من خطل تجارب المجتمعات المسلمة المعاصرة، الفشل التاريخي في المواءمة بين الدين الاسلامي كعقيدة غالبة ومنهج حياة، وبين تطبيق وتنزيل مبادئه في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة على حياة الافراد والمجتمع دون حدوث قطيعة او تناقض بين المثال والممارسة. فالاسلام بمبادئه الشاملة، دينٌ حركي لا يمكن عزله عن تفاصيل حياة الفرد المسلم، بغض النظر عن تعمق ذلك الفرد في الفقه او عدمه، وفي هذا يستوي العالم وغير العالم، او من حراك المجتمع المسلم الذي يظل دائماً يبحث عن طريقةٍ ما لتحكيم مبادئ الدين الاسلامي وشرائعه في مناحي حياته. ومن هذه الجدلية تأسست تجارب الإسلام الحركي (السياسي) في العصر الحديث، منذ أيام الافغاني ومحمد عبده، الى تجربة حسن البنا، ثم تجربة الدكتور حسن الترابي في السودان، وتجربة نجم الدين اربكان ثم اردوغان في تركيا، وراشد الغنوشي في تونس وتجربة اسلاميي الجزائر وفلسطين، وانتهاءً بتجربة الدولة الاسلامية في الشام والعراق وكذلك التجربة الافغانية التي عادت بقوة للواجهة هذه الأيام. وهو حراك فكري حضاري وسياسي اشبه بحركة بندول الساعة، رغم ثبات محوره فهو يظل في حركة دائبة للأمام والخلف، يترتب على دقتها من عدمه، قيام بقية اجزاء الساعة بوظائفها. هذه الخاصية نابعة من قوة تأثير الدين الاسلامي فكراً وعقيدةً ومنهج على الفرد والمجتمع، اللذان هما في شوقٍ دائم الى الاعلاء من شأن الدين والتدين ومحاولة ضبط ايقاع حركة الحياة من حولهما وفق فكر ومنهج وعقيدة الاسلام، ولكن للأسف دائماً ما تخذلهما الممارسة. وهنا تكمن العلة، ومع ذلك يحاول انصار فكرة الاسلام الحركي التعلم من التجارب الذاتية ومن تجارب الغير، املاً في الوصول يوماً ما وفي مجتمعٍ ما، الى الصيغة المثلى التي تنجح في المزج بين المثال بسموه وشموله واصالته، والواقع بتناقضاته وتعقيداته ومطلوباته. ولن تتوقف حركة البندول هذه، ولن يستطيع احدٌ ايقافها، تماما كما حدث في الماضي القريب منذ قيام الحركة الوهابية في جزيرة العرب، والثورة المهدية في السودان، والسنوسية في المغرب العربي، وكلها تطورت الى ما نراه اليوم من حراك اسلامي في هذه المجتمعات، والذي توسعت دائرته افقيا ورأسياً، وتنوعت لتشمل دولاً في الإقليم والعالم، ونماذج شتى؛ من سلفية وانصارية وجمهورية واخوان مسلمين وحركات اسلامية وطرق صوفية وحركات جهادية. وما يهمنا هنا في هذه (المجادعة) التأصيلية هو ما حدث في السودان، وتجربة الاسلام الحركي المتمثلة في التيار الذي قاده المرحوم الدكتور حسن الترابي وبلغ شأواً عظيماً تمكن من قيام نظام حكمٍ في دولة حاولت تطبيق مبادئ الاسلام في الانساق السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى العسكرية، وهي شانها شأن مثيلاتها من التجارب، اصابت في جزئياتٍ وأخطأت في جزيئاتٍ أخرى. وبغض النظر، عن تقييمها سلباً أو ايجاباً، تظل احد التجارب المتطورة في سلسلة ذلك الحراك في البلدان الاسلامية وغير والاسلامية في العصر الحديث. صحيح ان النظام الذي صنعه ذلك التيار ومشروع تلك الدولة لم يتمكنا من الاستمرار، لعين السبب الذي ذكرناه في صدر هذا المقال المتمثل في التناقض بين المثال والممارسة، ولكنهما دون شكٍ قد تركا بصمات لا يمكن ان تزول بجرة قلم، بل الأرجح، بفعل خاصية حركة بندول الساعة التي اشرنا اليها آنفاً ان يعود ذلك التيار للساحة من جديد في اي مرحلة من مراحل حراك المجتمع والدولة السودانية في المستقبل. هذا التيار لديه تنظيمٌ قويٌ وانصارٌ كثر، وتجربةٌ راسخة في القيادة والادارة تراكمت على مدى الثلاثين سنةٍ الماضية، واموالٌ لا يستهان بها تدار في العلن او الخفاء، لذلك يصعب محاربته او القضاء عليه بالطريقة التي تتبناها لجنة تفكيك التمكين الحالية، التي حتى وان نجحت في شل حركة هذا التيار مؤقتاً الا انها لن تستطيع ان تستأصل الفكرة من عقول انصاره، وربما زادتهم اصراراً على التداعي للمواجهة، وهو اتجاهٌ ليس في صالح الوطن، فالاسلاميون هم سودانيون بالاصالة ولا يمكن نفي سودانيتهم، او عزلهم عن المجتمع السوداني الذي له عليهم مآخذ ومظالم ولكنه لا يمارس عليهم اسلوب الثأر وتصفية الحسابات كما يفعل خصومهم الحاليين من نشطاء اليسار والاحزاب الطائفية، بل حتى فكرة حل حزب المؤتمر الوطني الذي هو وعاء التيار السياسي تعتبر فكرة فطيرة، ووليست بدعاً وانما لها مثيلاتها في السابق التي لم يكتب لها النجاح وعادت التيارات والاحزاب المستهدفة اشد قوةً وزخماً. كان الانفع والأجدي منعه في فترة الحكومة الانتقالية من ممارسة النشاط، حتى تكون له فرصة لمراجعة تجربته والتعلم من أخطائه ومحاولة اجراء جراحة معمقة لاستإصال مكامن الداء والاخطاء، حتى اذا شارك في الانتخابات القادمة، كان انصاره أقل غبناً وأكثر استعدادا للقبول بفكرة التغيير الشامل والتبادل السلمي للسلطة، وربما تمكن من اعادة الكرة بفكرٍ جديد ومنهجٍ جديد يضيف الى توجه الدولة والمجتمع نحو الديمقراطية والسلام والاستقرار والنماء. وعلى الاسلاميين ايضا، عدم المكابرة والمزايدة وانتهاز هذه الفرصة لمراجعة تجربتهم والاعتراف بانها لم تكن مثالية او فوق الشبهات والهنات، وانهم لم يكونوا (صحابة)، وانما هم بشر، اعتراهم ما يعتري البشر من حب الجاه والسلطة والنساء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والانعام والحرث، وتلبس عليهم الطمع والشره وظلم النفس والآخرين، وان البعض منهم ارتكبوا جرائم وموبقات تستوجب المحاسبة والعقاب حتى يتطهروا وتلتئم جروح ضحاياهم افراداً كانوا ام مجتمعات، ومع ذلك فهناك منهم ابرياء واتقياء وانقياء يجب ان لا يؤخذوا بجريرة اولئك المخطئين. انا اعتقد جازماً ان ثورة ديسمبر المجيدة لم تأت ابداً للانتقام من الاسلاميين او من شايعوهم، وانما اتت لمحاكمة تجربتهم لتحقيق الحرية والسلام والعدالة، ورد الحقوق والاعتبار للضحايا، واصلاح الاخطاء في المنهج والممارسة التي ارتكبها متنفذوهم في حق الدولة والمواطنين، ولا يكون ذلك بالانتقام والاقصاء والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، وانما بالعقاب للمخطئين عبر نظام عدلي عادل والاستصحاب والاستيعاب للابرياء حتى لا يتحولوا الى اعداء للمجتمع والدولة المنشودة التي قدم الشعب من اجلها العرق والدماء. حاكموهم ولكن لا تستهدفوا الفكرة فالافكار لا تموت...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة