(نانجور) الكتاب الذي أهداه لي الأخ الأديب سيد الطيب سفير السودان لدي ايطاليا -وطني الثالث بعد السودان وامريكا - كان مفاجأة سارة. فانا ود سكة حديد! انا نوبي ولدت في ابكي نارتي لكنني ترعرعت في دارمالي وتسني الاريترية والجيلي وعطبرة و كوستي و جبل الدود و تندلتي. خلالها حملت الاباريق التي هي بطول حجمي الضئيل وغسلت مئات الايادي للمتصوفة الذين رادوا بيت ابي الصوفي التجاني لحضور مديح أولاد الماحي واوراد الجمعة. ولعلك يا أمير حمد كاتب هذا الكتاب (الخاص) قد قبلت بأوراق اعتمادي بعد هذا التقديم.. فانا باحث علمي وخبير عالمي في الاستثمار الزراعي التنموي وأكاديمي قبل ان اكون كاتبا.. ولا ادعي بان اكون ناقدا ادبيا. وما كتبت هنا ليس نقدا فنيا وانما قراءة شخصية بعد الم دفين تركهً فيي هذا الكتاب النادر!
يلهب الكتاب وجه القاري كهبوب العتمور؛ لكنه يداوم على القراءة بدون توقف. هذا كتاب مثل الخمر الجيدة تغري بالنهل منها حتى الثمالة. وهذه القصيدة الحنونة القاسية (للشاعر فوزي كريم)!!: يا قطار الشمال يا قطار الجنوب يا قطارا صدئت بلون المحطة نمت استرحت امام البيوت تذكرني بالرمل الرطب في محطة تندلتي ووالدي يغدو ويروح الي مصلايتهً مغيرا عند كل صلاة بدلة المحطة بعباءةً الشيخ وهو يبدي تذمرا واضحا! وتذكرني برحلة، بعد حقبتان ونيف من الزمان، باللاند كروزر في طريق الابيض-الدلنحً - كدوقلي وسائق السيارةً الحكومية ابن الأبيض يبدي احتجاجه وكرهه للصيني ضجيع شقيقته وبسبب ذلك ترك بيت الاسرة (نهائي!) … ثم يتجمع حولي الصبية والبنيات يهتفون ويهتفن سؤالا جماعيا: انت صيني؟ فما عرفوا غريبا سوي هذا الجنس الاصفر من البشر الذي اتي ليمد انابيب البترول!
معذرة يا امير حمد … كتابك الرائع هيج في مواجع وًمشاعر.
الكتاب جيد يجبر القاري على التهامه من الجلدة الي الجلدة وهو يبدي صبرا عجيبا بتجاهل الكاتب الاشارة لعنوان الكتاب الغريب" نانجور"! ولماذا الضني يا امير حمد؟ اكيد انت كاتب ولد بأسنانه او طاير خرج من رحم البيضة بجناحيه! قرات ما كتبت عن اول درس في الرسم لسليفيا الممرضة الالمانية من الراهبة الرسامة في ارسالية بكينيا! لوحاتك مكتوبة ومقروءة. يا الله خالق الحب والنًوي!! صارت الأنثى سيلفيا بعد علاقات محبطة مع الرجال مثل غزال رشيق يقفز دون خوف من صايد مختبئ بين العشب والشجر!
ويقفز ريكاردو والشيخ النحلانً والناظر عجوز المحطة والحسين وابنه مهند و صديق ابنه لالوكً و ونادر بن محمد و نانجور لمقدمة المسرح ليؤدوا ادوارهم ثم يختفون ليعودوا مرات و مرات بدون اشارات مسبقة.
ما هذا الضني يا امير حمد؟
الكتاب وثيقة للجيل الذي مضي: جيلي انا؛ وسفر هام للجيل الحالي والآتي حيث الجنوب الان بلد يحن الي شماله ولا يعبا بوصف (العب)الذي حمله منذ عهد تجارة الرقيق فلقد صار اهله احرارا.
يذكرني الكتاب بالبطش المحتوم للفقراء ملاك الارض حيثما كانوا ... كنت اراهم قبل ان يسبغ عليهم اوصافا أكثر حنوا وواقعية كما وصف اهلي النوبيينً: بالمجتمعات الاصلية! وهؤلاء كنت اري امثالهم في سبعينيات القرن الماضي على ضفاف النهر الروسي في شمال كاليفورنيا ووقتها كان السائد انهم هنود حمر منحطين مهزومين لا يعرفون الا غيبوبةً السكر والنوم. والان افريقيا هي مسرح الابتزاز بدأ من الفرنسيس والإنجليز والبلجيكً في احشائها وانتهاءا بالعرب في بلاد كوش (النوبيون الهدندوة والبنوعامر والخلاسيون من الشايقية و الجعليين) و البانتو و النايلوت (دينكا وًنوير ولاتوكا و انقسنا وبرون) و في بلاد البربر والامازيغ في اطرافها الشمالية.
يذكرني الكتاب بقسوةً اولو القربي من طبقات الاغنياء اينما كانو ....
ينقلكً الكتاب بسحر اخاذ الي رحلات كموسم الهجرةً، ولكن من الشمال الي الجنوب.. يا ريكاردو! وبالرغم من اسمك اللاتيني فشمالك المانيا! وعاداتك بين بين!! تحب ان تراقص سوداء غانية بلون الابنوس وطعم البفرة! وان تجالس شيخا عجوزا يحمل اسفارا، وانً تتذوق الالم المتواصل في جنوب السودان ومناطق اخري في افريقيا. احببت الالم بعد ان فقدت الامل - بالرغم من قلبك الرحيم- في امرأة مثل سيلفيا او نانجور.
يمر الكتاب بسرد الواقع الاليم بحنو قاس.. ولو لم يتلكأ الاباء في إنجاب حفيدات واحفاد (لحم راس) لما انفصل (او نال استقلاله) الجنوب. ولو لم يعيش بعض فاقدوا الهوية من الشماليون علي فتافيت النسب العربي و لو لم يودلج جيش السودان ليكون جيش الكيزانً لظلت الصداقة بين مهند بن الحسين و لاكوكً استثمارا في بناء السودان، بدلا عن الاستثمار سي السمعة في صكوك النسب العربية التي أخرجت للألاف من اهل السودان ليدعي كل واحد منهم بانه (عربي حر).
يزخر الكتاب بكل قصص الاعتراف بالخطأ وبالهزيمة وبالقسوة المفرطة التي اتبعها الشماليون على اهل الجنوب ضاربا امثالا بالمرحوماسماعيل سائق القطار الذي لا يتدخل في شئون غيره ويكمل عمله بدقة ونزاهة، لكن العرب يرفضون مصاهرته! ولعل الله اراد لمن حسبوابأنهم عربا احرارا ان يشربوا من نفس الكؤوس في دول الخليج وجزيرة العرب وحتى بلاد العرب النازحين في شمال افريقيا … فهم لديهمامناء طيبون لا يتدخلون في شؤون غيرهم و لكنهم وفستقهم عبيد او فروخ لا يجوز مصاهرتهم آو الاختلاط بهم، و فوق كل ذلك هم كساليلدي المصاروة والشوام خاصة اللبنانيون.
الكتاب هام في وقت يحتاج فيه السودان لتأكيد افريقيته وانعتاقه من ربط اللغة بالنسب!
يرسم الكاتب رؤيته للحقيقة التاريخية ووسيطه في ذلك الخواجة ريكاردو الذي يتجول بحرية في الجنوب ويراقص نساءهم بدون ان يضر هذا بسمعتهن فهن مثقفات عاملات منتجات واعيات مالكات لزمام امورهن. الكتاب غني بالأحداث. وبالرغم من تركيزه على شخوص واماكن ثابته لكنه ينتشر لمواقع جغرافية متعددة لا تخدم للكتاب مقاصده. حقا ابيي تكفي! احيانا يرسم الكاتب (عن قصد او بدون قصد) لوحة رومانسية لنظرة ضباط الجيش (مؤدلجين وسواهم) لحرب الجنوب بانها حرب لضمان وحدة السودان وبأن البترول في حدود التماس هي اسباب الفرقة. وهذه وجهة نظر ليست مبنية على حقائق الاستغلال والاضطهاد التاريخيين. ولربما كانت هنالك محاولات ناجحة من تزاوج وتصاهر لكن المخابرات المصرية والمستثمرون الاسلامويون العرب (امثال الذين منعوا شركة سيبا قايقي السويسرية من تطوير شمال الروصيرص وجنوب الدندر في مطلع السبعينات من القرن الماضي) حدبوا علي افشال اي محاولة لتطوير ذاتي للسودان ولا يزالون.
الكتاب يخلط بين الواقعية والسردية، بين الحياد وابداء الراي … ويوكد غزارة ثقافة الكاتب. لكنه ايضا يقدمه للقاري من خلال السرد كسوداني أصيل كثير الخلط بين السياسة والراي الشخصي، او كمحايد جم التواضع كثير التهذيب؛ فينتقل بين سرد واقعي للازمة العالمية وبين القاء اللوم علي تجار السلاح وهم من كل الاجناس والازمان من قبل الرسائل التوحيدية وبعدها. فمثلا من أشهر تجار السلاح في منتصف القرن الماضي كان عدنان الخاشوقجي السعودي المسلم! والملاحظ عموما هو أن الصليب الاحمر والهلال الاحمر متوافقان في الهدف والوسائل ولو تغيرت الدروب والمقاصد!
يشعل الكتاب في دواخلي حرائق لا تنطفي لأنها اصلا ظلت مشتعلة منذ ان اخرجنا جيش عبود من ديارنا قبل ان تغرقها مياه السد العالي. ولقد طوف بي زميلي الجنوبي على الاطراف الشرقية من "الاستوائية الكبري" بسنتين قبل استقلال الجنوب: اراني النهر الذي صار مقبرة لألاف من شباب الشمال الذين بعثهم الكيزان للموت قسرا موعودين بجنة في السماء لن تطأها اقدامهم ابدا!
الكاتب وكأنه اراد وصف ما يفعل اهل السودان من خلط بين الحرب والقتل والعلاقات العامة مع التحية بالأحضان والاكل على منضدة واحدة. هذا التسيب العاطفي اطال امد الحرب ولم يودي الي حسمها.. وهي كما ذكر الكاتب حرب جاوزت المائة عام وزاد البترول -او الدم - والدعم الخارجي وتصدير المرتزقة من اوارها! و لا تزال النيران مشتعلة بالرغم من مآدب(عزايم) القتلةً امثال الجنجويدي حميدتي ومناوي وشيخ جبرينً ورب الفور البرهان والكباشي ووو
حقًا كل موائد السودان "عشاء أخير"!!
يشير الكاتب الي حكايات تاريخية للتعايش الاثني مع العرب كمنزلةً بلال مؤذن الرسول، و من قبله عنترة الاسود الذي هو بن سفاح عبسي! … وهذا امر مضني يحمل هلاك العروبة وليس هلاك اللغة العربية التي هي في حفظ وصون القران الكريم.
واخيرا اتي ذكر نانجور الجنوبيةً وزواجًها بمحمد المجند في جيش الكيزانً بدون ان يكون منهم! وهنا وضحت احترافية الكاتب وقدرته على التشويق. وواصل الكاتب اسلوبه التشويقي عندما اخذ يرسم صورة لابنهما نادر بوسيلة الفلاش باك واضواء المراقص التي تأتي لتختفي ثم تأتي بعد ان تترك اثرا مغايرا. يا الله! وعندما قرات ما كتب أحد اصدقاء محمد بمناسبة زواجه بان من تزوج هي مجرد "خادم"؛ تذكرت الصديق القائد المناضل اليساري ياسر عرمان الذي أنجب للسودانً الموحد -كما راي صديقه وقائده الدكتور جون قرنق - جيل المستقبل الشجاع! ثم كتب الاديب امير حمد عن كيف انشغل الناس جنوبيين وشماليين بموت محمد.. حكايات بين الحقائق والاسطورة، بين الاتفاق والاختلاف … وهذا كان وما زال امرا عاديا خلال كل حقب الحرب بين الشمال والجنوب.
ما يهم في امر الكتاب ان من دون الحقائق عن حياة محمد هي نانجور! التي قاومت المستحيل لتتعلم ووقفت مع ما تعتقد واسلمت الروح بطواعية. وأيضا ما يهم هو "نادر" نتاج زواج نانجور من محمد والمصير الذي ال اليه، مثله مثل كل الشماسة ومشردوا السودان. وهروبه من الملجأ وتجواله بين الجنوب والشمال وهو يحمل في تركيبته الجينية الحمض النووي المختار! وحبه لابنة عمه هند ورفض اهل والده له واحترافه الغناء الشمالي. اين ذهب نادر؟ ومن هو الرجل الذي حمل "المسودة “الي ريكاردو ثم اختفي بعد ليلة راس السنة الحافلة في برلين؟
ما شغل بالي وارقني عند قراءة هذا الكتاب أكثر من مرة (لدي في مكتبتي عشرات الكتب التي لم أعن بإكمال قراءتها) هو التركيز على الاثار السالبة للغرب وللكنيسة و التجاهل التام للأثر العربي الشمولي الإسلاموي المتعصب العنصري. فالعرب يحتقرون اهل شمال السودان ويصفونهم بالكسل والتخلف؛ كما يصف اهل الشمال الذين يدعون انسابا عربية شريفة اهل الجنوب بالكسل والتخلف! سبحان الله لم يبق ادني الا البعير!!
هذا كتاب شيق وًمولم يصور بعض النواحي الهامًة من المأساة السودانية في سطورها التي لم تكتمل والتي ستظل "مسودة" كما سماهاريكاردو وهو يستمع لحاملها وهو يقرءها له في مقهى ليلي في المانيا في ليلة من ليالي راس السنة الباردة.
د. أحمد التيجاني سيد أحمد ١٠ فبراير ٢٠٢٣ - روما إيطاليًا
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق February, 05 2023
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة