صالح حسين: البجاوي الفريد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 02:05 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2018م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-17-2018, 06:41 AM

Osman M Salih
<aOsman M Salih
تاريخ التسجيل: 02-18-2004
مجموع المشاركات: 13081

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
صالح حسين: البجاوي الفريد

    صالح حسين: البجاوي الفريد

    كانت تجيش ملء صدورنا شتّى المشاعر المتلاطمة بين ضفتي الرهبة والرغبة، بين حدَّي الاحجام والاقدام، ونحن نودّع
    ليل الخرطوم الساكن الشحيح الأضواء، حيث أقلعت بنا ممنوحين ودارسين على نفقتهم الخاصة، فتية وفتيات، مسلمين ومسيحيين، حزبيين ومستقلين، شيوعيين وديمقراطيين وآخرين ،
    ناطقين بالعربية وناطقين بغير العربية، قادمين من الأقاليم وخرطوميّين، طائرة تابعة لخطوط البلقان، حطّت بنا في مطار صوفيا، في صباح باكر وبارد من أواخر سبتمبر 1988، أمّا صالح حسين، فقد
    تأخّر في المجيئ، ليلحق بنا بعد نحو أسبوعين أو يزيد من وصولنا في أيام المخاض الكوني العظيم، وبلغاريا تئنّ تحت وطأة القهروغياب الحريات، حبلى بتغيير سياسي سيضع في العاشر من نوفمبر 1989 حدّاً للنظام الشمولي وتسلّط الطغمة الحاكمة الملتفّة، دفاعاً عن مصالحها الطبقية، حول الدكتاتور تودور جيفكوف.

    ادركَنا صالح وقد لوّحته الشمس الحارقة المنعكسة على سطح البحر الأحمر في بورتسودان موطنه، وبدا أقرب إلى قصر القامة ربما لامتلاء جسمه، داكن البشرة، أجعد الشعر، ضيّق الجبهة والعينين، أفطس الأنف، رقيق الشفتين بارزهما.
    وحين دنوت منه لاحقاً، في معهد تعليم اللغة البلغارية بصوفيا، عرفت أنّه منظَّم في الحزب
    الشيوعي، فألّف ذلك بيننا، كذلك جمعنا الانتماء تحت القوميّ لشرق السودان وللّسان غير العربيّ.

    صار الهدندوي له لقباً. وأعجبتنا، نحن أفراد دفعته، بساطته الساحرة، وتلقائيته الآسرة، وطريقته غير المتكلِّفة في كسر الحواجز وتذويب الجليد، وهو يسعى بين الناس بروح تطير بخفّة الفراشة، فازدادت حفاوتنا بسليل الشعب المحارب، الّذي كسر مربع الجيش الإنجليزي، وحطّم أسطورته في معركة طماي في 13 مارس 1888، بين جيشي عثمان دقنة وسيرغراهام. واستفهمه كلَّ مهتمٍّ بقضايا شرق السودان عن مؤتمر البجا، وعما اضطلع به الشيوعيون من دور في تأسيسه، فروى ما تناهى إليه من مآثر الجزولي سعيد، المتفرِّغ الحزبي، في بلدة أروما، في الستّينات، والّذي أحاطه البجا إبّان دكتاتوريّة الفريق ابراهيم عبود بالرعاية والحماية في مضاربهم النائية في البادية، متى التجأ إليهم كلما ضاق به الحال، في البلدة الصغيرة، وخشي الوقوع في كَمّاشة الاعتقال. يقضي الجزولي سعيد بينهم من الوقت مايكفي لانقشاع الخطر، ثم تأتيه إشارة الأمان، فيهبط إلى البلدة، الّتي تعرفه وتحبّه وتنذره عند الخطر، ليعاود نشاطه الحزبي تحت ستار المكتبة، الّتي أقامها له الحزب الشيوعي في سوق البلدة.


    وكما يحدث عادة مع وصول كلّ طالب جديد من السودان، يصير مَحطَّاً لاهتمام الطلاب القدامى، يحرّك ساكن الحياة الّتي أقعدتها الرتابة والروتين، منعِشاً ميادين الرياضة، وجلسات السمر والنقاش، وأماسي المحافل وأجواء المؤتمرات في قاعات المعهد العالي
    للاقتصاد "كارل ماركس" ومعهد الهندسة بصوفيا، وبرامج الرحلات الّتي ينظّمها اتحاد الطلبة إلى مناطق في الأقاليم احتفالاً برأس السنة الميلادية. نمضي إلى استيريلجا أو غيرها بباص مستأجَر، نستقله من موقع قريب من صالة "خِرِيستو بوتِف" للألعاب الرياضيّة في مدينة الطلاب، فينطلق بنا ك "سيرة العرس"، وزميلنا مصطفى العِضيم، كدأبه متدفق الحيويّة، بجسده النحيل وشعره المسترسل الحالك السواد وسمرته الغامقة وضحكته البريئة وصخبه اللطيف، يقف في مقدمة المركبة، الّتي تخطر على الطرقات المتعرِّجة في أعالي الجبال، ثم تهبط إلى الوديان، يقف العِضيم مثل قائد لأوركسترا مصابة بالخمول، باذلاً ما في وسعه لطرد الملل والنعاس، واستنهاض الهمم، والهاب الحماس بمُرتَجَل الغناء المُسلِّي طوال الطريق، كأنّه يقودنا في تظاهرة مسافرة، أقول : كما يحدث عادة مع وصول كلّ طالب جديد من السودان بما يثيره من جديد الأسئلة والملاحظات، ناظراً للواقع القائم المتكلِّس الّذي تصالح معه قدامى الطلاب واطمأنوا إليه، واسترخوا، بعين فاحصة نقديّة، تزعزّع طمأنينة المسلَّمات المستقرّة، وتشير إلى مواطن الخلل، وتدعو للتغيير، في أيامه الأولى يكون الطالب الجديد، محايداً، غير متحيّز، محتفظاً بذات المسافة بينه وبين كل الجماعات الفرعية القائمة حتى في داخل التنظيم السياسي الواحد، لكنّ هذا الوضع الغائم لن يستمر إلى مالانهاية إلّا في حالة واحدة وهي خروج القادم الجديد من مظلّة الجماعة الكبيرة، وهذا أمر نادر الحدوث، وإن حدث فهو الاستثناء، لا القاعدة، الّتي تقول أنّ السباق المحموم لاستقطاب القادم الجديد إلى إحدى الجماعات الفرعية سيبلغ منتهاه، ولو بعد حين، وأنّ إحدى الجماعات الفرعية المتبارية فيما بينها، سوف تنجح في استمالة القادم الجديد اليها، فتستوعبه، وتكتنفه بجناحيها، لتجدّد به حياتها الداخلية، وهكذا يُسدَل الستارُ على تلك القوّة التجديدية، القادمة من خارج الجماعة الكبيرة، ليصبح بعدها الجديد جزءً من نسيج القديم، محافظاً، متكلّساً، ومعادياً للتغيير، أقول: كما يحدث مع وصول كلّ طالب جديد، فقد أحدث وصول صالح هو الآخر انتعاشاً في حياة السودانيين الدارسين بصوفيا وخاصة الشيوعيين منهم. وأعتقد أنّ وصوله كممثّل للقطاع التقليدي في شرق السودان، هو ماحفّز رفيقنا محمد الفاتح العالم لأنْ يقدّم لمجموعتنا، مجموعة الشيوعيين الجدد، محاضرة قيّمة، استندت على الخلاصات النظرية الّتي توصّلت إليها الوثيقة الحزبيّة المعنونة ب" القطاع التقليدي وقضايا الثورة الوطنية الديمقراطية".


    الموسيقى الأجنبية كانت لصالح بمثابة الرئة التي يتنفّس بها. كما كان منفتحاً في صداقاته على الطلاب
    ،من شتى الجنسيات، وعلى وجه الخصوص اولئك القادمين من دول أفريقيا الناطقة بالانجليزية، أعانته على ذلك أناقة المظهر، والتحلّي بروح الاقتحام والظرف المطبوع، وحسن الحديث بإنجليزية فصيحة استفادها من احتكاكه بجماعة من الإنجليز عملوا في بورتسودان، حيث كان لهم بمثابة الترجمان، لكنّه كان شيوعياً متمرّداً على قيود التنظيم الصارمة، يمارس فوضاه، ويطلق ضحكته المجلجلة، ويسعدنا بقفشاته ولكنته اللطيفة، الّتي جعلته أثيراً لكلّ من
    عرفه. كان محبّاً للرقص بارعاً فيه، يبهرنا في حلبة الرقص، ويجعلنا نبدو إزاء براعته كجماعة فائضة عن حاجة المرقص، ضلّت طريقها إلى ذلك المكان الفوّار بالألق والحيويّة والأصوات العِذاب والكهارب الغَمّازة.

    يُعَدُّ صالح من قلّة معدودة مفارقة للمثال السائد بين الشيوعيين، وأعني به مثال المستغني عن
    حطام الفانية، فقلّت عنايته بالأناقة، يرتدي من الثياب ماتيسّر لغايتين: ستراً للعورة، ووقاية للنفس من تأثير عوامل الطقس، أمّا صالح فكان حريصاً على مظهره العام، ينتقي ثيابه وأحذيته وعطوره بعناية. وفي مساء عطلة آخر الآسبوع تراه في كمال أُبّهته، منتعلاً الحذاء البني اليوناني
    الصنع ذا الأربطة الجلدية ( كان صرعة في ذلك الزمان)، حليق الذقن، جديد الصدار والبنطال اللامع السواد تزّينه زهيرات بالغة الدقة بيضاء، تتوجه قبّعة سوداء عريضة الحواف، تجعله يبدو كالكنغوليين، الّذين كانوا في مدينة الطلاب بصوفيا من أرباب الأناقة المسرفة في استعراضيتها الملفتة للأنظار، كانت تدهشني، كماتدهش غيري، سراويلهم الفضفاضة وأحذيتهم الكبيرة التشارليشابلينية. منحدراً من البلوك 51 إلى محطّ الباصين رقم 88 ورقم 280 في شارع أكاديميك بوريس ستيفانوف، يمرّ صالح كمالو كان دِي جي، مرتّب الهندام، معتداً بنفسه، يمازح معارفه من المارة، متزحلقاً بيسر بين اللغتين الإنجليزية والبلغارية، وهو فى طريقه لقضاء سهرة راقصة تتجلّى فيها مواهبه في الابهار رشيق الحركة، دوّاراً كالزنبور.

    احسب أنّ من أمتع اللحظات في حياة صالح كانت قبيل احتفالات السودانيين الّتي ينظّمها اتحاد الطلبة في المناسبات والأعياد الوطنيّة، عندما تستعين به الفرقة الفنية لتعليمها الرقص البجاوي، فتضيء قسمات وجهه من الغبطة، ويأتي في اليوم المحدّد للبروفة (عندها لايتغيّب)، مزوّداً بالسيف واللباس البجاوي، ثم يشرع في الرقص، يرقص ثم يرقص حتى تطير روحه عائدة إلى أرض البجا.

    لم يكن صالح من هواة الكتب، إلّا مايستوجب قراءتها المقرّر المدرسي، ومع ذلك كان يروق له في استراحة الإفطار بين الدروس حين نخرج من معهد تعليم اللغة البلغارية، ونتمشّى في الدرب المحاذي لجادة ساريقرادسكو شوسي، الّذي تحفّه الأشجار من الجانبين، حتّى نبلغ فندق بِلِيسكا القريب، ثم نعود منه إلى المعهد والجليد المتراكم يخشخش تحت أحذيتنا الثقيلة، كان يروق له، في صعودنا وهبوطنا، أن يحدّثني أولاً عن موضوعه الأثير وهو قصيدة كيبلينغ " فيزي ويزي"، ثم يعرّج على "موسم الهجرة إلى الشمال، يتلو منها عدّة مقاطع مختارة، يحفظها عن ظهر قلب. يتلوها في ذلك الطقس البارد وهو يرمقني باسماً، يشّع من عينيه الضيقتين بريق عجيب، يسرّني كلّ ذلك، فابتسم، ثم أضحك، فيضحك هو الآخر، سعيداً لأنّ تلاوته قد لاقت استحساني، بل
    وجعلتني أضحك مقروراً في الصباح الشاتي. ففي مثل تلك الأجواء الرفاقية، ذات الطابع غير
    الرسمي، يكون صالح في أحسن أحواله، متربّعاً على القمة، مرتجلاً مبدعاً وخلّاقاً، لكنّ حماسه للحياة سرعان مايخبو، إذا ما وجد نفسه في جلسة رسمية، مستمعاً إلى محاضرة، أي محاضرة، وليكن مثالها هنا تلك الّتي قدّمها لنا محمد الفاتح العالم، ونحن طلبة جدد لم نكمل دروس اللغة بعد. احتوتنا عندئذ جيتالنيا(حجرة للمذاكرة) في أحد طوابق البلوك السابع بمدينة الطلاب. جلسنا في شكل دائرة كاملة يتوسّطنا محمد الفاتح العالم بسخريته المحببة ولطفه المعهود، يلقي علينا المحاضرة. في تلك الأثناء، وصوت ود العالم يهيمّن على المكان، ويأسر الأسماع، كنت، بين الحين والآخر، استرق النظر إلى وجه صالح لأرى تأثير المحاضرة عليه، فوجدته مكتسياً بالحزن مثل طفل مشاغب قيّده أهله بالأوامر والنواهي والزواجر، وهو يريد أن ينطلق إلى الطرقات والساحات. شعرت به يتململ في
    قعدته، مختنقاً من طول البقاء ساكناً صامتاً مستمعاً، تموج في صدره رغبة في هدم بنيان هذه الصرامة والجديّة، التي اكتست بها الوجوه، وأن يشيع في أرجاء المكان فوضاه المستطابة بسؤال المحاضر عن مسألة تجعلنا جميعاً ننفجر في الضحك والمحاضر أول الضاحكين. إنّ
    طريقة صالح في إدخال السرور على القلوب لاتبارى. وقدرته على هدم التراتبيات، الّتي تفصل بين الناس فهي من باب الإعجاز. يقيني أنّ الطاقة الكامنة في أعماق صالح لتغيير العالم هي
    أكبر من أن تسعها أمكنة مغلقة، أويستنفدها تنفيذ مهام وواجبات وتكاليف حزبية تدون في محاضر اجتماعات. لاشيء يثير ضيق صالح أكثر من انغلاقنا في ماراثون الاجتماعات الحزبيّة المطوّلة. وبعد نحو عامين من الصبر فاض بصالح الكيل، ولم يعد يطيق البقاء في صوفيا، بعد أن كان يردّد عنها عبارة البلغار الشهيرة :"صوفيا راستي، نو ني ستاري"، وترجمتها: صوفيا تكبر، ولكنها لاتهرم. فحزم أمتعته، قاطعاً دراسة القانون في جامعة صوفيا، مرتحلاً إلى لندن، الّتي كان يتوق إليها طوال الوقت.

    أرى في صالح مثال الشيوعي المفعم بالنقاء، مع بغضٍ ظاهرٍ لقيود التنظيم، الّتي تتعارض مع أسلوب حياته. كان صالح يتفجّر حيويّةً، يريد أن يعبّ من نهر الحياة الدافق عبّاً قبل أن يحلّ هادم اللذات، أمّا نحن فلم نعي ذلك في حينه، واثقلنا عليه، ولاحقناه بالدعوات المتتالية لحضور الاجتماعات المطوّلة، وحمّلناه من أثقال التكاليف مالاطاقة له به، ففرّ بجلده من التنظيم، وانطوى في عالمه الخاص مع خاصته من الجنسيات الأخرى. وكان من الممكن تلافي حدوث كلّ هذا لو كنا متحلّين بالمرونة الكافية ورحابة الأفق، لو كنا تركناه حرّاً بلا التزامات، يحدّد وحده شكل العلاقة التي تربطه بالحزب : يُعينه
    مالياً بقدر المستطاع، يصوّت له، ويطلّع على منشوراته، ويبشّر بأفكاره، ويروّج لسياسته بما حُبِي به من كاريزما. لو لم نضيّق عليه الخناق لما اختنق، ولما فارقنا، وفارق صوفيا، ناشداً الهواء بعيداً في لندن.

    في المكالمة التلفونية، التي جمعتني بصالح، تحشرج صوته وهو يحدثني عن لقائه الأخير في صوفيا بصديقنا المشترك، رفيق الفقراء والمستضعفين، عوض الصنديد، الّذي
    خرج ولم يعد. فمن بين من عرفهم في بلغاريا، يكنّ صالح احتراماً خاصاً لعوض الصنديد، يكاد يرفعه إلى مرتبة عالية تقارب مرتبة الأب الروحي.
    مع أنّهما أتراب. وحُقّ للصنديد أن يكون أباً روحياً، فقد كان يبرز بين أبناء دفعتنا كالعملاق.
    التصق به لقب الصنديد منذ بواكير أيام دراستنا معاً، فتقهقر اسما أبيه وجده حتى طواهما النسيان في ذاكرة من حوله. كأنّ الناس قد وجدوا في اللقب ضالتهم التي كانوا ينشدون بها تعريفه .
    كنّا نختلف إلى معهد الأجانب لدراسة اللغة البلغارية، والصنديد يلوح بين جماعتنا بقامته العملاقة وجسمه المتين كالحارس الأمين، ببنطال جنز ومعطف شتوي قاتم الزرقة، وبشرة قمحية، وعينين
    ضيقتين ذكيتين، ووجه نحيل، وشعر سبط، وأنف بارز مقوّس، وشارب كثّ، وقبضة فولاذية لساعد عريض الجريدة. .هاديء الطبع، مقلّ في الحديث، فإذا نطق، أوجز وأصاب. وقد درّبه الشيوعيون على ذلك، فأحسنوا التدريب. كان من أذكى من عرفت، بل ومن الّذين أخشى ذكاءهم. ولولا العراقيل الّتي اعترضت سبيله، ولولا غيابه المفجع، لكان له اليوم شأن عظيم في عالم الطب. كان يحسن القراءة، فذات مرّة أطلعته على إحدى قصائدي، فقال: تعرف ياعثمان، لو أنّي عثرت على وريقة في الطريق مكتوب عليها شعر غير ممهور باسم الكاتب، وكنت أنت كاتبه، لعرفت ذلك في الحال. تعجبّت قائلاً في سرّي: هذا هو الوصول بعينه!. فالصنديد لم يكن يقرأ كلماتي، وإنما يقرأ روحي.

    إذا كنت لاتعرف شيئاً عن منحدر الصنديد الاجتماعي، وشهدتَ آيات بساطته وتواضعه، فلن يخطر
    ببالك أنّه ينتمي لأسرة من الطبقة الوسطي. طوال الأعوام التي عرفته فيها، لم أره في أقصى درجات سعادته إلّا مع المهمشين الّذين يبادلونه الاحترام.

    من آيات محبّة الصنديد لأصحابه، وحرصه على ألّا يؤذي مشاعرهم، أنّ نفراً من أصحابه المشرّدين صادفوه في الطريق، فدعوه لتناول الطعام معهم، فلبّى الدعوة، وأكل معهم، وهو يعلم علم اليقين أن الطعام فاسد، وكان خبزاً أسود جافاً، وقطعة ضخمة من المرتديلا مُلتقَطة من حاوية القمامة وعندما سألته لماذا فعلت ذلك، لم خاطرت بتناول طعام المرجّح أنه سيسمّمك، أجاب ببساطة: شاركتهم في طعامهم حتى لايظنّوا أنّي أتكبّر عليهم، أو أعاف مايأكلون. وهذه زهرة واحدة من بستان إنسانية الصنديد.

    انتمى صالح حسين للحزب الشيوعي بصدق. وقد هزّه من الأعماق، وأربكه، وجعله يتخبط انهيار نموذج" الإشتراكية القائمة بالفعل" في دول المعسكر الشرقي، فصار في جماعتنا من أوائل ضحايا
    تلك الزلزلة الكونيّة العنيفة، الّتي عطلت الطاقات الثوريّة الهائلة لكثير من الشيوعيين السودانيين، فاعتكف البعض منهم، ويمّم البعض الآخر صوب الحركة الشعبية لتحرير السودان، وانساق البعض الثالث وراء غواية المال والأعمال، تحدوهم الرغبة في الصعود إلى مصاف الطبقة الوسطى، وتعويض مافاتهم من الدنيا على أيام النضال، كأنّ بهم أسف على ماولَّى، أوكأنّهم اكتشفوا نِعَم الدنيا لأوّل مرة بعد أن كانوا يُحسَبون من الزهّاد،( هذه فئة صغار البرجوازيين الذين دخلوا الحزب الشيوعي ليس اقتناعاً منهم بالدور التاريخي للطبقة العاملة في قيادة عملية التغيير الاجتماعي، وإنّما لغياب البديل، وخلّو الساحة السياسية من حزب يلبّي طموحات القسم العلماني المستنير من طبقتهم البرجوازية الصغيرة)، ووجد البعض الرابع نفسه ينشد الخلاص الروحي في سجاجيد الطرق الصوفية، وتوزّعتْ البعض الخامس أحزاب أخر، وتقوقعت قيادة الحزب في صَدَفة الستالينية في نسختها السودانية تذبّ عن مصلحتها الضيّقة في عدم الترجّل، واغلاق الباب أمام التغيير، وتكميم أفواه دعاته، وطردهم من الحزب بتلفيق التهم الباطلة ضدهم كماحدث للشفيع خضر وحاتم قطّان والآخرين. تفرّق الشيوعيون شذر مذر، في مشهد يوم قيامتي(أبوكالِبسي)، يذكّر بكارثة سد مأرب، أمّا صاحبي صالح حسين فقد لاذ واستعصم بجبل الموسيقى، لعلها تمنح التماسك، وتسدّ الفراغ، وتشفي الجرح البليغ.

    عثمان محمد صالح

    (عدل بواسطة Osman M Salih on 04-17-2018, 07:10 AM)
    (عدل بواسطة Osman M Salih on 04-17-2018, 08:00 AM)
    (عدل بواسطة Osman M Salih on 04-17-2018, 08:16 AM)
    (عدل بواسطة Osman M Salih on 04-18-2018, 06:08 AM)





















                  

العنوان الكاتب Date
صالح حسين: البجاوي الفريد Osman M Salih04-17-18, 06:41 AM
  Re: صالح حسين: البجاوي الفريد Osman Musa04-17-18, 11:48 AM
  Re: صالح حسين: البجاوي الفريد Khalid Abbas04-17-18, 11:58 AM
    Re: صالح حسين: البجاوي الفريد Osman M Salih04-18-18, 06:04 AM
  Re: صالح حسين: البجاوي الفريد Osman Mahmoud04-18-18, 06:45 AM
    Re: صالح حسين: البجاوي الفريد Osman M Salih04-20-18, 06:00 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de