحصنة في فضاء، أُناس تركوا أعمالهم، وداروا حولي،
    وحول سرير جدتي وجدي. سعال خافت. حمحمة فرس. صهيل خيول.
    تصادم حبات مسبحة في أنامل جافة وصلبة.
    ضربات حوافر على أرض صخرية. نشوة وألم.
    استغراق في تفاصيل مكان سحيق. بدرة (تالك) منثورة في فراغ.
    مفاتيح مرمزة ببصّمة صّوت. كلمةٌ تُنّطّق فتتحرك الأرض.
    تفّتح باباً على جانب الصخر. لغة دخيلة على دماغ.
    نسقٌ يعبيء وجداني دون تعب. أُحاور من حولي دون مشقة. كأني ألمسهم في قلوبهم،
    أو أناغي حدسهم. حالة موغلة في نسيان قديم.
    إيقاع متباعد ومتناوم، إذا أرخيت أُذنيك أدركته،
    وإذا تناسيته نسيته أذنك، كأنه موجود وغير موجود في آن.
    هل أذهب مع هذه الهالة؟ أترك زخماً هنا. شائهاً من فرط أكذوبة حياة عشتها،
    كان الكذب وحده، يسيطر على الأفئدة. يجسد واقعاً.
    أغادر عالماً مراوغاً ومغفلاً. انكشف وجه آخر من حياة أخرى.
    حياة هانئة. أجسام نورانية باذخة. تتحرك في جلال،
    بلا جلبة أو ضوضاء. ابتسامة غطت على حقول كامنة في الأنحاء.
    نظرة عالقة في شعور. سّمت ماحق للشرور. دثار ناعم، كينونة تنأى،
    ويرجعها مدار. وأنا بين حالتين كنتهما. روح واحدة وجسد مُسجّى على سرير.
    داخل أحُجية خالصة مُغلقة بوعيدٍ. ثأر قديم. رمح لاهب.
    أقواس مكسورة. هزائم لمعارك ما قبل التاريخ.
    وجوه فضية وخيول من نحاس. دروع صدئة وجروح ناتئة.
    جو من وعيد. رعب ورهبة، أوجف منه خيفة. أنسّل منه كشعرة.
    أمحّق حزنه بلمسة. أمّل ورغبة. لحظة مغلقة على نفسها.
    على سماء من حديد. أظنه إعلان لبداية حدث جديد،
    أو نهاية موسم سابق لأوانه. عدوى من التبريح.
    وسط دائرة صنعتها ظروف خارج إطار وعيي ومعرفتي.
    تسيّدت مجالاً. وحدهم جاءوُني دونما استئذان، ألبسوني زينة ما طلبتها.
    كسوني حِلّية ما تمنيتها. رصعوا دخيلتي بقلائد من نور.
    لم يسعفني لنيل هذه اللحظة إلاّ وضوئي. لقد وجدوني مستلقٍ على سجادة سّعف.
    ومنها ولجت لعالم أو أولجوني له، دون موافقة مني.
    لا أعرف هل من مصلحتي إني هنا، على سرير جدتي؟
    أخشى أن تراني والدتي على هذا النحو، فتوسعني ضرباً.
    أمي القيّمة على حاجيات جدتي المتوفاة. خالي حامد يجهز حقيبة عرس،
    ليبتني بأرملة ضابط توفى في الحرب. (فضلو باقي) لم يرعوِ،
    ما زال يلاعب نهلة. رجل أقرب للموت منه للحياة،
    ما زالت في جعبته بقية من مراهقة. سعيد المسنوح لن يبتسم له الحظ مطلقاً.
    سالم عامل المحطة في كأس أخيرة. محجوب الكفيف على حاله.
    العمدة لم يعد بعد للقرية. قالوا إنه اقتفى أثر حامد الدخري.
    زهرة برهوم صديقة جدتي، تُوقِد فحماً نباتياً، تُطلق بخوراً عدنياً،
    تمضغ علكتها، تتزلف لفضلو باقي. تنفخ بالونة أمام وجهها.
    سلمى عوده، ما زالت في اغترابها داخل وطن عميق.
    ما زالت تنفح الشحاذ ألفان من الجنيهات، وتستغرب من مجموعة أيدي داخل قصعة طعام!
    كلهم جاءوني لحظة واحدة. لفح بخور. حاصروني.
    لا أدري تحت سرير أمي أم فوق سرير جدتي.
    طاقة انفتحت على سماء رمادية. دخان ضبابي.
    أوعية تنصّب على شهقة روح. ملّمس جسّد مُدملّج في دِهن عُود.
    أغطي على نافذة جرح، فيشهق جرح جديد. أحاول أن أحافظ على حالة توق.
    اشتهاء غير عادي. لوعكة في سرير. لورطة عيب أمام أخ كبير.
    نور وخّط جبين ليلتي. وهج من حرير. أكتب لهم فلا يفهموني.
    أغمز عيني، لا أحد يلقي بالاً عليَّ. أمدّ يدي. أسحب ذاكرتي للوراء،
    أمسح جمجمتي. الحال كما هو. لا أعرف هل كنت راضٍ عن نفسي،
    أم أنه تم إقحامي في موضوع لا يخصني. صداع ينعقد فوق عينيَّ.
    بين حاجبيَّ. يروح ويجيء. أضغط جبهتي بإبهامي. أنقلب على جانبي الأيسر.
    أعود لوضعي الأول. وفجأءة هبطت في أرض فلاة،
    حينها سمعت أذان الصبح. يدي اليمنى،
    تقبض على كرات صغيرة متصلة مع بعضها. مسبحة جدي في يدي.
    كهرمانته؟ أحس بألم يقبض على معصم يسراي.
    رسغي ألمني ثم زال ألمه. حدوة علقت بيسراي كالسوار.
    مسبحة وحدوة؟ صحوت على مسبحة جدي،
    تجري حباتها بين أصابع يدي اليمنى، وحدوة حصانه سواراً على يدي اليسرى.
    عالم مجنون. كيف اتفق جدي وحصانه، وأورثوني آثارهما؟
    بدأت أتفقد نفسي وجسدي. ترك جدي مسبحته الكهرمان،
    على يدي. هل كان ذلك احتفالاً، لتسليم وتسلم؟
    أدواراً كان يشغلها جدي في حياته السابقة. إذا كان الأمر كذلك فبالتأكيد،
    فإنه أورثني بندقيته العتيقة ال(رومنجتون)،
    وكذلك ثعبانه الكوبرا الذي يحّرس الزّرع،
    ويتكّور أمام أكوام الذرة حتى يحين حصادها.
    قلت ربما أختارني الجّد بالتحديد لأداء مُهِّمة محددة.
    لماذا كل هذه المخاطرة والعودة من زمانٍ سحيق؟
    لم يترك رسالة أو وصية مكتوبة، ربما كان يقصد أن أعيد الحدوة والمسبحة،
    لغرفة الجدة، لتتواءم مع أغراض هناك.
    ربما عادت إليَّ بطريقة ما. لعل جدي وحصانه داخل الغرفة.
    هذه الأيام ما عدت أستغرب شيئاً.
    كل شيء ممكن إذا أقنعنا الدماغ أن يُوسّع مواعينه قليلاً،
    ليستوعب ما لم يكن مخصصاً له في سابق الأزمنة.
    أن يرضى بما يوصفه بأنه خلل. أن لا يحكمنا بقوانينه الباتعة.
    حفل تنصيب، أو إجراءات تسليم وتسلّم، أخذت زمناً طويلاً.
    بعد صلاة العشاء وحتى أذان الصبح.
    يكفي أن يضع مسبحته على يدي اليمنى،
    وحدوة حصانه سواراً في يسراي. ساعات طويلة بقياس البشر.
    مليار جزء من الثانية في حسابات كون تليد.
                  

12-31-2020, 05:48 AM

Osman Musa
<aOsman Musa
تاريخ التسجيل: 11-28-2006
مجموع المشاركات: 23082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    اخي الكاتب المبدع والطيب والمتواضع مصطفى
    سلام
    ياخ ليك التقدير والاحترام .
    ابداع حقيقي غير مصطنع يستحق الانتشار .
    تحياتي
                  

01-03-2021, 04:56 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: Osman Musa)

    الف شكر ومحبات لك
    اخي عثمان موسى، لكرم المرور
                  

01-03-2021, 05:06 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)


    خرجت إلى الملا، كأن عمري سبعون أو ثمانون عاماً. مثقلاً بهموم ليست لي.
    ازدحم رأسي بأحداث ما كنت جزءاً منها يوماً. اختلط حابلي بنابلي.
    طفلان يتلاعبان بأحصنة من طين. شخصي وفضلو باقي.
    لا أدري كيف رجعت طفولة جدي فيّ. كسوة من شغف.
    سدف عالقة بطرف. غُلالةٌ من حبور. وسُرعان ما كنته، بلحمه ودمه.
    صار وجهي مستديراً، بسبب لحية جدي البيضاء. وقامته المربوعة.
    لعبت مع فضلو باقي. اقتحمنا مزرعة بطيخ، طاردنا حارسها،
    حتى دخلنا زحمة سوق، وتفرقنا بين باعته وناسه.
    سرقنا أحذية نسوة في بيت عزاء، أخفيناها داخل إناء فخار متسع لشرب الماء.
    شرب الناس فتذوقوا طعماً غريباً. أحذية من جلد بقر. نعل من بلاستيك.
    فسيفساء أقدام مُغبّرة، قطعت رحلة طويلة. شقت بواجب،
    وأسهبت في خنوع. قدِمّت لتُعزي. كان الناس يشربون طوال اليوم ماءً عكراً.
    يحسون بطعم غريب. لكن هو حال الماء في قريتنا.
    نجلب الماء من حفرة مُتسّعة في الخريف،
    ونركب حميرنا ونقطع أميالاً كثيرة لنأتي به.
    عندما انحسر ماء الجرة المتسعة، بانت أحذية في القاع،
    مثل بلبوط النيل. خيوط، ونثالات، حراشف جلد. أحذية ابّتلت من طولِ جفاف.
    انتفّخ الجلد، وتقعّر. وبعدها طاردنا والدي ومعي (فضلو باقي).
    جرينا خارج القرية. كانت حياتي السابقة ماجنة، ومؤمنة. ضائقة ومطمئنة،
    ما كان يقطع عليَّ سعادتي سوى عراكي مع (فضلو باقي)،
    وحاج التوم. الأول كان محباً للنقود، تعطيه قرشاً،
    يحفر له ويدفنه في باطن الأرض. كان يعرف أين يدفن نقوده.
    صار أكثرنا وعياً لأهمية النقود، فلذلك عرف درب التجارة منذ طفولته.
    حاج التوم صديق للعمدة، يشرب ولا يثمل،
    يترك الناس يتعاركون بسببه، ويمضي لسبيله. لعبت مع زهرة برهوم،
    كانت أصغرنا سناً. تمضغ اللبان بصورة فجة، كأنها تلوك قطعة لحم،
    ثم تلصقها في ملابسها، ما استهوتني فلذلك تزوجت جدتك.
    فضلو باقي تزوج امرأة غريبة عنا. تقدم لبنت عم لنا،
    لكنهم رفضوه بسبب إنه ليس من الأهل. ولدت له بنت،
    أنجبت أولئك الأولاد الذين يتجمهرون حول دكانه.
    العمده نصبوه سريعا بعد وفاة والده المفاجئة،
    ما كان مؤهلاً لذلك، لكن حاج التوم وفضلو باقي،
    ومحجوب الكفيف أقنعوه بأن المسألة بسيطة، يأتوا إليك بالمتهمين،
    وتحكم بينهم، حسب مِزاجك والعُرف السّائد، ونحن سنُساعدك.
    لحظتها لم يفرغ العمدة من علاقة غرامية مع أم نهلة.
    كنا جيلاً واحداً. وعندما بقى للزواج، تزوج غيرها،
    وبعد خمسة وعشرين سنة أنجبت ولداً، وهو الذي ذهب إلى مصر،
    وكان قاصداً الولايات المتحدة، ولكن لم يُعثّر له على أثّر.
    وبعده جاءت نهلة. وأمها شقيقة سعيد المسنوح،
    صاحب سالم عامل السكة الحديد، ونديمه. نعاس وثقل أجفان.
    انفتح ذهني على طاقة قديمة. أحاجي جدات. حوادث قتل. انتحار.
    خِتان فاشِل. دياثة. أتراح. مواسم جراد. سنوات قحط. أحداث طعن.
    تمرد كتيبة بالجنوب. موت مجاني. ملاريا وكوليرا. أعراس وأحزان.
    موت بَهَنسيّ.* ملفات تّنزلت عليّ. انهالت من سديم.
    انتظّمت عندي في قاع بعيد. تماثلت مع ذكريات عشتها.
    كوبرا جاثمة على باب حقل. أرنباً مذبوحاً بمنجلٍ.
    نياشين قديمة. ذكريات تناسخت من أرواح قديمة. عطره،
    عمامته، مصلاته، سريره. نومه مع جدتي.
    يفتضحني حقل متعة مع جدة فانية. سراويلها متسعة.
    محفظة جلدية تدلت من عنقها. بارحة ازدّهت بسماد طبيعي.
    بادرة أطلّت من تويجتها بنهم. فُسق ليل مع إنبلاج فجر.
    رتّب ذاكرتي، وضع أوراده مع القليل الذي أحفظه من أدعية وأحاديث.
    ملأني بمجاملات ومناسبات سابقة، رأى فيها ما رأى.
    جلدٌ بسياط. مشاركة في أعراس كلٌ يود أن يراه الناس مجروح الظهر.
    سياط أحالت ظهري لأخاديد مستقيمة. كنا نُجلّد داخل دائرة،
    ونخرج مسرورين. وفي المساء نغطى الجروح بالملح وزيت السمسم،
    ننام على بطوننا. ديون من التبريح تنتظر العريس نفسه في أول مناسبة قادمة.
    غار قومنا على قبيلة أخرى. كان ذلك بعد صلاة صبح.
    حملنا فؤوسنا، بنادقنا، حرابنا. مِدِي حادة النصل. وهجمنا على القرية.
    لما انتصف النهار ما تبقى منهم شخص. أيتمناهم،
    سبينا نساءهم، تضرّع لنا رجالهم، أعملنا فؤوسنا في جماجمهم،
    أغمدنا سيوفنا في نحورهم. شربنا من دمهم. انتزعنا أرضهم،
    وأحللنا فيها قوم من جماعتنا. كانوا يسكنون خارج الحدود.
    توزعنا نساءهم الجميلات، والدميمات منهنّ نذرناهنّ للعمل في الحقول.
    من يحاول الهرب يقتل.
    الحكومة ساعدتنا بالبارود.


                  

01-05-2021, 09:12 AM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    مضى ساري الليل من أمامي. شعرت بالجوع.
    قلت أتبلغ بالقليل من الفول المصري والطعمية الجافة،
    والماء من النهر. ذلك مسألة وقت. يمكن أن ينظم جلسة مهدئة،
    من طول الأرق، وحالة الإعياء. حفريات تحت سرير أمي،
    نثالة الحبال على ظهري. وكأني غُرت في باطن لا أعي له قرار.
    جنة هذه أم نار؟ معدة فيل أم أحشاء حوت. كأني عدت لمنزلي،
    قابلني أطفالي، قّبلتهم بلا حلوى. سألوني عنها. قلت لهم إنها في الغد.
    أبي أنت تقول في الغد. الحلوى في الغد. ذلك حلم يتكرر يوماً بعد يوم.
    هل أنتهرهم؟ أقبض على معدتي، فحجابي الحاجز ينقبض عندما أنوي أن أكذب عليهم.
    حاجة الصغار الدائمة للحلوى تحتاج فتوى تحلل الكذب عليهم!
    أبيت في أحضان أمهم. دفء كابوس. كيف يكون الغد؟ أفرغ ما عندي.
    أصحو على صوت ديكة الحلة، تنادي للصلاة. تخرج ناحية المسجد،
    بعدها تدخل في دوامة المكابدة اليومية. في المساء أتمدد على السرير،
    خالياً من كل حلم أو أمنية. عيناي مثبتتان في الظلمة،
    على سقف الحجرة المتهالك. كم تبقى لي في الحياة؟
    كم حصدت من أمنيات؟ ما هو مستقبل أطفالي الذين أمامي أو محفوظون في الحويصلة؟
    هل يخرجون لعالم جميل بلا تهديد؟ بلا وعيد.. ليس هناك التزام تام نحو أي كائن.
    من أين أجيئك؟ من صوت الريح. غفلة من الزمن.
    إتكاءة على الخافقين. حالة من الانسياق. جارية وراء الحلم.
    خالية من كل مقدمات. بلا انحناء من هوج عواصف. صحراء وحفيف ريح،
    ونافذة. سطل توتيا، يمسك بالماء ولا يطلقه. هواء مار عبر النافذة،
    يصفع السطل ويلامسه، يخلل شعره بالماء، فلا يبترد.
    هامات صخور بنية اللون وسوداء. مدى مطلق.
    مترّهل على هول حكاية فارغة. جّدٌ يختفي بالحصان، نيل وبلاد مهاجرين.
    ألفوا الغياب والبعد عن الأهل. أرض جدباء وطريق مسفلت في الحلم.
    حياة وحيدة في هذا الخصب. غرفة طعام كالمعبد.
    تبرز تصاوير منها على الحائط توشك أن تخرج، بفرح منساب.
    نقوش أخرى. الإله الأفعى بارزاً على باب غرفتي. متكيء على حائطها.
    كأنه يقول شيئاً. غرفة الجدة، غرفة الجدة! جدك نخاس قديم.
    عبر البلاد من أقصاها إلى أقصاها. كانت زرائبه تمتليء وتفرغ من السبايا.
    نعم كانوا مسلمين، لكن تغاضوا عن هذا الشرط.
    ففي المنتصف ثلة منحوتات. لم يمهلمني هاتفي للوقوف جوارها.
    يرن في الغيب والحلم. يا لهذا الحسن! مواهب. سمراء مالئة الحسن والخاصرة.
    تفتقدك. فتشتهيك. يا لخيمتك الجميلة في الصحراء!
    ها أنا أجيئك وأشتهيك بصوت العواصف. صوت مواوويل.
    شتاء طويل هنا. دفئك أحتاجه كلما غربت الشمس. استطال الليل.
    أنت في قوافي قديمة. وصليل سيوف. معركة لم تنتهِ بعد.
    وخواطر تُرتَجّز مساء. سمرتك بين ضلوعي والهدهدة.
    جواك أجمل.(ألوليك) بين ساعديّ. ريح همسها يضعف الأسفار.
    ضميني بالهدهدة. الأخيرة مدفونة بين ساعدين. يا لرمانتيك!
    الفواكه تهذي أحيانا وتنفعل! فاجأنا الرصاص. البارود،
    الأنصال أعملناها في الرقاب. كنا محترفي قتل، ومرتزقة حروب.
    غابة وبعدها تطل صحراء بلا نهاية. كنا إذا أتينا قرية، حرقناها عن آخرها،
    أبدنا أهلها، بشهوة القتل، ودون ذنب.
    هنا أدعوك للنجوى بصوت الريح. وأنت متكئة على ذراعي،
    اشتهائي كان أقوى، وولعي بها يحرق كل خاصرة في الأفق.
    محطتان عندك هنا. وثالثة. ليست مجهولة الهوية، لكنها غافية لن تصحو،
    دون لمسها بشيء! ففي الثالثة، هجم حوالي ثلاثمائة من الخيالة،
    ببنادق آلية من نوع جيم 3، أفرغنا ذخيرتنا في الجماجم بعد أن قتلنا الرجال.
    الشيوخ والأطفال لم تأخذنا بهم شفقة،
    كانت أيديولوجيتنا إننا الوحيدون في الأرض، وعما عدانا سراب.
    من سبيناهنّ تركناهنَ في شهرهن السادس،
    وغداً ننجب منهنّ من نُطهر بهم الأرض من جديد.
    نازيون كنا في إفريقيا، حيث يعم السواد. كان عادل صغير القوم، يتضرع،
    وهو يدلي باعترافاته السابقة. ثم فارق الحياة.
    قالت: أنا راقدة، ومضطجعة على الكيف. أكيد وأكيد.
    لكن هل لك أن تعرف إلى أين تشير قدمي اليمنى؟
    على الحائط. (زهجانة من أمس). الأخرى في اتجاه آخر.
    آه منك أنت كالحلم. تبدو كخاطرة. ولا تحقق أمنية في الصحو.
    أنت مثل الحلم. أنت ضيعة الليل. الليل هنا أوسع من تحمله شوقاً إلى الآخر.
    عندما كنا نمر بالزقاق. كان المطر هاطلاً. نتضاحك ونتماحك.
    نحتك ببعضنا بعضا. نحاول أن نتقي الرزاز الهاطل.
    فجأءة أرعدت السماء. سقطتي في حضني. ضغطت عليك.
    توسلاتك أجدت نفعاً في ذلك اليوم. قهقهت. تواري رغبتها في الحديث.
    لم تجد.... لأني كنت حائرة على الفراش. يغيب سنيناً مثل عطر لفحته نسمة رطبة.
    ردته متهالكاً على وجهه. عبّر خياشيمك. دماغك يشير لنزوة عابرة.
    يخيفني أن تصرخي والرعد لا يحتمل الصراخ. كان سيصيبنا صوت المطر.
    أوعديني أنك لن تصرخي فيّ. وأنك. كان فتحي شريف،
    يرقص بكل ما أوتي له من قوة. حفل محمد الأمين،
    كان يغني لثورة أكتوبر الأخضر، كأنه يغني لسامية عودة الطالبة المغتربة.
    وكأني أقرأ صحفاً منشرة.
    - صراخك لا أقصد به ماء الاشتهاء. أعطني الإذن لنصرخ سوا.
    واح. واح . أتمنى. تضغط بكعبيه. أتدري كيف ذلك؟ تضحك وتنهنه،
    مثل حيلة يتلصص بها الزمن على عاشقان. لا يترك لنا مكان للابتراد من حمى الظهيرة.
    - قالت: صدرك هو مخبئي. أنت تجعلني آخر اهتماماتك،
    بعد أن تكف عن الترحال. أبداً ليس كذلك.
    كان الأصيل حينها يشير ناحية بوابة الخروج!
    وقفت قريباً من مجسم نسوة ضجرات. نساء بدينات.
    مزمومات الشفاه، كأنهنّ أمام تحدٍ كبيرٍ. هكذا قال الليل كلمته،
    وترك عباءته في الأنحاء. نسوة ممتلئات القدود،
    بأيديهن غوائشَ غليظة. وفرة في معدن نفيس.
    وصدورهنّ في البروز متساوية. على أعناقهنّ عقوداً لامعة.
    كُبراهِنّ تحمل قدراً من الفخار على رأسها.
    وقفنّ بهذا التحد، قبالة أهرامات (البجراوية)،
    نِداً لتلك الآلهة القديمة. حديث متواشج لا يقطعه سوى عصف الريح،
    وصوت سيارات قادمة على طريق بعيد. أزعجنّ الآلهة الراقدين.
    والنسوة الأخريات يقابلهنّ في حائط ممتد،
    وجمهرة رجال ينفخون على مزامير طويلة ومتسعة الفوهات.
    أبواق طويلة متداخلة، يُشكّل الصوت الصادر عنها حشرجات وتأوهات مخيفة،
    هل كانت هذه الجوقة داخل حجيرة جدتي؟ يتابعون عزفهم بإيقاع الأقدام.
    شجرة تحوي طقوس، متفرعة في فراغ، ناشرة أغصاناً هائلة متداخلة مع سحاب.
    لا نهاية لها في سماء.


                  

01-07-2021, 10:32 AM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    وعلى الطاولة وجه أبادماك. الإله الأفعّى. يُدير وجهه ناحية الحائط،
    مقابلاً عازفي الأبواق الطويلة. طاولات هنا وهناك.
    مناغاة لرمل ولسماء بازخ النجوم. كان الوجه يخرج من جموده،
    يعطي نفسه روحاً وإسماً. يرقص ويتمايل، يخلق صخباً،
    يتجمع المارة ليروا ماسبب الجلبة، يرتد الوجه إلى صخره،
    كأن ذلك لم يكن. هل أنا الآن أرمح في فضاء غرفة جدي،
    أم تحت سرير والدتي، ياساري الليل.
    جاءت رسالة لهاتفي الخلوي: وقتاُ سعيدا لك،
    أستمتع بسحر الظلام الصحراوي، وأنا سأغرق في ظلام صحرائي.
    مودة غامرة. ساري الليل يغرق في الرمل. يترك القوافل حال سبيلها.
    لا أظن. يترك مهنته ويغرق في الرمل؟ ماذا دهاه؟
    شاهد وحيد على صحراء. أنا الغريب دائماً.
    غربتي في حقيبتي وملابسي وإحتمالي.
    نطق الغيب قبل أن يولد التاريخ!
    عدت والأنواء بازخة الحلول، والليل ساج. تأملتها فسحة من االزمن.
    فتحت كوة نحو الليل. عواء ثعالب بعيدة، وبنات آوى قبل الفجر.
    من أرق صباحي. مثلي. ضاع الفجر فجأة وإنمحت قسماته.
    جاءني صوتها دافئاً مثل حليب نوق بشارية.
    من يملك دعوى أن يناديك أو يناجيك؟ يداك مثل رجلاك.
    منفتحتان على طاقة الآخر. نشوة درست على ثبات عميق.
    حينما نزل الليل علينا، لم يعيرنا إلتفاتاً. كنا بزاد قليل،
    ومرؤوة كبيرة. طفحنا من قاع نشوة بعيدة.
    كانت أستجابات متماثلة في الإهتزاز الرعشة، والإنكفاء والقوقعة.
    كانت ماردة متوفذة، غورها أبعد وغنجها إستوائي.
    مثل مطر الجنوب. إمتصني برحيقي كاملا!
    -لا. لن أترك منه شيئاً. أمتص لسانك وعنقك. نحرك يتفصد عرقاً.
    همست. إنت قايلو ساهل الشيء ده؟ إمتطينا صهوة الريح إلى جانبها الآخر.
    على يميني أحيانا، وأحياناً على يساري. أكاد ألمها،
    لكنها تنفّلِتُ مثل بالونة معبأة بغاز وبيل، أو مثل كرة ملونة إرتدّت على سطح ماء.
    ترعشني، أعود. ألاحق أنفاسها. تعطبني. تتلفني. حتماً ستقتلني يا هذا الشيء!
    - لم نسمع أن أحداً هناك قُتِل. النشوة أسمى من القتل.
    قتلٌ أسّمى من النشوة، هكذا يقول عادل علي الحاج.
    رغوة جاثمة على فوهة كوب. فحولة أشعلها الليل وتوارى عند الصبح.
    لاح الأفق والصحراء والرمل الممتد. تتحسسني بكاملي على الجنب.
    مثل مهرة تلعق فلوها عقب ولادته. بنطالك من قماش خشن،
    حزامك من جلد بقر وحشي. وحشي أنت في كل شيئ. الطراد. القبلة.
    الحضن. وحشي أنت حتى في حزامك وأناقتك. أحبك أنت لأنك وحشي،
    ولا تغفر لي خطائي. وكأن عطرها البري يلاحق آخر أنفاس لخيوط فجر صحراوي،
    أنهكه الريح العابث. ريح مار عبر فرجة نافذة، طلاء صفراوي باهت على الحائط.
    فجأة لاحت مودي. ياساري الليل. بعد مساء طويل كنت أظنكما معا.
    حبيبتي ساعة الإصغاء. حسها يرسف تحت سطوة أغلال آسرة.
    سماء ربيعي إنعقد فجأءة. عشق لرمل صحرائي وظمأئي.
    إحتضنتها بين جدران كثيرة. كانت تشهق بلا إنتهاء. أرخت لقميصها الأزرار.
    أبانت مسارباً الضوء، ومكامن لأنس أناملي. ساعتها.
    غابت عني أشياء كثيرة. أبدلت حسنها بزيء وردي خالص،
    مثل طلاء أظافرها. ناعم القسمات. حركت يدها في أفق خالص.
    ما لامسته. إغماض المسافة الباقية لايكفي لإشعالي.
    حنيني كان أكبر. وجنونه كان أشدّ! لقيت أحداهنّ نجت من الموت،
    لكنها لن تنجو مني. كان عادل علي الحاج يدلي بشهادة خلتها صادقة،
    وأعينه تتراقص أمام حبل مشنقة. كما تُدِين تُدان.
    همس تغلغل في مسامات، عجزت أن أسدها بشييء وولعي.
    ساكنة مثل الصحراء التي تحبها. مثل تصاوير على حائط. أطباق من جذوع نخيل،
    مترامية على الحائط الجبصي. طاولات ستة فارغة،
    هل كانت لجنة أمن القرية تجتمع هنا دون علمي؟ إلى زوار جدد يجيئون قريباً.
    عشق يأتي بناسه، نسوة الحائط يلعّقنّ ويتلمظنّ، يرطبنّ شفاههنّ،
    من مريسة التايه. طبقة أخرى فوق طلاء أحمر، وردي يطابق زيها.
    تتناغم هسهسات يزجرها نسيم متمارض،
    حلّ على غير عادة الطبيعة هنا. نسوة متراصات أمام منضدة،
    منحوتات بكامل زينتهنّ. محفورات على الصخر.
    أثدائهن عامرة بالحليب مثلما تبدو. شاهقة العلو على طبيعة جاثمة تحت أقدام لليل.
    كانت خيولنا تصهل، وسيوفنا تُفني،
    وبنادقنا تُرّعِد، وغنائمنا تسد الأُفق.
                  

01-09-2021, 03:30 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)


    أطرق بسمعي، أصيخ، أجتلي ربما أصوات تأتي من بعيد لغير أناس.
    لكائنات من نوع آخر. بدت تحت مظلتي. انتصف النهار. الريح والسراب البعيد.
    تماوج كأنه بخار يعتلي قمة الجبل. ثم يدنو ساري الليل. قمم بنشوة الرمل.
    خريف غافل المكان لأول مرة في التاريخ. عين على الحائط، أ
    سفلها طائر بومة بلعنتها. لا أظن أنها تقصد إيذائي. معزة مدببة القرون.
    أسماك على القاع، تسبح بجوارها بطة كبيرة. الملك جالساً على العرش بصولجانه،
    تننتهي قمته بزخرفة تشبه زهرة لوتس، يرقد تحت قدميه أسد ضخم الجثة.
    حكمة منتزعة من فضول حين تفسر سبب وقوفك أمام ملك كوشي. ذاتك.
    حبيبتك التي فاتت عليها فصول. باذخة في حلمها حتى النهد والثغر والشفاه.
    نافخو الأبواق تحت شجرتهم. أوداجهم منفوخة تُعبيء الأبواق الطويلة الممتدة أمامهم.
    نذر من ليال. ريح عابثة وهائمة. تمر من الشقوق جوار صالة مقابلة للأهرامات.
    أزم شفتى و أفرج عنهما قليلا. متماثلاً مع تماثيل نسوة منحوتات وسط الصالة،
    يردنّ أن يعبرنّ أو أن يقلنّ شيئاً، أو يكدنّ أن يكاشفنني بسر يعرفنه عن (مانيه).
    جدي وحِصانه كفيلان بكشّف كل مستور.
    نحلة عبرت أمامي، عاودت الكّر والفّر. توقفت على وجنتي،
    امتصتني، بشغف صحراوي! لعل وزير من حكومات قبل التاريخ يتبدى،
    أو أن يشهد على هذا العبث! زفاف على الرمل.
    حيرة الريح حين تعجز أن تحدد إلى أين ستسير! فرحة ضياعي في الأودية.
    يا وزير . يا تليد. يا ما قبل التاريخ! نسائي معبآت في الرمل ويعشقنه.
    فجأءة تنبهت لما يجري أمامي. ما هو السر؟ صحراء ونساء،
    ووزير يخرج من كومة الرمل! أين نطاف فضلو باقي، وعادل صغير القوم،
    وشيخ عثمان، ومحجوب الكفيف، سيدة بنت مغبون، مانيه؟
    دعني ألقي عليها نظرة، أبعثرها وألقي بها في اليم،
    قبل أن يولغوا سمومهم في الأفئدة القادمة.
    نطفة أمواج تعلو بنا وتهبط. أكوام هنا وهناك. لا أحد ينادي.
    لا أحد يلفظ أو ينبس ببنت شفة! صمت عميم. شجيرات فارعة بغير ارتفاع.
    أفق ممكن لعشق بلا وجه. غاية كل ليل.
    من يعلو قمة الأهرامات التي أزالها باحثون عن الذهب؟
    أستدير مقابلاً له، الإله الأفعى يتجه ناحيتي. فم الأفعى يحاذي بطني.
    كيف يشهد الرمل أنه ولد هنا؟ دحرجة من القمة نحو السفح.
    أيادينا متشابكة، وكذلك حال أرجلنا! ملوكاً عاشوا بيننا في الرمل.
    عادوا لتوابيتهم الطويلة الواسعة، أسلحتهم متراصفة مع حليهم،
    وذهبهم المفقود. شارة خالصة على الجنوح. مزاج رمل كامل الإشتهاء،
    مثل (مانيه)، تحاول أن تكلمني عبر هاتفي الخلوي.
    قال لي: ستسافر غداً، عرفت من صديقتها، لكن هل يكفي أن أعرف عن طريق ثالث؟
    أنت من بعثني إلى هنا، ونفاني من مدنك.
    خير لي أن أناجي رملي وصحرائي وسر اشتهائي.
    ركضت نحو بقعة تميزت برملها الناصع البياض. جثوت.
    حددت مساحة منه بطول ذراع وعرض ذراع. بعد تربيعها مسحتها بيدي،
    عملت فيها حفراَ متناسقة. إثنتان إثنتان، وخطوطاً عرضية.
    مسحت أولها وثالها وخامسها. بقى من المربعات ما أشار اتجاه الريح. أها،
    ستسافرين شمالاً، ولثلاثة أيام. إحذري الغمام، وتواري عنه.
    ساري الليل يسمعنا، لكنه يمارس عمله اليومي في تضليل القوافل.
    يا مسافرة اتفقنا أن نمشي ناحية النهر، ونبقى بعرينا الكامل حتى الفجر.
    غجريات منحوتات مرقنّ من الصخر، وجِئنّ بلباس زفاف.
    جرينّ خلفنا بنشيد قافلة، أتت من الضفة الأخرى. تاهت في الصحراء.
    أخضر الحلم مثل ملاءة الخريف. بصاق على الرمل يشبه الحناء،
    لا يحتمل أن يجف بخاطر عاشقين. رقدا على الرمل.
    غبار خفيف وسراب أكيد تخالطه شكوك ذروة. ونزوة عاشها الغريب.
    أظنه خرج من الأهرامات، ومن عظمة ناسها حين قال،
    إني عائد بعد ثلاث ليال، فلا تستحمي! لا تستحمي إني عائد بعد ثلاث ليال.
    نطاف صمدت لآلاف السنين، ثم مشت بيننا بنشوة القتل والتصفية.
    نزّت رائحة، قامة بطول نخل هنا. رهبة مثل ليل.
    واتساع بحجم حقيقة أكدتها، شرائط بيضاء، خلفتها محركات نفاثة في السماء.
    مثل نجمين ترفقا في السهر، وتغطيا بالسخام!
    أسترخى قليلا، شعور غامض. لا شعورياً يعيدني إلى (مانيه).
    امرأة أربعينية، بيضاء، قامتها أقرب للقصر منها إلى الطول،
    كانت تدرس قبلي في معهد البوليتكنيك.
    أمشاج صبرت على نزوة أصابتها قبل ثلاثة آلاف عام أو يزيد،
    ثم قبل ثلاثة عشر عاماً، كالت لي غنجاً مفاجئاً عبر هاتفي النقال.
    مدخنة بالطلح. متوارية في دخانها. لعقتني حيناً ثم عدت إليها.
    لم نجد مكاناً للإستضافة والمبيت. زوجها مصاب بالفصام،
    يلّعقها في أشد حالات الجوع، حتى تصاب بالوهن. هكذا قالت،
    ثم ماذا إذا كانت تأتيك حصتك كاملة من المتعة،
    وتمتلكين مخبأ يحتوي رجليك حتى الصباح! يا عواليق.
    هكذا ردت ثم أردفتها بضحكة خبيثة، تعلن عن استمتاعها بهذا الحديث.
    أنت تعرف أن الرجل عندما يبلغ الخمسين من العمر،
    يصاب بالارتخاء، ثم لا يقوى على المعاشرة. صحيح أن له خبرات أجنبية.
    كان متزوجاً من فتاة هولندية، ليكمل بها أوراقه
    وأظنه سئم انتظاراً للحصول على جواز سفر هولندي، ثم كرّ راجعاً إلى الديار.
    قالت : تعال، لنتقابل في السوق العربي، وسط الخرطوم،
    جوار شارع الحرية. هكذا جاءت بطفلتها الصغيرة.
    كانت نسخة كربونية من أمها، وأظن تماثلهما في كل شي عدا المؤانسة!
    ساعات تلو الساعات. مكالمات طويلة ومرهقة. لا مكان للقاء.
    عيون مبثوثة فوق الغرائز، وفوق أي شيء يصدر صريراً.
    لم يدع فراغا إلا وشغره بالعسس. حديث الهاتف هو السلوى الوحيدة،
    لها ولي. نزوة كأنها معلقة على حبل غسيل، تجف ثم يجيئها البلل،
    من ذكرى نزوة أخرى!
    أتذكرها قبل عقد ونصف من الزمن، كنا ندرس بمعهد البوليتكنيك.
    تداوم الحضور بإسكيرت مُتماوِح اللون. تحته ساقان بضان،
    كانت لا تسلم من تحرُّش طلاب قسم الرسم، وطلبة نهائي قسم التصميم ،
    لكنها كانت تعاود مقراتهم. لا أدري هل كان ذلك تصوري العفوي،
    قبل أن أشب عن الطوق؟ في إحدى المرات جاءت أختي الكبرى لزيارتي.
    ودخلت من البوابة الشمالية التي تقابل قسم التصميم الصناعي،
    ملفوفة داخل ثوبها الأبيض الذي يشي بأنها مُدرسّة.
    جلست مع أختي في مدخل الزقاق المجاور.
    يأتي الطلاب لاحتساء الشاي والقهوة، ولعقد مقابلاتهم،
    وهرباً من جو محاضرات طويلة ومُمِلّة، ومكان ميلاد علاقات جديدة بين الطلاب .
    أتت مانيه من بعيد، ساقان بضان عاريان تحت إسكيرت قصير.
    تعللت بصداع شديد. نظرات أختى تحولت ناحيتي.
    ربما لاحظت شيئاً، لكني لم أنتبه. جلستا معا بتناقض أزيائهما.
    أسرعت بإحضار أكواب الشاي. أظن أختي فهمت شيئا لم أفهمه!
    والغفلة صنعت مني ناشزاً وغافلاً ومضيعاً للفرص.
    وأظنها بعد ذلك التاريخ، أضمرت لي نزوة جياشة،
    وأظن الرمل تعمد أن يفتح ملفها المتقادم، وأن ينكأ جرحاً!
    تسأل لأي مدى كانت العلاقة عامرة.
    ثم جاء يوماً تقابلنا في ناحية السوق الشعبي،
    ركبنا حافلة مُرّهقة ومُهترِئة، من قِدّم الموديل والسمت وانشغال الخاطر.
    ذهبا إلى أطراف أم درمان، تقابلا مع فتحي شريف في سوق صابرين.
    تلّون وجهها فجأة. قالت إن معه شخصاً آخر.
    أمهليني برهة حتى أتعرف على الشخص، ومن بعيد جذبت نفساً إسترخائيا.
    ومن المرة الأولى استراحت لفتحي. توجست من مرافقه الآخر.
    هذا الآخر يمكن أن يكون من شرطة النظام العام.
    -أبداً، لن يكون. ذلك الشاب جمعهما عمل مع فتحي شريف،
    زميله في الحزب، بصدد توزيع منشورات داخل سوق الطارفه،
    وأظنهما تقابلا مصادفة. وسيغادر. ثم ركبنا ثلاثتنا دراجة ريكشو.
    غابت بنا في أزقة حارة شعبية. بقالات تعرض خبزاً وأكياس فحم نباتي،
    بائعيها بملابس رثة، ونظرات زائغة. مررنا بدكان فضلو باقي،
    كان يتكيء على عنقريب قصير. وحاج الماحي يجلس على كوم الرمل،
    أمام البقالة. تقدمنا فتحي إلى منزل أخته الغائبة، فتح بابه،
    ناغم جيرانه من أعلى الحائط، وترك لنا سانحة أن نختلي
    -الشرطة ستداهمنا، وبعدها أين سنذهب؟ لا أبداً الشرطة لا تأتي هنا.
    - (خلاص.. طيب أسرع وخلصنا، قبل أن يعود شخص ما).
    -(لا تقلقي، فتحي صديقي. أخته سافرت لكي تضع مولودها في ولاية الجزيرة.
    لن تعود اليوم بأي حال. لا. لن أطمئن. أنت فقط أسرع).
    أسرعت وأسرعت. وضع يستحب فيه الهدوء. تهادن نفسك ولا خوف.
    ثم أحطت كومة اللحم. استلقت. صعدت كومة الرمل.
    أقبض ما تبعثر، وأتحسر على انتظار استمر عقداً ونصف من الزمن.
    من خيبة مؤجلة، وواجب تدعو له لحظة مغايرة. فحولة وإغواء.
    ثم ماذا؟ جذعها ممتليء، وصدر كأنه تم تركيبه حثيثاً.
    بدت مثل نساء هاييتي، في رسومات (جوجان). ممتلئات وجميلات.
    لا يخشين مسغبة، وواثقات في الإرواء والهزهزة.
    تمددت في الأفق والوسادة الناعمة. تطلبني بالإسراع.
    أن إنهِ هذا الأمر. أنامل مرت على وتر مهتز، زادته توتراً.
    قوس يزمع للانطلاق. خوف انتقل لضفة أخرى. كانت نهايتها توقعاً.
    رغوة هامدة. فاكهة أطاحت بكل كأس. سريعاً.
    دفق ماؤها تربّص بثيابي، لدى تلك القيلولة.
    عدنا بنفس الطريق. بعدها ابتسمت. لم نكمل المشوار.
    ها نحن تمنيناه على التلة. أقبض حفنة الرمل.
    أفرغ فيها شحنات الحماسة كلها.
                  

01-13-2021, 03:35 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    ثم غدت المواعيد تتأجل، يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، وعيداً بعد عيد.
    لم يتغير الوعد، ولم يتحقق شيء. سوء الحظ عثر على ضالته.
    تلال الرمل ممتدة كالأفخاذ. مشرئبةً بالثأر، وضالعةً في الهزيمة.
    غانمة على وجه الأثر بالتأويل والاحتمالات القاصدة. آثار مشي متتابع،
    وآخر متقطع. دندنة وسكون. كسوتنا من الريح، ونعالنا من الرمل.
    ثم عادت تكلمني من جديد عبر الهاتف، تصب شبقها المألوف،
    أتلصص عبر ثقب القفل. حاجة ممددة. تعال لي الآن.
    أنا جالسة وحولي هالة من دخان. آه منك. حارة مثل صخور الصحراء.
    أحرق كفيك وأدمي راحتيك. نشوتي تعادل كل رسومات الكهوف التي أمامك.
    الجيوش التي مرت من هنا. الليل المنكوب بالأسرى والمبعدين إلى المنافي البعيدة.
    تساوي أكبر من أي قيمة تعتقد فيها. أنا قائمة من ناري وحفرتي ودخاني.
    ذاهبة إلى غيبك وفراشك ونارك وحلمك، وليلك ورمادك الفينيقي.
    لست خائفة منك ولا عليك. فساعاتي محدودة.
    رجلي ينفصم بالشعر والأغنية والبكاء وبالتاريخ.
    -أنا الموجدة الوحيدة الباقية، الباكية على كتفك. حين تحملني إلى حتفي.
    إلى فراشك الوسيع، إلى أشيائك التي أغمض عنها عينيّ.
    وتتحسسها أقداري. أرجوك أن تفعل معروفاً. أغمد سيوفك،
    ليرتاح عبدك إلى الأبد. قاصداً ناحية القلب. أمنع عنه الخفقان،
    ضّيع عليه أي فرصة في الحياة، أشتري منه كل سر لبقائه في الوجود،
    أطلبه على قائمة اشتهاءك، ولا تتئد في الخطوب.
    - قالت: أنت المواثيق التي أبرم عليها عهود اللقاء،
    شاطيء الخيارات الوحيدة المستحمة. تستجم عليها الزوارق العائدة من الرحلة الليلية،
    بالصيد الوفير أو بالخيبة الجارفة.
    جوعك لن تسده الأيام ولا الشهور أو الزمن المتبقي من الحياة.
    توقك استوائي، وسمرتك راجحة على كفوف الموازين.
    لم ينفعني استعلائي. لم يفدني كل ما استعنت به في الحياة،
    في أن أكبح جوعك السلطوي، وعطشك اللا إرادي.
    طيشك الليلي، أنت تأتي وترحل، تسافر ثم تعود.
    تغوص في الرمل وتبقي منخريك. وأنا كما أنا،
    ساجية على العهد القديم، مضطجعة على الأديم. خيلي تسبق خيلك.
    تعود بها، تحملها أشواق الليل والرمل والحافر.
    - يحاصرني شيئان. أيقنت أنك لن تتركني على حالي.
    قدرنا أن نكون مطاردّين إلى الأبد. منك ومني.
    وللأسف لم يخضع للجنة التحقيق في إشباعك الشتوي!
    يمنة ويسرة، أمامي وخلفي، هكذا حاصرتنا الأيام، بقينا في ظل الحصار.
    شفتاك تناديان وأنا على الجانب الآخر من النشوة. أدخله في الجب،
    غيبه في الظن مثل متاع قديم، لكن بولع شديد.
    ترُجني مثل عطر في قارورة مُتّسِعة. تفك أسري من إزاري.
    تُظّهِر سخطها عليّ، وتلعن طارقاً بالباب.
    مشينا جنباً إلى جنب. المارة كانوا يملأون الطرقات،
    دخلنا أول السوق ثم انحرفنا يساراً. دفعت باباً حديدياً،
    عليه طلاء باهت وزخارفَ قديمة، فتحت الباب امرأة نحيلة. ضمتها،
    وتبادلنا التحية. أخذتنا إلى غرفة من طين، باردة دون وسائل تكييف.
    تهيأنا. وافرة الخصب، ممتلئة الأوعية. ذائبة على بهجة أوراكها.
    هكذا لملمت أطرافها بحس جديد، ذاكرة تعمل في لحظاتها الباقية.
    تناوب المنجل في افتضاح الحقل. عبق لم تشي به زهور الشتاء.
    ودون مقدمات، تدخل علينا المرأة النحيلة. اختلطت في وجهي التعابير.
    كانت لحظة آتية من مجهول، مثل لذة رقدت بين الخلايا.
    لحظتها كنت عبثياً، مُوقناً بخسارة فادحة. أغنية الهوى بالبارحة.
    وكأني أبحث عن دعة شلوخ جداتي وبسماتهنّ. مِشّية متوائمة مع حراك لذيذ.
    كأس من نبات القرع، طاف داخل وعاء من الطلس،
    ممتليء بمريسة مُتبقية من حفلة الأمس، كؤوس صريعة.
    حلقات دخان غائب عن سجائره. ضمير غائب.
    لن تسألني بعد نصف حالة من الشعور!
    - كم تبقى لنا من العمر كي نعيد اللحظة ذاتها؟
    هدهدة راحلة على جناح الريح. كل يوم غافٍ في فراغ ذاكرة،
    وملحاحاً لثنيات جسد! أدركني أنا على الحافة، مقبل حال لا عودة.
    دمي يتفصد عن خلايا عابثة. أتمايل للأمام وإلى الخلف.
    لا ترتد لي ذكرى ولا يجنح بي خيال، ذاتي آمال.
    قابضة على زفراتها وأنينها المشغول باللذة. همسة باعثة نحو حس جديد.
    النشوة على الباب. طرقاتها ما عادت تخيفني.
    تخطيت حالة الخشية والخوف والامتناع. أبقيت لذاكرتي أن تفسر لكل طارق جديد.
    عاد ساري الليل يلوح من جديد. استكان الليل، غشى أمانيه،
    وأعد أحجية يداعب بها الصغار كي يناموا في ثبات.
    خرجنا بعد أن تلصصنا على الدرب، فتحنا الباب بهدوء.
    مفاصله الصدئة تستحثه على الصرير. ما بقى شيء.
    واريت سوءتي خجلاً. الصبح أقرب من نجمة بعيدة، تشهد بالازدراء.
    وكأننا عدنا من عناء الأمس. تخلصنا من سأم استمرّ طويلاً.
    لو تتذكري. كان الليل يرحل على صدر أغنية ماجنة.
    غيثار يُعزّف على رماد اللحظة.
    بكاؤها كان بحرقة ظاهرة. ما ضاع أكثر مما تمنيناه هنا.
    هكذا قالت. تعال بكل حروفك المذهبة، تعال بكل شخوصك الراهنة،
    وأرقص على صدري. الوقت عاد يعانق ما افتقده في السبت.
    باقة أزهارك على السرير. أرحلي عني. عن وسادتي، وعن ذاكرتي.
    زادي لم يعد يكفي. اقتسمناه على الفراش، بالنهنهة الكبرى.
    هزة ارتجت لها حواضر البلدة. ثم خرج الناس في الشوارع يستجلون الأمر.
    أن أشباحاً شقت حي الطارفة من الشمال، أخذت تعوي،
    تغذت اللحظات من تبادل الرؤيا. الواقع عاد مصاحباً، ما نقصت عنه الأيام.
    حمياها عاودتني عند الفجر. التبس الأمس، على ما جرت به مقادير اليوم،
    فضاع الفجر! أدارت وجهها ناحية اليمين: تحاصرني،
    وإن لم تترك لي مكانا لألتجيء إليه. ذهني ما عاد يعمل كما في سابقه.
    أهلكتني الأمنيات. ما تحقق شيء. حتى جئنا محطة المواصلات.
    أخذنا حافلة متهالكة، ومقعدان متجاوران. عطر سال من حقيبة يدها،
    واستباح فضاء الحافلة. كان يوما يتكرر إلى ما لا نهاية.
    ظلت تقول لي: لأنوثتي، عن حظي الذي ضيعته بين الورق.
    - لا تبكِ. أظنك تنتظرين حصاناً أبيضَ، دعك من قراءة روايات سن البلوغ هذه.
    تعاملي مع الأمر كشأن داخلي. لا يهم، لكنه من الصعب أن نستصدر أمراً،
    دون أن يظهر لنا، الشاب الذي اخترته أنت. الذي غرس دون عيونك الورد.
    الذي خذل توقُعات القيد، ثم ترامى على قدميك. أغفري يا أنثاه.
    أنت الوحيدة التي يجب أن تُخلّق لهذا الرجل. عذراً.
    هذا إذا لم يكن هناك تشف من حاله في هذه المدينة.
    كانت الدفعتان تحضران سوياً، محاضرات علم النفس، واللغة العربية،
    وعلم الجمال. القاعة الكبرى، بالطابق الثاني. لم نكن نتخذ مقاعداً متجاورة.
    لكن عيوننا كانت تبث تراسلاً يتخلل الحضور. تعانق سماوات من فرحة،
    وأغنية طالت أحلامنا. ابنة عمي رمقتنا، نجلس سوياً في حديقة قسم المطبعة.
    الشجرة التي جلسنا تحتها، أورقت في لحظتها، أينعت ورداً أرجواني،
    وأصفرَ، هجم عليها عشاق فجأة، نهبوا الورد، تركونا معلقين على الأغصان،
    كعصفورين شريدين، هدهما السفر. زها الورد فجأة.
    ما جرم من نام على الأقاحي والورد صاحٍ؟ أسبلنا جفوننا على محاضرة الفلسفة،
    حين قالوا للورد مطلق الجمال، وأن يختار من يناسبه.
    شكوكي هي التي أضاعتني فيما بعد. مخاوفي كانت أكبر من أي فعل،
    يمكن أن يحدث. واستدركت هل جال بخاطر حامد الدخري ما جال بخاطري؟
    نمت في ذلك المساء بنشوة غريبة. لا أتذكر.
    هل انتقامي كان بلا سبب؟ جديد العشق لا يحتمل حبيبة مُلتهبة.
    كان زماننا يختلف كليةً. كانت تومض بالعشق.
    وكنت أرى العالم مراقباً وباحثاً، ويوشك أن يتحدث عن عذريتي،
    وخوفي من النساء. كان حينها حامد الدخري، يخيط في شوارع القشلاق.
    لعله يلتقط خيطاً من حديث، وليفترع منه موضوعاً،
    ليسأل عن سامية محفوظ.

                  

01-17-2021, 11:08 AM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)


    29
    عاد سالم لمستورة. راياتها تخفق. عرقها يُذهب بالبصيرة.
    قطار قادم من أقصى لحظات الشوق. ينتظره سالم، نصف واعٍ.
    غائب نصفي. حدقتاه متسعتان. لسان ثقيل عالق بلهاة.
    يقعِّر اسمها حين ينطقه. (يا التاية، القطر واقف لسه في المحطة ولا اتخارج)؟
    كان حينها سعيد المسنوح، غائب في حالة سُكر شديد، بين جالس متكيء،
    واقف وجالس، حائر ومندهش، لكنه بالتأكيد كان في برور بعيدة.
    أبعد من المسافة التي يتخيلها هو الآن. يجلس قريباً من سالم.
    كنت حينها أجيل بصري بين وجوه غاصت في مدار بعيد.
    تهششت لها الرؤية. زارتها شفافة عابرة. أمام سعيد جرة فخار كبيرة،
    متسعة الفوهة. بداخلها كأس خشبي، من نبات قرع مجوف.
    يرفع الكأس إلى فمه، يمتليء شاربيه بالمريسه، يترك مكانه سريعاً،
    يلتف حول المنزل، يفك إزاره، يتبول واقفاً، يمسح شاربيه بكم جلبابه،
    ويعود لمكانه. سالم ما زال طريحاً ينتظر إجابة من مستورة.
    فقبل المرة الأخيرة التي اختفى فيها جدي فضل الأزرق،
    كان يذهب يومياً إلى زرعه، ممتطيا حصانه الأبيض.
    علاقة جدي بحصانه لجد غريبة، يحمحم حين يسمع جدي يتكلم في مجلسه،
    كأنه يؤكد صدق كلامه ويستحسنه،
    ويتبين صوته بين عشرات الأشخاص المتكلمين داخل مجلس العمدة،
    يصهل، يضرب الأرض بحوافره. يقفز، يتمايل.
    يرفع قائمتيه الأماميتين. تبين حدوتيه المعدنيتين.
    كأنه يصلي حين يرفعهما. يجمح. حصان بسر غريب،
    مثل جدي تماماً، كانا متماثلان في الغرابة والانسجام،
    واختفيا معاً، ولم يعثر لهما على أثر. وحسبما قالت جدتي،
    إنه حمل بندقيته الخرطوش من نوع (رومنجتون) انجليزية الصنع،
    بماسورتين، ومضى، أهداها له الحاكم الانجليزي.
    يناوله إبنه حامد الدخري أجزاؤها بعد أن يعتلي ظهر حصانه.
    ففي إحدى المرات وهو يتأهب للخروج بعد أن امتطى حصانه،
    وجلس على السرج، لملم أطراف جلبابه المتسع، اقترب منه طائر حبارة،
    حلق على ارتفاع أمتار فوقه، فسرعان ما تناول الماسورتان
    ووصلهما بكعب البندقية، ووضع خرطوشة واحدة،
    وأطلقها نحو الحبارة، فأصابها، فهبطت على الأرض باسطة جناحيها،
    ممددة داخل حوش جدي الوسيع، وأمر خالي حامد بحملها لجدتي،
    وجبة الغداء، ثم واصل مسيره نحو الزرع. كان حين يمتطى حصانه،
    يهزهز رأسه يمنة ويسرة، هزة خفيفة، قلت أول الأمر إنه رجل ذاكر،
    فأظن أنه يتلو أوردة في سره، والاهتزاز بفعل الاستغراق في تلاوة الأوراد.
    نعم إنه غارق في أوراده، لكن الهزهزة حدثت بصورتها الواضحة،
    حين ذهب يوما إلى الزرع، كالعادة متمنطقاً بندقيته. فمن
    عادته أنه في أول الزرع، يخرج من بين الأجمات ثعبان من نوع كوبرا،
    مستدير الوجه، وذو حواجب كثة، وله عرف في رأسه مثل الديك الرومي،
    وتتدلى من تحت رقبته قلادتان. فعندما يرى جدي قادماً، يقف الثعبان،
    رافعاً رأسه، ويصيح بصوت كالديك، ويتقدم نحوه،
    يثب على قدم جدى اليمنى، ويرتقى ظهر الحصان، ويبلغ صدر جدي،
    ويستدير حوله، ويبقى معلقاً بجسده برهة من الوقت،
    ثم ينزل بقدمه اليسرى. من عادة الثعبان أن يمارس هذا الفعل يومياً
    مع جدي ومتى ما وصل الحقل. الحصان لم يكن يجفل كعادة الحيوانات من الكوبرا،
    بل يسعد تقريباً بزحف الحية على ضهره. يحرس أكوام الذرة والفول السوداني،
    والسمسم، يتكور أمام الكوم حتى يبلغه جدي والعمال،
    ويحصدونه، ثم ينتقل بعدها لكوم جديد، وهكذا حتى ينتهي الحصاد.
    يوصي عماله بأن دعوا الثعبان في حاله، لا تحاولوا أن تؤذوه فيصيبكم مكروه.
    وهكذا استمر الحال عاماً بعد عام، حتى اختفى جدي اختفاءته الأخيرة.
    ففي إحدى المرات وهو في طريقه نحو زرعه،
    لمح أرنبا يتقافز حول شجرة هجليج، فسرعان ما جهز بندقيته، فأصابه.
    دار الأرنب حول نفسه، واختفى في الدغل بين حشائش كبيرة،
    كان ذلك عقب الخريف. بوسط الغابة، أسرع إليه بسكينه وذبحه،
    ولما حاول الخروج من تحت شجرة الهجليج، إلتفت الأغصان،
    وبلغت الأرض فما استطاع الخروج، وضع بندقيته بين رجليه
    وتدحرج مثلما يفعل الجنود، تلى أوراده. كان متوضئا قبل بلوغ الحقل.
    تدحرجت حتى خرجت من تحت شجرة الهجليج.
    اتجهت ببصري نحو قمة الشجرة، رأيت منظراً مرعباً،
    كدت أن أفقد إيماني لولا ما حباني الله به من أذكار وأدعية،
    تلوتها، مع ما كنت أقوم به من تحصين وتلاوة قرآن.
    كنت موحداً على ذات النبي الأواب محمد (ص)،
    ومتمسكا ببيعتي للطريقة التجانية، لما كنت نجوت.
    كان رأس الثعبان في قمة شجرة الهجليج،
    وذيله ملتف حول الشجرة حتى أسفلها. كانت حية بوجه بشري،
    وذقن مستديرة، وحواجب كثة، ومن يومها صرت أهزهز رأسي
    على الشيء الذي رأيته، ثم جاء عربان كانوا يعبرون الطريق،
    سحبناه من أعلى الشجرة، وحفرنا له حفرة واسعة ودفناه،
    ولما انقضى الدفن، اختفى الأرنب الذبيح،
    وحينها قالوا، إنه هو..إنه هو.
























































































































































































    (تمّت)
    *شرح مفردات *ساري الليل، شيطان يظهر ليلاً ويضلل القوافل، يكون على هيئة ضوء يتحول من مكان إلى مكان.
    *موت بهنسي:محمد حسين بهنس، كاتب سوداني وفنان شامل، توفى في القاهرة قبل عامين من البرد والجوع، وُجِدّ ميتاً جوار مسجد في القاهرة، في عِزّ الشتاء.

                  

01-17-2021, 12:29 PM

النذير بيرو
<aالنذير بيرو
تاريخ التسجيل: 08-08-2004
مجموع المشاركات: 215

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)

    الجميل بشار
    تحيات نواضر علي هذا الابداع
    الباذخ
    الي الامام

    النذير حسين
                  

01-19-2021, 05:28 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: النذير بيرو)

    الاخ العزيز/النذير بيرو
    شاكر لك اخي مرورك الكريم
    تحياتي تركض خلفك ، حيثما توجهت

    محبات
    مصطفى بشار
                  

01-23-2021, 02:42 PM

mustafa bashar
<amustafa bashar
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 1145

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية(عشب لخيول الجنجويد)-(2) مصطفى بشار (Re: mustafa bashar)




    النهاية
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de