د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل؟ (حلقات ارشيفية)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 02:46 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-07-2017, 12:01 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل؟ (حلقات ارشيفية)

    أفتتح الأخ عبدالحفيظ أبو سن خيطا بحديث لدكتور حيدر ابراهيم عن نهضة اثيوبيا ما اسبابها
    لاحظت برضو اليومين دي في الواتس اب في كلام كتير داير عن نهضة اثيوبيا مقارنة بنال
    لأرشفة تسهيلا للباحثين سأضع مقالات د. النور حمد هنا في مكان واحد
    مع كل التحايا
    ===
    كتب النور حمد عن ما الذي حفزّه لهذه الكتابة المطوّلة:
    هذه الكتابة حفزتها زيارة خاطفة قمت بها إلى أديس أبابا مؤخرا. ورغم طوافي معظم قارات الأرض إلا أنني لم أزر أديس أبابا، اقرب عاصمة إلى الخرطوم بعد اسمرا، إلا الآن! الشاهد، أنني صحوت من نومةٍ طويلةٍ، ولكن مثل تم صحوه على أثر صفعةٍ قوية. لقد بقيت أثيوبيا في وعي كما مهملاً عبر عقود حياتي التي أعبر أخريات بحر العقد السادس منها!! يبدو لي أننا مهما تحدثنا عن التاثير السيء لمناهجنا التعليمية، فإننا لن نوفي ذلك الأثر السيئ حقه تماماً. أذكر حينما كنا تلاميذ في مدرسة المعيلق الابتدائية، كان أستاذ التاريخ يحدثنا عن حرب المهدية مع الحبشة، وكان أستاذنا ذا ملكات درامية وشغف بـ "الدرمتة) مما جعله يصور لنا ذلك الصراع تصويراً مؤثراً، ويجعلنا نتحيز للجانب المهدوي كما نتحيز في انقساماتنا الكروية إلى (هلال ومريخ). لقد ألبسنا مدرسونا عباءة الثورة المهدية الدينية المهدوية. فاختلط لدينا، من ثم، الحس الوطني، أو الـ patriotism بالانحياز للدعوة المهدية كدعوة خاتمة جاءت لتخلص أهل الأرض من رجس الشرك. انحزنا إلى المهدية كـ "فريق سوداني"، وحسب، بلا أي مساءلات نقدية. ولذلك كنا نفرح حين يندحر الأحباش في معركة، ونحزن ونغتم حين يحكم الأحباش الخناق على معسكرات المهدية في القلابات. ولقد أستمرت المعارك والمناوشات على حدود الدولة المهدية مع الإمبراطورية الحبشية منذ العام 1887 وحتى العام 1898، ولقد قاد تلك المعارك والمناوشات عدد من القواد، بدءاً بحمدان أبو عنجة، ومروراً بالزاكي طمل، ثم أحمد علي، وصولاً إلى أحمد فضيل، فالنور عنقرة. يتم تدريس التاريخ لنا بلا استصحاب للإطار التاريخي والظرفي العام، وبلا تحليل للواقع الدولي لحظتها، وبلا حيدة، وبلا أي مقاربات نقدية. إنه منولوج تاريخي بسيط، نرثه صاغراً عن كابر!. ولذلك لا غرابة أن ظل الأثر السالب في النظرة إلى أثيوبيا مستمراً. وهو أثر يتخذ هيئات مختلفات، أقلها بقاء هذه البلاد الكبيرة المتنوعة، المدهشة، كما خاملاً في وعينا. ويأتي فوق كل تلك النقائص التي لا تليق بالجيرة، الاستعلاء العنصري، والعقيدي المدفون. هذا الأثر القديم المغروس منذ سني الطفولة الباكرة يظل قابعا في قاع الوعي، ويظل مؤثرا، رغم اتساع الرؤية، ورغم كثرة القراءة. وما أكتبه هنا هو محاولة لإبراء جراحي الخاصة في هذه المسألة، ولإعادة تعليم نفسي رؤية هذه الجيرة تحت ضوء جديد. ثم يأتي بعد ذلك جذبها إلى دائرة الحوار الذي أرجو له أن يصيغ فينا وعياً جديداً، في ما يتعلق بهذه الصلة الاستراتيجية الجيوبوليتيكية الهامة.
    ===
    وفي رد آخر كتب
    تصور أنني طفت معظم قارات الأرض، ولكني، مع كثرة التطواف، لم أر أثيوبيا الجارة إلا وأنا أخطو حثيثا نحو الستين!! أليست هذه في ذاتها عجيبة؟! نحن ندرس تاريخ الجزيرة العربية حتى ظننا أن تاريخنا ليس سوى امتداد لتاريخ تلك الرقعة الجغرافية التي لا تربطنا بها سوى عقيدة اعتنقناها قبل ما لا يزيد كثيرا عن الخمسمائة عام!! لقد تهنا عن تاريخنا، وعن محيطنا، وعن ذواتنا توهانا طويلا آن له أن يتوقف. أما النقلة التي عمقت توهاننا فهي الغزو التركي ونشوء المؤسسة الدينية الرسمية التابعة للسلطة الحاكمة. هنا ماتت روحانيتنا الشديدة التركيب وعلا نجم الفقه الأحادي والفقهاء. ما أكتب هنا ليس دراسة، وإنما تأملات مسافر عابر قصدت بها أن تحفز التفكير في أعادة النظر في شؤوننا وشجوننا تحت أضواء جديدة. نحن بحاجة إلى ترتيب أولوياتنا على نحو مختلف من الذي ظللنا نفعله. نحن بحاجة إلى إعادة النظر في فحص شراكاتنا، والتفكير في شراكات جديدة تنسجم مع تاريخنا، ومع تكويننا النفسي الحقيقي الذي انطمر معظمه. وقبل هذا وذاك نحن بحاجة لفحص جذور تكويننا وإعادة اكتشاف شخصيتنا الحضارية، ومعرفة من نحن، وماذا نريد، وكيف نصبح كيانا فاعلا بعد هذا الموات الذي لفنا ولا يزال يلفنا.
    شكرا لك مرة أخرى، فقد منحتني بكرمك المعهود أكثر مما استحق.

    (عدل بواسطة عبدالله عثمان on 08-07-2017, 12:27 PM)

                  

08-07-2017, 12:02 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟! (1) ... بقلم: النور حمد

    سودانيل نشر في سودانيل يوم 19 - 04 - 2010

    لا تنطلق الشعوب في دروب النهضة، ما لم تتعرف بعمقٍ، وبسعةٍ، على عناصر تكوينها الحضاري، وتعي ذاتها، وتستجمع طاقات إرثها الروحي، والفكري، والنفسي، وتدفع به في وجهةٍ، جديدةٍ صاعدة نحو المشترك الإنساني الكبير. وأعني هنا، وجهةً تضيئها معرفةٌ بالاشكالات التي تحتوش الحاضر، وتصوراً منفتحاً مرناً، قادراً على رسم هيئة المستقبل. شهدت منطقة وادي النيل الأوسط، والهضبة الحبشية، حضارتين تُعدان من أعظم حضارات التاريخ الإنساني. ولقد تصاقبت هاتان الحضاراتان، وتعاقبتا، في المساق التاريخي الكورنولوجي chronological، تصاقباً وتعاقباً مدهشين. ولا غرابة! فلقد كانت كلا الحضارتين، في شدهما، وجذبهما، حسب تقديري المتواضع، مجرد تحولٍ في مسارٍ حضاري يحكمه، إلى حدٍ كبير، إطارٌ واحدٌ متداخلٌ، متكامل. أو قل، إن حركة الشد والجذب بين هذين الإقليمين المتجاورين، لم تكن سوى تململٍ لقوة واحدة تقسمت، وظلت تحاول إعادة تشكيل ذاتها، وتحريك جسدها، تمدداً، وانكماشاً، حسب رياح التاريخ، وحسب مؤشرات تيارات فرص البقاء. فأهل الحبشة القدامى، أو الأكسوميين، لم يكونوا، في الأصل، كما تقول بعض الروايات التاريخية، سوى هجين. وقد تشكل ذلك الهجين، عن طريق امتزاج دماء متحدثى الكوشية، الذين هاجروا من الصحراء الإفريقية الشمالية، إلى الهضبة الحبشية، بدماء السبأيين، الذي وفدوا إلى نفس الإقليم من جنوب الجزيرة العربية، حوالي 500 قبل الميلاد. ومرت القرون، وأصبحت أكسوم الحبشية، في القرون الميلادية الثلاثة الأولى، نقطة الربط التجاري بين جنوب الجزيرة العربية، وبين نوبيا في وادي النيل الأوسط. غير أن حضارة مروي، في وادي النيل الأوسط، أخذت في الإضمحلال، في القرون الميلادية الثلاثة الأولى. وتقول الروايات إن مروي، وهي تعاني أوجاع الاضمحلال، حاولت غزو أكسوم، فما كان من الأكسوميين إلا أن غزوها، في عقر دارها، وقضوا عليها، وبسطوا سلطانهم على أراضيها الخصبة. وحين جاء الإسلام، بعد ثلاث قرون من إعلان أكسوم نفسها دولةً مسيحية، علي يد ملكها عزانا، أختار النبي، عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، إرسال أتباعه إلى النجاشي، ملك الحبشة آنذاك، حفظاً لمهجهم من بطش سادة قريش. وإنني لأعتبر ما قام به النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، من إرسالٍ لأصحابه إلى الحبشة، وما قاله من كلماتٍ مشرقاتٍ، في حق النجاشي، وما قام به من إقامةٍ لصلاةِ الغائبِ على روحه، حين بلغه نبأ وفاته، تمثل في مجموعها رسالةً بليغةً للمسلمين، وللناس كافةً، عن المعانى الإنسانية الرفيعة، المندغمة في تلك الحضارة، وعن فضلها، وفضل مليكها. فما قاله، وما فعله النبي، في شأن الحبشة، وملكيها الصالح، يتضمن، فيما أرى، رسالةً مستقبليةً، لا تخلو من شيءٍ من التشفير، عن المعنى الإنساني الكبير لتلك الصلة بين معاني الإسلام الجوهرية، الخالدة، وبين الحبشة. وفك تشفير تلك الرسالة، لا يُلتمس، في تقديري، إلا في عالم المعاني المخبوءة وراء حجاب العقيدة. وهي معاني لا يسبر حقيقة أبعادها، إلا الذين اغترفوا من بحار العرفان، وانجابت عن ناظريهم حجب الظلمات، وحجب الأنوار، ورأوا البراح الفسيح، الواقع وراء نطاق العقيدة المحدود، المقيِّد للفهوم، القابض للانطلاق الحضاري.




    لا غرابة إذن، أن بقيت الحبشة بمأمن من الغزو الإسلامي، حين أخذ الإسلام في التمدد في شمال، وشمال شرقي إفريقيا، بُعًيْد القرن السابع الميلادي. وإني لأزعم مع زاعمين آخرين كُثْرٍ، أن السبب وراء عدم غزو المسلمين للحبشة المسيحية، لم يكن بسبب ارتفاع أراضيها، ووعورة مسالكها، وشدة تحصينها، وإنما كان وفاءً من المسلمين لأهلها، نسبةً لإيوائهم، وحمايتهم للمسلمين الأوائل. ونسبةً لإكرام نبي الإسلام لهم، ولمليكهم، على ذلك الصنيع الذي دل على مروءة عالية، وحس ديني عميق. ومن بعض حوادث التاريخ الباعثة على التأمل، في شأن ارتباط الحبشة بالإسلام، أن النبي الكريم قد ولد في عام الفيل، (571م)، في وقتٍ بالغ الحرج في تاريخ مكة. فقد كانت أفيال أبرهة، الملك الحبشي، حينها، واقفةً على أبواب مكة، تبغي هدم الكعبة. ولم يمر نصف قرن من الزمان، حتى كان المسلمون الأوائل مقيمين في الأراضي الحبشية، متسجيرين بحمى الملك الحبشي النجاشي، من بطش بني جلدتهم. أخلص من هذا، إلى أن في جملة الأمر، رحمٌ روحية، قديمة. هذه الرحم الروحية قديمةٌ قدم سليمان، وبلقيس! ونحن، كمسلمين سودانيين، لم نتفطن بعد، بالقدر الكافي، إلى كل هذا التشابك، والترابط، التاريخي. الشاهد هنا، أن المسلمين حين خرجوا فاتحين الأمصار، تركوا الحبشة وحالها. ومع ذلك، أصبح نصف أهل الحبشة، فيما بعد، مسلمين ! ولا يزال الإسلام، في الحبشة، قوةً حيةً، جبارةً، حتى هذه اللحظة! وإسلام الحبشة إسلامٌ غارفٌ من المعين المصفى الأول، ومتشرباً دفقة النور الأولى، التي لم تشبها شوائب التاريخ الإسلامي المضطرب، الوالغ في دنس السياسة، وفي سفسطات الفقه. فأغلب التاريخ الإسلامي تقطعت أواصر الصلة بينه وبين مدد ذلك النور الأول. وأقوى دليل لدي على اغتراف أسلام الحبشة من دفقة النور الأولى، هو أننا لم نسمع في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المسلمين، أن أحداً من مسلمي الحبشة، على كثرتهم، شارك في تنظيم إرهابي، قاعدةً كان، أم غيرها؟!
    كتبت هذه المقدمة التاريخية المبتسرة، وهذه التأملات المتناثرة، للفت النظر لطبيعة إسلام الحبشة المتميز، جداً. وهو إسلام ظل في الظل، بعيداً عن الهرج الجاري اليوم باسم الإسلام. ثم، للتذكير بالارتباطات التاريخية العميقة، التي وطدت صلات سكان وادي النيل الأوسط، بالهضبة الحبشية. وكذلك ما يجمع بين هذين الإقليمين، من الصلة الموصولة بجزيرة العرب، وبالنور الأول الذي أشع منها في القرن السابع الميلادي، ثم ما لبث أن غاب عن القلوب، وتحول إلى مجرد تمتماتٍ ميتةٍ في الشفاه. كما أنني قصدت أيضا من كتابة هذه المقدمة، تسليط شيءٍ من الضوء، على ما ظل قائماً بين هذين الإقليمين المتجاورين، (الهضبة، والسهل الذي يقع إلى الشمال الغربي منها)، من حوارٍ حضاريٍ عميقٍ، متشعبِ المسارب والدروب. وهو حوار دخلت فيه شبه الجزيرة العربية، على الخط منذ البداية، كما تقدمت الإشارة. دخلت الجزيرة العربية على الخط، في هذا الحوار التاريخي ذي المدلولات التي لا تزال مغطاةً، مع كلا الجانبين، بعناصر الدم السبئي السامي، وباللغة السامية، وبالدين الإسلامي. فروحانية الحبشة، الإسلامية المسيحية، وروحانية التصوف السوداني، إنما تمثلان في نظري زاداً مستقبلياً هاماً لكيانٍ جيوسياسي، سوف يعيد التكامل إلى هذا الإقليم، منطلقاً من الجوهر الروحاني المشترك.
    لربما كان من المناسب أن أشير هنا، إلى أن الهضبة الحبشية، رغم اتصالها الأقدم بجزيرة العرب، بقيت على لغتها الخاصة بها. وهي لغة تدخل ضمن المجموعة السامية، في حين تحول أهل كوش، رغم اتصالهم الأحدث، نوعاً ما، بجزيرة العرب، من كوشيتهم، إلى اللغة العربية. غير أن هذا الحوار المركب المتشعب، يقع، ضمن غير المنتبه إليه في ما يمكن أن أسميه ب "النطاق البحثي المتعمق". وأعني تحديداً هنا، مقاربة هذه العلاقة المستشكلة، بآليات بحث من النسق العالي، الذي يستخدم الحقيقة التاريخية، والجغرافية، والإثنية، ويولف مزيجها توليفاً خلاقاً، باستخدام المنهج التأويلي،hermeneutics ، بغية تقصي جذور بنية وعينا، وتركيبتنا الوجدانية، وهويتنا الحضارية المستشكلة المحيرة. ولا أريد أن أغمط الباحثين السودانيين حقهم، في ما قاموا به في هذا الشأن، زاعماً أن لا أحد فعل شيئاً، من قبل، في هذا الصدد. فقد قدم بعض الباحثين السودانيين أعمالاً مقدرةً في هذا الإطار. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الراحل، البروفيسر عبد الله الطيب، والراحل، محمد أبو القاسم حاج حمد، والدكتور حسن مكي، والدكتور يوسف فضل، والدكتور جعفر ميرغني، والدكتور محمد إبراهيم أبو سليم ، والراحل، الدكتور محمد سعيد القدال. كما وردت عن هذا المنحى إشارات لدى البعض الآخر في إطار دراساتهم، بشكل جزئي،
    غير أنني أظن أن أرضاً بكراً في هذه الوجهة، لا تزال في انتظار أن نستكشف مجاهيلها. فنحن، في ما يبدو لي، بحاجة إلى العبور من مجرد التعريف بالروابط التاريخية، والتفاعل التاريخي، إلى الحفر العميق الذي يتلمس جذور هذا التشابه بين شعبي الهضبة، والسهل الأوسط من وادي النيل. علينا أن نتأمل ملياً، وبعناية شديدة، سر هذا التقارب الوجداني، والقبول المتبادل، عبر حاجز اللغة ، (كما في حالة المسلمين منهم)، وعبر حاجز اللغة والدين معاً، (كما في في حالة المسيحيين منهم). هذا التقارب الوجداني لم تسطع كل حالات الشد والجذب، بين الحكومات المتعاقبة، في البلدين زعزعته، أو النيل منه. نحن بحاجة إلى حفر تاريخي، وتوليفٍ خلاقٍ يلمس صورة المستقبل المشترك لهذه البقعة الجغرافية، مترابطة العناصر، ومتفككتها، في ذات الوقت. إن عناصر التكامل بين هذين الكيانين، جغرافياً، واقتصادياً، وروحياً، وإثنياً، وسياحياً لبالغة الكثرة، غنية الوعد.
    يواجه الكيان السوداني المسلم، الآن، منعطفاً خطيراً. وأعني هنا، تحديداً أهل السودان الشرقي، والأوسط، والشمالي، والغربي. فالجنوب الجغرافي، ربما يذهب بعيداً عن هذا الكيان، بعد حوالي العام، وربما لايذهب. الشاهد، أننا ظللنا في غيبوبة حضارية، جعلتنا مصوبين أبصارنا نحو الشمال وحده! هذا التحديق الطويل صوب الشمال، قد أخذت طاقته في التناقص، وبدأ مده في الانحسار. على الأقل، يمكن القول إن التساؤلات حول جدواه، أصبحت أكثر بروزاً من أي وقتٍ مضى. فالمطامع في مواردنا، هي الشيء الوحيد الذي نراه، حين نحدق في أفقنا الشمالي. فنحن حين نحدق شمالاً، نرى الأطماع البادية، ولا نرى الجيرة الحنونة، ولا الشراكة النظيفة! ولعلنا خدعنا أنفسنا كثيراً بقضية اللغة والدين، في مستوى المضامين السطحية، المرتبطة بهما. وهي مضامين سطحية تهييجية استخدمتهما "الكلفتة" السياسية لدينا. وهي كلفتةٌ لا يسندها علمٌ، ولا بحثٌ متعمق. ارتكازاً على تلك "الكلفتة" صغنا لأنفسنا هويةً زائفة، وتطلعاتٍ زائفة. وعموماً، أظننا على وشك أن نغلق باب حقبةً أخذت تتولى، ونفتح باب حقبةٍ جديدةٍ، أخذت تتخلق، في مضمار علاقاتنا بدول الجوار. ولعل مشروع كونفدرالية القرن الإفريقي، الذي رفع شعاره، الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد، قد عاد يطل برأسه، هوناً ما، من جديد. هذه الكونفدرالية يمكن أن يلعب فيها السودان دوراً مفتاحياً.
    نمت الهضبة الحبشية من حيث تشكيل الشخصية الحضارية، نمواً شبه مستقلٍ عن العناصر الخارجية. فهي لم تتأثر بالغزاة كثيراً، إذ حصنتها الجغرافيا الوعرة، من جيوش الغزاة، فاتخذوا مساربهم من حولها عابرين إلى غيرها. يضاف إلى ذلك أن للهضبة شخصية حضارية ضاربة في القدم. وتلك الشخصية الحضارية، تتشاركها معظم الشعوب التي قطنت هذا المكان المرتفع الفسيح. هذه الشخصية الحضارية لم تتغير كثيراً، وإنما بقيت محتفظة بسماتها الرئيسية. ولربما كانت الجغرافيا عنصراً من عناصر بقاء الهضبة على ما هي عليه، إلا قليلا. ترتفع الهضبة الحبشية بسبعة آلاف قدمٍ فوق سطح البحر، كما تتسم بوعورة مسالكها. وتمثل الهضبة الحبشية من حيث الشخصية الحضارية المستقلة في إفريقيا، شيئا مشابهاً لما تمثله الصين في القارة الآسيوية، وإن كان تأثر الأراضي الحبشية بالتيارات الحضارية الوافدة، أكبر نسبياً من تأثر الصين. فالعلماء يجمعون على أن الحضارة الصينية، ربما تكون الحضارة الإنسانية الوحيدة، التي نمت من داخلها، مستخدمة أقل قدرٍ ممكنٍ من العناصر الخارجية. وفدت المسيحية إلى الحبشة، بُعيد الميلاد بقليل، ثم لحق بها الإسلام، في القرن السابع. وبمرور القرون، أصبح غالب أهل الحبشة إما مسلمين، وإما مسيحيين. ولكن، في الحياة اليومية الإثيوبية، وفي الحوارى الإثيوبية، يصعب جداً أن يعرف المرء من منهم المسيحي، ومن منهم المسلم. فهم يعيشون متجاورين في البيوت وسط الأحياء، باختلاف طبقاتها، مسلمين، ومسيحيين، متداخلين مع بعضهم بعضاً، في بساطةٍ شديدة. بل هم يتزاوجون فيما بينهم. والطريف أن تعدد الزوجات غير شائعٍ وسط المسلمين من الأحباش!! وفي تقديري أن أهل الحبشة ألبسوا كلاً من الإسلام والمسيحية، شيئاً من نسيج شخصيتهم الحضارية، المتميزة، فجعلوا من كلي المسيحية، والإسلام شقاً لا غنى عنه في قوام شخصيتهم الحضارية الكلية، كقوميةٍ واحدةٍ لها أكثر من مكوِّنٍ، وأكثر من خاصية. وفي حين ظل مسلمو الأحباش، ومسيحيوهم، متعايشين في سلامٍ، إلى حدٍّ كبير، نجد أن الثورة المهدية، حين انتصرت في السودان، استهدفت بلادهم برمتها، بوصفها أرض كفر!! وحملت السيف في وجوههم، رغم أنهم قابلوها في بداية الأمر باللين، بل وعرضوا عليها التحالف لمواجهة الغازين الأوربيين، الذين كانوا يقفون على الأبواب، طامعين في ابتلاع القطرين. (راجع كتاب الدكتور محمد سعيد القدال: المهدية والحبشة، دراسة في السياسة الداخلية والخارجية لدولة المهدية "1881م-1898م. الصادر عن دار الجيل ببيروت عام 1992م)، وفي نهاية المطاف، ذهبت المهدية من المشهد السياسي لأواخر القرن التاسع عشر، وانحسر ظلها الديني، وبقيت الشخصية الحضارية للشعوب الحبشية، على ما هي عليه.
    يسير العالم نحو الوحدة، سيراً حثيثاً. والذي لا يرى سير العالم نحو الوحدة، إنما هو الشخص الغافل عن رؤية مسارات تيارات الكوسموس. وتيارات الكوسموس ليست سوى القوى الكونية، التي تمثل في تجلياتها في حيز الزمان، والمكان، اليد الظاهرة للقوى الإلهية. وهي قوىً تعمل بالقهر الإرادي، ولا تملك إرادة العقول الصغيرة المحبة للتشظي، وقف سعيها الموكل بالتوليف، وبتذويب الخلافات، وبخلق الاتساق، والتناعم. فالوحدة مضروبة على هذا العالم المتشظي، رضي بعض المشككيين في حتمية الوحدة، أم أبوا. والوحدة الكلية، إنما تبدأ بالتكامل الداخلي لكل قطر، ثم التكامل الإقليمي بين المتشابه من الأقطار، ثم يزداد التشابه، ويتسع المشرك، وتكبر الأقاليم، حتى تندغم مع بعضها بعضا، وتتخلق الشخصية العالمية التي تجسد الوحدة والتنوع في آن معا، وتحدث الوحدة الكبرى. وما من شك أن الأقاليم الجغرافية، والأقاليم الروحانية، تتكامل، وبيننا وبين إثيوبيا تكامل روحي، وحضاري، واقتصادي، وبيئي.
    من نظرة عابرة للهضبةٍ والسهل المنخفض، المجاور لها، الذي تطل عليه من ارتفاع يصل إلى سبعة آلاف قدم، تتضح معالم التكامل. فما نراه مجرد سمات منعزلةٍ، تخص كل إقليمٍ، أو كل قطرٍ، على حده، ليست واقعةً، في حقيقة أمرها، ضمن هذا الإطار المضلل الذي نراه فيها، وإنما هي واقعة، في حقيقة أمرها، في تيارات الحراك الكلي الذي يعمل على التوحيد، ببطء، ولكن بكل تأكيدslowly, but surely. . إن الذي يعوز أحد أي إقليم من الأقاليم، ويكون متوفراً في الإقليم الآخر المجاور، إنما يمثل، في حقيقة الأمر، عنصراً من الترابط والتكامل المستقبلي بين الإقليمين. فإنسان الهضبة الحبشية، وإنسان سهل النيل الأوسط، هما في حقيقتهما إنسان واحد ضاع بعضه عن البعض الآخر! فهما منسجمان وراء حاجز اللغة وحاجز العقيدة (كما في حالة المسيحيين)، وكذلك وراء حاجز القومية. إن التشابه الحسي، والوجداني بين إنسانيْ هذين الإقليمين ليس صدفةً. ولقد أشار الطيب صالح، في رائعته موسم الهجرة إلى الشمال إلى التباين بين الأقاليم الجغرافية، حين يتسم كل إقليم بسمات متطرفة. تساءل الطيب صالح على لسان الراوي: (أين الاعتدال؟!)، فهناك (بلاد تموت من البرد حيتانها)، وهناك (صحارى تتعاور رمالها ويجف فيها حلق العندليب)!! هذا التباين المتعلق باختلاف الطقس، الذي يجعل ساكن إقليمٍ بعينه منجذباً نحو إقليم آخر، ومناخٍ آخر، لا يمثل سوى عنصر واحد من عناصر التكامل بين بقاع الأرض المختلفة. وقياساً على هذا، فإن رحلة الشتاء والصيف بين قلب الجزيرة العربية والشام، واليمن، لم تكن رحلة تجارية، كما تبدو من ظاهر الفعل، وإنما هي رحلة متعددة الطبقات، تصاقبها رحلات أخرى باطنية،منها الجمالي، والروحي، والشعري. وكل هذا مرتبطٌ بتكامل الأمكنة، وبانجذاب الأقاليم إلى بعضها، وبتكامل الوجدان الإنساني والتجربة الإنسانية. ويمكننا أن نقيس على ذلك، أموراً أخرى كثيرة في حراك التكامل الذي لم يبطئ إيقاعه سوى جشع بني الإنسان وجهالاتهم . (يتواصل).
                  

08-07-2017, 12:03 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل (2) ... بقلم: د. النور حمد
    التفاصيل C نشر بتاريخ: 28 نيسان/أبريل 2010 > الزيارات: 3393

    [email protected]

    لم أصل في الحلقة الأولى إلى النقطة التي تمكنني من عرض التشخيص الذي كنت أسعى لعرضه، لإختلاف الحالتين الحضاريتين: (حالة الهضبة) و(حالة السهل). وأول ما أبدأ به في هذا الباب، هو أن الحالة الحضارية للهضبة الحبشية، حالةٌ اتسمت بالاستمرارية الحضارية. هذا، في حين اجتاحت السهل انقطاعات حضارية، طويلة الآماد، أضرَّت بالاستمرارية فيه، مما أسهم على المدى الطويل في خلق إنسانٍ منبتٍّ عن جذوره، مهلهل الوعي بذاته. أفلت شمس الحضارة المروية، في السهل الأوسط من وادي النيل، بُعَيْد ميلاد السيد المسيح بوقت قليل. وما أن وفدت النصرانية، في القرون الميلادية الأولى، تنصر السهل، وبقي نصرانياً لما يربو عن الألف عام تقريباً. وحين حطم تحالف الفونج والعبدلاب مدينة سوبا في القرن السادس عشر الميلادي، تم استئصال النصرانية، وتحول السهل إلى الإسلام. بل، وأصبحت المسيحية فيه نسياً منسياً. نسي أهل السهل إرثهم الحضاري النوبي، فأصبحت الآثار العينية للحضارة المروية، والنبتية، غريبة بينهم. وظلت في حالة غربتها تلك، حتى يومنا هذا. كما نسوا إرثهم المسيحي، أيضاً، ولربما لا يصدق سودانيو السهل النيلي الأوسط والشمالي اليوم أن منطقتهم هذه، قد كانت منطقة مسيحية لما يربو عن الألف عام. ومن الغريب أنا لا نلتفت كثيراً إلى حقيقة أن بعضاً من طقوس تلك الحقب، وشعائرها الإجتماعية، لا تزال حاضرةً، في الممارسات الشعبية لدينا، حتى اليوم.

    ظل السهل، في جملة أمره، مكاناً سهل الاجتياح، للجيوش الغازية، وللمهاجرين، وللرعاة، ولغيرهم، ممن أجبرتهم التحولات المناخية على النزوح. فهذه المنطقة من العالم كانت، ولا تزال، أشبه ما تكون بالفضاء المفتوح. ولذلك فقد غزاها المصريون، وأتوا إليها بديانة آمون، كما اجتاحها الأكسوميون، كما تقدم، وتبعت مجيئهم المسيحية. ثم وفد الإسلام الصوفي، ثم أعقب ذلك مجيء الأتراك ومعهم الإسلام الفقهي، ثم أعقب كل ذلك الانجليز. ومع كل تلك الاجتياحات الكبيرة كانت التحولات الديمغرافية لا تنفك تلم بالسهل، وتغير ملامحه، وتحور تركيبته. وقد ظل ذلك يحدث لمختلف الأسباب، الجغرافية المناخية منها، والدينية والاقتصادية. أدت هذه النقلات الكثيرات المتكررات إلى انمحاق الشخصية الحضارية للسهل، وإلى تضعضع الوعي فيه بالهوية، والاعتزاز بالسمات الحضارية المنمازة . إغترب إنسان السهل عن ذاته، حتى غرق من حيث لا يعي في ما يمكن أن نسميه "عبادة الأجنبي"، وتعظيم ما هو وافد، والتعويل عليه في الإرشاد والقيادة. ولقد تحدث المؤرخون السودانيون عن ظاهرة أسموها ظاهرة "الغريب الحكيم". و"الغريب الحكيم" هو الوافد الغريب الذي ظل قاطنو السهل يتوسمون فيه الحكمة، والمعرفة، والبصارة، وربما اجتراح المعجزات. وأصبحوا، من ثم، يعلقون عليه، آمالهم في التغيير، والخلاص. فالمسيحية حين جاءت، جاء بها وافدون واعتنقها أهل البلاد، والإسلام حين جاء، جاء به مشائخ الطرق الصوفية من خارج الحدود، فأثروا به على حياة السكان. والفقهاء المصريون، والمؤسسة الدينية الرسمية، التي تعمل كذراع للحاكم، جاءتنا مع التركية، من وراء الحدود، أيضاً، ولا تزال آثارها السالبة تقبض بخناق حياتنا حتى هذه اللحظة. والتعليم الحديث جاء به المصريون فلم يتم توطينه، وإنما أصبح وسيلة للاستتباع والقولبة assimilation في أطر الخوذة العقلية، والوجدانية المصرية. ولقد استخدم الطيب صالح مفهوم، "الغريب الحكيم" في رسم بعضٍ من شخصيات رواياته. وقد لاحظ صديقي الأستاذ، عبد الله الفكي البشير. أن بعض شخصيات روايات الطيب صالح، قد بُنيت على نسق فكرة "الغريب الحكيم". فهذه الشخصيات تأتي من المجهول، وتؤثر في حياة الناس، ثم لا تلبث أن تذهب إلى المجهول، مثلما جاءت! فمصطفى سعيد، على سبيل المثال جاء إلى القرية عن طريق النهر. أعجبته هيئة القرية فقرر البقاء فيها. قلب حياة الناس راساً على عقب، وسرعان ما اختفى في النهر الذي جاء منه!

    لو قارنا وضعية التضعضع في معرفة الذات، وفي الإحساس بالهوية، التي ظل يعاني منها أهل سهل النيل الأوسط، بوضع الهضبة الحبشية، فإننا نجد أن الهضبة الحبشية، قد سلمت، إلى حدٍ كبيرٍ، من مثل هذا النوع من الجوائح المتكررة. فهي حين تنصرت، وحين أسلم نصف قاطنيها، لم تمنح نفسها بالكلية للمؤثر العقلي، والثقافي، والوجداني، الوافد، وإنما نجدها، قد قامت بتوطين كلٍّ من الإسلام والمسيحية، وجعلت منهما مكوناً جديداً في بنائها الحضاري، وذلك، بعد أن ألبستهما شخصيتها الحضارية المنمازة. لم تغرق الهضبة في جنس التوهان الحضاري الذي غرقنا فيه لقرون وقرون. ولذلك فقد اختلفت نصرانيتها، عن نصرانية غيرها، واختلف إسلامها عن إسلام غيرها، وما ذاك إلا لأن البناء الحضاري، والاستمرارية الحضارية فيها، ظلت متماسكةً وراسخة، بسبب رسوخ المكونات التاريخية المحلية، وقلة تعرضها للجوائح. ولا أظن أنني سأكون مغالياً، أو متجنياً، إن قلت أن البناء النفسي لأهل الهضبة، أكثر تماسكاً وتجانساً من رصيفه لدى أهل السهل!!

    الشاهد هنا، أن الهوية الحضارية، لا تشكلها العقيدة الدينية، وحدها، فالهنود، مثلاً، منهم مسلمون كثر، ولكن لهم هويتهم الحضارية، والإيرانيون مسلمون، في غالب حالهم، ولكن لهم شخصيتهم الحضارية، وكثير من شعوب الإتحاد السوفيتي السابق مسلمون، ولكن لهم هويتهم الحضارية، وينطبق ذلك، أيضا، على كثير من شعوب غرب إفريقيا التي يغلب عليها الإسلام. مشكلتنا نحن، أننا نسينا هويتنا الحضارية، وطفقنا نحصر تصورنا لها في العقيدة الجديدة، الوافدة، التي ترسخت لدينا منذ خمس قرون فقط، وفي اللغة الجديدة التي سبقتها بقليل. فالعقيدة الدينية الوافدة يمكن أن ترفد الهوية الحضارية برافد يغذيها، ويفتح لها آفاقاً جديدة، ولكنها لا يمكن أن تقوم مقامها، أبداً! لا يمكن محو ما تشكل تاريخياً، في عشرات القرون، بما يفد، وإن حدث ذلك، فإن نتائجه كارثية.

    بحثنا عن هويتنا في عقيدتنا، وفي لغتنا، دون غيرهما، هو الذي جعلنا نبدو بين الشعوب، كـ (البغلة المِبَارْيَة الخيل)!! وليتنا تنبهنا للنظر المبصر، الذي أتي به الأستاذ محمود محمد طه، حين فرق تفريقاً دقيقاً بين العقيدة والعلم، في البنية الإطارية للفكرة الإسلامية الشاملة. ففي مرحلة العلم يلتقى الناس، من حيث هم ناس، على الفطرة الإنسانية. أما في مرحلة العقيدة، فـ ((كل حزبٍ بما لديهم فرحون)). والشعوب الإسلامية، أو الشعوب النصرانية التي نهضت، إنما نهضت بسبب تجاوزها لنطاق العقيدة الضيق، وانفتاحها على البراح الإنساني الواحد، الذي ما جاء الدين، من حيث هو، إلا ليوسعه، ويعمقه، ويعممه.

    أود أن أنتقل مما تقدم، في نقلة شبه مفاجئة، إلى ميزة الإرث الحضاري في إحداث التغيير. فقد بدأت هذه المقالات المتسلسلات، بالقول بأنه من الضروري لكل أمةٍ تنشد النهضة، من استجماع طاقاتها الحضارية، وتفعيل خير ما فيها. ولا يمكن لأمة أن تعرف كيف تبعث إرثها الحضاري، وتُفَعِّله في حاضرها، من دون أن تملك القدرة على النقد الذاتي، الذي به ترى الآثار السالبة لحالة الانفصال عن الإرث الحضاري. لابد من التعرف عن كثب على التشوهات التي أحدثتها حالة الانفصال، من غير نكرانٍ، أو مكابرةٍ، أو محاولةٍ للتغطية على حقيقة الأزمة القائمة، بالشعارية التعبوية، والهياج الديني، والزعيق الإعلامي الفارغ. والحالة السودانية الراهنة، بكل ما فيها من تخبطٍ، وعجزٍ، وانبهام في الرؤية، إنما تقول وبأعلى صوت، أننا شعب فقد هويته الحضارية، وضاعت بوصلته منذ أمدٍ بعيد. ولا يحتاج المرء أن يجهد نفسه كثيراً، في تبيين حالة العجز التي تحتوشنا في هذه المرحلة التاريخية الحرجة. والمرحلة التاريخية الراهنة، في عمر النوع البشري، تتميز بشكل غير مسبوق، عن كل ما سبقها، من مراحل التاريخ الإنساني، بكونها المرحلة التي بدأت فيها كل شعوب الأرض، بلا استثناء، في حراكٍ محمومٍ نحو النهوض، الشامل. وتقول آخر التقارير، حول محاربة الفقر، أن دول شرق آسيا، قد نجحت بنسبة 90% في المائة في جهود محاربة الفقر. وأنها سوف تحقق الهدف المرفوع للقضاء على الفقر في العام 2015. والدول العاجزة عن تحقيق هذا الهدف، حتى الآن، حسب التقارير الدولية، إنما هي دول جنوب الصحراء في إفريقيا، والسودان على رأس قائمتها. فنحن إن لم نعرف كيف نحل مشكلتنا الحضارية، ونتعرف عن كثب على حقيقة شخصيتنا الحضارية، ولم نقم بالمعالجات الثقافية اللازمة، فإن دول جنوب الصحراء في إفريقيا، سوف تتخطانا، وبأمدٍ بعيد، وحينها سوف يذهب ريحنا، وإلى الأبد.

    الحراك نحو النهوض الشامل، وما يسمى بالتنمية الشاملة، يقوم اليوم، على ضوء معارف، وتصوراتٍ، وإلهاماتٍ، جديدةٍ كل الجدة. وكل ذلك إنما يؤرخ لمرحلة شديدة التميز، في حياة البشر على ظهر الأرض، منذ أن خُلق الله الأرض، ومنذ أن أوجد البشر، على ظهرها! والأمم التي سوف تحقق النجاح في مواجهة تحديات المرحلة الراهنة، وما يليها، لهي الأمم التي تعرف كيف تجذر هويتها الحضارية، وكيف تفعل قيمها الحضارية، بعد أن تفك أسر نفسها من قيود الهويات المؤدلجة، دينيةً كانت، أم علمانية. ولا حاجة بي إلى القول إن الصحف السودانية قد ذخرت في السنوات الأخيرة بالإشارات المتكررة، إلى ارتدادنا إلى حضن القبيلة. لقد غبنا في أتون الإيديولوجيات، غيبتنا فيها الطائفية، واليسار، وحملة راية الشعار الإسلامي الفارغ من أي محتوى حضاري. في هذه الغيبة نكص مشروع الدولة، وتبخرت الثقة في أجهزة الدولة، فتمزق النسيج القومي، وأرتددنا إلى حضن القبيلة. والارتداد إلى حضن القبيلة، إنما يمثل المرحلة الأخيرة قبل الانهيار والانمحاق.

    كنت قد كتبت، في صحيفة أجراس الحرية، قبل مدةٍ، مقالاً، تحت عنوان ((مطار الخرطوم، وسودانير، وعار الدولة). ولم يظفر أياً من مقالاتي التي عادةً ما تظهر، في موقع سودانايل الإلكتروني، بعد أن يتم نشرها صحفياً، بعدد القراء الذين ظفر بهم ذلك المقال. وذلك، بحسب ما أوردته إحصائية القرَّاء، التي يوفرها موقع سودانايل. في ذلك المقال تحدثت، عرضاً، عن مطار أديس أبابا، الذي مررت به عابراً قبل شهور خلون. فقد قلت، حينها، إنني حين رأيت عصريته، وكفاءته، ومهنية العاملين فيه، أحسست بمبلغ الغش، ومبلغ الخيانة اللتين نتلقاهما، نحن السودانيين، من قادتنا، الطارف منهم والتليد. خمسون عاماً ونحن بلا مطار يجبر الخاطر، ويبيض الوجه. أما المهنية، وما يسمى بخدمة الزبون لدينا، فتقع جملةً وتفصيلاً في خانة الصفر! أصبح مطارنا الكئيب عنواننا الذي يعرفنا منه أي قادمٍ. نعم، إنه عنوان جوابنا، الذي يغني عن المزيد من الفحص والتقصي، حول أحوالنا البائسة. فـ (الجواب يكفيك عنوانه)، كما يقولون. أيضا، قلت في مقالي ذاك، أنني كنت أظن، طيلة حياتي، أن مطار أديس أبابا لن يكون، بأي حالٍ، أفضل من مطار الخرطوم، فنحن جيران وفقراء، بل لعلهم أفقر منا، على الأقل من حيث الموارد الاقتصادية! وبناءً عليه، لم يكن هناك سبب واحد، حسب ما أعتقدت، يجعلني أتوقع أن يكون مطارهم، أفضل من مطارنا! ولكن، جاء بي الظرف العابر إلى مطار أديس، لتتضح لي غشامتي، وتنفضح أمام ناظري نظرتي التنميطية الإستعلائية، ليتم نسفها، مرة واحدةً وإلى الأبد، وفي رمش العين!! مد لي مطار أديس لسانه، وأصابني، من جراء ذلك، من الاستخذاء ما أصابني!! تحدثت في ذلك المقال، أيضاً، عن الطيران الإثيوبي المقتدر، الذي لم تغيره السنون، وظلت رحلاته تطال مشارق الأرض ومغاربها. يملك الطيران الأثيوبي أسطولا كبيراً من أحدث الطائرات، خاصةً إن قارناه بسودانير، وأخواتها الجديدات، اللواتي منعهن الاتحاد الأوروبي، مؤخراً، من التحليق فوق أراضيه. والحق أن أي دولة رشيدة، تهتم بسلامة مواطنيها، ينبغي ألا تترك الحبل على الغارب لمثل هذه الأجسام المعدنية الضخمة، لتعبر فوق أراضيها، حتى يثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنها مستوفية لضوابط السلامة الدولية المرعية. أردت من كل ما جاء في هذا التمهيد المطول نوعاً ما، أن أقول أنني وجدت، أخيراً، الفرصة لزيارة أديس أبابا، عاصمة أثيوبيا، بعد أن فتح لذلك شهيتي مطارها البسيط الجميل المنظم، المرتب، وروح المهنية، والانضباط التي يتمتع بها العاملون فيه.

    جاءتني، في جامعة قطر، فرصة لحضور مؤتمر علمي في الولايات المتحدة. فقلت: لم لا أسافر عن طريق الطيران الأثيوبي الذي يصل إلى واشنطن، ولم لا أتوقف ليومٍ، أو يومين في أديس أبابا، عاصمة هذا القطر الإفريقي الذي عُرف بالفقر، وبالمجاعات، ومع ذلك، يملك طيراناً يطال أركان الأرض؟! والحق أنني بدأت منذ فترة في ممارسة نوع من النقد الذاتي لنظرتي المستعلية تجاه أقطار الجوار. وهي نظرةٌ مشرجةٌ في البنية العقلية الجمعية، لدينا نحن معشر السودانيين. فلقد ظللنا، مملوءين فخراً أجوفاً، بانتمائنا العربي الإسلامي. ولقد جعلتنا تلك النرجسية العرقية العقدية، نصعر خدنا لكل جيراننا، بلا استحقاق حضاري، أو تنموي، يؤهلنا لتصعير الخد. كما جعلت تلك النرجسية الفالتة، قبلتنا قبلةً أحادية: هي الشمال، ولا شيء غير الشمال. يبدو أنني صحوت فجأة، لأصاب بالدهشة، من حالة التنويم المغناطيسية الطويلة، التي عشتها. فقد ارتدت العشرات من عواصم، ومدن العالم، ولكنني لم أرتد أقرب العواصم إلى الخرطوم، وهي أديس أبابا. إنها أقرب إلى الخرطوم، من القاهرة، وأقرب إليها من الرياض، وأقرب إليها من طرابلس، وأقرب إليها من انجمينا، ولا توجد عاصمةٌ أقرب من أديس أبابا إلى الخرطوم، سوى أسمرا، التي لم أرها بعد!!. وكما يقولون فإن الأشياء القريبة جداً لا تُرى، كالشيء فوق أرنبة الأنف. فهو تتعذر رؤيته بسبب فرط قربه! صحوت من نومتي المغناطيسية التي أنامني فيها العقل الجمعي، بتبسيطاته المخدرة، لأتساءل في استغراب: كيف أن عالماً ذاخراً كهذا، غنياً بالدلالات، وبالمعاني، ومليئاً بالوعود، وهو أقرب إليَّ من حبل الوريد، قد ظل خارج وعيي، كل هذه السنين؟! لقد أحسست بقدرٍ غير قليل من الاستخذاء كوني من الناشطين في حقول المعرفة، ومن الأكاديميين، وكوني أحسب نفسي في زمرة من ظلوا يحلمون بحالةٍ إنسانية أفضل، ثم أقع، رغم كل ذلك، في فخ النظرات الاستعلاية التنميطية. فالمعرفة المبذولة، التي تتيحها المناهج المدرسية حول أرض الحبشة، في دروس الجغرافيا، وفي دروس التاريخ، وفي دروس السيرة النبوية، لا تزال حاضرة في البال. ولكن، كيف يظل المرء يقتات هذا الفتات المدرسي طيلة حياته؟! فكلنا قرأ عن حملة المهدية عليها، وسوء فهم القائد المهدوي، حمدان أبو عنجة لرسالة القائد الحبشي، الرأس عدار، مما قاد إلى حربٍ طاحنةٍ بين الفريقين. كما عايشنا كلنا الوجود الحبشي في السودان، منذ أن كان الأحباش هم السائقين الوحيدين، للقندرانات الإيطالية ماركة (فيات)، بُعيد منتصف القرن العشرين، قبل أن يبدأ السودان تشييد الطرق البرية. كما عرفناهم، بشكل أكثر قرباً بعد لجوءهم إلى السودان حين اشتدت بهم الأزمات عقب الإنقلاب الشيوعي، الذي قام به منغيستو هايلامريام. كما عرفناهم أيضاً حرفيين، يعملون في مختلف المهن اليدوية، وغراسونات في المطاعم، والمقاهي. كما عرفنا الأثيوبيات كعاملاتٍ في منازل الأسر السودانية، منذ عقود خلون. الشاهد أن هناك ارتباط عميق يربط بين سكان الهضبة، وسكان السودان الأوسط. هناك علاقة عميقة لم يتم تقعيدها معرفياً، ولم تُموضع في أطر التكامل الاستراتيجيً، كما ينبغي، بعد. كما أن التنميط قد شابها، بشوائب كثيرة، بالغة الضرر. ومع ذلك ظلت تلك العلاقة قائمة، وراسخة، تمد لسانها لكل تلك الترهات. بل إن المؤشرات لتقول أن هذه العلاقة تزدهر الآن، وأن التقارب يأخذ شكلاً جديداً، يشي، وبقوة، بدنو أجل العجرفة اللغوية، والدينية، والعرقية، وكل تجليات التنميطات الاستعلائية الغرة الساذجة. (يتواصل)
                  

08-07-2017, 12:03 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)


    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ -3- ... بقلم: د. النور حمد
    التفاصيل C نشر بتاريخ: 03 أيار 2010 > الزيارات: 3609

    [email protected]

    يبدو أن بعض الأشياء تلوح في أفق وعي المرء للحظاتٍ، لتنبهه إلى أمرٍ ظل غافلاً عنه. ثم يمر زمن ينطمر فيه ذلك التنبيه، إلى أن تأتي تجربة أخرى، تعيد التنبيه مرةً أخرى، فينهض المرء لكي يستكمل ما سبق أن بدأه. الشاهد، أننا لسنا بذلك القدر من الصحيان، واليقظة! وهذا هو عين ما حدث لي، في ما يتعلق بمعرفتي بأثيوبيا، "القريبة البعيدة"!! فقد التحقت في العام 2003 بهيئة التدريس، بقسم الفنون، بجامعة إيسترن واشنطن، بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد عبر لي زملائي، من الأساتذة، بفرحهم بانضمامي إليهمً. فقد كنت الوحيد من بينهم، من ينتمي إلى القارة الإفريقية، نشأةً، وعيشاً. صادف التحاقي بجامعة إيسترن، قراراً للإدارة الأكاديمية بالجامعة، بإضافة مقرر جديد عن فنون العالم، يتضمن قسماً كبيراً عن فنون إفريقيا. وقد تم إدراج ذلك المقرر الجديد، ضمن المقررات الإجبارية، في حزمة مستحدثة، ضمن حزم المتطلبات العامة، تسمى حزمة التعددية الثقافية، cultural diversity. وأصبح، من ثم، لزاماً على كل طالب في الجامعة، بغض النظر عن تخصصه، أخذ هذا المقرر الدراسي، أو أي مقرر دراسي آخر مشابهٍ له، من نفس الحزمة. كان ذلك استجابةً لرؤيةٍ جديدةٍ، بها أضيفت المعرفة بالتعددية الثقافية، إلى متطلبات الاعتماد الأكاديمي، Accreditation. فقد توصلت الأكاديميا الأمريكية، بشكل عام، إلى أنه من الضروري إدراج مقررات تسهم في البناء العام لمعارف الطلاب، فيما يتعلق بقضايا التعددية الثقافية. في أحد الاجتماعات تم عرض المقرر على أعضاء هيئة التدريس، وطُلب منا رئيس القسم أن ينتدب أحدنا نفسه لتدريس ذلك المقرر. ولم ينتدب أحد نفسه، وظل أكثرية الحضور ينظرون إليَّ، وكأنهم يقولون: لماذا لا تفدينا من هذه المهمة وتندب نفسك، بحكم أنك قادم من إفريقيا؟ تكثفت النظرات نحوي، ولم أجد، من ثم، بداً من انتداب نفسي، لتدريس المقرر. أعلنت قبولي تدريس المقرر، غير أنني أردفت قائلاً: صحيح أنني من قطر إفريقي، ولكن القطر الذي أنتمي إليه، قطرٌ اختار المتنفذون فيه، لنا قبلةً شرق أوسطية. ولذلك، لربما تُدْهَشُون إن قلت لكم، أن معرفتي بإفريقيا ليست بأفضل حالٍ من معرفتكم بها!!

    اخترت لطلاب ذلك المقرر، ضمن ما اخترت من كتب، كتاباً ألفه اثنان من أساتذة جامعة أوهايو ستيت، هما: جوديث بيراني، وفريد سميث. وقد اختار المؤلفان لذلك الكتاب الثري بالمعلومات، عنوان: "الفنون البصرية لإفريقيا" The Visual Arts of Africa. يغطي ذلك الكتاب كل القارة الإفريقية، مُعَرِّفاً بقبائلها وبتاريخها، وبفنونها البصرية، بما فيها وادي النيل الأعلى (السودان القديم) ووادي النيل الأدني (مصر القديمة)، إضافة إلى الهضبة الأثيوبية (أكسوم). كما يغطي أيضاً تيارات الفن الإفريقي الحديث. أيضاً، آثرت أن أشفع ذلك الكتاب بمادة بصرية، تمثلت في سلسلة تلفزيونية وثائقية، أنتجها البروفيسور الأمريكي المعروف، ذو الأصل الإفريقي، من جامعة هارفارد، هنري لويس غيتس. وهي سلسلة تشبه إلى حد كبير سلسلة أشرطة الفيديو التي أنتجها البروفيسور علي مزروعي، في ثمانيات القرن الماضي، وعُرفت باسم (الأفارقة) The Africans. الشاهد أن أشرطة الفيديو التي أنتجها البروفيسور هنري لويس غيتس، لفتت نظري إلى تراث أثيوبيا، وإنسان أثيوبيا، وتاريخها الروحاني عميق الجذور. وقد جعلني ذلك أتساءل: لماذا لم نعرف نحن جيران أثيوبيا، وأكثر الناس في الأرض شبهاً بالإثيوبيين، شيئاً ذا بال عن تاريخها، وحضارتها، وعن ذلك المشترك الكبير الذي يربط بيننا وبين أهلها؟! كيف يظل كل ذلك العالم الذاخر، الذي يقع على مرمى حجرٍ منا، خارج وعينا، رغماً عن تقاطع تاريخه مع تاريخنا لدهورٍ دهيرة. كيف لا نعرف هذا العالم المرتبط مصيرنا بمصيره، في حين نعرف الكثير عن جزيرة العرب، وبلاد ما بين الرافدين، بل وما يقع وراء سيحون وجيحون؟! ما الذي جرى لنا، وجعل بصرنا متعلقاً، بهذا القدر، بما هو خارج محيطنا، بل وخارج قارتنا بالكلية؟!

    كما يقولون، فإن (الصورة تغني عن ألف كلمة). فأشرطة فيديو بروفيسور هنري غيتس، التي طوَّف فيها على كل أجزاء إفريقيا، فتحت لي، ربما بأكثر مما فتحت لطلابي، نافذةً ما كان للكلمات أن تفتحها لي وحدها. فقد رأيت أثيوبيا بعين الكاميرا التي حملها، وبالأصوات التي التقطها، وبالحوارات التي حاورها لرجال الدين، وللمثقفين، وللناس في الشارع، وهو يتجول في أرجاء تلك الهضبة البديعة الفسيحة. ذهب بروفيسر غيتس إلى "لاليبيلا"، وصور كنائسها المقدودة في الصخر. فهي منحوتة في الصخر، تحت مستوى سطح الأرض، وليست مبنيةً بناءً. وما من شكٍ أن عقل الإنسان إنما يتبدى فيما يصنع. وصدق الذين قالوا: إن قيمة الإنسان إنما تتجلى في ما يصنع! هذا الإبداع الهندسي الذي يتجلى في منشآت الحضارة المروية، وفي كنائس وقصور وقلاع، ومسلات، حضارة أكسوم، التي ورثت الكثير من منجزات الحضارة المروية، إنما هو إرثنا المشترك، الذي انقطعنا عنه، نحن والأثيوبيين، سواءً بسواء. ولكن لا غرابة! فالشعوب تنوم وتصحو. وإني لأرى أن أثيوبيا قد بدأت تتململ في فراشها لتستيقظ، في حين لا نزال نحن نغط في نومتنا الدهرية بالغة الطول. فنحن لم نعرف من نحن بعد. ولسوف لن نخرج من هذه الحلقة المفرغة، حتى نعرف من نحن؟، وماذا نريد؟

    جال بروفيسر غيتس بالكاميرا، والصوت، في تلك البقاع، وصعد إلى الكهوف في أعلى الجبال، حيث ترقد رفات الملوك والقديسين، من الإثيوبيين. صعد بالحبال إلى تلك القمم، وسأل المجاورين من الرهبان هناك، عن حقيقية حاوية الألواح The Ark of the Covenant، التي يزعم مسيحيو إثيوبيا أن منيليك بن سليمان، وهو أبنه من بلقيس، ملكة سبأ، قد جاء بها من بيت المقدس، إلى إثيوبيا، بعد أن ذهب لزيارة أبيه النبي، الملك، سليمان بن داؤد، عليه السلام، هناك. كما صور غيتس الروحانية المسيحية الإثيوبية، وطقوسها المتميزة. ومن يرى الطقس الديني الجماعي للمُنْشِدين المسيحيين الإثيوبيين، وهم متحلقين، في شكل مطابق تقريباً لما نعرفه عن حلقة الذكر، قارعين طبولهم، التي تُحمل، وتُقرع مثلما تقرع النوبة، لابسين جلابيبهم القطنية البيضاء، من نسيجهم المحلي، الشبيه بالدمور السوداني، وعمائمهم، لظن أنه في بقعةٍ صوفيةٍ سودانية! أيضاً، لاحظت من كثيرٍ مما رصدته كاميرا بروفيسور غيتس، أن عبادات مسيحيي إثيوبيا تتضمن ركوعاً وسجوداً، مطابقين تماماً لركوع وسجود المسلمين. في تلك الجبال، حيث ترقد الألواح محفوظة بعيداً عن الأعين، كما يقول الأثيوبيون، وحيث ترقد رفات الملوك والقديسين، يقيم رهبان مسيحيون، وراهبات مسيحيات، يجلسون جميعا، كل على حده، في حفر صغيرةٍ محفورة في جوانب الجبل، تبدو مثل كهف صغير لا يتسع لجلوس أكثر من شخصٍ واحد. يبدو من هيئة أولئك الرهبان، أنهم ظلوا في حالة صمتٍ وتأملٍ لفترات طويلة. الشاهد، أنني استنتجت من عديد الملاحظات، أن النطاق التصوفي، بمعنى mystical نطاق يجمع الروحانية المسيحية الأثيوبية، والروحانية الصوفية السودانية، في نطاق متجاوزٍ لنطاق العقيدة، الذي يحض على الفرقة والكراهية، ويكرس لهما. هذا النطاق الروحاني المشترك، فيما يقع وراء العقيدة، وما وراء الدين المؤسسي، institutionalized religion هو الذي خلق السمات النفسانية، والروحانية، المشتركة بين أهل الهضبة، وأهل السهل. الشاهد، أن ما سبق أن فتحت إليه ذهني، أشرطة بروفيسور غيتس، قد أخذ في التبلُّر أكثر، حين وطأت قدماي أرض أثيوبيا، وبدأت تضمحل بالتجربة العملية، الصور النمطية، القديمة التي لم تنبنِ سوى على متشكِّلٍ جمعي خاطئ! هكذا أعادتني الظروف، كرة أخرى، لأستكمل درساً، كان قد بدأ منذ سنوات، وقد صرفتني عنه الصوارف.

    هذا الرباط الوثيق بين التصوف اليهودي، والتصوف المسيحي، والتصوف الإسلامي، ليس رباطاً جديداً. فقد أشار إليه الشيخ الأكبر، محي الدين بن عربي في أبياته الشهيرات التي تقول: ((لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ/ فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبان/ وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ/ وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ/ أدين بدين الحبِّ أني توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني)). وهو أيضاً ما أشار إليه الشيخ عبد الغني النابلسي، حين قال: ((عجنا على ديرها، والليلُ معتكرٌ/حتى زجرنا لدى حاناتها العيسا/ مستخبرين سألنا عن مكامنها/ توما، ويوشع، ويوحنا، وجرجيسا/ إذ القساسيس قاموا في برانسهم/ يومون بالرأسِ، نحو الشرقِ، عن عيسى/ والكلُّ في بحرِ نورِ اليثربي حكى/ موجا أرته رياحُ القربِ، تأنيسا)). ليتنا في سودان وادي النيل الأوسط بنينا رؤيتنا على ضوء هذا التراث الصوفي الذي يجمع، ولا يفرق. فلو أننا فعلنا، بتدبرٍ وعمق، لما ضللنا عن ذواتنا، ولما ضللنا عن رفقائنا في الهضبة، وما جاورها، ولما ضللنا عن مسيحيينا، وأرواحيينا، ومسلمينا، في جبال النوبة، وفي الأنقسنا، وفي الغابة الاستوائية، هذا الضلال البعيد!!

    ما من شك عندي، أن الاستعمار التركي، (1821-1885)، ووجود المصريين ضمن شراكة الاستعمار الثنائي البريطاني المصري، (1898-1956) وتغلغل النهج التعليمي المصري، والثقافة المصرية المشرقية، وما أعقب ذلك من تبني نخبنا المتعلمة من الخريجين الأوائل للثقافة المصرية، قد أدخلتنا في غيبوبة عميقة، تهنا فيها عن هويتنا الحقيقية، وغبنا فيها عن ما كان يمكن لجذورنا التاريخية، وخصائصنا الروحانية، ومزاجنا النفسي، وأساليب عيشنا، ورؤيتنا للعالم world view أن تتمخض عنه بشكل طبيعيٍ. وهو أمرٌ كان سيجعلنا قادرين على نحت حاضرنا، ورسم صورة مستقبلنا، بعيداً عن قيود الاستلاب الثقافي، وهذه الضعضعة في مفهوم الهوية، وهذه الغيبوبة الحضارية التي أهدرت طاقاتنا، ووضعتنا الآن على شفا التشظي، الذي يسبق ذهاب الريح بالكلية. لو جلسنا منذ أن وعينا ضرورة التخلص من المستعمر، وتأملنا جذورنا العرقية والروحانية، وعكفنا على التأمل المنتج، وباعدنا بين أنفسنا، وبين الاحتراب على الكراسي بلا رؤية، وبلا مشاريع، وتعرفنا على خصائصنا، ومزاجنا النفسي، لعرفنا أننا أفارقة حدث أن استعربوا. لو وضعنا أولوياتنا منذ بدايات الحراك لنيل الاستقلال، بطريقة صحيحة، لكنا اليوم، قد قطعنا شوطاً كبيراً في مشروع بناء أمتنا، ولربما كنا اليوم، أكثر تصالحاً مع أنفسنا، وأكثر انسجاماً وتجانساً مع محيطنا الإقليمي.

    كنت قد ذكرت في مقالتي السابقة، أننا لو نظرنا إلى حالة التوهان عن الذات، وحالة ضعف التشبع بالإحساس بالهوية الحضارية المنمازة ـ وهما أمران أزعم أن أهل سهل النيل الأوسط يعانون منهما ـ وقارنَّا ذلك بحالة إنسان الهضبة الإثيوبية، فإننا نجد أن أهل الهضبة الإثيوبية، يستمتعون بوضعٍ أفضل منا، من حيث التَّبَلُّر الحضاري، والاعتداد بالهوية الحضارية، وتشكل الذاتية الأكثر تجانساً. فالهضبة حين تنصر نصفها، وأسلم نصفها الآخر، لم تمنح نفسها بالكلية للمؤثر العقلي، والثقافي، والوجداني، الوافد، وإنما نجدها، قد قامت بتوطين كلٍّ من اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وجعلت منها، جميعاً، مكوناً جديداً في بنائها الحضاري، وذلك، بعد أن ألبستهما شخصيتها الحضارية المنمازة. يقول بيراني، وسميث، (1998م)، في كتابهما الذي أشرت إليه من قبل: The Visual Arts of Africa، إن المسيحية التي تطورت في إثيوبيا، تميزت بأنها مزيج من العقائد، والممارسات القبطية، متداخلة مع عناصر مستخلصةٍ من اليهودية، ومن الإسلام، ومن دياناتها التقليدية. إذن، هذا المزيج الحضاري متنوع التركيب، وهذا الانمحاق للفواصل الحادة، بين المعتقدات، وهذا القبول للآخر، هو الذي جعل إنسان الهضبة إنساناً متميزاً. وهو الذي وضعه، حسب ما رأيت، على أعتاب بداية نهضةٍ حقيقية. لقد وصلوا، فيما يبدو، إلى نقطة احتشاد الطاقة، وقد بدأوا في حراك الانطلاق. أما نحن، فيما يبدو، لا نزال في تيهنا، وضلالنا القديم!!
                  

08-07-2017, 12:05 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (4)

    السياحة والتعليم:
    الذين تحدثوا من الأقدمين، عن فوائد الأسفار، كانوا أهل بصيرة. لابد أن نُقِرُّ لهم بذلك، وإن اختلفنا معهم في تعديدهم لتلك الفوائد. وعموماً فإن ((لكل وقتٍ ومقامٍ حال، ولكل زمانٍ وأوانٍ رجال))، كما يروي أهلنا الأنصار، عن الإمام محمد أحمد المهدي، وعن من سبقه من الأقدمين، ممن نحتوا ما يشابه هذه القولة، ومنهم الشاعر الحطيئة، الذي قال: ((تحنَّن عليَّ هَداك المَليكُ/ فإنَّ لكلِّ مَقامٍ مَقـالا/ ولا تأخذَنِّي بقولِ الوشاةِ/ فإن لكلِّ زمانٍ رجالا)). وعموماً تمثل الأسفار تمثل واحدةً من أهم وسائل التعليم. فهي تسهم في التعليم، ربما بأكثر مما يسهم به أي أسلوبٍ آخر، خاصة لدى الفئة التي تسميها البيداقوجيات pedagogies التعليمية الحديثة، بالمتعلمين البصريين visual learners. فبعض الناس يتعلم بحاسة البصر، بأكثر مما يتعلم بحاسة السمع، والعكس بالعكس. وعموما فإن التعليم الذي يتنقل فيه التلميذ من كرسي إلى كرسي، ومن حجرة إلى حجرة، منذ سني الطفولة الباكرة، وحتى العشرينات من العمر، أصبحت قيمته في خلق إنسانٍ متكامل المعارف، متكامل الشخصية، محل تساؤلٍ كبيرٍ، الآن. ورحم الله عبقري الشعر الفرنسي، جان آرثر رامبو، الذي حين بلغ العاشرة كتب على سبورة الفصل: ((ليس من الخير أن نُبلي سراويلنا على مقاعد الدرس!!)). وهجر رامبو المدرسة، ولم يعد إليها، منذ تلك السن الباكرة. وحين بلغ رامبو السادسة عشرة، كتب شعراً حير العالم، ولا يزال. وبسبب عبقريته الاستثنائية، تشرد رامبو وعاش حياة مأساوية قصيرة، إذ مات وهو في السابعة والثلاثينٍ. وتسمي أدبيات التعليم المعاصرة، هؤلاء العباقرة الاستثنائيين، بالـ prodigies. الطريف، بما أنني في معرض التفكر في شأن هذا الكيان التاريخي العتيق، المسمى أثيوبيا، فلربما يكون من المناسب أن أذكر، أن رامبو الذي صمت عن قول الشعر قبل أن يبلغ سن العشرين، ترك فرنسا، ليشتغل بالتجارة. ودخل في مغامراتٍ تجارية مع القوافل المتنقلة بين اليمن وإقليم هرر الإثيوبي. وكما يقولون، فإن الشيء بالشيء يذكر!
    السياحة، بمعنى الطواف في البلدان، وما هو أقل منها، فيما يسمى في الأوساط التعليمية بـ "الرحلة الحقلية" field trip، التي يؤخذ لها أطفال المدارس، تمنح من يقوم بها، ما يسميه عالم التربية الفنية المرموق، فيكتور لوينفيلد بـ "التجربة الحواسِّية" sensory experience. فالإنسان لا يتعلم بحاسةٍ واحدة، وإنما بجميع حواسه مجتمعةً. وكلما اشتملت التجربة التعليمية على مخاطبة أكثر من حاسة، واستخدم فيه المتعلم أكثر من حاسة، كلما كانت تجربة التعلم أكثر إمتاعاً، وكلما كانت الحصيلة المعرفية أشمل، وأعمق، وأرسخ. ولذلك، لا غرابة، أن عُرفت "السياحة" وسط المتصوفة، كنهجٍ مجرَّبٍ في التعلُّم العميق، الذي ترسخ مُخرجاته، ولا تتبخر في الهواء، كسائر تجارب التعلم السطحية. كما أن السياحة، لدى المتصوفة، تمثل، أيضاً، أسلوباً من أساليب تطهير الذات، واكتساب عمق الرؤية، وسعتها، وصفائها. فهي نهجٌ جربه العارفون منذ قديم الأزمنة وجنوا منه من الثمار أطيبها. وعلى سبيل المثال، فإن جدي الأكبر، الشيخ ننَّة الترابي، الشقيق الأكبر للشيخ حمد الترابي، الذي تتلمذ على يدي ابن خالته، الشيخ دفع الله العركي، ضمن من جرت تسميتهم بـ "رجال الضحوة"، ساح عقب إكماله التتلمذ، على الشيخ دفع الله. وتقول الروايات الشفاهية إنه سار بمحاذاة النيل الأزرق، صوب المنبع، حتى توغل في الأراضي الإثيوبية. ويقول أهلنا أنه بلغ جهة (بيلا)، ولعلهم يعنون (لاليبيلا)، الحاضرة الدينية الإثيوبية العتيدة. وتقول نفس تلك الروايات، أنه عاش لسنوات طوال، في البرية، مبتعداً بنفسه عن الناس. وعندما أيقن، أن أمر نفسه، قد استقام له، كما يحب، عاد راجعاً، وأسس بقعته المعروفة في منطقة ود الترابي، شمال غرب مدينة الكاملين الحالية. أيضاً، فيما يخص السياحة، كنهج تعبدي صوفي، نقل بعض قدامى الجمهوريين، عن الأستاذ محمود محمد طه، أنه قال: إن غالب الأولياء من أهل الشام، كسبوا ولاياتهم بالسياحة، وكسب غالب الأولياء من المصريين ولاياتهم بالعلم، أما غالب الأولياء من السودانيين، فقد كسبوا ولاياتهم بالكرم. وبطبيعة الحال، فإن الاستثناءات قائمةٌ، في الفئات الثلاث المذكورة. فالسمة العامة في كل فئةٍ تم ذكرها، لا تنطبق بالضرورة على كل أفراد الفئةٍ، تمام الانطباق.

    روح المكان:
    المكان لا يُرى وحسب، وإنما يُري، ويُشم، ويُسمع، وُيلمس، وقيل يُذاق. بل إن من يمتلك قدراً، ولو ضئيلاً، مما يسمى بالحاسة السادسة، أو الحاسة السابعة، فيمكنه سبر غور روح المكان، في هذين البعدين أيضاً!! وبالنسبة لي، فإنني كلما أوشكت على ولوج بلدٍ جديدٍ، أحس بأن حواسي قد أخذت تحتشد، وترهف. فيتلبَّسني إحساسٌ، كالإحساس الذي يعتريك وأنت تدخل على معبدٍ، أو ضريح. فالمكان، على التحقيق، ليس جسداً، أو كياناً متعيناً، وحسب، وإنما هو جسدٌ متعينٌ (مُمَعْنَنٌ)، أي، متشربٌ بالمعنى، ومحشوٌ به. بل إن روح المكان، ربما طالعت القادم الجديد، المتنبه الحواس، وخاطبته، قبل أن تخاطبه هيئته. ومن الأقوال العرفانية البديعة، في هذا الصدد، ما قاله الأستاذ محمود محمد طه؛ وهو أن البيئة التي نعيش فيها، بيئةٌ روحيةٌ، ذاتُ مظهرٍ مادي! هذا النوع من الرؤية للبيئة شائع جداً وسط قبائل الهنود الحمر، كقبيلة الأباتشي المعروفة. وقد ناقش ذلك بشكلٍ شيِّقٍ، الكاتب، كيث باسو، في كتابه، Wisdom Sits in Places. مثل هذه الرؤية التي تربط الحس ربطاً عضوياً بالمعنى، وتربط التعيٌّنات المادية بأقانيم الروح، تنقل إدراك حواسنا للمحيط الذي يضمنا، من تسطيح الإدراك الكمي، quantitative إلى عمق الإدراك الكيفي، qualitative.

    يدخل المرء البلدان الجديدة، وهو مستصحب معه ما عرفه عنها، من إرثٍ حضاري، ومن تاريخٍ، ومن ثقافة. وأثيوبيا من البلاد التي تضرب جذورها عميقاً في تربة القدم. وينطبق عليها هذا، من حيث تاريخ نشأة البشر على ظهر هذا الكوكب، ومن حيث اعتناقها لديانة التوحيد، واحتضانها للتقاليد الإبراهيمية. فقد تفاعلت إثيوبيا مع اليهودية، فيما جري بين سليمان وبلقيس، وربما ما هو سابقٌ لذلك. فالروايات تقول إن تكوين إثيوبيا العرقي، مرتبطٌ بهجرة الصابئة، في الألفية السابقة لميلاد السيد المسيح. ولابد هنا من تأمل الآية القرآنية القائلة: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ، وَالَّذِينَ هَادُواْ، وَالصَّابِئونَ، وَالنَّصَارَى، مَنْ آمَنَ بِاللّهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وعَمِلَ صَالِحًا، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)). تحمل هذه الآية، إشارةً شديدةَ الوضوح، إلى فضاء التعايش الإسلامي الفسيح، الذي يمتد وراء تخوم العقيدة الجامدة. فالحبشة تمثل في كليتها جماع تقاليد ديانات التوحيد. فهي قد تجذرت دماً، وروحانيةً، في هجرة الصابئة إليها، من جنوب الجزيرة العربية، واليمن، عبر باب المندب. كما تهودت عقيدةً، عقب ذلك، هوناً ما، في عصر سليمان بن داؤد عليه السلام، الذي تزوج بلقيس الحبشية، وأولدها منليك، الذي زار أباه في القدس، وعاد من زيارته تلك بالألواح، حسب الروايات الأثيوبية. أما حين جاءت المسيحية، فإن أول مملكة أعلنت مسيحيتها في العالم، على إطلاق العبارة، إنما هي مملكة أكسوم الحبشية. بل إن أكسوم سبقت الإمبراطورية الرومانية في التمسُّح! ففي الوقت الذي تم فيه تتويج الملك عزانا ملكاً مسيحياً، لأول مرة في تاريخ الحبشة، بل في تاريخ العالم كله، في العام 340م، نجد أن الإمبراطورية الرومانية كانت غارقةً، حينها، حتى أذنيها، في اضطهاد المسيحيين. ولم تصبح الإمبراطورية الرومانية، إمبراطوريةً، مسيحيةً، إلا بعد العام 380م. ولا غرابة أن التجأ المسلمون الأوائل إلى الحبشة، هرباً من اضهاد القرشينن. ولا غرابة أن اختارها النبي لأتباعه دون بلاد الأرض، حين قال لهم: ((أخرجوا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكٌ لا يُظلم عنده أحد)). باختصارٍ شديد، دخلت إلى أثيوبيا مستصحباً هذا التراث الذاخر، بكل ما فيه من دلالاتٍ على شخصيتها التاريخية الفريدة. ولذلك، لم أملك حين دخلتها، سوى أن أستشعر خشوع من يدخل معبداً، إنسانياً، قديماً. ولقد جرى مني ذلك، بشكلٍ تلقائي، خلا من أي تَصَنُّعٍ، وأي تَعَمُّلٍ. فأثيوبيا فضاءٌ روحانيٌ، ظل حاضناً للكثير من المعاني النفيسة، لثلاث ألفيات كاملة. ولذلك، فإن آخر ما شغلني، حين دخلتها، كونها كيانٍاً، سياسياً، معاصراً، مجاوراً لنا. هذا، مع أهمية الاعتبارات السياسية، في علاقتنا نحن السودانيين بهذا الكيان المجاور.

    شروق شمس الحضارات القديمة:
    خلقت حقبة الحداثة معايير خاطئة للقيمة. فالحضارة الغربية المادية، ألبست سائر القيم، ثوباً مادياً. ولقد اشترت كثير من شعوب الأرض، من الغربيين ذلك المفهوم الخاطئ. ولذلك، فقد تحولت القيمة، على ظهر هذا الكوكب، بشكلٍ عام، من ما ينطوي عليه المرء، من نبيل المسلك، ومن سعة الفكر وعمقه، وسعة الشعور وعمقه، لتنحصر في مجرد ما يملك؛ حتى بلغ أن قال البعض: (اخبرني كم تملك، أخبرك من أنت!!). فلربما تعين علينا أن نعرف، أن الفقر، ليس شراً كله. ولو كان الفقر شراً مطلقاً، لما اختار خير الخلق، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، عيشة الفقر. فهو القائل: (خُيِّرتُ بين أن أكون نبياً ملكاً، وبين أن أكون نبياً عبداً، فاخترت أن أكون نبياً عبداً)!! وبطبيعة الحال، فإن الدعوة هنا، ليست للإبقاء على الفقر، أو دعوة الأفراد للركون لقبضته. وإنما الدعوة هنا، وبالتحديد، للاعتدال. سمعت الأستاذ محمود محمد طه يقول: ((الزهد لا يعني ألا تملك، وإنما يعني أن تملك، ولكن، بشرط ألا يملكك ما تملك!!)). الشاهد، أن الأثيوبيون فقراء، ونحن، أيضاً، فقراء. ومع الفقر، كانت للإثيوبيين فضائلهم، كما كانت لنا نحن، أيضاً، فضائلنا. والغربيون، في عموم حالهم، لا يعرفون الفضيلة مع الفقر. فحيث يوجد الفقر لديهم، توجد الجريمة. أما نحن، فيما أزعم، فإن ذلك لا ينطبق علينا، إلا في نطاقٍ ضيقٍ جداً. بل إن الفضيلة لدينا لربما، لازمت الفقر، بأكثر مما لازمت الغنى. وهذا، في تقديري، مبحثٌ جديرٌ بالاهتمام. فهناك من الشعوب ما لا يشوه أفرادها الفقر، ولا يطمس فطرتهم. وهناك من الشعوب، ما يشوه أفرادها الفقر، أبلغ تشويه، ويطمس فطرتهم، أبشع طمس. وأني لمن الزاعمين، أن المدنية الجديدة، المرتجاة، سوف تحمل راياتها شعوب الحضارات القديمة، مع فقر هذه الشعوب البادي الآن، ومع تخلفها عن ركب التصنيع، والتقنية. وأظن أن الوقت الذي سوف تُسلم فيه الشعوب، ذوات التاريخ الحديث، الراية، للشعوب ذوات التاريخ القديم، قد دنا دنواً كبيراً. فالبناء النفسي المتماسك، لإنسان الحضارات القديمة، فيما أرى، هو الكنز الذي ادخرته يد العناية الإلهية، أو قل، تيارات الكوسموس الخفية، التي تمر في بنية الكون، مر السحاب، لتنقل هذه الحضارة المادية الضخمة، من مجرد التحضر، إلى التمدن. هذا التماسك النفسي، أو قل، الصحة النفسية، التي بقي معدنها مجلوَّاً لدى شعوب الحضارات القديمة، رغم الفقر، والتي لم تلو فطرتها قلة الحيلة، هي الذخيرة المدخرة، التي سوف تُخرج بها البشرية المعاصرة، من هذا المطب النفساني، العويص، الذي أوقعها فيه فكر الحداثة الأوروبي، ونظرته المادية المحدودة. فعلم النفس المعاصر الذي تأسس على أحادية النظرة المادية، علمٌ ضالٌ ومضللٌ، وقد تميز بمحدوديةٍ شديدةٍ، في إدراكه للذات الإنسانية. فالذات الإنسانية ذات "غميسة"، ملفوفة بغلالاتٍ عديدة من أقدس الأسرار.

    هناك حكمة "مرحلية" وراء فقر الشعوب الفقيرة، ووراء عوزهم، وقلة حيلتهم. ويحب ألا تخفى علينا تلك الحكمة. فهذه الشعوب الفقيرة مدخرةٌ لرسم صور الغد. فالفقر يعلِّم، والفقر يقود إلى الالتصاق بالله، في حين يقود الغنى إلى الاستغناء، ومن ثم، وإلى الغفلة المطبقة. فتجربة الفقر الطويل، وتجربة التهميش، أبقيتا على الموروث الروحاني المتراكم من سوالف الحقب، في شعوب الحضارات القديمة، التي أفلت شمس حضاراتها من قرون، وقرون. كما مخضتا في تلك الشعوب صحةً نفسيةً، لم تنل منها تشوهات النظرة المادية، إلا في حدودٍ ضيقةٍ جداً. هذه الصحة النفسية هي أس الرجاء في بناء المدنية الجديدة. قال الطيب صالح، عليه رضوان الله، على لسان راويته المبصر، في "موسم الهجرة إلى الشمال": ((نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوربي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي، أحس بالغنى!!)). وكتب الأستاذ محمود محمد طه، عقب خروجه من خلوته، في أوائل خمسينيات القرن الماضي، وهو يرد على الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا، في صحيفة "الشعب" في 27 يناير 1951، ما نصه: ((أنا زعيمٌ بأن الإسلام هو قبلة العالم، منذ اليوم، وأن القرآنَ هو قانونُه، وأن السودانَ إذ يقدم ذلك القانونَ في صورتهِ العمليةِ، المحققة لحاجةِ الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجةِ الجماعة إلى الأمن، لهو مركزُ دائرةُ الوجودِ على هذا الكوكب. ولا يَهُوْلَنَّ أحداً هذا القولُ، لكون السودان جاهلاً، خاملاً، صغيراً، فإن عنايةَ اللهِ، قد حفظت على أهلِهِ، من أصائلِ الطبائعِ، ما سيجعلهم نقطةَ التقاءِ الأرضِ بأسباب السماء!!)). أما المفكر العراقي الراحل، هادي العلوي، الذي عاش سنين طويلة في الصين، دارساً لغاتها، ومتأملاً إرثها الروحاني التاوي، والكونفوشيوسي، العريق، فقد ذكر، أن ماضي الصين الروحاني العتيد، هو الذي يرسم لها الآن صورة مستقبلها. وأخلص من كل ما تقدم إلى أننا بحاجة للنظر في الميراث الروحاني الغني الذي يربطننا بجيراننا شرقاً، وجنوباً، وغرباً. لقد آن الأوان لكي نعيد النظر في هذه القبلة الشمالية التي اتخذناها. إن القبلة الشمالية التي اتخذناها في القرنين الماضيين، قبلة ضعيفة الصلة بجذورنا الاثنية، والروحانية، والحضارية. بل هي ضعيفة الصلة بجوهر الإسلام، وروح رسالته الخالدة. إنها ببساطة، قبلة القشور، التي لا تسمن، ولا تغني من جوع. هذه القبلة لن تفعل شيئا، سوى أن تؤخر سعينا لإعادة اكتشاف ذواتنا الضائعة. فنحن، في نهايات تهينا الروحاني، والمادي، أيضاً، اختزلنا عقيدتنا في التجليات السطحية للتدين، التي يمثلها الفقه المدرسي الدخيل. ومن ينظر في هذه الوجهة، لن يرى غير الأزهر، وما تجذر في أفقه المعرفي المحدود، من حركاتٍ كحركات الإخوان المسلمين بكل تفرعاتها، وما شاكلها. أما من ينظر إلى جوهر المشهد الروحاني الإسلامي، الإبراهيمي، العيسوي، الأحمدي، في أفقه الفسيح، فإن عالما طازجاً، بهياً، واعداً، سوف تنفتح له أبوابه. فلندر الدفة، عن هذه القبلة الشمالية العقيم، لنجد كنزنا، وذواتنا، التي أضعناها في تيهنا الروحي الطويل، الذي فاق تيه بني إسرائيل. (يتواصل)
    صحيفة الأحداث 9 مايو 2010.
    _________________
                  

08-07-2017, 12:06 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (5)

    التيه:
    أزعم أن واحدةً من مشاكلنا الكبيرة، نحن السودانيين، التي لم تجد انتباهاً كافياً، هو أننا تحولنا، في مرحلة متأخرة جداً من تاريخنا الحضاري الطويل، من "الروحانية"، إلى "الفقه". أو قل، من تماسك الشخصية الحضارية، إلى انمساخها، وانمحاقها. ويمكنك أيضاً أن تقول، إننا تحولنا من "الممعنن"، في حياتنا (من كلمة "معنى")، إلى "المشكلن"، (من كلمة "شكل"). يفرق الغربيون، تفريقاً دقيقاً، بين الدين المؤسسي، وبين الروحانية. ولذلك تسمع من بعضهم قوله: (I am spiritual, but I am not religious)، أي، (أنا "روحاني"، ولكنني لست تابعاً لدينٍ مؤسسي). فالدين المؤسسي، لا يمثل بالضرورة، جوهر ما دعت إليه السماء، كما في اليهودية، والمسيحية، والإسلام، على سبيل المثال. والدين المؤسسي، في غالب حاله ـ وليس في كل أحواله، بطبيعة الحال ـ ذو صلةٍ ضعيفةٍ بالروحانية. ولو نظرنا إلى الدين بعد أن تحول إلى مؤسسة تابعة للحاكم، كما في الإمبراطورية الرومانية، وكما في الإمبراطورية الإسلامية، في كل عصورها، منذ العصر الأموي، وحتى نهاية الإمبراطورية العثمانية، نجده لم يكن أكثر من مجرد صنيعةٍ للسلطة الحاكمة. فسدنة الدين المؤسسي، حيث وُجد، كانوا مجرد فقهاء للسلطان، أو للبلاط. وفي سودان الحقبة التركية، أسمى الإمام محمد أحمد المهدي، (1844م-1885م)، سدنة الدين المؤسسي، في واحدةٍ من غضباته المضرية، بـ (علماء السوء). ولقد كان الإمام المهدي، محقاً، كل الحق، في غضبته تلك! هذا، حتى إن لم نسلِّم له بمهديته المطلقة، التي ادعاها، والتي يراها قد جبت كل ما عداها. ففي الوقت الذي انحاز فيه لدعوة المهدي، الجمهور العريض، الذي عانى من الاضطهاد المصري التركي، (1821م-1885م)، ومن ضرائبٍه التي ينوء بثقلها الكاهل، وسياطه التي تلهب الظهور، وقططه التي تُحبس داخل السراويل، اختارت الطبقة المتفيقهة، رغم كل تلك المظالم الفادحة، ورغم كل الضيم الذي لحق بالسودانيين، أن تقف إلى جانب الحاكم الوافد، مؤثرة سلامة نفسها، وسلامة امتيازاتها الوظيفية!!

    الشاهد، أن الفقهاء من هذا النوع يحتلون وظيفةً ديوانية، شأنها شأن أي وظيفية ديوانية أخرى، من حيث تبعيتها للسلطة المركزية. ولذلك فهم يتلقون رواتب، أو أعطياتٍ، راتبةً، من الحاكم. هذه الرواتب، والأعطيات، لا تُمنح لهم إلا لقاء قبولهم وضع أنفسهم تحت إمرة الحاكم، جاعلين من أنفسهم ذراعاً له، تسوغ للناس حاكميته، وتشرعنها لهم، وتُعطيها سنداً إلهياً، مهما كان حال تلك الحاكمية من الضلال، ومن الفساد، ومن مخالفتها لروح التدين. هذا النوع من الفقهاء "الحشويين"، كما يسميهم وجيه كوثراني، منتشرون في سائر أرجاء العالم الإسلامي. وأمر هؤلاء من حيث التبعية للحاكم، والتفريط في روح التدين، ومجانفة جوهر قيمه، لا يحتاج إلى إجلاء، فهو أجلى، وأسطع، من الشمس في رابعة النهار. ولم تكن ثورة أوروبا على الكنيسة، وتأسيسها للفصل بين السلطتين الدينية والدنيوية، سوى إنهاء لعهود طويلة من الاستبداد الديني والمظالم التي بلغ سيلها الزبا. ونحن هنا لا يهمنا النعي على سدنة الدين المؤسسي لدينا، بقدر ما يهمنا أن نبين أن روحانيتنا، نحن سودانيي الوسط والشمال النيلي، التي تجذرت في حقبٍ قديمةٍ، ترجع إلى أكثر من أربع ألفيات، قد حرفها عن مسار تطورها، وأطفأ شعلتها الوهاجة، الفقه المدرسي الوافد، وسلطة رجل الدين "المحترف"، المستتبع للسلطة الحاكمة. أن ما يعتري حياتنا اليوم، من تردي مضطرد، ومن ضمورٍ في العقول، ومنً تراجع في الفهوم، يزداد يوما بعد يوم، ومن جنوحٍ صبياني لنكران سوء الحال القائم، ومراءٍ أجوف حول سواد المنقلب الذي يتهدد وجودنا ذاته، لأكبر تجسيد لفشلنا الحضاري، وأكبر دليل على انطفاء وقدة المبادرات الإحيائية في بنية وعينا. فنحن قد تهنا في منذ قرون عن جذورنا الحضارية، وعن شخصيتنا الثقافية، التي تميزنا وأصبح سقفنا العقلي، وسقفنا الوجداني، لا يتعدى سقف هذا الفقه المدرسي القروسطي المحدود.

    حين وفد المتصوفة إلى السودان ـ وهم أول من قدم الإسلام لسودانيي الوسط والشمال النيلي، بشكلٍ مرنٍ، معمقٍ ومستفيض ـ رأوا ملامح الروحانية الموروثة، من الحقب السابقة لمجيئهم، وهي النبتية، والمروية، والمسيحية، وما كان وظل قائما من كريم المعتقدات في الديانات المحلية. واستبانوا، بحاستهم التي تلم، وتستوعب، ولا تُقصي، inclusive ، جوهرية قيمها، وتماهيها مع جوهر روح الإسلام. ولذلك لم يقم المتصوفة بانقلابات راديكالية في وعي من حلوا بين ظهرانيهم، وإنما اختاروا أن يتخلل روح التصوف الشفيف، مجتمعات الوسط والشمال النيلي، في رفقٍ، لا صدمةَ فيه، ولا إرباك. ولذلك، فقد تخللت روح التصوف حياة الناس، وسرت في بنية وعيهم، وممارساتهم، كما تسري نسائم الفجر الوادعة، وسط أعواد حقل القمح. لم ينكر المتصوفة على المجتمعات التي وفدوا إليها، أو نشأوا فيها، أنشطتها الثقافية، وإنما استوعبوا طقوس، وموسيقى، وإيقاعات، ورقصات، تلك المجتمعات، وجعلوها جزءاً من شعائر الطريقة، وأذكارها، وتراتيلها. غير أن الغزو التركي الذي قضى على سلطنة الفونج، رجح كفة الفقه على كفة التصوف، وجاء من بعدهم الإنجليز، الذين أرتهم الثورة المهدية وجهاً مقاتلاً، شرساً، لم يعهدوه في التصوف، فساروا على نفس درب الأتراك في إضعاف البيوتات الصوفية، وتقوية المؤسسة الفقهية الرسمية، المؤتمرة بأمر الحاكم. واستمر ذلك الانقلاب، مواصلاً تحوير بنية وعينا، معيداً عجن وتشكيل ثقافتنا، حتى مات ما تبقى من شخصيتنا الحضارية. انطفأت الوقدة، وابتلعنا تيه الغربة عن الذات. وحين أخذ أمر حكم البلاد يؤول إلى طلائع مثقفينا، قُبيل منتصف القرن العشرين، لم يكن يملكون في مجال الرؤية سوى "رزق اليوم باليوم". ولذلك فقد جروا البلاد بكل ثقافاتها، وكل تنوعها، وكل ثرائها، وحشروها في "كستبانة" الفقه العثماني، والتعليم المصري الاستعماري، الذي غيبهم عن تاريخهم، وقتل فيهم احترامهم لذواتهم، وثقتهم في أنفسهم، وأمات فيهم القدرة على النظر في جوهر ثقافتهم، واستنطاقها، وإعادة تفعيلها في بوتقةٍ، كليةٍ، تزاوج بين الروح الإيجابي في تاريخنا، وبين روح المعاصرة، دستوراً، وقانوناً، ونظامَ حكمٍ، وتنميةً، وتكافلاً اجتماعياً، وتعليماً، وثقافةً، وإدارة. فكل ما نحن فيه الآن، من عجز مريع، تلبس كل جوانب إدارتنا لشؤون حياتنا، وترتيبنا لأولوياتنا، ورسمنا لتحالفاتنا، ليس سوى انعكاسٍ لحالة التيه هذه. ولو نظرنا لموقفنا الأخير، مما ثار حول مياه النيل، في الأيام القليلة الماضية، وإلى اندغام موقفنا في بطن الموقف المصري، دون كبير فرز، لوضح لنا مبلغ الهوان الذي بلغناه، في تيهنا الطويل هذا. فنحن، نترك موقفنا ليندغم بالكلية، في بطن الموقف المصري، رغم أن مصر ظلت تستولي على حقوقنا نحن أيضاً في مياه النيل، وتفرض علينا استئذانها، في ما ينبغي أن نفعله، وما لا نفعله فيما يخص تنمية بلدنا! وأسوأ من ذلك، أن مصر قضمت، في صمتٍ، وبهدوء، جزءاً من أرض بلادنا، ووضعت يدها عليها، عنوة! ومع ذلك، لا ننفك نترنم: ((مصرُ يا أختَ بلادي يا شقيقة))!!

    (إس كيو) الذكاء الروحيSQ, Spiritual Quotient
    نشطت في الدوائر الأكاديمية، في مجالات علم النفس، وعلم التربية، في العقود الثلاثة الأخيرة، في الدراسات المتعلقة بظاهرة الإدراك cognition، المقاربات التي تمركزت، حول ما يسمى بـ "الذكاء الروحي". فما أن خرج البروفيسور هاوراد غاردنر، من جامعة هارفرد، العتيدة، بنظريته المسماة: (نظرية الذكاءات المتعددة)، في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، حتى ألهمت استنتاجاته التي خرج بها، من بحوثه المطولة، المعمقة، الموسعة، علماء آخرين، فدفعوا بجهوده نحو آفاقٍ، أبعد، وأعمق. وتتلخص نظرية هوارد غاردنر أنه لا يوجد ذكاءٌ واحدُ يمكن قياسه كمياً، كما كان متعارفاً عليه في الدوائر الأكاديمية، التي كانت تستخدم المقياس المسمى بـ (آي كيو) (IQ) (intelligence quotient). فقد قادت غاردنر أبحاثُه ليكتشف أن ظن العلماء، بأن الذكاء خاصية أحادية في الشخص، يمكن قياسها كمياً، ليس صحيحاً. فالحقيقة أن الذكاءات متعددة، ويملك كل فردٍ بشري، واحداً منها، أو بعضاً منها. الشاهد، أن لا شخص يملكها جميعها، وبنفس القدر. فالشخص قد يملك قدراً كبيرا من اثنين، أو ثلاثة منها، ومقادير أقل من بقيتها. حصر غاردنر، في بادئ الأمر، الذكاءات في سبعة، هي: (1) الذكاء الرياضي المنطقي، (2) الذكاء الشفاهي اللغوي (3) الذكاء الجسدي الكيناستاتيكي (4) الذكاء الإيقاعي الموسيقي (5) الذكاء الفراغي التصوري (6) الذكاء في معرفة الذات (7) الذكاء في معرفة الآخرين. وبعد فترة أضاف إليها ذكاءً ثامناً، أسماه (الذكاء الطبيعي)، أي المعرفة بالطبيعة من حولنا.

    أثارت نظرية غاردنر، حين خرجت، ثائرة الدوائر الأكاديمية، خاصة في حقل التعليم. فقد أحدثت نظريته انقلاباً غير مسبوق، وقلبت الطاولة على كثير من الممارسات التعليمية التي انبنت على مفاهيم خاطئة ـ هذا إن نحن سلمنا بصحتها ـ وهي عندي صحيحةٌ تماماً، في بابها. بناءً على نظرية غاردنر، فإنه، باستثناء حالات الاحتياجات الخاصة، وهي حالات استثنائية، لم يعد هناك، طفلٌ ذكي، وآخر أقل ذكاءً. فكل ما في الأمر، هناك طفل له استعداد فطري لتعلم أشياء بعينها، في حين ليس لديه استعداد فطري لتعلم أشياء أخرى بعينها. هذا الوضع يلقي باللائمة في ضعف الأداء الأكاديمي للطلاب على المدارس، وعلى الآباء والأمهات، بأكثر مما يلقيه على الطفل. فالمدرسة الحداثوية، بشكلها الذي نعرفها به، مصممةٌ لتعمل، وكأن الأطفال جميعاً متشابهين من حيث الاستعداد الفطري. فقط هناك من هو ذكي، وهناك من هو أقل ذكاء. ولذلك تصر المدارس على أن يحرز الطالب قدراً معيناً من الدرجات، في طائفة واسعة جداً من المواد الدراسية، والأنشطة. ومن لا يحرز ذلك القدر، يتم إبعاده، كما في الدول النامية، التي لا تتوفر فيها الفرص الدراسية الكافية، أو تلصق به بطاقة قلة الاستعداد للتعليم، كما في الدول التي تتوفر فيها الفرص للجميع. ويترتب على ذلك، أن يظن الطالب، وتظن أسرة الطالب أنه لا يصلح للتعليم الأكاديمي، ويصبح لا سبيل أمامه، من ثم، سوى الانخراط في عالم المهن، التي لا تتطلب ذكاءً عالياً، أو تأهيلاً وتدريباً، عالياً. باختصارٍ شديد، ترى نظرية غاردنر للذكاءات المتعددة، أن على المدرسة أن تدرِّس الطالب حيث تكون قوته، لا حيث يكون ضعفه، teach to strength not to weakness. وهذا يلقي على المدرسة عبء اكتشاف، أين تكمن موهبة الطفل، بالضبط، وأين يقع استعداده الفطري. فكثير من الطلاب يضيعون لأن المدرسة ليس لديها المعرفة الكافية بتنوع الذكاء، وسط جمهور الطلاب، وليس لديها المناهج القادرة على استيعاب هذا التنوع الإدراكي وسط التلاميذ. فالمشكلة تكمن في نموذج المدرسةschool model الحداثوية، بأكثر مما تكمن في الطلاب، واستعدادهم للتعلم.

    قدمت هذا الشرح الموجز، والمضغوط جدا لنظرية الذكاءات المتعددة، وما يمكن أن يترتب عليها في مجال الممارسات التعليمية، لأن نظرية الذكاءات المتعددة أحدثت انفجاراتٍ إضافية في مباحث الذكاء. ولسوف أعود لنظرية الذكاءات المتعددة، وأثرها على الممارسات التعليمية في مقالات منفصلات، لما في ذلك من فائدة للتربويين، والآباء والأمهات. فهذه النظرية تمثل واحداً من محاور اهتماماتي البحثية لأكاديمية ولقد نشرت حول انعكاسات نظرية الذكاءات المتعددة على التربية الفنية، في دورية، بحوث في التربية الفنية والفنون، التي تصدرها كلية التربية بجامعة حلوان، ج. م. ع. (العدد 24، مجلد 24، مايو 2008م، ص. ص. 63 ـ 94). الشاهد، أن نظرية الذكاءات المتعددة قادت إلى أن تحتل مباحث الذكاء، الواجهة في فهم ظاهرة الإدراك، وما ترتب عليها من تفرعات في أبحاث الذكاء العاطفي والذكاء الروحي، أسهم في إعادة فهم البناء النفساني للكائن البشري human psyche. ففي العام 1995 ظهر دانيال قولمان، بما أسماه الذكاء العاطفي. ثم جاء كل من دانه زوهار، وإيان مارشال في العام 1997، بما أسمياه "الذكاء الروحي". وتشعبت الدروب في الاحتفاء بما أسموه "الذكاء الروحي" إذ سار على الدرب كثيرون، أذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، توني بوزان، وروبرت أيمونز، وكاثلين نوبل، وآخرين. فعلى سبيل المثال يقول توني بوزان (2001)، إن الذكاء الروحي يمكن أن ينعكس في وعيك بالعالم من حولك، ومكانك فيه. ويعرفه روبرت إيموس (2000) بأنه الاستخدام التأقلمي adaptive للمعلومات الروحانية، من أجل الإتيان بحلولٍ للمشاكل اليومية، وتحقيق الأهداف. أما زوهار ومارشال فإنهما يعرفان الذكاء الروحي، بأنه، الذكاء الذي بموجبه نموضع أفعالنا، وحيواتنا، في إطار موسَّعٍ، ثريٍّ، مانحٍ للمعنى. إنه الذكاء الذي به نقيِّم، أن أحد مسارات فعلنا، أو مسار حياتنا الذي اخترناه، أكثر معنىً، وأكثر ناتجية، من مسارٍ آخر. وأهم من ذلك، في ما يتعلق بما نحن بصدده، في هذه السلسلة من المقالات، فقد عرف زوهار، ومارشال (2000)، الذكاء الروحي في موضع آخر قائلين: ((يمنحنا الذكاء الروحي قدرتنا على التمييز. إنه يعطينا حسنا الأخلاقي، وقدرتنا على التعامل مع القوانين الصارمة الجامدة عن طريق الفهم والتعاطف، وأيضاً التعامل بقدرٍ مماثلٍ من القدرة على الرؤية، حين يكون التعاطف والفهم قد بلغا حدهما الأقصى. إننا نستخدم الذكاء الروحي لنصطرع مع سؤال الخير والشر، ولنتخيل الإمكانات غير المتحققة ـ لنحلم، ولنأمل، ولنرتفع بأنفسنا من الوحل)).

    أردت أن أقول من كل الإيضاحات، الموجزة، التي وردت أعلاه، إن شمس "العلموية"، و"الوضعية" الغربية، قد أخذت تغرب، بشهادة الأكثر وعياً، ومعرفةً من أهلها. كما أن قيم إنسان الحضارات القديمة، التي انطمرت، توشك أن يتبعثر عنها التراب، وتنهض في قامةٍ جديدة، وأفق جديد. ونحن، من حيث الميراث الحضاري، أمة تمتلك ذكاءً روحياً عالياً، ولكنه مطمور. فقد مخض فينا تاريخنا الحضاري الطويل ذكاء روحياً، علي العيار. غير أن ذكاءنا الروحي هذا تعرض لأنواء كثيرة، ولعوامل تعرية كثيرة، لا زالت معاولها تنشط في هدم بنيته. ولقد رانت على قلوب النخب لدينا، وغطت على ذكائها الروحي، مقادير أكبر مما ران على قلوب عامة الناس عندنا. وهذا أمر سأتوسع في شرحه، في ما هو مقبلٌ من حلقات.

    تعرضت نخبنا في القرنين الأخيرين لجوائح خارجية، ولما يمكن أن نسميها: "نظرة أجنبية للكون وللحياة، مغايرة للمتشكل التاريخي لرؤيتنا"، مما يصح أن نطلق عليه: an alien worldview. فقد اجتاح نخبنا الفقه العثماني الوافد، ثم ما لبثت أن اجتاحتهم النظرة الغربية الرأسمالية، "العلموية"، الفردانية، التي جلبها التعليم الغربي الوظيفي، المحدود. فأحلت تدليل الذات، self indulgence، محل الوعي المجتمعي الترابطي، التكاملي، الذي يؤمن صاحبه، روحياً، بأنه لن يسلم، ولن يتحقق لها الخلاص، ما لم تسلم البنية المجتمعية، في كليتها، وتحرز تمام عافيتها. هذا الوعي الكوني المتماسك، الذي لا يفصل بين الشخصي، والبيئوي، والكوني، هو الذي لخصته، في بساطةٍ شديدة، أحاديث نبي الإسلام العظيم، حين قال: ((لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه، ما يحب لنفسه)). وحين قال: ((والله لا يؤمن ... من بات شبعانَ وجارُه، جائعٌ، وهو يعلم)). فالذكاء الروحي هو الذي يدلك على مواطن الاختلال الفادح في التوازن في العلاقة مع الكون، (مع الله)، ومع الذات، ومع المجتمع، ويدفعك إلى العمل، وبإلحاح، لتصحيح الخلل في هذه المعادلة الثلاثية المركبة، التي لا يستقيم صلاح أمر الفرد، ولا صلاح أمر الجماعة، إلا بتوازنها. (يتواصل)
    صحيفة الأحداث 17مايو 2010
                  

08-07-2017, 12:06 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (6)

    [email protected]
    كنت قد عرجت في الحلقة السابقة على موضوع الروحانية، وما يسمى بالذكاء الروحي، وهو موضوع كبير متشعب. ولعل بعضاً من تعرضي له نحا في بعض جوانبه، منحىً أكاديمياً صرفاً. وبناءً عليه، ربما قام في خلد البعض، أنني ابتعدت هوناً ما، عن موضوعي الأصلي. غير أن حقيقة الأمر بخلاف ذلك. فلقد كان غرضي من غشيانه، بذلك الشكل المختصر، الذي جرى، أن أجعل منه "فَرْشَةً" ـ كما يعبر الكاتب، الراحل، خليل عبد الكريم ـ لما أنوي التطرق له، من التأسيس لزعمٍ، يشاركني فيه كثيرون، بأن الروحانية في طريقها إلى العودة. وأنها في عودتها الجديدة هذه ستأتي من وراء حواجز العقيدة، لتتلبس مجريات حياتنا اليومية، وتعيد إلينا الشعور المتوقد بقدسية العيش، كما كان الحال قديما، حينما وقف الإنسان على رجليه، أول عهده بوعي ذاته على ظهر الأرض. أعني، تلك اللحظة الفارقة التي أجال فيها بصره فيما حوله، وانغرس في سويداء فؤاده، ذلك الإحساس الأول الطازج، الغامض، بالجلال، والرهبة، والتقديس. وكما قيل قديماً، وكلُّ دورٍ إذا ما تم ينقلب. غير أن روحانية الغد، ستكون أرفع، وبما لا يُقاس، من روحانية الأمس التي فقدناها، أو نكاد.

    في ديسمبر 1974، أصدر الأستاذ محمود محمد طه، كتابه: (الدين والتنمية الاجتماعية)، الذي ورد في إهدائه ما يلي: ((إلى الناس!! كل الناس!! و إلى العلماء منهم بشكل خاص!! .. إن الزمان قد استدار، استدارةً كاملةً، فعاد كهيئته، يوم خلق الله الإنسانَ، دودةً بين الماء والطين!! يومئذ قام تحدي البيئة الطبيعية له بصورة حاسمة!! التحدي؟؟ أما أن يحدث تواؤماً بينها وبينه، أو ينقرض!! والآن!! فإنه، بتمام هذه الاستدارةِ الزمانية، يعود هذا التحدي بكل حسميته. بيد أن عنصراً جديداً قد دخل الميدان، ذلك إنا اليوم، نعرف حقيقة هذه البيئة التي تواجهنا بكل هذا التحدي الرهيب، بعد أن كنا نجهلها أمس، كل الجهل!! إن بيئتنا الطبيعية ليست بيئة مادية، كما نتوهمها، إلى اليوم!! .. إنها، في الحقيقة، بيئة روحية، ذات مظهر مادي !! إنها إرادة الله تجسدت!! )).. انتهى.

    إن انبعاث الروحانية من جديد، في أفقٍ جديد، وبطاقة خلاقةً جديدة، بعد أن تتم بعثرة ما تراكم على شرارتها، من رمادٍ كثيفٍ ذرته عليها حقب الاغتراب الروحي الطويلة، سوف يرسم لنا صورة عالم الغد، الذي هو لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفيما نحن بصدده، في هذه السلسلة، فإن الحفر في عمق الروحانية المنسية، هو الذي سيدفع بالمشترك الوافر، بيننا وبين أشقائنا الروحيين، في الهضبة الأثيوبية، من خلفية المسرح المعتمة، حيث ظل قابعاً هناك للآلاف السنين، إلى صدر المسرح المستحم في بؤرة الضوء. نحن ـ أهل الوسط والشمال النيلي ـ لا نزال غير متنبهين للكثير المشترك، بيننا وبين جيراننا في الهضبة، من حيث الإرث الروحي، وتعيُّنات ذلك الإرث في السمات الشخصية للفرد، وفي مجمل بنية الحياة الاجتماعية، "الروحانية"، التكافلية، التكاملية، وتشابكاتها. فنحن، بشكل عام، ومعنا سائر المسلمين، لا نفرق كثيراً، بين الروحانية، وهي التدين الحقيقي المجسد في سمات الوعي بالعالم من حولنا، وفي الفعل النبيل المعبر عن ذلك الوعي النوعي، وبين التدين المؤسسي، الذي لا يتعدى مجرد التمظهر بالمظهر الديني، والتمسك بقشور الدين، والاستعاضة بتلك القشور، عن المعاني الإنسانية الرفيعة، التي ما جاء الدين إلا لكي يجعلها واقعا،ً معاشاً، في حياة الناس.

    بناءً على نقص القدرة لدينا، على استبانة الفروق الجوهرية بين الوضعين، والتمييز العميق بين الحالين، بدأنا ننشئ ارتباطاتنا الخارجية، ونختار قبلتنا الفكرية والوجدانية. والقبلة الشمالية التي مالت نحوها نخبنا، مؤخراً جداً في تاريخنا، كانت قبلةً، خاطئةً، تماماً. ولقد أثبت بعض الباحثين أننا تحولنا من قبلة الجزيرة العربية، القديمة، التي كنا نيمم وجوهنا شطرها، إلى قبلة جديدة، هي مصر وأزهرها. ففي المقدمة التي كتبها الأستاذ عبد الله الفكي البشير لكتابي (مهارب المبدعين)، أشار إلى ما ذكره الدكتور الراحل، محمد عمر بشير، بأن سودانيي الوسط والشمال، تحولوا من النظر صوب الحجاز والجزيرة العربية، إلى النظر صوب مصر. ولسوف أعرض إلى هذه النقطة بشكل موسع، حين تتحول هذه المقالات المسلسلة إلى كتاب، قريباً إن شاء الله.

    قبلة الجزيرة العربية التي كنا عليها، لها ارتباطاتها التاريخية بالقرن الإفريقي، ولذلك لا غرابة في توجهنا نحوها. ومع ذلك، لابد من التمييز هنا، بين وضعية الجزيرة العربية، وبين الهضبة الإثيوبية، في ما يجب أن تكون عليه حقيقة ارتباطاتنا، وامتداداتنا الخارجية. فالهضبة الأثيوبية أقرب إلينا من حيث طبيعة الإنسان، وطبيعة وعيه، وطبيعة علائقه الاجتماعية، من جنوب الجزيرة العربية، وغربها، (اليمن، وتهامة، والحجاز). المهم هنا أن قبلتنا الشمالية التي مالت نحوها نخبنا نتيجة للاستعمار التركي، المصري، في تاريخنا المتأخر جداً، كانت قبلةً، ضالةً، ضلالاً بعيدا!! فهي أبعد على طبيعتنا من الهضبة الأثيوبية، ومن جنوب الجزيرة العربية، وغربها. هذه القبلة الشمالية، الاستلابية، لم تعد علينا، منذ أن يممنا وجهونا شطرها، سوى بالولوج في تيهٍ موحشٍ، فيه بددنا طاقاتنا، بلا طائل. بسبب هذه القبلة المستحدثة، فقدنا منصة القفزspring board ، الروحانية التي ادخرتها لنا روح الكون، في المدفون من تكويننا الروحي. تلك المنصة الحبلى بالممكن، التي أضعناها، هي التي كان ـ ولا يزال ـ يتعين علينا القفز منها، من أجل صنع حاضرنا الخاص بنا، وصورة مستقبلنا الخاصة بنا. هذا الجهل بشخصيتنا التاريخية، وانفصالنا عن جذورنا، وتعامينا عن ارتباطاتنا الحقيقية، هو الذي أقعدنا دهراً دهيراً، في مقام العجز، والضعة، وفقدان الشخصية الحضارية. وهو السبب وراء كل هذا الضمور العقلي، والفِعَالي المزمن، الذي نعاني منه، وكل هذه (المَحَقَة)، منقطعة النظير، التي ألمت بنا منذ أن انهارت الحضارة المروية المقتدرة، المنتجة، ذات المبادرة الحضارية الصادحة. فنوعية الوعي التبسيطية التي تبقت لنا، والتي ليست سوى بعض من فتاتٍ من موارثينا الحضارية، لا تكفي لإحداث نهضةٍ من أي نوع! فهي كما أشرت سابقاً، ليست سوى بنية وعي اجترارية، لا تحمل الطاقة، والدفق، الضروريين لإحداث التأثير المرجو في الذوات، وفي المحيطين: البيئي، والاجتماعي.

    أقفز من هنا، لكي أقول، وبشكل مباشر، ودون أدنى مواربة: إن مصر الراهنة، تختلف عنا بأكثر مما تختلف عنا أثيوبيا، وإرتريا، وتشاد. فمصر، رغم اشتراك السودان الأوسط والشمالي معها في غلبة العقيدة الإسلامية، إلا أنها دولة ذات طبيعة متوسطية، نسبة لتعرضها للتأثيرات المتوسطية، بشكل مكثف. وهي في ذلك، شأنها شأن تركيا، وسوريا، ولبنان، وتونس، والجزائر، وغيرها من هذه المنظومة "الإسلامية" المتوسطية. ففي رؤيتي، أن هذه الدول فيها شيءٌ من السمات الأوربية، وقد غشيت وعي إنسانها، ومسلكه الحياتي، ونظرته للكون، وللحياة، ولأخيه الإنسان، بعض من السمات الفارقة التي تتميز بها النظرة الأوروبية. إن السمات الأوروبية في إنسان ساحلي المتوسط الشرقي والجنوبي، أكثر مما نتصور بكثير! فكون هذه البلاد تشاركنا في غلبة الاعتقاد في الإسلام، لا يعني أنها من طينتنا، أو أننا نشبهها أو تشبهنا. بل هم أنفسهم لا يزالون لا يفهمون لماذا نحن متشبثون بهم على هذا النحو الذي لا يفهمون أسبابه! بعبارة أخرى، التدين المؤسسي، لا يعطي أي بلاد هويتها الروحية الحقيقية. فالتدين المظهري، إنما يخلق قشرة خادعة، فقط. فإن شئت أن تفتش في المشترك بين الجماعات البشرية المختلفة، فابحث في الجذور الروحانية العميقة التي صاغت الشخصية، وصاغت الوعي الوجودي، وصاغت علائق المجتمع، وتعاطفه، وتواده، وتراحمه. وحديث النبي العظيم القائل: ((مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))، حديثٌ لم يأخذ تجسيده الأعلى، والأكمل، في الواقع بعد. ما يسمى بالمجتمعات الإسلامية، مما نراه في عالم اليوم، لا تملك من روح الإسلام الحقيقية، ومن طاقات وعوده الحضارية المستقبلية، شروى نقير.

    يشارك المزاج المتوسطي، المزاج الأوربي الكثير من الخصائص، ولا غرابة! فحوض البحر الأبيض المتوسط، ظل بحيرةً إغريقية، رومانيةً، لفترة طويلة. بل إن دم الناس في هذه الجهات اختلط بالدماء الأوربية. وأهم من ذلك فإن النظرة الفلسفية، التاريخية، أو الـ worldview الذي صاغ وجدان إنسان هذا الحوض، ظل إلى حد كبير، غربياًoccidental . ظل كذلك، رغم اجتياح الإسلام لهذه البقاع الرومانية، ودفعه الرومان، إلى ما وراء مضيق البسفور. وعلينا أن نتنبه، إلى أن الإسلام الذي غشي هذه البقاع، لم تكن السمات الغالبة عليه سمات إسلام النبي، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أو إسلام، أبي بكر، أو عمر، أو علي، رضوان الله عليهم أجمعين. ما غشي هذه البقاع هو الإسلام الإمبراطوري، المؤسسي، الذي تقلب في الصور عبر الأمويين، والعباسيين، والفاطميين، والأيوبيين، والسلاجقة، والمماليك، والعثمانيين. هذا الإسلام لا يختلف كثيراً، في طبيعته المؤسسية السلطوية، عن مسيحية الإمبراطورية الرومانية، التي أُفرغت المسيحية من محتواها الإنساني، وحولتها من ديانة نصيرة للمستضعفين، إلى ذراعٍ للإمبراطور الحاكم.
    عن الاقتصاد الرأسمالي، الذي يسود العالم اليوم، كتب رجاء غارودي، في كتابه "نحو حرب دينية: جدل العصر"، الذي صدر في العام 1996، عن دار عطية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت: لبنان، بترجمة من صياح الجهيم، ما نصه: ((مثل هذا الاقتصاد يستند إلى تصور للإنسان مقصوراً على بعدين وحيدين: الإنسان منتجاً ومستهلكاً. وفي مرحلة الرأسمالية الصاعدة أعطاه ""هوبز" هذا التعريف المقتضب: "الإنسان ذئب الإنسان". والمسألة التي ستكون وحدها هي الحاسمة: مسألة وحدة العالم، وغايات الإنسان الأخيرة، مسألة لا يمكن أن يطرحها رجال الاقتصاد والسياسة، الذين يقبلون بمسلمة هوبز، مصدر جميع أنواع العنف على مستوى الأفراد، وكذلك على مستوى الأمم. هذه المشكلات الاقتصادية والسياسية، تستند، في نهاية الأمر، إلى مشكلة الغائية؛ أي إلى مشكلة دينية. فلِمَ لَم تستجبْ إلى ذلك الديانات المؤسسية؟ لا الكنيسة المسيطِرة لدى المسَيطِرين: الكنيسة الكاثوليكية؛ ولا الدين المسيطِر لدى المُسَيْطََـر عليهم: الإسلام؟ لأن كلا منهما قد تحالف مع السلطة والثروة. ولم يضع مسلماتها موضع الاتهام. ولأن كلا منهما أفرز منذ قرون "لاهوت السيطرة" مقدما الله كقوة خارجية وعليا تخلق الإنسان والعالم والملوك الذين يديرون شؤون الناس، دفعة واحدة وإلى الأبد. كل سلطة قد رتبها الله. "ومن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله"؛ هذا ما كتبه القديس بولس بعد بضع سنوات من موت يسوع المسيح، الذي كانت حياته كلها اتهاما للنظام القائم. كذلك الأمر بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بسنوات قلائل، عندما استخدم الأمويون السلطة والثروة، وأساءوا استخدامها؛ وعندما احتج المسلمون الأتقياء الذي عاشوا حياة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، على العبث بالرسالة، أجابتهم السلطة: إن كان هذا أميركم فلأن الله قد أراده، وعليكم طاعته)).. انتهى نص غارودي..

    قمت بنقل هذا النص الطويل من غارودي، لكي أدعم زعمي، بأنه لا فرق جوهري، بين الدين المؤسسي، الإمبراطوري، السلطوي، في المسيحية، وبين الدين المؤسسي، الإمبراطوري، السلطوي في الإسلام. فكلاهما انحراف عن جوهر الروحانية الإسلامية، والمسيحية. وكلا الدين المؤسسي الكهنوتي المسيحي، والدين المؤسسي الكهنوتي الإسلامي اعتنقا، في نهاية المطاف، مقولة هوبز، (الإنسان ذئب الإنسان)، التي هي، "أصل كل الشرور"، كما وصفها غارودي. وأحب أن أشير هنا، أيضاً، إلى أن نشوء الرأسمالية في أوروبا، وما قادت إليه من تفتت الأسرة الممتدة، بل وتفتت الأسرة النووية نفسها، ومن تآكل التعاطف، والتواد، والتراحم، واستحكام الفردية، والنزعة اللذائذية، الاستمتاعية، المفرطة، لم يكن بسبب عوامل الجغرافيا وحدها. وإنما بسبب عوامل الجغرافيا، والتاريخ مجتمعتين. والسبب الأهم من ذلك، هو قصر عمر الحضارة الروحانية التصوفية في الإقليم الأوروبي، بشكل عام. فقصر عمر الحضارة الروحانية، يعني قصر عمر الوجدان، ومن ثم نقص القدرة على مد اليد إلى حيث تتدلى عناقيد أقباس الروح. وأريد أن أخلص من كل ما تقدم أن كوننا مسلمين، لا يعني أن مشتركنا الأكبر هو بالضرورة مع المتوسطيين، لمجرد أنهم يدينون معنا بدين الإسلام، في تجلياته التمظهرية، القشروية. فالإسلام الذي جمع وظل يجمع بيننا وبين الشعوب المتوسطية، هو الإسلام المؤسسي السلطوي، المفرغ تماماً من سمات الإسلام النبوي. ولذلك فإن الروحانية، التي تجمع بيننا وبين سكان الهضبة، ومن هم على شاكلتهم من أهل إقليمنا، لهي المرجوة، أن تنبعث، ويتم تفعيلها، في أطر ما بعد الحداثة postmodern contexts، لتخلق لنا حاضراً أفضل، وغداً أخضراً، مزوقاً، فاره الازدهار. (يتواصل).
    تم نشره بصحيفة الأحداث 24 مايو 2010
                  

08-07-2017, 12:08 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (7)

    نوستالجيا السيطرة الإمبراطورية
    أوقع فقدان المسلمين للأندلس في نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، العرب، والمسلمين، في نوبةٍ تاريخيةٍ طويلةٍ من "الترمنس" romanticizing والحنين الجارف للماضي nostalgia. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، نظم حامل لواء الشعر الرومانسي العربي، في القرن العشرين، الشاعر المصري، على محمود طه المهندس، عن حملة موسى بن نصير، وطارق بن زياد، على جزيرة آيبريا، نصه المشهور، بديع الصنع، الذي درسناه في المرحلة المتوسطة، ضمن منهج الأدب. وأحب أن أورد هنا بعضا من أبياته، من ذاكرتي، على خلاف الترتيب الوارد في القصيدة. كتب المهندس: ((يا ابن القباب الحمر، وحيك، من رمى، بك فوق هذي اللُّجةِ الزرقاءِ؟ / من علّم البدوي، نشر شراعها، وهداه للإبحارِ والإرساءِ؟ / أين القفار من البحار، وأين من جنِّ الجبال، عرائسُ الدأماء؟ / تغزو بعينيك الفضاء، وخلفه، أفقٌ من الأحلام، والأضواءِ / والغرب من قربٍ حقيقةُ عالمٍ، والشرقُ من بُعدٍ، خيالةُ رائي/ وتلفتوا، فإذا الخضمُ سحابةٌ، حمراءُ، مطبقةٌ على الأرجاء / قد أحرق الرُّبَّانُ كلَّ سفينةٍ من خلفه، إلا شراع رجاءِ / وأتى النّهارُ، وسار فيه طارقٌ، يبني لملكِ الشّرقِ، أيَّ بناءِ)). هذه "الرمنسة" لم تفتأ ممسكة بتلابيب المخيال العربي الإسلامي. إذ لا يزال كثيرٌ من العرب، والمسلمين، يتباكون بحرقة، على أمجاد الحضارة الإسلامية التي غربت في الأندلس منذ ما يزيد على الخمسمائة عام!

    لابد أن نتنبه، كمسلمين، إلى أن ذاك الذي بلغ الأندلس، في شبه جزيرة آيبريا، في نهاية العقد الأول من القرن الثامن الميلادي، لم يكن الحكم الإسلامي الرسالي النقي، الذي ساد فترة حكم النبي صلى الله عليه وسلم، والشيخين، وإنما الذي وصل إلى تلك البلاد، الموغلة في البعد، وفق وسائل الترحال في ذلك الزمان، كان مجرد نظام حكمٍ إمبراطوريٍ، توسعيٍ، استحواذي. وبحكم طبيعته تلك، فهو نظام حكمٍ تجري عليه سنن الناموس الكوني، فيما يتعلق بنظم الحكم المختلفة، صعوداً، أو هبوطاً، منعةً، أو ضعة. بل إن نظام الحكم النقي الذي قام على نور النبوة الأول، نفسه، لم يصمد وسط أعراب الجزيرة العربية، سوى لثلاثين عامٍ، فقط، كما أنبأ بذلك النبي الكريم، حين قال: ((الخلافة ثلاثون عاماً، ثم تكون ملكاً عضوضاً))! الشاهد، إن التباكي على فقدان بلاد الأندلس، والتحسر الموجع على استرجاع الأوربيين لها من أيدي المسلمين، ينطوي على رأي مبطن مفاده، أنه لا ينبغي للأوربيين، أن يدافعوا عن أوطانهم أمام مطامع المسلمين، أو يحاولوا استرجاع عقائدهم التي سبق أن محيت قهراً! أكثر من ذلك، فإن هذا الإطار العقلي النوستالجي، المشدود إلى صورة الماضي، بأكثر من انشداده إلى صورة المستقبل، يمثل في حد ذاته معضلة، يجب حشد كل الطاقات الفكرية، والثقافية، والروحية، لمواجهتها. فأقل ما يمكن أن يقال في مثالب هذه النوستالجيا، أن العرب والمسلمين المعاصرين، قد انحجبوا بها عن رؤية التغيُّرات، الضخمة التي طالت كلَّ شيءٍ في الخمسمائة سنة الأخيرة، من التاريخ البشري. فلو نحن وعينا هذه التغيُّرات، وعرفنا دلالاتها، ومؤشراتها، لعرفنا، بل ولاستيقنا، أنه يلزمنا أن نفكر في إعادة الريادة الحضارية إلى ساحتنا، بشكل مختلف. ولاستيقنا، أيضا، أنه يتعين علينا، وبشكل ملحٍّ جداً، تشييد منصة إطلاقٍ حضاريةٍ جديدة، لا تفيد معها التصورات القديمة، والأدوات القديمة.

    وللسودانيين "أندلسٌ مفقودٌ" أيضاً!!
    تطرح هذه النوستالجيا المزمنة، إشكالية "المظهر" و"المخبر"، بإلحاح شديد. فالتعلق في هذه النوستالجيا تعلقٌ بالمظهر، وبحواشي العاطفة الدينية، لا أكثر. ويبدو أن الباكين على فقدان الأندلس، ليسو منشغلين بحقيقة إسلامية حكم العرب للأندلس، بقدر ما هم منشغلين بأن العرب قد ضموا لإمبراطوريتهم الشاسعة، أراضٍ أجنبيةٍ، جديدة، وأنهم ما كان يجب أن يفقدوا تلك الأراضي. أيضاً في غمرة الحسرة على ما نظنه أملاكاً سُلبت منا، ننسى أن حضارتنا العربية الإسلامية كانت تفقد في تلك اللحظة التاريخية الفارقة، طاقة دفعها، وكانت تلفظ أنفاسها الأخيرة. كما أن دويلات الطوائف العربية في الأندلس التي تشرذمت، لم تكن لتصمد أصلاًً، حتى وإن لم يرفع عليها الإفرنج سيفاً واحداً. أيضاً لابد لنا من أن نتدبر حقيقة أن مسار البنية الكلية للحضارة العالمية، اقتضى في ذلك المفترق التاريخي، أن ينتقل قطب الحضارة إلى القارة الأوروبية. فاستمرارية المسار الصاعد للبنية الكلية للحضارة الإنسانية، ليست وقفاً علينا نحن العرب والمسلمين، وحدنا. فنحن، شأننا شأن غيرنا، تدور علينا دوائر الاضمحلال الحضاري، كما دارت، وتدور، على كل قبيلٍ من الناس بنوا حضارةً. فالله يقف، في حقيقة الأمر، مع من يحتل مقام رأس سهم التطور، بغض النظر عن عقيدته! وهذا معنى قوله تعالى: ((وإن تتولوا، يستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم))!! بل، ما أكثر ما أخرجت العقيدة العمياء أهلها من دائرة صنع التاريخ، وقذفت بهم إلى هوامش الفعل الحضاري المؤثر. فخروج العرب الذين انطفأت وقدتهم كان خيراً على أسبانيا، كما كان خيراً على العالم برمته. والتداعيات التاريخية الكوكبية التي أعقبت سقوط الأندلس تدل على ذلك. فخروج المسلمين الذين انطفأت وقدتهم الحضارية، من الأندلس، أتاح لها فرصة أن تصبح جزءاً من حراك النهضة، التي كانت تحتشد في أوروبا، لتغير وجه العالم، وبشكلٍ ليس له شبيه في التاريخ البشري. الطريف، أن أسبانيا، التي تُعد أفقر دول أوروبا الغربية، يعادل ناتجها القومي، اليوم، ناتج كل الدول العربية، مجتمعةً، من الخليج إلى المحيط، بما في ذلك الدول البترولية!!

    ما أريد أن أخلص إليه هنا، هو أن تلك النوستالجيا التاريخية، تعدت أهلها الحقيقيين، لتشملنا نحن السودانيين، القابعين في هامش الحالة العربية الإسلامية. ففي روايته البديعة، ذائعة الصيت، "موسم الهجرة إلى الشمال"، ورد على لسان مصطفى سعيد، حين كان يحاول الإيقاع بإيزابيلا سيمور في حبائله الشريرة، ما يلي: ((وعادت النظرة الحانية إلى عينيها، ومدت يدها فأمسكت يدي وقالت: "هل تدري أن أُمِّي من أسبانيا؟")). فرد عليها مصطفى سعيد، الذي يحب أن يرى التاريخ قوَّاداً له، بقوله: ((هذا إذن يفسر كل شيء، يفسر لقاءنا صدفة، وتفاهمنا تلقائياً، كأننا تعارفنا منذ قرون. لابد أن جدي كان جندياً في جيش طارق بن زياد، ولابد أنه قابل جدتك وهي تجني العنب في بستان في أشبيلية. ولابد أنه أحبها من أول نظرة، وهي أيضاً أحبته. وعاش معها فترةً ثم تركها وذهب إلى إفريقيا، وهناك تزوج، وخرجت أنا من سلالته في إفريقيا، وأنت جئت من سلالته في أسبانيا))! وعلى الرغم من أن ما قاله مصطفى سعيد هنا، ليس سوى حديث شخصية روائية خيالية، إلا أنه يدل على سيطرة الحنين الجارف إلى ذلك "الأندلس المفقود"، على المخيال العربي الإسلامي المعاصر.

    أيضاً، كتب شاعرنا، ورئيس وزرائنا الأسبق، محمد أحمد محجوب، في قصيدته "الفردوس المفقود"، بعد أن زار إقليم "أندوليشيا"، أو "الأندلس"، في أسبانيا المعاصرة، ما نصه: ((نزلتُ شَطَّكِِ، بعدَ البينِِ ولهانا ‎/ فذقتُ فيكِ من التبريحِ‎ ‎ألوانا ‎/ وسِرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ‎ / داراً، وشوْقا،ً وأحباباً، وإخوانا‎ / فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ‎ / ولا الزمانُ كما كنّا وما كانا‎ / كنّا سُراةً تُخيف الكونَ وحدتُنا‎ / واليومَ‎ ‎صرْنا لأهلِ الشركِ عُبدانا ‎/ نغدو على الذلِّ، أحزاباً مُفرَّقةً‎ / ونحن كنّا‎ ‎لحزب اللهِ فرسانا /‎ رماحُنا في جبين الشمسِ مُشرَعةٌ‎ / والأرضُ كانت لخيلِ‎ ‎العُرب ميدانا ‎/ أبا الوليدِ أعِنِّي ضاعَ‎ ‎تالدُنا‎ / وقد تَناوحَ أحجاراً وجُدرانا ‎/ أبا الوليدِ، عَقَدْنا العزمَ أنّ لنا / في‎ ‎غَمرةِ الثأرِ ميعاداً وبرهانا‎)). فهذا الشاعر الدبلوماسي، السياسي الكبير، والمثقف الكبير، أيضاً، لم يستطع أن يفلت، رغم كل نباهته، من قبضة هذه النوستالجيا، التاريخية، الجمعية! بل، هو لم يستطع أن ينسى ذلك "الثأر الأندلسي" القديم، أبداً!! ولذلك نجده، وهو يعيش غمرة ذلك الشعور بالحسرة على تلك "المستعمرة" التي فُقدت، ينشد مردداًً: ((أبا الوليدِ، عَقَدْنا العزمَ أنَّ لنا / في‎ ‎غَمرةِ الثأرِ ميعاداً وبرهانا‎))!! يحتل العرب بلاد الآخرين عنوةً، وحين يقوى الآخرون، ويعود إليهم اعتدادهم بذواتهم، ويتمكنون من طرد من احتلوا بلادهم وحكموهم، يظن العرب أن لهم ثأراً هناك، لابد لهم من أخذه، مهما تقادم أمره!! وهكذا، تبقى تلك الرغبة في الأخذ بالثأر، متقدةً تحت ذلك الشعور بالأحقية، لخمسمائة عام!! وعند من؟ عندنا نحن السودانيين، الذين لم تقم في بلادنا مملكة إسلامية، إلا بعد سقوط الأندلس!! ولذلك، فإننا بسبب الاستلاب الثقافي الفادح، الذي ألم بنا، وبسبب التماهي مع الأطر العقلية الفقهية الأجنبية الوافدة، وإهمالنا قراءة تاريخنا ببصيرة، وإهمالنا قراءة اللحظة التاريخية المعاصرة بإدراكٍ موسع، دخلنا نحن السودانيين، ضمن أهل هذا الثأر الأندلسي، وبـ "أثر رجعي"، كما يقولون!! وطرفٌ من الغرب يشبهنا في هذا التوجه العقدي الثأري. فاليمين اليهومسيحي لم ينس تحرير صلاح الدين الأيوبي للقدس من أيدي الصليبيين، إلى اليوم. ولذلك لم يجد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، بأساً في أن يشير إلى الحرب الصليبية، وهو يحشد شعبه للحرب على الإرهاب.

    أثيوبيا والنظرة "الإسلاموية:
    التصور القاصر الذي حبسنا أنفسنا فيه، تمثله هذه العاطفة الدينية الفجة، التي نريد أن نرى بها الإسلام إمبراطورية، ممتدة من مشارق الأرض إلى مغاربها، من غير أن نكلف أنفسنا عناء التعريف لذلك الشيء الضخم الذي نسميه الإسلام، الذي نريد له أن يُطبق على مشارق الأرض ومغاربها! تحت هذه المظلة الفضفاضة غير واضحة المعالم، فيما يتعلق بالنظام السياسي، والنظام الاقتصادي، والنظام القانوني، والنظام الإداري، نريد أن نستعيد الأندلس!! وانطلاقا من هذه النظرة العمومية، ظل كثيرون منا، نحن السودانيين، يرى جارتنا أثيوبيا في ضوء ذات المفاهيم التي لا تتعدى تبسيطية: "إسلامي" مقابل "مسيحي". فكثيرون منا يقولون إن المسلمين مظلومون في أثيوبيا، ناسين تماماً، أن السواد الأعظم من المسلمين في السودان نفسه، مظلومون، من قبل حكامه المتعاقبين. لقد خرجت قضية الظلم، لمن يرون الأمور رؤية ثاقبة، من تبسيطية الاضطهاد الديني، إلى تركيبية صراع السلطة والثروة، في هذه الحالة العولمية التي تريد فيه قلة قليلة، فاحشة الثروة، السيطرة على الكرة الأرضية بأسرها. نحن بحاجة إلى إنشاء مراكز للبحوث تملك القدرة على النظر في علاقاتنا الإقليمية، وفق رؤية مستقبلية، منعتقة، من أسر بنيات الوعي العقدية الصراعية القديمة. نحن نمر الآن بمرحلة فارقة في تاريخ بلادنا. وتحتاج هذه اللحظة الفارقة رؤىً طازجةً، جديدةً، متجاوزة لعقابيل العصبية الدينية، ولعقابيل فكر الحداثة الغربي، الذي لا يقل في دوغمائيته عن العقائد الدينية البسيطة.

    الارتهان للتصورات القاصرة:
    لن تشرق علينا شمس الحالة الإنسانية الجديدة، ما لم نُعمل معاولنا في هذه البنية التنافسية، الوحشية، التي تتجسد أكثر ما تتجسد اليوم في عولمة الرأسمالية، بمحاولة تعميمها على كل أرجاء الكوكب. هذا الصراع الاستحواذي قائم اليوم على أشده. غير أننا نعبر مرحلته الأخيرة. وكون الصراع الاستحواذي لا يزال قائما، يجب ألا يعمينا عن حقيقة خصوصية حالتنا فيه. يجب ألا تندغم رؤيتنا في المظلة الهلامية المتمثلة في: "الصهيونية ضد العرب"، أو "الغرب ضد الإسلام"، فنصبح جزءاً من ذلك الحراك غير المنتج الذي ظل يتحرك في أفق هذه التقسيمات لأكثر من ستين عاماً، بلا عائد يذكر. فالصراع يعني كل نطاق إقليمي، بطريقةٍ تخص ذلك الإقليم، وفق معطياته التاريخية، والوعيوية، والثقافية. فنحن كسودانيين، لبسنا في أتون هذا الصراع المتشابك، طاقية غيرنا، وتركنا الطاقية التي تخصنا جانباً. فمن واجب كل أمةٍ من الأمم، أو قل كل قطرٍ من الأقطار، أن يعرف موقعه من حلبة الصراع الدولي الجاري اليوم. وأن يعرف أدواته التي ينبغي عليه استخدامها، ويعرف وجهته، ويعرف الإستراتيجية التي ينبغي عليه إتباعها. كما عليه أيضاً، أن يقوم بعملية فرز متقنة، لما يخصه حقيقة، وما لا يخصه، حتى لا تختلط الأوراق، وتضيع البوصلة، كما هو حالنا الراهن الآن.
    إن سياساتنا الخارجية قد تأسست، منذ بدايات الحكم الوطني، على عاطفة "شرق أوسطية" فجة، وعلى تماهٍ غر، مع كل ما هو "عربي" و"إسلامي". هذه المظلة الكبيرة الفضفاضة جداً، لما يُسمى في الأدبيات السياسية المعاصرة بـ "عربي"، و"إسلامي" مظلة مضللةٌ جداً. وما ينبغي أن ينبني عليها مسار سياستنا الخارجية، أو نهجنا الفكري، أو تصورنا لنظامنا التعليمي، أو لتخطيطنا الثقافي. فالدول العربية المحيطة بنا شمالاً، وشرقاً، لا تتعامل معنا بنهج "حسن النوايا" الساذج، الذي ظللنا نتعامل به معها. ففي حين نبقى نحن مخدرين بشعارات "المصير المشترك"، و"الأشقاء في الدين والعروبة" يظل هؤلاء الذين نناديهم بهذه الأسماء العاطفية، يعملون بعقلية "براغماتية" مصلحية، تخدم مصالح القطر المعين، ولا تخدم المظلة الكلية، لما نسميه "وحدة الهدف والمصير". فكثير من الدول التي تركنا محيطنا الإقليمي الحقيقي لنتماهى معها، تتجسس علينا، كما تتجسس على بعضها بعضا. بل ولا تنفك تتدخل في شؤوننا، وتشتري قادتنا السياسيين، وتسعى بجدٍ لا يعرف الكلل، لكي تديرنا، من على البعد، بما يحفظ ما تراه مصالح لها، حتى لو كان ثمن خدمتها لأهدافها، تعويق نمونا نحن. ولو اقتضت مصالحها ابتلاعنا بالكلية، فإنني واثقٌ من أنها سوف تفعل، ولن يرمش لها جفن. (يتواصل).
                  

08-07-2017, 12:08 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (8)

    الجروح التي تحدثها الحروب بين الأمم جروح لا تندمل بسهولة. فهي تبقى عالقةً في النفوس لزمان طويل، وكثيراً ما تصبح آثارها جزءا من المزاج الشعبي العام، خاصة عندما يكون الدين عنصراً رئيساً في الحرب المعنية. كتب سيساي أسيفا في مقالته: "القرن الإفريقي: الخلفية التاريخية، والمنظور، والمبادرات الإقليمية"، التي تم نشرها في صحيفة "أديس تربيون"، التي تصدر في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، في عددها الصادر في 30 مايو 2003، عن لجوء المسلمين إلى الحبشة في بداية الدعوة الإسلامية في القرن السابع الميلادي. وأشار أسيفا إلى أن استضافة الحبشة للاجئين المسلمين جعلت النبي محمداً يوصي باستثناء الحبشة من حروب الجهاد الإسلامية. ويضيف أسيفا قائلاً، إلا أن هناك استثناءات خرقت تلك القاعدة، كغزو أحمد بن إبراهيم الغازي (المعروف بالأعسر، أو الأشول)، الذي تم دحره في العام 1543م. أما التهديد الإسلامي الثاني الذي تعرضت له أثيوبيا، على حد قول أسيفا، فقد كان هجوم المهدويين في العام 1888م، على عاصمة أثيوبيا السابقة قُنْدَرْ، الذي تم دحره في معركة المتمة، على الحدود الإثيوبية السودانية. الشاهد أن ذاكرتنا العربية الإسلامية، وذاكرتنا السودانية، إضافة إلى الذاكرة الإثيوبية، تلونت جميعها بلون الحروب ذات الصبغة الدينية التي جرت، وبلون المطامع التي أعربت عن نفسها عملياً، في أكثر من منعطف تاريخي. وفيما يخص صلتنا بالجارة إثيوبيا، فإن هناك شوائب من الاستصغار العرقي والديني، لوَّنت جملة الأمر بلونٍ قاتم. ولن يمحو ذلك اللون القاتم وآثاره السالبة من ذاكرتنا وذاكرة الإثيوبيين، سوى وعيٍ جديد، تعتنقه نخبٌ، نابهةٌ، جديدةٌ، تعرف كيف تمحو عن عقلها، ووجدانها، أصباغ الحروب والمطاحنات السابقات، بالانعتاق من أسر الشوفينيات التاريخانية، لتنظر، من ثم، إلى معطيات الحاضر، ووعود المستقبل، بعقل صافٍ، وقلبٍ سليم.

    لقد أشرت في أكثر من مرة إلى التحورات السالبة التي طالت بنية وعينا بسبب المؤثرات الخارجية كالغزو المصري التركي، وتمكينه للمؤسسة الدينية الرسمية، وإضعافه للتدين الصوفي السوداني. يقول الدكتور منصور خالد في كتابه (جنوب السودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي،) الصادرة طبعته الثانية في العام 2009، عن دار العلوم في القاهرة، ودار مدارك في الخرطوم: ((سنار كانت مرفأً للسماح والتآلف بين الأديان، ولم يمنع الإسلام سلاطينها من أن يحسنوا وفادة البعوث البابوية التي كانت تحل في مملكتهم في طريقها إلى الحبشة، بل ذهب واحد منهم (بادى الأحمر) إلى احتضان إحدى هذه البعوث وإبقاء قائدها الأب باسكوالي ليمارس الطب في ديوانه، وهو على نصرانيته. وعلى حذوه سار سلاطين سنار الذين استخدموا الكتبة الأقباط في دواوينهم دون أن يقسروا قبطياً واحداً على التخلي عن دينه)). في نفس حقبة سلطنة الفونج (1504م ـ 1821م) التي كانت فيها سنار معبرا آمناً للبعثات البابوية إلى الحبشة المسيحية، كما تفضل بالإشارة إلى ذلك الدكتور منصور خالد، نجد أن أحمد بن إبراهيم الغازي، (الأعسر، أو الأشول ـ 1506 ـ 1543) قد ظل مشتبكاً مع أهل الحبشة في حرب دينية، استمرت لعشر سنوات، استطاع خلالها أن يبسط سلطانه على كل الهضبة، حتى حدود السودان جهة كسلا. ويسمى كثير من المؤرخين المسلمين حملات أحمد بن إبراهيم الغازي لبلاد الحبشة بـ (الغزو العظيم)! ويروي فتحي غيث في كتابه "الإسلام والحبشة عبر التاريخ" (بدون تاريخ ـ غير أني استخلصت مما ورد في مقدمة الكتاب أنه قد كتب في منتصف أربعينات القرن الماضي)، متحدثا عن جانب من غزوات الأعسر داخل الهضبة الحبشية، قائلاً: ((وتقدمت جيوش الإمام واستولت على أكسوم وحرقتها بعد أن غنمت ما كانت تحويه كنائسها من كنوز)). وسأتعرض لحروب "الأشول" بشيءٍ من الاستفاضة، حين تتحول هذه المقالات إلى كتاب، كما وعدت. فلقد أردت أن أخلص مما ذكرته أعلاه، أننا بحاجة إلى أن نتخلص من نعرة الحق في السيطرة على بلاد الآخرين، باسم الإسلام، وأن نكيف تصورنا لعلاقتنا بإثيوبيا بناءً على تاريخينا نحن، وعلى تكويننا الروحي والوجداني، الخاص بنا، بعيداً عن المؤثرات التي لا تندرج ضمن تاريخنا، إلا في خانة الاستلاب الفكري، والثقافي، والوجداني.

    الجرح المهدوي:
    ما قام به أحمد بن إبراهيم الغازي، المعروف بـ (الأعسر، أو الأشول)، نحو إثيوبيا، هو عين ما حاولت القيام به الدولة المهدية في السودان، في نهايات ثمانينات القرن التاسع عشر، وبداية تسعيناته. ومن حسن الطالع أن الكتابات السودانية المتأخرة، بدأت تنظر إلى تاريخنا المهدوي نظرةً نقدية، بعد أن ظل مجرد منولوجٍ تمجيديٍ ممل. وأحسب أن تلك النزعة التمجيدية انبنت على ظنٍّ خاطئ، مفاده، أن الوطنية تقتضي أن نعلي من شأن تاريخنا، ونتغافل عن الجوانب غير المشرقة فيه. ولا أخالني بحاجة إلى تدبيج الحجج والمرافعات لتبيين أن هذا الظن، ظنٌ باطل. بل إن الصواب لعلى العكس من ذلك تماماً! ولابد من الإشارة هنا إلى المؤرخ النابه، الدكتور محمد سعيد القدال، الذي اتسمت كتاباته في أمر المهدية، بالنقد والتحليل، والنظرة إلى الحوادث التاريخية في الإطار الكلي المحيط، أو ما يُسمى بالإنجليزية بالـ context. ولقد أشرت إلى الـ context هنا، لأن قادة الدولة المهدية كانوا أصحاب عقيدة باطنية، مرتكزةً على أن المهدية "منصورة" لا محالة، ولذلك لم يكونوا يهتمون بمعرفة الإطار التاريخي الكلي الذي كان يحيط بهم. فقد كانوا يعولون كثيرا على الرؤى المنامية في قراراتهم. حتى أن حملة استرداد السودان عرفت هذا الجانب الغيبي المسيطر على عقول قادة الدولة المهدية، بناءً على ما أوصله إليهم سلاطين باشا، عقب هربه من قبضة الخليفة عبد الله التعايشي. فاستخدم قلم مخابرات حملة استرداد السودان ذلك السلاح النفسي ضد الدولة المهدية. فقد سرب قلم مخابرات الحملة إلى الخليفة عبد الله التعايشي، بعض الرؤى المنامية "المفبركة" عن طريق الجواسيس. وقد أسهمت تلك الرؤى، كما يقول بعض المؤرخين، ومنهم عصمت حسن زلفو، في تحديد زمان، ومكان معركة كرري. فلقد كان الإنجليز يخشون أن تداهم جيوش المهدويين بواخرهم عند شلال السبلوقة. وكان ذلك هو ما أشار به على الخليفة، القائد العسكري، المهدوي، العبقري، عثمان دقنة. فقد كان يرى أن يتم الهجوم على البواخر حين عبورها شلال السبلوقة، حيث الجنادل والمياه الضحلة. فهناك يمكن أن تندفع الأعداد الهائلة من الأنصار لتلتحم بجنود الحملة داخل سفنهم، مما يحرمهم من مزايا عسكرية كثيرة. ولكن الخليفة آثر الانتظار في أمدرمان ومواجهتهم في سفح جبل كرري المكشوف، بناءً على ما سمعه في مجالسه من رؤى منامية، سربتها إليه مخابرات الحملة. ومفاد تلك الرؤى: أن جيش الكفار سوف يُهزم شمالي أمدرمان. ويؤيد ما اشرت إليه عاليه، ما أورده الدكتور محمد إبراهيم أبو شوك، الذي يرى أيضا، أن الخليفة عبد الله التعايشي رفض اقتراح قادته، ومنهم ابنه عثمان شيخ الدين، برفع العلم الفرنسي على حدود الدولة المهدية، ليصبح السودان بموجب ذلك محميةً فرنسية، الأمر الذي ربما يدرأ زحف البريطانيين عليه. غير أن الخليفة رفض المقترح بناءً على أن المهدية منتصرة في خاتمة المطاف، وأن البشائر الرائجة بين الناس تؤيد ذلك. يقول الدكتور أبو شوك، في كتابه، (السودان، السلطة والتراث)، الصادر في العام 2008، من مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي،: ((فلا جدال أن هذا البعد الغيبي في الصراع السياسي يعكس طرفاً من الهوس الديني الذي كانت تعاني منه الدولة المهدية في صراعها مع خصومها المحليين، وفي صياغتها لسياستها الخارجية، والإستراتيجية مع دول الجوار المسلمة من طرف، والدول الاستعمارية ... من طرف ثانٍ)).

    في مقابل ذلك التعويل المهدوي الكثيف على الغيب، نجد أن قادة الأحباش كانوا على قدر كبير من معرفة أمور السياسة، وكانوا أيضاً، على قدرٍ كبيرٍ من البراغماتية. ولذلك، فإنهم حين عرفوا بأطماع الأوربيين في الإقليم كله، حاولوا أنت يثنوا المهدويين عن الاحتراب المستمر معهم، ومن ثم التفرغ لمواجهة الأجانب الدخلاء على المنطقة، كلٌ على حده. ويروى الدكتور محمد سعيد القدال، في كتابه (المهدية والحبشة)، الصادر في العام 1992، عن دار الجيل ببيروت، ما دار بين الملك الحبشي يوحنا، وبين القائد المهدوي في منطقة القلابات، آنذاك، حمدان أبوعنجة، في العام 1888م، وكيف أن الملك الأثيوبي يوحنا حاول جاهدا أن يقنع المهدويين بوقف الحرب، والتفرغ لمواجهة الغازين من أتراك وأوربيين. وقد ذكر يوحنا أن الحرب بين أهل الحبشة وأهل السودان حرب بلا جدوى، وليس لها مردود سوى هلاك المساكين. بل إن تلك الحرب توقف تبادل المنافع بين الشعبين. وقد اقتطف القدال جزءا من رسالة يوحنا هذه في كتابه المذكور أعلاه. وقد أورد نفس تلك الجزئية، التي سوف أثبتها هنا بعد قليل، الأستاذ كمال الجزولي، ولكن بتوسع أكبر. وتدعو رسالة يوحنا، في جملتها، إلى السلم بين الجارين. كما أنها تعدد مزايا هذا السلم بين الدولتين الجارتين. جاء في تلك الرسالة: ((.. يتردَّد التجار من أهل بلادنا على المتاجر في بلادكم، وكذلك تجار بلادكم تتردَّد على غوندر لأجل المعايش والمكاسب لأهلكم، ولأهلنا. فإذا صار كذلك فهو غاية المنفعة لنا ولكم، لأنكم أنتم ونحن في الأصول السابقة أولاد جدٍّ واحد، فإذا قاتلنا بعضنا فماذا نستفيد؟)). وقد علق الأستاذ كمال الجزولي على تلك الرسالة في كتابه (انتلجنسيا نبات الظل: باب في نقد العقل الجمعي)، الصادر في العام 2008، عن دار مدارك للنشر، في الخرطوم، بقوله: ((لو أن الأمر بيدي لأضفتها إلى ديباجة ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي في ما بعد)، ولنقشتها على الجدران الرخامية للقاعة الكبرى في مقر المنظمة بأديس أبابا، ولجعلتها درسا مقرراً في التربية الوطنية لأبناء الهوتو والتوتسي، والأمهرا والتقراي، والعرب والأمازيق، والمسيرية والدينكا، ولكل سلالات العقل الرعوي الذي لم يُرتق بعد، منذ سام، وحام، ويافث)).

    حين نجيء لنرى كيف كان رد حمدان على مقترحات الملك يوحنا، التي اتسمت بكثير من الود، ومن المعقولية، والعملية، يتضح لنا الفارق الهائل بين العقليتين؛ الحبشية والمهدوية. فقد جاء في رد حمدان أبوعنجة، على رسالة الملك يوحنا تلك، كما جاء في كتاب القدال (المهدية والحبشة)، المشار إليه عاليه: (( وأما طلبك للصلح منا، وأنت باقٍ على كفرك، فبعيد بعد المشرقين، ودليلٌ على ضعف عقلك، وفراغ ذهنك، فيا لك من سفيه، ويا لك من جاهل. أتريد منا صلحاً ومؤاخاةً ولم تدخل في الدين الحق، وكتاب الله ناهٍ عن ذلك؟ فإن رمت الصلح فقل مخلصاً من قلبك: "أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله ... وإلا فإنا نقاتلكم، ونخرِّب دياركم، ونُيَتِّم ... أطفالكم، ونغنم أموالكم))!!

    لقد ظللنا، نحن الذين ورثنا التركة المهدية بخيرها، وبشرها، ننظر إلى المهدية كفترة حكم وطنية سودانية قامت بطرد الدخيل من البلاد، وأعطت السودان هذه المساحة البالغة السعة، كما وضعت بسنوات جهادها التي قاربت العشرين، الملامح الأولى لقومية القطر المسمى السودان. وكل ذلك صحيح لا مراء فيه. غير أننا لم ننظر بتوسعٍ بعد، إلى جانب التطرف فيها. ولم نعرض بعد بالرصد الدقيق والتحليل للفظائع التي ارتكبتها في حق مواطنيها. ولم نحلل التقلبات التي ألمت بها فحولت قوتها العسكرية الجهادية من نصيرة للمظلومين، إلى مجرد عصابات للنهب والسلب والتنكيل بالضعاف، في نهايات أمرها. كما لم نعرض أيضاً، وبالاستفاضة العلمية المدققة، إلى انصرافها عن رؤية الواقع على هدى العقل، وإغراقها في التعويل على الغيبيات. ولعل تقصيرنا في هذا المنحى، هو الذي قاد إلى أن تتكرر التجربة المهدوية في تاريخنا السياسي المعاصر، مرة أخرى. وإن المرء ليحمد للراحل الدكتور محمد سعيد القدال، وللدكتور منصور خالد، وللأستاذ كمال الجزولي، وللدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك، وغيرهم ممن تناولوا المزاج السودانوي والحقبة المهدوية، ما تفضلوا علينا به من بدايات طيبة في مضمار تصنيع جرعات علاجية، نرجو لها أن تسهم في مشوار شفائنا من مرض النظرة الشوفينية "الباتريوتية" patriotic الغرة إلى التاريخ.

    ما أشبه الليلة بالبارحة!
    في مقاله المشار إليه عاليه، لم ينس سيساي أسيفا أن يعرج على عراب التجربة الإسلاموية في السودان، الدكتور حسن الترابي، وأحلامه التمكينية الباكرة، وأحلام قبيله من المستلبين دينياً بالمزاج الأجنبي، باجتياح القرن الإفريقي "إسلاميا". يقول أسيفا، مرتكزا على ما أوردته "آفريكا كونفيدنشيال"،Africa Confidential ، منسوباً إلى (تيكلى 1996Tekle, )، أن تقارير ترددت أن الدكتور حسن الترابي تنبأ وتمنى أن تدمر أثيوبيا المجاورة للسودان، نفسها بنفسها، في المستقبل المنظور، الأمر الذي سيمهد الطريق لتأسيس كيانات سياسية إسلامية تمتد من السودان إلى المحيط الهندي. ولقد دلت الأحداث التي انتظمت القرن الإفريقي عبر عقد التسعينات، كيف أن أهل الهضبة في كلٍّ من إثيوبيا وإرتريا أعدوا عدتهم لمواجهة غوائل النظام السوداني الجديد، الذي لم يُخْفِ تأدلجه، ونواياه التوسعية الإسلاموية. ولا غرابة إذن أن آوت إثيوبيا الحركة الشعبية لتحرير السودان، وآوت إرتريا تحالف العميد عبد العزيز خالد، كما دعمت جبهة الشرق. ولولا هذه الضغوط الكثيفة المؤثرة، التي أضطرت الجارتان اضطراراً إلى ممارستها لما عرف إسلامويونا حجمهم الحقيقي، ولكنا عدنا، كرة أخرى، إلى مربع حمدان أبو عنجة، الذي خلفناه وراءنا منذ ما يزيد عن المائة وعشرين عاماً. وما من شكٍ أن السنوات الأخيرة قد شهدت الكثير من التطور لدى قادتنا في يتعلق بالتعامل العقلاني مع جارتينا الشرقيتين، إثيوبيا وإرتريا. غير أن هذا التطور لم يصل بعد إلى درجة الثبات، لأنه إنما جاء كمجرد رد فعل لنتائج المدافعات، والمصاولات، والمداورات، وعلى ما يتبعها من حسابات الكسب والخسارة الآنية. فهو لم يتجذر بعد في أرضية الرؤية الإستراتيجية الشاملة، والمعرفة العميقة بالإطار العام للحظة الكوكبية الراهنة، وما ينبغي أن يكون عليه أمر خياراتنا، وفق ما أشرت إليه سابقا بالـ context. (يتواصل).
                  

08-07-2017, 12:12 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (9)

    حين استقر المسلمون الأوائل، الذين لجأوا إلى أرض الحبشة، هرباً من عسف قريش، لحق بهم وفدٌ مبعوثٌ من سادة قريش، طالباً من النجاشي إعادتهم إلى قبضة قريش لمعاقبتهم، لكونهم قد خرجوا على دين الآباء والأجداد، ولكونهم قد سفَّهوا الآلهة، حسب ما زعمته قريش. غير أن النجاشي رفض طلب الوفد، رغم أن الوفد جاء ممثلاً للسلطة المسيطرة في مكة. ولابد أن الوفد، ومن ورائه سادة قريش، قد فوجئوا برفض النجاشي لطلبهم. فقد وقف النجاشي مع القلة الضعيفة، ولم يقف مع الأقوياء من وجوه قريش الذين يمثلون السلطة القائمة، القابضة على أعنة الأمور. رفض النجاشي طلب الوفد، ولم يبالِ بالعواقب، أياً كانت! ولا غرابة!! فحين أرسل النبي صلى الله عليه وسلك، أصحابه إلى الحبشة، كان مطمئناً من أن النجاشي سوف يحميهم. فالنجاشي لم يكن ملكاً عادياً، وإنما كان ملكاً يسنده ميراثٌ روحيٌ تليد. فهو من سلالة داوود، وابنه سليمان، أنبياء الله الملوك. فالملك الذي يقف مع الضعفاء ليس ملكا عادياً، وإنما هو ملك يملك حاسة عدلٍ عالية. وحاسة العدل العالية هي أكثر ما يدل على الميراث الروحي المعتق.
    بذلك الموقف غير المألوف في تلك الأزمنة، حفظت الحبشة دماء المسلمين الأوائل، وحفظت بذلك نواة الدين الجديد، من الإجهاض الذي كان يتهددها آنذاك. وفي تقديري، أن النبي الكريم رأى أن ينشر بذور دعوته إلى ما وراء البحر الأحمر غرباً، تحسباً لأسوأ الاحتمالات المتمثلة في القضاء كلياً على دعوته. فما لقيه أصحابه من عنتٍ، وعسفٍ، وتنكيلٍ، على أيدي القرشيين، ربما جعله يخشى هلاك تلك القلة، ومن ثم غروب شمس الدعوة الجديدة، الوليدة، في مهدها. ولربما استغرب البعضُ القولَ بأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان على خشيةٍ من أن يقضي القرشيون على دعوته. ولكن، ما على هؤلاء سوى أن يراجعوا كتب السيرة النبوية، ليروا كيف كان صلى الله عليه وسلم، يدعو ربه في بإلحاح بالغٍ في معركة بدر. فقد جاء في ما رواه عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يرفع يديه إلى السماء، حتى يسقط رداءه وهو يردد مستغرقاً في الدعاء والضراعة: ((اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تُهلك هذه ‏ ‏العصابة ‏من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبد!!)). ولقد أشفق عليه أبو بكر حين رآه على تلك الحالة، من الضراعة الملحاحة، فطفق يقول له: ((يا نبي الله كفاك ‏ ‏مناشدتك ‏ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك!!)). ولقد سمعت الأستاذ محمود محمد طه مرةً، يتحدث عن هذا الموقف، حديثاً غاية في الإمتاع، وغاية في نفاذ المعرفة. قال الأستاذ محمود، إن مشهد أبو بكر، هو مشهد المؤمن الذي لا يخالجه شكٌ في وعد السماء، وهذا ما دفعه إلى مخاطبة النبي طالباً منه الكف عن الإلحاح في السؤال: ((يا نبي الله! كفاك ‏مناشدتك ‏ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك))!! قال الأستاذ محمود، إن أبا بكر قال هذا، وكأنه يُذَكِّر النبي بأمر نسيه، أو أنه يطمئنه على أمرٍ شكَّ في تحققه. هذا مع العلم، أن النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أكثر معرفةً من أبي بكر رضي الله عنه بوعد السماء، وأكثر يقيناً منه بأن السماء تنجز ما تعد. غير أن سعة معرفة النبي جعلته يحس شيئاً من الخوف، ومن الخشية. فهو، قد كان من سعة المعرفة بحيث لم يجد نفسه بمأمنٍ من المكر الإلهي كليةً. ولا غرابة!! فالقرآن يقولSad(يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب))، (الرعد ـ 39). وعلى كل حالٍ فقد جاء القرآن في نهاية الأمر، ليؤكد استجابة السماء لضراعة النبي الكريم تلك، إذ قال جل من قائل: ((إذ تستغيثون ربكم، فاستجاب لكم، أني ممدكم بألفٍ من الملائكة ‏ ‏مردفين))، (الأنفال ـ 9).

    باختصار شديد، كان مشهد النبي الكريم، يوم بدر، مشهد العارف، المحقق، ذي الذهن المفتوح على مختلف الاحتمالات، وأن مشيئة الله ليست مقيدةًً بأحد من العالمين، مهما بلغ شأنه. ولذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم، متحسباً للأخطار، التي كانت تتهدد دعوته، كما كان يستبق تلك الأخطار بالتخطيط المحكم. وهذا ما حدا به إلى إرسال طلائع من آمنوا بدعوته، إلى بلاد الحبشة، غربي البحر الأحمر. وما من شك أن اختيار النبي لتلك البلاد، لم يكن اختياراً عشوائياً. فقد قال النبي لأصحابه حين حثهم على الهجرة إليها: ((لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد ... وهي أرض صدق))!! ولذلك، فإنه ينبغي علينا، كمسلمين، أن نتدبر هذا القول النبوي بعناية شديدة، فهو قولٌ مليءٌ بالأسرار العظيمة.

    إشارات النبي للأراضي الواقعة خلف البحر الأحمر، وارتباط هذه الأراضي بالقيم الروحانية، ومن ثم بجانبٍ مهم من مستقبل الدين الإسلامي، كثيرةٌ، ومتواترة. وهي لم تجد، إلى اليوم، حظها من التأمل. ومن أسباب إهمال تلك الإشارات النبوية من جانب البيضان من المسلمين، ارتباط هذه الأراضي بسواد البشرة، ووجود كثيرٍ من الأرقاء الذين استجلبوا إلى الجزيرة العربية، من تلك الجهة. فالتراتبيات العرقية التي كانت سائدة وقتها كانت تضع "السودان" أي القوم ذوي البشرة السوداء، في منزلة أقل من "البيضان". وهذا ما جعل البيضان، لا يحتفلون كثيراً بتلك الإشارات النبوية الثرة ،التي أعلت من شأن هؤلاء "السودان" المجاورين لجزيرة العرب غربي البحر الأحمر. وعلى كل حالٍ فإن مهمة التنقيب عن تلك الإشارات وسبر مدلولاتها، لهي مهمتنا نحن. فالأمر يعنينا نحن، بأكثر مما يعنيهم هم، على الأقل في هذه اللحظة التاريخية القائمة الآن، إلى أن يفتح الله بيننا وبين إخواننا من البيضان، بالحق، وهو خير الفاتحين. ومن أمثلة الإشارات النبوية القوية، عن أرض السودان، ما ورد في شرح الآية 14 من سورة الواقعة، في تفسير ابن كثير، إذ جاء فيها: ((وقد روى من حديث جابر نحو هذا، ورواه الحافظ ابن عساكر، من طريق هشام بن عمارة، حدثنا عبد ربه بن صالح، عن عروة بن رويم، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت، ((إذا وقعت الواقعة))، ذكر فيها: ((ثلةٌ من الأولين وقليلٌ من الآخرين))، قال عمر: يا رسول الله: ثلةٌ من الأولين وقليلٌ منا ؟! قال فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزل: ((ثلةٌ من الأولين، وثلةٌ من الآخرين))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله: ((ثلةٌ من الأولين، وثلةٌ من الآخرين))، ألا وإن من آدم إليَّ ثلة، وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا، حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له)). ولفظة السودان، فيما مضى من الزمان، تعنى أقاليم السكان من ذوي البشرة السوداء في القارة الأفريقية. وكان الجغرافيون العرب يشيرون إلى أن بلاد السودان تقع جغرافياً من جنوب بلاد الملثمين (الطوارق) شمالاً إلى خط الاستواء جنوباً، ومن البحر المحيط غرباً، إلى نهر النيل، والبحر الأحمر شرقاً، أي من الهضبة الحبشية شرقا حتى المحيط الأطلنطي غرباً.

    أيضاً، أورد الطبراني، منسوبا إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتخذوا السودان، فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن)). وهذا الحديث في حد ذاته لشديد الدلالة على أن الأحباش كان يُشار إليهم بـ "السودان". فكلمة "السودان" فيما مضى من الزمن، كلمة تقوم في مقابل كلمة "البيضان". ويدل على ذلك أيضاً، حديث عائشة الذي أورده النسائي: ((جاء السودان يلعبون بين يدي النبي، في يوم عيد، فدعاني فكنت أطلع إليهم من فوق عاتقه، فما زلت أنظر إليهم، حتى كنت أنا التي انصرفت)). وقد ورد حديث عائشة هذا بروايات أخرى، تم فيها استبدال كلمة "السودان"، بكلمة "الأحباش" و"الحبشة". وكل ذلك يدل على أن لفظة السودان كانت تُستخدم لتدل على ذوي البشرة السوداء، والسمراء، الوافدين إلى جزيرة العرب من غربي البحر الأحمر.

    ربما قام في خلد البعض أنني أسعى إلى تأسيس شوفينية إسلامية جديدة، يزهو بها "السودان" في مقابل شوفينية "البيضان" الإسلامية، القائمة حتى الآن. ولكن حقيقة الأمر بخلاف ذلك. ما أرمي إليه هو الإشارة لوجود روحانيةً كوكبيةً ظلت مدفونة، ومدخرةً، في "الهضبة والسهل"، وما أحاط بهما. وأساس هذه الروحانية فيما أرى، هو توفر حاسة العدل. فالتراكم الروحاني لدى الأمم تعكسه قوة حاسة العدل لدى أفرادها حكاماً ومحكومين. ومشكلة العالم اليوم أساسها غياب العدل، بسبب ضعف الحصيلة منها لأسبابٍ تاريخية، وبسبب تنويمها نتيجة لمختلف العوامل. باختصارٍ شديد، هناك روحانية تجمع أهل الهضبة والسهل، غير أنها تحتاج الاستنطاق، وتحتاج التقعيد في الأطر العصرية. إنها الروحانية الخبيئة التي نتشاركها مع جوهر الدعوة المسيحية، ومع التصوف اليهودي، ومع التاوية، والبوذية، والهندوكية، ومع كريم المعتقدات الروحانية الإفريقية. فحين يحوِّل النابهون من أبناء هذا التراث الروحاني الكوكبي الثر، طاقات هذا التراث، إلى قوة أخلاقية كبرى، تقف في وجه النظرة المادية إلى العالم، وفي وجه الإلحاد الساذج، المتنطع، الناسف للمعنى في الوجود الإنساني، وفي وجه الرأسمالية المعولمة، ووجه التدمير والتخريب الممنهج لروح الإنسان، ولمعنى حياة البشر على ظهر هذا الكوكب، نكون قد انتقلنا بالحالة البشرية المعاصرة، إلى أفق جديد. في هذا الأفق الجديد ننفك من قبضة العقيدة، التي تفرق، ونلج فضاء المعرفة الذي يجمع. نحن، باختصارٍ شديد، بحاجة إلى لاهوتِ تحررٍ "قرن إفريقي" يقف فيه التمسح الإثيوبي، والأرواحية الإفريقية، والتصوف الإسلامي، حذوك النعل بالنعل، من أجل بناء حالةٍ إنسانية جديدة!

    حين نستحضر البشارات النبوية، والاحتفاء النبوي بأهل "الهضبة والسهل"، فإن أقل ما يمكن أن يقال عن الإيواء الحبشي للدعوة الإسلامية الوليدة المستضعفة، أنه ديْنٌ تاريخي، ينبغي على سائر المسلمين أن يحملوه لأهل الحبشة، على أعناقنهم يد الدهر. وأعني هنا "الحبشة بوصفها بيئةً مسيحيةً قديمة". وكما أشرت في الحلقة السابقة، فإن الروايات التاريخية المتواترة، تقول بأن النبي الكريم، استثنى الحبشة من حرب الفتوحات. غير أن المسلمين في ما لحق من القرون، دخلوا إلى الحبشة وأداروا فيها حروبا اتسمت بالفظاظة، والفظاعة، خاصةً تلك التي كانت على يد أحمد بن إبراهيم الغازي، الملقب بالأشول. وكما رأينا في ما أوردتُ في الحلقة السابقة من مقالة سيساي أسيفا، أن بعض النخب من الإثيوبيين يركزون في أمر الأخطار التاريخية التي ألمت بالحبشة، وهددت كيانها التاريخي، ومسيحيتها، على هجومين إسلاميين بعينهما: أحدهما جاء من جهة الشرق، وهو ما قام به أحمد بن إبراهيم الغازي، في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، وآخر جاء من جهة الغرب، وهو ما قامت به الدولة المهدية السودانية، في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. والغريب أن كلا هذين الهجومين وقفت وراءه دعوى المهدية، والشعور بالاصطفاء الإلهي، والتكليف الإلهي برد الأمور إلى "نصابها"، بالقوة. وارتباط الدعوات المهدية بالعنف أمر له دلالاته، التي تستحق مزيداً من البحث، والاستقصاء، والتحليل وإعادة التأمل. ولسوف أعرض لهذين الهجومين وآثارهما الممتدة، على علاقة الحبشة بالكيانات الإسلامية المحيطة بها، بتحليلٍ موسع، وبشواهد موسعة، حين تتحول هذه المقالات إلى كتاب.
    إن ارتهان العقل الإسلامي في أفق العقيدة وحدها، والاستغناء بموجهات العقيدة وحدودها الصارمة، عن جوهر الدين وروحه شديدة السيولة، هو الذي خلق العداوات، وأبقى على مشاعر الريبة، والتوجس، والكراهية، متقدةً، على مدى الأيام. ولم يخرج من قيد العقيدة الحاضة على العداء، وعلى غزو ديار الآخرين، في التاريخ الإسلامي، سوى المتصوفة. فالمتصوفة بتتبعهم للنهج النبوي، في ما يقع وراء الشريعة، اقتبسوا من النور النبوي أسرار الروح. فهم قد غرفوا من جوهر الدين الخالد، مما جعلهم أكثر فهماً للكل المركب. وهذا ما جعلهم أكثر تسامحاً، وأكثر قدرةً على رؤية الصورة الكلية، للروحانية الكونية المستقبلية. وقد كان كبار مشائخ التصوف، على قلتهم في التاريخ الإسلامي، الطلائع في ذلك الدرب الإنساني الكبير، الذي يقود إلى حالة السلام الكوكبية الكبرى المنتظرة. ولابد لي، وأنا أعالج شأن علاقتنا بجارتنا الشرقية إثيوبيا، من أن أنوه بالنهج المسالم الذي نشر به المتصوفة الإسلام في حزام السافنا الإفريقي، خاصة السودان. فقد قام ذلك النهج على الاستيعاب السلمي للآخر، وعلى قبول الشخصية الثقافية للآخر، واحتوائها في الإطار الإسلامي الكلي دونما إكراهٍ، أو عنتٍ، أو استعلاءٍ عقدي. ولقد أسمى كل من بيراني، وسميث (1998) هذا النهج، بـ "التوليف التدريجي" gradual synthesis.

    لقد استخدم المتصوفة الروحانية، ولم يستخدموا الفقه إلا في حدودٍ، ضيِّقةٍ. فالحدود التي استخدموا فيها الفقه، لم تتعد حدود ما لا تصح العبادة إلا به. غير أن ذلك المزاج الصوفي الرائق الذي ساد مساحة معتبرة من الحقبة السنارية، تعكر بوفود المؤسسة الدينية الفقهية التركية، العثمانية، الأزهرية. وهي مؤسسة لعبت في غزو محمد علي للسودان دور البوق الدعائي الاستعماري. فهي لم تأت إلا لتكون ذراعاً للاستعمار التركي المصري. ولقد انحصر دورها، إلى حد كبيرٍ جداً، في مجرد الترويج لثقافة وجوب الطاعة للحاكم، وترسيخ ثقافة الاستكانة للحاكم، باسم الدين. كما تعكر المزاج الصوفي في السودان، مرة أخرى، بالثورة المهدية، التي رغم أنها خرجت من عباءة التصوف، إلا أنها نَحَتْ منحىً قتالياً قهرياً، لم ينحصر في محاربة الدخيل وحده، وإنما تعدى ذلك إلى المسلمين أنفسهم. فهم إما أن يؤمنوا بالمهدية، ونسخها لكل مذهبٍ، وكل طريقةٍ، وإما تعرضوا للتقتيل، شأنهم شأن "المشركين". فعلت المهدية ذلك، بزعمها لنفسها أنها دعوة خاتمة. ومن هنا تحولت المهدية إلى قوةٍ قامعةٍ للتعدد في داخل القطر، وبحد السيف. كما تحولت أيضاً إلى قوة عسكرية غازية، ذات طموحات توسعيةٍ عريضةٍ، بلغت أحلامها حد توحيد أهل القبلة أجمعين، تحت رايةٍ واحده، هي راية المهدية.

    كان العثمانيون والمهدويون من ضمن القوى التي خرقت توجيه النبي الكريم بعدم الاعتداء على الحبشة. وقد حدث اعتداؤهما عليها في القرن التاسع عشر. غير أنها صمدت لكليهما في نهاية الأمر. ثم قاد حراك القوى الكبرى، وأطماعها التوسعية في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، إضافة لما يسمى بالثورة العربية الكبرى، إلى انحسار الظل العثماني الإمبراطوري، حتى تراجع ذلك الظل الممتد، إلى داخل هضبة الأناضول. وسرعان ما ألمت الأتاتوركية في بدايات القرن العشرين، ببقايا تلك الإمبراطورية الغاربة، فمحتها، وأدغمت تركيا كلياً في إطار غربي حداثوي، فرضته عليها من علٍ نخبها المسيطرة. ثوت الإمبراطورية العثمانية الضخمة في التراب، ولا غرابة!! فالإسلام لم يأت أصلاً ليصنع إمبراطوريات، وإنما جاء ليفكك الإمبراطوريات، ويفتت السلطة، ويعيد للإنسان حريته التي سلبها منه الملوك والأباطرة، والمتحالفون مع الملوك والأباطرة، من أهل الثروة، منذ فجر التاريخ، وإلى يومنا هذا. فكون الثقافات الأخرى غير الإسلامية مفتونة بصنع الإمبراطوريات، لا يعني بالضرورة أن يصنع المسلمون إمبراطوريات، أيضاً. فصناعة الإمبراطوريات ليست، على التحقيق، رسالة الإسلام في مقاصدها القصوى. أما الثورة المهدية، فقد قلبت البلاد رأساً على عقب، ولكن ما لبثت أن خبت جذوتها الأولى، وفقدت مصداقيتها الدينية، حتى وسط أنصارها أنفسهم، فتناثرت أشلاؤها في مساحة السودان الجغرافية الشاسعة، ثم ما لبثت أن خمدت نيرانها، وأخلت المشهد تماماً. ولكن هل غادر شعراؤنا من متردم نوستالجيا التوسع الإمبراطوري، وأحلام إعادة الخلافة، واستعمار الآخرين إسلامياً؟!

    بالإضافة إلى المرارات التاريخية التي تسببت فيها الحروب ذات الصيغة الدينية، فإن استلاب النخب المعاصرة للفكر الحداثوي الغربي، في السهل، وفي الهضبة، قد أسهم بقدرٍ معتبرٍ في استمرار حالة الانفصال، وحالة التباعد، وحالة التوجس القائمة بين البلدين. يضاف إلى ذلك أن تلك النخب، لا تزال تنظر إلى الدين نفس النظرة القديمة المغرضة. وتستخدمه، حين تستخدمه، بنفس الطريقة المتجذرة في ميراث الحروب الصليبية. وغني عن القول، إن اللباس الحداثوي لم يُخرج أوروبا نفسها، إلى اليوم، من حالة الاحتباس في عقلية الحروب الصليبية. فكل معارف عصر التنوير وما تأسس عليها في حقبة الحداثة، لم تحدث تغييراً يذكر في البنية العقلية الغربية الشوفينية النزَّاعة إلى الهيمنة والسيطرة. فلو أعادت مراكز البحوث والجامعات عندنا، وعند أهل الهضبة، النظر في تاريخ المنطقة، وقرأته على ضوء وعيٍ جديدٍ بالدور المنتظر الذي يمكن أن تلعبه شعوب العالم القديم، في خلق حالة إنسانية جديدة، أفضل، لكنا قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح. أهل السهل وأهل الهضبة بحاجة إلى ثورة فكرية تدفع بدم المكون الروحاني في شرايين التنمية الشاملة. فالرؤية الروحانية الموسعة، وإيقاظ ما نام من حاسة العدل، واستعادة ما انفقد من التوسط، وجعل هموم الفقراء هي الأولوية، هو ما سوف يضع العلاقة بين الحيِّزين في وضعية جديدة، تخرجهما من أطر ومزالق المخاتلات الدبلوماسية الكاذبة، وتدخلهما في أفق التكامل الأخلاقي، الصادق، الصحيح، المعافى. (يتواصل).
    (يتواصل.)
    صحيفة ألأحداث 14 يونيو 2010
                  

08-07-2017, 12:13 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (10)

    "تناجي العلماء":
    خصَّ الدكتور الفاضل، عبدالله علي إبراهيم، مقالاتي هذه بكلمات شغلن كل مساحة عموده الذي ينشره بالصفحة الأخيرة من صحيفة الأحداث، ليومي الثلاثاء والأربعاء، الخامس عشر، والسادس عشر من شهر يونيو الجاري، على التوالي. وإني شاكرٌ له صنيعه هذا. فتخصيصه كل مساحة عموده لهذه المقالات، ووعده بالمواصلة في الكتابة في شأنها، وحرصه على أن أحرص على ضبط أحكامي وأن أتجنب الإسراف فيها، في بعض الجزئيات، التي يرى أنني لم استند فيها على الحقائق التاريخية، أمرٌ مفيد، ولسوف يكون موضع عنايتي. أما قراءة المعلومة وتأويلها، وتمديد دلالاتها في تخليق المعاني، ونحت الطرق الجديدة، فذلك هو موضع البصمة الفردية، لكل مؤِّل وكل مؤِّلة. ولعل ما قام به الدكتور الفاضل، في تداخله هذا معي، يقع في باب "تناجي العلماء"، الذي طالما نادى به، وهو محقٌ جداً في مناداته به.

    لم يعجلني الدكتور عبدالله، في أمري، كما لم يقطع عليَّ خيط أفكاري، بل هو قد أعانني على توخي الضبط، وتجنب الإسراف. وقد كرر اعتذاره في مقالتيه سالفتي الذكر، وما هو بحاجةٍ إلى ذلك، معي. فدوافعه عندي مفهومة وشخصه الكريم ليس موضع اتهامٍ عندي. والدكتور عبد الله، كما هو معروف، قد قام بتدريس التاريخ الإفريقي والإسلامي في جامعة ميسوري، لسنواتٍ عديدة. ولذلك فإن ملاحظاته تجد عندي كل التقدير، والاهتمام. فهي ملاحظات يقف وراءها وزن علمي، كبير. وبطبيعة الحال، إن الكتابة في موضوع شائك مثل هذا الذي أنا بصدده، يحتاج في حده الأدنى لقراءات متنوعة تغطي ما كتبه الغربيون، والسودانيون، والأثيوبيون، وهذا ما سوف يظهر في مراجع مستفيضة ، وفقاً للتقاليد العلمية المعتمدة، وذلك حينما تتحول هذه المقالات إلى كتاب. وسيكون كتاباً كبيراً، إن شاء الله. والكتاب الذي وعدت به أكثر من مرة في هذه السلسلة من المقالات، ليس هو نهاية المطاف فيما أنا بصدده في هذا المشروع، وإنما مجرد ثمرة أولى في موسم حصادٍ قد يطول. غير أن هذا لا يعني أن ينتظر الدكتور عبد الله صدور الكتاب، لكي يعلق على ما أكتبه في هذه المقالات، رغم أنني أرسم هنا خطوط الأطروحة الكلية، بأكثر مما أعكف على التفاصيل. فملاحظاته، وملاحظات غيره من المتابعين، مُرَحَّبٌ بها في أي وقت، وسوف تكون معينةً بلا شك. ولابد لي في ختام هذا التعليق القصير على مقالة الدكتور عبد الله علي إبراهيم، من أن أشير إلى أنني أنطلق من التشكيك في تماسك الروايات التاريخية التي أحاطت بعلاقة الإمبراطورية الحبشية بالمحيط الإسلامي. إضافة إلى إعادة قراءة هذه الروايات وإجراء مزيد من الحفر والتنقيب ومقارنة القرائن في كل ما أحاط بها. بل، ومحاولة استنطاق ما يمكن أن يكون قد غاب عن التدوين. وأهم من ذلك، أن هذه المحاولة إنما تنحو منحى تغليب النظرة الشاملة الكلية، وإعادة القراءة وفق إطار يستلهم طرائق ما يسمى بالـ futurology، أو "المستقبليات". فالأهم عندي هنا هو تحسس مآلات ما جرى وما يجري الآن، من أجل رسم صورة خياراتنا المستقبلية في المنعطف الكوبي الراهن. إنها محاولة لتخليق إطار تصوري جديد paradigm، والانفلات من الأطر التصورية الماضية، والراهنة. ولسوف تكون روحانية ما بعد الحداثة هي حجر الزاوية في هذه الرؤية. فنحن، والإثيوبيون، والاريتريون بحاجة للانفلات من أطر فكر حقبة الحداثة the modernist paradigm، التي جعلت منا مجرد موضوعات للهيمنة الغربية، ولسيطرة الرأسمال.

    عامل العقيدة المهدوية:
    جعلتني مقالات الدكتور عبد الله علي إبراهيم أعود مرة أخرى، لأقرأ ورقة إيريس ـ سيري هيرش الموسومة: ((مواجهةُ جارٍ مسيحي: التصور السوداني لأثيوبيا في فترة المهدية الأولى (1885ـ 1988م)، المنشورة في "المجلة العالمية لدراسات الشرق الأوسط"، في عددها رقم 44. ناقشت ورقة هيرش مخطوطة (الطراز المنقوش ببشرى قتل يوحنا ملك الحبوش) التي كتبها إسماعيل بن عبد القادر الكردفاني. وملخص رأي هيرش في قراءة مخطوطة الكردفاني تتلخص في أن هيكل كتاب "الطراز" يلف في طياته عوامل متعددة أحاطت بالصراع السوداني ـ الإثيوبي. وهي عوامل تقف وراءها دوافع تاريخية، وعسكرية، واقتصادية. غير أن هذا لا يعني أن القادة المهدويين لم يلجأوا، وبشكل متواتر، إلى الخطاب الجهادي. فالطبيعة الدينية الغنوصية، وارتداء لبوس الدعوة الناسخة الخاتمة، أمر لا يمكننا بحالٍ استبعادة ونحن نحلل سياسات المهدويين وتصرفاتهم. وهذا أمر أكده الدكتور محمد سعيد القدال مستنداً فيه على خطاب المهدي للملك يوحنا، ومن بعده خطابات الخليفة عبد الله. وهذا أمر سأفصل فيه لاحقاً، فهو أمر شديد الأهمية.

    ما من شك عندي، أن تضعضعاً للعقيدة المهدية قد حدثت وسط المهدويين، مع مرور الزمن. ولم يسلم من الشك في مطلقية صحة الدعوة، حتى صاحب الدعوة نفسه. فمحمد أحمد المهدي عقب فتح الخرطوم، ليس هو محمد أحمد المهدي الذي انطلق من جزيرة أبا في مبتدأ أمره. فهناك من الروايات الشفاهية المتواترة، ما أشار إلى عدم رضا المهدي بما آلت إليه أمور المهدية عقب سقوط الخرطوم. وحين انتقلت السلطة من المؤسس، محمد أحمد المهدي، إلى الخليفة عبد الله ود تورشين، حدثت هزة أخرى أكبر من كل سابقاتها. فالعقيدة مهما كانت متماسكة، تصبح بمرور الزمن، وتبدل الإطار المحيط، ونمو الوعي الفردي، عرضةً للضعضعة. قال الأصحاب يوم أن أنتقل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما كدنا ننفض أيدينا من تراب قبر رسول الله، حتى أنكرنا قلوبنا)). وقد روى الشيخ بابكر بدري في مذكراته، وهو في حالة حيرةٍ واستغراب من تبدل الأحوال الذي ألمَّ به، في نهايات الحقبة المهدوية، قائلاً، إنه في بدايات التحاقه بالمهدية، كان يفتح صدره لرصاص الأعداء، غير مبالٍ بالموت. غير أنه، في يوم كرري كان واقفاً على تلةٍ، ليس بعيداً من الخليفة عبد الله، وهو يرقب جريان المعركة. غير أنه، حسب ما ذكر، كان يراقب، بإحساسٍ يعكس حالةً من الحياد، تجاه ما يجري. بل لقد نم عنه، من وصفه لحاله، ما يشير إلى أنه كان فقط منتظراً أن تنتهي تلك المعركة بنصر الجيوش الغازية، ويتم إغلاق ذلك الفصل من حياته، الذي يبدو أن حالة الإرهاق منه، قد بلغت به مبلغاً عظيماً!!

    كل ما تقدم مما أشرت إليه من تغيرات في صلابة العقيدة، وتماسكها، مما طال المهدويين، بمقادير متفاوتة، يضاف إلى ما أشارت إليه هيرش من وجود أكثر من عامل ينبغي النظر فيه لدى تحليل مسارات الثورة المهدية ووقائعها، أمورٌ لا تقلل من قوة تأثير العقيدة الدينية المنغلقة على سياسات المهدية، الداخلية والخارجية. فقد كانت المهدية تتنفس في جوٍ قروسطي، غارقٍ في عزلةٍ معرفيةٍ مطبقة، في وقت كان فيه العالم يعيش لحظة احتشاد المعارف، والصناعات، والاقتصادات، التي ما لبثت أن انفجرت في بدايات القرن العشرين، انفجاراً غيَّر وجه الحياة، الذي عرفه الإنسان، منذ أن خلق الله الإنسان. وتقول هيرش، في نفس الورقة المشار إليها عاليه، مصوِّرةً الأفق المعرفي، لقادة الثورة المهدية: ((إن العالم خارج السودان قد كان مرئياً بمنظورٍ ديني، وليس بمنظورٍ جغرافي)). ويقول الدكتور عبد الله علي إبراهيم، في خاتمة كتاب، (الصراع بين المهدي والعلماء)، الصادر في طبعته الثانية، من مركز الدراسات السودانية، في العام، 1994: ((حرَّجت المهدية على معارضيها حين جعلت من نفسها الإسلام الصحيح الوحيد. فمن عادى المهدي فهو في أدبها معادٍ الرسول والإسلام. وهذا دمغٌ دامغ يجعل المعارضة متعذرةً ومستحيلة)). وتدعم هيرش قولها بنزعة المهدية الجهادية التوسعية، بأن الخليفة عبد الله كتب إلى قادة الدول، بما فيها بريطانيا العظمى، طالباً منهم إتباع الدعوة المهدية!! (واربيرغ، وهولت).

    ولنا أن نتصور دولةً، كالدولة المهدية، لا تملك سفينةً خشبيةً شراعيةً واحدةً، قادرةً على مخر أعالي البحار، ثم تطلب، بلغة الآمر، الواثق من قدراته، أن تخضع لها من الدول التي من بينها إمبراطورية كبيرة، كبريطانيا العظمى!! علماً بأن الدول المدعوة إلى المهدية كانت دولاً عرفت نظم الدولة الحديثة، كما ملكت أساطيل مكونة من سفنٍ بخاريةً ضخة، وجيوشاً كبيرة حسنة التدريب، مدججة بأسلحةً ناريةً شديدة الفتك، ولها سلطان عريضٍ، طال كل أركان الأرض. الشاهد هنا، أن الدولة المهدوية السودانية لم تكن تعرف الواقع الكوكبي المحيط بها، في أيٍ من مناحيه التي يمكن أن تعين المعرفة بها، على التصرف السليم، وعلى إدارة علاقات الجوار على أساسٍ عقلاني. وبناءً عليه، فإن تعامل الدولة المهدية، مع جارتنا أثيوبيا، لم يخرج من هذه البنية العقلية محدودة الأفق المعرفي. وما من شك عندي أبداً أن الاتصال بالأوربيين، وحمل صورةٍ ذهنية مناسبة لما كان يجري وقتها في المحيطين الإقليمي والدولي، كانت أفضل لدى الحبشة وقتها، مما كان لدى المهدويين. يقول الدكتور المعتصم أحمد علي الأمين، في ورقته المسماة، (الديانة النصرانية في إثيوبيا: عوامل الاستمرار والسيطرة السياسية)، المنشورة في الكتاب الرابع من سلسلة الكتب التي ضمت أوراق المؤتمر الدولي (الإسلام في إفريقيا)، المنشور في العام 2006، إن إثيوبيا كانت لها اتصالات أسهمت في أن تتعرف على العالم الخارجي، كما أسهمت في أن يكون لها إطلاع على أهم الأفكار والمخترعات السائدة في العصر، على عكس جيران إثيوبيا من المسلمين الغارقين في الاختلافات المذهبية، خاصة ما سميت بـ "إمارات الطراز الإسلامي". وأضيف إلى ما تفضل به الدكتور المعتصم، فيما يتعلق بتخلف الدولة المهدوية عن الدولة الحبشية، أن الحركة المهدوية الغيبية ارتدت بالأفق المعرفي الخفيض الذي توفر للسودانيين حينها. فهي قد جاءت بالرعاة السيارة من الإطراف، وجعلتهم يتحكمون في الأكثر تحضراً ومعرفة منهم من أهل المدن المستقرين من سوالف الحقب. ولذلك فإن كل النزاعات التي سادت فترة حكم الخليفة عبد الله يمكن ردها إلى هذا الانقلاب المخالف لطبائع الأشياء، في مضمار بناء الحضارات، الذي أحدثته الثورة المهدية، حين قلبت، رأساً على عقب، البنية التراكمية لهرمية السلطة والقيادة في السودان.

    ربما تعين علينا أن نرى حالة النزاع السودانية الإثيوبية التي انتظمت أخريات القرن التاسع عشر، من منظور النخب الإثيوبية، أيضا. وهذا أمر ورد التنويه إلى ضرورة استصحابه، في ورقة هيرش التي سلفت الإشارة إليها. فعلى سبيل المثال، فإن البروفيسر الإثيوبي، سيساي أسيفا، من جامعة غرب متيشجان في الولايات المتحدة الأمريكية، يرى أن علاقات المسلمين بالمسيحيين في إثيوبيا ظلت جيدة منذ لجوء المسلمين الأوائل في بدايات القرن الثامن الميلادي، إلى الهضبة الحبشية، وما تبع ذلك من ترحيب نجاشي الحبشة بهم وتوفيره الحماية لهم. ويشير أسيفا إلى أن النبي استثنى الحبشة من حروب الفتوحات الإسلامية. وبطبيعة الحال فإن في أدبياتنا الإسلامية ما يؤيد هذا الزعم. فقد ورد في السيرة الحلبية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتركوا الأحباش، ما تركوكم)). ويرى أسيفا أن هذا الحال من السلام المتبادل تعكر مرتين: مرة على يد أحمد بن إبراهيم الغازي، في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، ومرة أخرى على يد الحركة المهدوية السودانية، في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. وأنا ممن يرون أن كل اضطهاد لقيه المسلمون الأحباش، تنبع كثير من مسبباته من الضغوط الرهيبة التي تعرضت لها الحبشة، لكي تخلع جبتها المسيحية، وترتدي قسراً ذلك الجلباب الإمبراطوري الإسلاموي!

    كتب المؤرخ الأشهر، أرنولد توينبي، في كتابه الشيق، الصادر عن دار نشر جامعة أكسفورد في العام 1965، الموسوم: (بين النيجر والنيل) Between Niger and Nile، عن زيارات قام بها لكل من نيجريا، والسودان، وإثيوبيا، ومصر. ويُعد الكتاب المُكَوَّن من 125 صفحة، واحداً من أمتع كتب أدب الرحلات. فالملاحظات المدونة عن رحلاته تلك في هذا الكتاب، ليست ملاحظات شخصٍ عادي، وإنما هي ملاحظات مؤرخ ضليع، مزج التأرخة بالفلسفة، ولف كليهما بثوب النظر الشامل، والفهم العميق لتطور البنية الكلية للحضارة الإنسانية. يقول توينبي في صفحة 41 من كتابه هذا: ((بعد ضم إقليم هرر إلى إثيوبيا، استوطن الأمهريون من المحافظات الحضرية في الريف المحيط بهرر، ووجدوا لأنفسهم موطئ قدمٍ فيه، ولكن من غير أن يزيحوا الفلاحين المسلمين من قبائل القالا، الموجودين أصلاً. ففي مدينة هرر، وفي محافظتها، تبدو العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وبين الأمهريين والهرريين جيدة. وعندما تقابل مثقفاً هررياً مسلماً في أديس أبابا، فإنه يبدو وسط زملائه من مثقفي الأمهرا المسيحيين، وكأنه يجلس في بيته. وفي الحقيقة، يبدو أن إثيوبيا نجحت في بناء المكونات المتنوعة لسكانها وبلورتها في صورة مجتمعٍ موحد. هذا، باستثناء القبائل الرعوية الصومالية، في شبه صحراء أوقادين)) ]الترجمة من عندي[.

    الإمبراطور يوحنا:
    يرى المسلمون من الإثيوبيين، ومن غير الإثيوبيين، الإمبراطور يوحنا بوصفه أكثر من كره المسلمين واضطهدهم في إثيوبيا. فهو قد أجبرهم على اعتناق المسيحية، وبناء الكنائس، ودفع المكوس. وكل هذه أمور فعلها الإمبراطور يوحنا. غير أنه يتعين علينا أن ننظر إلى حقبة يوحنا بعيدا من منطلقات التعصب العقدي الإسلامي، وبعيداً عن غبائن الجيرة التي ما توقف فيها الشد والجذب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى اليوم. فلربما يتعين علينا، من أجل النظر الموضوعي، أن نحاول إدخال أرجلنا، هوناً ما، في الحذاء المسيحي الإثيوبي، في تلك الحقبة. لابد لنا من النظر الفاحص للظرف الداخلي، والإقليمي، والدولي، الذي أحاط بفترة حكم الإمبراطور يوحنا، (1872م ـ 1889م)، الذي كان يسعى وبشدة لتحقيق وحدة قطرية من دويلات الهضبة المتناحرة. فكل الوقائع التاريخية تقول إن فترة حكم الإمبراطور يوحنا، التي لم تتعد السبعة عشر عاماً، كانت فترة حكمه مليئة بالحروب الداخلية والخارجية. فهو من جهة كان في نزاعٍ مع منليك ملك شوا، الذي حاول المصريون استمالته وتجييره ضد يوحنا. غير أن منليك ما لبث أن أصبح كارهاً للمصريين، بعد أن تحركوا من ميناء زيلا، واحتلوا هرر. وقد كان كلا منليك ويوحنا، يريان أن هرر أرضاً إثيوبية، ولذلك فقد قرب الاستيلاء على هرر، بينهما.

    كان الخديوي إسماعيل طامعاً في إثيوبيا، بل وفي السيطرة على كل حوض وادي النيل. وبالفعل فقد جرد المصريون الحملة بعد الحملة على إثيوبيا، مما جعل الإثيوبيين يوقنون أنهم مستهدفين "إسلامياً" من قبل المصريين العثمانيين. في نوفمبر 1875م انتصر يوحنا على الحملة المصرية في قوندت. وفي مارس 1876م انتصر على حملة مصرية ثانية في قورا. هذه الحملات المصرية المتكررة، لا تمثل في نظر المسيحيين الإثيوبيين سوى "حملات إسلامية". وقد كانت واحدةً من أسباب انقلاب يوحنا ضد المسلمين الإثيوبيين، ودفعهم للتنصر قسراً. وبعد عشر سنوات من الحملات المصرية بدأت متاعب يوحنا مع المهدويين من جهة الغرب، والإيطاليين من جهة الشرق. وفي نفس الفترة التي انتصر فيها يوحنا على عثمان دقنة في سبتمبر 1885م، في معركة كوفيت، كان الطليان قد استولوا على ميناء مصوع. كما تمرد عليه في نفس الفترة الأنقاس (الحُكَّام) في إقليمي قوجَّام وشيوا. فأصبح يوحنا يحارب في جبهات مختلفة متباعدة. وتحت كل هذه الضغوط لجأ الإمبراطور يوحنا إلى عقد اتفاقية مع الانجليز أغضبت عليه المهدويين. أما في جانب الدولة المهدية فإننا نجد أن قبيلتي الضباينة والشكرية، أكبر قبيلتين سودانيتين في الإقليم السوداني الشرقي المتاخم للحبشة، كانتا معارضتين، أو ضعيفتي الولاء للحكم المهدوي. وقد أصبحت مرتفعات الحبشة ملجأ لبعض المعارضين من هذين القبيلتين للدولة المهدوية. باختصار شديد، كانت فترة الإمبراطور يوحنا فترة مليئة بالأحداث المتداخلة المتشابكة. وحين ننظر إلى تلك الفترة المضطربة الدامية، لابد أن نقر بحق الكيانات القومية والدينية في الدفاع عن كينونتها. فهل يمكن أن نجرد ضغط الإمبراطور يوحنا على المسلمين الإثيوبيين، من تأثيرات استهداف خديوي مصر المسلم لأراضي الحبشة، وتجريده عليها الحملات، الواحدة تلو الأخرى، ومن تاريخ اضطهاد الأقباط في مصر، والعلاقة ثلاثية الأضلاع بين الكنيسة الحبشية، ومطرانية الإسكندرية، وحكام مصر المسلمين؟ وفي الحلقة القادمة سأقوم بوقفة أخرى أكثر تأنياً مع هذا التشابكات التي طالما عالجها المشتغلون بالتاريخ من العرب والمسلمين، من منظور أحادي، يحمل من ضغائن الماضي أكثر مما يحمل من بشارات المستقبل. فأغلب المعالجات التي اطلعت عليها افتقرت إلى القدرة على النظر في المركب، كما افتقرت إلى الحيدة والنظرة المنصفة.
    الأحداث 20 يونيو 2010
                  

08-07-2017, 12:14 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (11)

    الحرب بين الهداية والجباية:
    أزعم أن أكثر ما فشا في البرية من توسع إسلامي عقب وفاة الشيخين، مضافاً إليها القسم الأول من خلافة عثمان رضي الله عنه، لم يكن هدفه هداية الناس، لوجه الله، بقدر ما كان توسعاً إمبراطورياً، استهدف سعة الدنيا ورغدها، تلبية لما استجد من أحلام ملوكية لدى الطبقات الحاكمة الجديدة. ولذلك لابد لنا من فرز الأمور فرزا دقيقاً، وإعادة فحص التعميمات والقراءات "المرمنسة" romanticized، التي ظلت مسيطرة إلى يومنا هذا. فلو نحن نظرنا إلى الأمر، مستصحبين دلالات النبوءة المحمدية، المبينة: ((الخلافة من بعدي ثلاثون سنةً، ثم تكون ملكاً عضوضاً))، (رواه روى أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي). لاتضح لنا أن ما أعقب الثلاثين سنة الأولى التي تلت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يقع ضمن نطاق المفارقة العريضة التي بدأ تشكلها إبان الفتنة الكبرى، وظلت تنداح، حتى يومنا هذا. ولاتضح لنا، أيضاً، أن الهالة "الإسلامية"، بالمعنى الديني الدال على التقوى، وعلى العدل، التي تم إلباسها لكل العهود التي تلت تلك السنوات الثلاثين الأولى، التي مثلت فترة الخلافة الراشدة، لم تكن سوى هالةٍ زائفة. ولذلك، لا مناص لمن يريد أن يقرأ الأمور، من منظورٍ، لا يغض الطرف عن نبوءات النبي الكريم، ولا ينجرف وراء الهوى، ووراء التعبير "المرمنس"، عن الأشواق الدينية الملتبسة، التي تُُعشى عن رؤية الحقائق، أن يصطحب معه هذه الحقيقة الناصعة المتضمنة في النبوءات المحمدية الجلية. كما لابد له من أن يضيف عليها القراءة المحايدة لوقائع التاريخ الإسلامي، التي سوف تؤكد دون شك، أن ظلاماً دنيوياً، قد لف الوقدة الأولى، كما لف حالة التقوى الأولى، فأطفأهما، كما لف، أيضاً، الحس الديني النقي، وحوله إلى طموحاتٍ "قيصرية" توسعية.

    بناءً على ما أجملته عاليه، أرى أن الحرب التي تم شنها على مسيحيي السودان في القرن الثامن الميلادي، وعلى مسيحيي الحبشة في القرن السادس عشر الميلادي، لم تكن حروباً غرضها الهداية، ونشر الدعوة الصافية، النقية، التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم، والكبار من أصحابه، بقدر ما كانت حروباً شكلت الجباية، وتوسيع الملك، القسم الأكبر من دوافعها. ودعونا نرى بعض الشواهد التي تؤيد هذا الزعم. أورد الدكتور الناصر عبد الله أبو كروق، استناداً على ما أورده الدكتور يوسف فضل في كتابه (دراسات في تاريخ السودان وافريقيا وبلاد العرب، ج 2 الخرطوم 1986 – ص 12)، أن شيخاً حميريا شهد حملة عبد الله بن أبي السرح على بلاد النوبة قال واصفاً حربهم مع النوبة: ((رمونا، ]أي النوبة[، حتى ذهبت الأعين، فعددت منها مائة وخمسين عيناً مفقوءة، فقلنا ما لهؤلاء خير من الصلح، إن سلبهم لقليل، وإن نكايتهم لشديدة)). ومعنى الجملة الأخيرة التي قالها هذا الشيخ الحميري، أن الثمن الذي ظلوا يدفعونه بفقدان الأعين، في تلك الحرب الشرسة، مع هؤلاء القوم أولو البأس، لا يتساوى مع الغنائم التي يمكن أن يغنمونها منهم. فهم فقراء، يسكنون إقليماً فقيراً، نسبياً. كما أنهم مقاتلون أشاوس، يملكون من مهارات الرمي ما يجعلهم يصيبون مهاجميهم في الأعين. وهذا ما من أجله لُقِّبُوا بـ "رماة الحدق". فالدافع من الغزو في الأساس كان هو السلب، وليس نشر الهداية: ((إن سلبهم لقيل، وإن نكايتهم لشديدة))! ولو كان الأمر أمر هداية وتبليغ لرسالة السماء، لما توقف الغازون أصلاً، فإما النصر، أو الشهادة. فلو كان الأمر أمراً دينياً نظيفاً، لما قبلوا اتفاقية تلزمهم بتقديم العدس والحبوب، إلى النوبة، مقابل تقديم النوبة لهم العبيد. فلو كان السلب القليل الذي لدى النوبة يأتي لأولئك الغازين، بغير ذلك الثمن الباهظ، المتمثل في فقدان نور البصر، بفقء العيون بالسهام، لواصل الغزاة الحرب، ولأخذوا منهم ذلك السلب، على قلته. وعبارة (إن سلبهم لقليل) مجرد تبرير للتوقف عن محاربة النوبة، كما هو أيضاً تعبيرٌ عن الدافع الأساسي، المتمثل في المغانم، وفي توسيع الملك.

    دلالات اتفاقية البقط:
    وقَّع الغازون مع النوبة ما سُمِّيت باتفاقية "البقط"، التي يشير إليها كثير من المؤرخين بأنها اتفاقية هدنة عسكرية، غلبت عليها الصبغة التجارية. وهي بتلك الأوصاف، شأنها شأن أي اتفاقية يمكن أن يتم توقيعها بين أي دولتين، لا تقف وراءهما دوافع، وإنما مجرد حرب مطامع، وتوسع، وربما تأمين حدود. وفق تلك الاتفاقية، كان على مصر أن تمد النوبة بالحبوب والعدس، وفي مقابل ذلك ترسل النوبة الرقيق إلى مصر. والمظهر الديني الوحيد الذي تضمنته الاتفاقية هو أن يحافظ النوبة على المسجد المبني في دنقلا والعمل على إبقائه نظيفاً، وإسراجه ليلاً، وأن يسمح النوبة للعرب بالمرور شريطة ألا يقيموا.

    يرى كثيرٌ من الدعاة، والكتاب، والمؤرخين الإسلاميين، أن الفتوحات الإسلامية، ومنها محاولة فتح بلاد النوبة، لم تكن سوى محاولة نظيفة لتبليغ الرسالة ولنشر الهدى. يقول الدكتور الناصر عبد الله أبو كروق، في ورقته (إفريقيا بين عبد الله بن أبي السرح وعقبة بن نافع الفهري)، المنشورة في الكتاب الرابع الذي ضم أوراق (المؤتمر الدولي الإسلام في إفريقيا)، الصادر عن جامعة إفريقيا العالمية، في نوفمبر 2006: ((ولعل محاولة المسلمين المستميتة لضم أرض النوبة تنفي نفياً قاطعاً الأسباب المادية للفتوحات الإسلامية، لأن النوبة لم يكن بها شيء يقيم حتى أود أهلها الذين يسكنونها، فكيف يطمع فيها غاز ليتقوى بها؟)). ( ص 23 - 72). غير أنني أختلف مع وجهة نظر الدكتور الناصر. فقول الرجل الحميري الذي أورده الدكتور أبو كروق: ((ما لهؤلاء خيرٌ من الصلح، إن سلبهم قليل، ونكايتهم شديدة))، قولٌ يدل على أن الدافع هو "السلب"، فإن كان السلب قليلاً، فلا مبرر لدفع ثمنٍ باهظٍ في الحرب. أيضاً، نجد أن اتفاقية البقط قد نصت على أن يقدم النوبة رقيقاً لمصر، في مقابل أن تقدم لهم مصر، العدس وغيره من الحبوب. تقول الاتفاقية في بعض بنودها: ((وعليكم كل سنة ثلاثمائة وستون رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أواسط رقيق بلدكم غير المعيب، يكون فيها ذُكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم، ولا عجوز ولا طفل، لم يبلغ الحلم)). فالرقيق مال، والإمبراطوريات تسعى وراء الرقيق لأسبابٍ عديدة معروفة. فلو كانت بلاد النوبة أقل من مصر من حيث الثروات الطبيعية، إلا أن الغزاة رأوا فيها مكاناً لاستجلاب الرقيق، وهذا ما دلت عليه الاتفاقية نفسها. وحين فتح محمد على السودان، في الربع الأول من القرن التاسع عشر، كان "الرقيق"، هم الدافع الأول وراء حملته العسكرية. ولو كان غزو بلاد النوبة تقف وراءه الرغبة الخالصة في تبليغ رسالة السماء، لما كان احتوت اتفاقية البقط شرطاً بأن يورد النوبة لمصر رقيقاً. فالنوبة أهل كتاب، وليس هناك سند شرعي لمطالبة أهل الكتاب بتوريد الرقيق.

    باختصار شديد، ما جرى من جانب الغزاة، لم يكن سوى توسع إمبراطوري، ومحاولة للكسب المادي الإمبراطوري، وربما مجرد تثبيت الأمن في الحدود الجنوبية للإمبراطورية الإسلامية التي كانت في تلك اللحظة التاريخية، في آخر خطواتها للتحول إلى إمبراطورية أموية. فليس كل ما تم في التاريخ الإسلامي، كان إسلامياً بحقٍ وحقيقة. بل ما كان إسلامياً بحقٍ وحقيقةٍ، في التاريخ الإسلامي كله، كان قليلا جداً، وقد تحقق في فترةٍ قصيرةٍ جداً، هي فترة الخلافة الراشدة. ويمكن القول إن فترات الرشد، بعد فترة الخلافة الراشدة، كانت في حقيقة الأمر، قليلةٌ، قليلة، ويجب النظر إليها بمعايير السياسة، لا بمعايير الدين.

    بين ملوك الدنيا وملوك الدين:
    وأوضح عندي، في الدلالة على أن غزو بلاد النوبة، لم يكن من أجل نشر القيم الدينية الرفيعة، أن وجوه القوم من الأمويين، ومن العباسيين، لم يكونوا أفضل تديناً، ولا أكثر تقوى، من وجوه القوم من النوبة المسيحيين. فالتدين قيمٌ تُعاش، وليس مجرد شيء يدعيه المرء، أو مجرد بطاقة يلصقها على جبهته، لا أكثر. وأحب أن أورد هنا، قصة هي آية في الدلالة على الفرق بين التدين الحقيقي، الذي كان عليه ملوك النوبة، والتدين المظهري الذي كان عليه الحكام الأمويين. والتدين يمكن أن يكون، في حالةٍ بعينها، مجسداً لدى اليهودي، والنصراني، بأفضل مما هو لدى المسلم، والعكس بالعكس. أورد الدكتور حسن مكي في ورقته، (الإسلام في السودان وإفريقيا وإشارات من كتب التراث)، الواردة في الكتاب الرابع للمؤتمر الدولي: الإسلام في إفريقيا، الصادر من جامعة إفريقيا العالمية في نوفمبر 2006، ما أورده المسعودي حول قصة استدعاء الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لأسيره وسجينه، عبد الله بن مروان، آخر ملوك بني أمية، ليسمع منه قصته مع ملك النوبة. فحين فقد عبد الله بن مروان ملكه وأصبح مطاردا من جانب العباسيين، ذهب إلى ملك النوبة، وطلب منه حق اللجوء. قال عبد الله بن مروان، هو يلبي طلب المنصور منه بأن يسمعه القصة: يا أمير المؤمنين، قدمت إلى النوبة فأقمت بها ثلاثاً، فأتاني ملكها، فقعد على الأرض، وقد أعدت له فراشاً له قيمة. فقلت له: ما منعك من القعود على فراشنا؟ فقال ملك النوبة: لأنني ملك، وحقٌ على كلِّ ملكٍ أن يتواضع لعظمة الله عز وجل، إذ رفعه. قال عبد الله بن مروان، فسألني ملك النوبة: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ قال عبد الله بن مروان، فرددت عليه بقولي: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا. قال عبد الله بن مروان، ثم سألني: فلم تطئون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ فقال عبد الله بن مروان، فرددت عليه بقولي: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا لجهلهم. فقال ملك النوبة: فلم تلبسون الديباج والحرير والذهب، وهو محرم عليكم في كتابكم ودينكم. فقال عبد الله بن مروان، فقلت له: ذهب منا الملك فانتصرنا بقومٍ من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا. قال عبد الله بن مروان: فأطرق ملك النوبة إلى الأرض يقلب يده مرة، وينكت في الأرض أخرى، وهو يردد: "عبيدنا، وأتباعنا، وأعاجم دخلوا في ديننا"!! ثم رفع رأسه وقال لي: ليس كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله، وركبتم ما نهيتم، وظلمتم في ما ملكتم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمةٌ لم تبلغ غايتَها فيكم. وأنا خائفٌ أن يحل بكم العذاب، وأنتم ببلدي، فينالني معكم. وإنما حق الضيافة ثلاث، فتزود ما احتجت إليه، وارحل عن أرضي. قال عبد الله بن مروان: ففعلت.

    هذه القصة شديدة الدلالة على الفرق الكبير في المعيشة الصادقة لقيم الدين، بين هذا الخليفة الأموي المسلم، الذي سلبه عرشه العباسيون وطاردوه، فجاء يطلب لنفسه الأمن عند ملك النوبة، وبين ملك النوبة المسيحي التقي، البسيط، المتواضع، المتمسك بقيم دينه. فمكارم الأخلاق والقيم السلوكية الرفيعة في المسيحية، هي في حقيقة الأمر، قيم إسلامية، والعكس صحيح. فقد جاء في القران الكريم: ((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم، وموسى، وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب)). (الشورى، الآية 42) . الشاهد، أن هذا الملك النوبي المتواضع، الذي يجلس على الأرض، أقرب إلى ما دعا إليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من هذا الخليفة الأموي المخلوع. فهو يحرص على الجلوس على الأرض رعايةً لقيمةٍ دينية عيسوية. وهذه القيمة السلوكية العيسوية، هي أيضاً قيمة محمدية. فقد جاء في حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا عبدٌ، آكل كما يأكلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العبد)). كما رُي عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأصحابه أيضاً: ((لا تعظموني كما تعظم الأعاجم ملوكها)). وأحب أن أكرر مرة أخرى، ما سبق أن ورد في مقالاتي السابقات، من أن الروحانية تمثل، في حقيقتها الكلية، العميقة، مظلةً واسعةً، يمكن أن يستظل بها كل من عمل بعقيدته بصدقٍ. فقد ورد في القرآن الكريم: ((إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)). ( المائدة، الآية 69). مسألة التدين الحقيقي، والتدين المظهري، مسألة تحتاج إلى فرز. ولذلك ليس كل سعي إسلامي بالقوة المسلحة، أو بالمكر والحيلة، للتمكن من بلدان الآخرين، هو بالضرورة، خيرٌ وبركة على خلق الله.

    ابن خلدون وخراب النوبة:
    أورد الدكتور حسن مكي في مقالته السالفة الذكر، آراء بن خلدون حول العصبية ومعاداة البدو للحضر، وما يراه في أمر سقوط ممالك النوبة المسيحية، واستعرابها. يقول الدكتور حسن مكي: ((لو كان البدو الوافدين على شيء من الحضارة والتمدن، لنجحوا في إحداث انقلاب أبيض، ولكانوا أزاحوا ملوك النوبة الحاكمين، والجلوس مكانهم، مع الاحتفاظ بمدن النوبة التاريخية سليمة، مثل دنقلا، وسوبا. غير أن هؤلاء البدو دمروا هذه المدن)). وأضيف من جانبي، إلى ما تفضل به الدكتور حسن مكي، أن الذي حدث للنوبة باسم الاستعراب وباسم الأسلمة، لم يكن كله خيراً وبركةً، كما لم يكن كله حراكاً إلى الإمام، وإنما كان كثيرٌ منه، حراكٌ إلى الخلف، بمعنى إبدال الحضارة بالبداوة. ويورد الدكتور حسن مكي، أيضاً، ما قاله ابن خلدون، وهو يفسر خراب النوبة، حيث قال إن العرب لم يكونوا على شيءٍ من الخطط الملوكية، وإنهم تغلبوا على بلاد النوبة، وفرقوا كلمتهم، وأزالوا ملكهم. فقد انتشرت أحياء العرب من جهينة، في بلاد النوبة التي استوطنوها، وملكوها، وملأوها عبثاً وفساداً. وحاول ملوك النوبة مدافعتهم، ولكنهم عجزوا. الشاهد أن غلبة العرب البدو على النوبة، أدى إلى تراجع الحالة الحضارية القائمة للنوبة، لا إلى نموها. وهذا هو ما جعل منطقة وادي النيل الأوسط والشمالي في السودان تدخل في هذه الغفوة التاريخية الطويلة. فالبصيص الوحيد الذي أضاء هذا التيه الطويل، إنما جاء حين وفدت الدعوات الصوفية، التي أتي بها أفراد، لم يكونوا على ارتباط بالسلطات الحاكمة. هذه الدعوات الصوفية أحيت موروث الروحانية، وموروث الأخلاق المتراكم منذ العهدين النوبي القديم، والمسيحي، وتوجته بالأقباس المشعة من النور النبوي، الذي انطفأ في عمايات الاندياحات البدوية، والأطماع الإمبراطورية. وأخلص مما تقدم، إلى أن هذا النوع من التوسع الذي لا يحمل زاداً حضارياً حقيقياً، ولا يحمل روحانيةً حقيقية، هو الذي استهدف الإرث الحضاري، والتكوين الروحاني المتراكم منذ سوالف الحقب، لدى أهل السهل، ولدى أهل الهضبة. ومثل هذا كثير في تاريخ الأمم. فما أكثر أن اجتاحت قبائل رعوية، حضارات عظيمة، وبددت شملها، وأدخلت أهلها في غفواتٍ حضارية طويلة. نحن نحتفي بتحالف عرب القواسمة، والفونج، لاسقاطهم سوبا وتخريبها، لمجرد أنهم كانوا يحملون "البطاقة الإسلامية". نحن بحاجة إلى النظر إلى تاريخنا، بعقل ينظر وراء البطاقات، ويعرف كيف يحفر وراء التعميمات التبسيطية. (يتواصل).

    الأحداث 28 يونيو2010

                  

08-07-2017, 12:14 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟! (12)

    سبق أن أشرت في حلقاتي الماضيات أننا ربما كنا بحاجة لأن نضع أرجلنا داخل الحذاء الإثيوبي، حتى تتسنى لنا رؤية الهوية الجمعية للإنسان الإثيوبي، فيما يتعلق بعلاقتنا بإثيوبيا، بشكل أفضل. فالهوية الإثيوبية في داخل إثيوبيا لا تنحصر في الصراع بين هوية "مسيحية" مقابل هوية "مسلمة". وعلاقتنا بإثيوبيا لا تنحصر في مقابلة بين كيانين، أحدهما "إسلامي" والآخر "مسيحي". فكلا القطرين شديد التنوع، ولا يحتمل هذا النوع من الاختزال المخل. لكن، ما أكثر ما تم استخدام الهوية المرتبطة بالدين لخلق حالة عداء مع أهل الديانات الأخرى، داخل القطر، ومع القطر المجاور المختلف في ثقافته، لتصب الحصيلة النهائية في جيب النخب الممسكة بمفاصل السلطة والثروة. وهذا أمر سوف أعود إليه لاحقاً في هذه السلسلة. ولكن يمكنني القول الآن، وبشكل مختصر، أن الإسلام قد تم استخدامه في السودان من هذا المنظور التبسيطي الضيق، وأحسب أن المسيحية قد ظلت تستخدم في إثيوبيا من هذا المنظور، أيضاً. ولو نحن نظرنا بعمق إلى جذر المسيحية، وإلى جذر الإسلام، من حيث الدعوة إلى سعادة الإنسان، وإلى تحقيق العدل، لما وجدنا اختلافاً يذكر. ولقد سبق أن قلت في مقابلة سابقة، أجراها معي الأستاذ صلاح شعيب، وتم نشرها في صحيفة الأحداث، أنني: ((لو أردت أن أختار هويةً لجعلت هويتي "العدل". فالإسلام في فهمي هو "العدل"، بأكثر من أي شيء آخر. وكل الجدل، وكل الحراك، وكل الإجراءات التي لا تجعل قضية العدل قضية مركزية، ليست سوى أمور مضللة. من يرفع الشعار الإسلامي لابد أن يكون متأسياً بسيد الخلق، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أو بعمر بن الخطاب على أقل تقدير. والتأسي بهما إنما يكون في خاصيتين أساسيتين هما: العدل، والزهد. لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة لدى يهودي))! تصنع النخب أصناماً مختلفة الأشكال، مختلفة الأحجام، لتلهي بها شعوبها، وتضللها بها عن حقوقها. فالدين، أياً كان، جوهره العدل. غير أن الدين يتم تفريغه من محتواه الإنساني، ويتم تحويله، من ثم، إلى وسيلة لإشعال الكراهية، ولتكريس المظالم. فإن نحن ظللنا معتنقين للموروث من النظرات الشوفينية، بشقيها الديني، والعنصري، التي تهيجها النخب، فإننا لن نبرح مربع قيود الماضي، ومرراته، وحزازاته المكبلة، قيد أنملة. ولذلك، فإننا اليوم في أمس الحاجة إلى قفزة، وعيوية، نوعية، تعبر بنا نحو أفقٍ جديدٍ للفعل التكاملي الإقليمي، المتوافق، المنسجم، الحافظ للطاقات، وللمقدرات، من هذا الهدر الأخرق الذي ما انفك يحيق بهما. ونحن اليوم، إنما نقف على مفترق الطرق: فإما أن نقفز إلى طورٍ وعيويٍ جديد، يمكننا، أن نبني، استناداً عليه، علائق جوارٍ هادئةٍ، مطمئنةٍ، مسالمةٍ، ومنتجة، وإما أن ننزلق في دوامة ارتدادات التشبث بالرؤى الموروثة، التي ظلت قائمةً، ويضيع منا زمنٌ كثيرٌ، ثمينٌ، وبنفس النسق الذي ظلت تنسرب به المقدرات من بين أصابعنا، منذ قرونٍ، وقرونٍ، خلون.

    تقتضي منا هذه القفزة النوعية، أن نعيد الأمر كله إلى فضاء الروحانية، الواقع وراء حيز المدافعات العقدية. وعلينا أن نتذكر دائماً أن التقاليد الدينية الإبراهيمة التليدة، قد وصلت إلى الحبشة، واستقرت فيها، قبل أن تصل إلى جزيرة العرب، في ثوبٍ جديد، ممثلةً في البعثة المحمدية المجيدة. كما ينبغي علينا أن نفهم سبب تخوف أهل العقائد الأخرى منا كمسلمين. فالإسلام هو الديانة التي فرضت مرحلة العقيدة منها الزحف على بلاد الكفر والتوسع فيها. وكل مشاكلنا الراهنة، إنما يمكن تجذريها في عدم قدرتنا كمسلمين، النفاذ من مرحلة "العقيدة" من الإسلام، إلى مرحلة "العلم"، و"العالمية"، منه. فحتى الحروب الصليبية التي يحلو لكثير من المسلمين أن يستخدموها دليلاً على النزعة القتالية، المسيحية، والعنف المسيحي تجاه المسلمين، فإننا نجد أن الذين تسببوا فيها بدءاً، كانوا هم المسلمون أنفسهم. يقول فتحي غيث، كاتب كتاب (الإسلام والحبشة عبر التاريخ)، وهو من المتحيزين للمسلمين الإثيوبيين، والقائلين باضطهادهم، اعتماداً على ما ذكره غوستاف لوبون، في كتابه (حضارة العرب)، ترجمة عادل زعيتر، أن سبب الحروب الصليبية هو تعنت الأتراك السلاجقة مع الحجيج المسيحيين، الذين كان يفدون إلى بيت المقدس. فعندما ضعفت الدولة العباسية أصبح الأتراك السلجوقيين في أوج قوتهم، وأصبحت لهم السيطرة على سورية. وبدأ هؤلاء الأتراك معاملة السكان المحليين، وأفواج الحجيج المسيحيين بقسوة، وشدة. فجادلوا النصارى، للمرة الأولى، في حق المرور وسط البلاد الإسلامية بلا إذن. وأكرهوا الحجاج على دخول القدس بخشوع، بدلاً من أن يسمحوا لهم بدخولها على صوت الصنوج وضوء المشاعل، وهو أمر كان العرب يسمحون به، فيما قبل. كما أخذوا يحملونهم على دفع الفدية، غير تاركين وسيلةً لإيذائهم إلا أتوها. (جوستاف لوبون ص 321). وقد شاهد تلك المضايقات قسيس يدعى بطرس فامتلأ غيظاً، ورجع إلى أوروبا، وأخبر البابا بما شاهد، وطاف البابا (أوربان الثاني) أرجاء أوروبا، مستنجداً، داعياً إلى إنقاذ مدينة المسيح، وتأمين طريق الحجيج المسيحيين. فقام ملوك أوروبا بتفويج الحملات العسكرية لانتزاع بيت المقدس. وهكذا بدأت الحروب الصليبية، التي أشعلت حالة من التعصب الديني، والعنف الديني، لا يزال العالم يعاني منها حتى يومنا هذا.

    تعددت الأشكال والغزو واحد!!
    حين يستحضر المسلمون المحيطون بالهضبة الحبشية، ما يرونه سيطرة سياسية "مسيحية" على تلك الهضبة، يدغمون أنفسهم، بوعي منهم، أو بغير وعي، في مطامع الإمبراطورية العثمانية، ويتماهون معها دون فرز. فهي، أي الإمبراطورية العثمانية، تمثل في وعيهم ما تبقى من "أشواق" "الخلافة الإسلامية"!! ولذلك، فهم يقومون بارتداء جبتها الإمبراطورية، بلا تأملٍ للمسافة الفاصلة بينهم وبينها، وينسون تماماً أنهم، هم أنفسهم، كانوا هدفاًً ثابتاً لمطامعها، وغرضاً من أغراض الغزوات العثمانية التوسعية. أورد الدكتور عبد المجيد عابدين في كتابه، (تاريخ الثقافة العربية في السودان)، الصادر عن دار الثقافة، في طبعته الثانية في العام 1967م، خبر نية العثمانيين احتلال ملكة الفونج السنارية السودانية، ما نصه: ((اختط أول ملوك الفونج، عمارة دونقس، مدينة سنار 1505م /910 هـ. وفي أيامه قدم السلطان سليم العثماني إلى سواكن ومصوع فامتلكها ودخل الحبشة. ومن هناك أراد الزحف إلى سنار، فخاطب عمارة يدعوه إلى الطاعة)). ويورد عبد المجيد عابدين ما رد به عليه عمارة دونقس الذي قال له، مستغرباً: ((إني لا أعلم ما الذي يحملك على حربي، وامتلاك بلادي، فإن كان لتأييد دين الإسلام، فإني وأهل مملكتي عرب مسلمون، ندين بدين رسول الله (ص)، وإن كان لغرض مادي، فأعلم أن أكثر أهل مملكتي عرب بادية، وقد هاجروا إلى هذه البلاد في طلب الرزق، ولا شيء عندهم تجمع منه جزية))، (ص 56). وكما هو واضح من خطاب السلطان سليم، أنه لم يكن يفرق، من الناحية العملية، بين الحبشة كمملكة "مسيحية"، وبين سنار، كسلطنة "إسلامية". فالجهتان بالنسبة له، من حيث الأغراض التي دفعته إلى التفكير في غزوهما، سيان. ولا غرابة! فرغبة السلطان سليم في ضم الحبشة، وسلطنة الفونج في سنار، تقف وراءه، في حقيقة الأمر، دوافع لا علاقة لها بالدين، الذي يعتنقه أهل أيٍٍ من هاتين المملكتين. فكون سكان تلكما المملكتين مسيحيين، أو كونهم مسلمين، لا يعني بالنسبة له شيئاً. فالذي يهمه فعلاً، إنما هو توسيع ملكه، وزيادة موارد دولته. الشاهد أن الحبشة وسنار قد كانتا مستهدفتين عثمانياً، وبنفس القدر. وبعد حوالي الثلاثمائة عام من فترة حكم عمارة دونقس ومحاولته إثناء السلطان سليم عن غزو سنار، لكونها مملكة إسلامية، وأهلها "عرب"، ولكونها فقيرة لا جزية تُرجى منها، وصل الأتراك العثمانيون، ممثلين في جيوش محمد علي، إلى السودان، وقضوا على مملكة سنار في العام 1821م، رغم "إسلاميتها". وهكذا نلاحظ أن الحبشة "المسيحية نجت من الاحتلال العثماني، لوعورة أراضيها، ولم يشفع لسنار "إسلامها" فتم محوها من على وجه الأرض!! الشاهد أن حشر الدين في هذه التمددات الإمبراطورية، ليس سوى حشرٍ خطابي،rhetorical ، شكليٍ، مَرَدَ عليه جملة من الكتاب المسلمين الذين لم يقووا على فحص حالة استلابهم بالأشواق الدينية "المرمنسة"، وانصرافهم عن رؤية الديناميات الحقيقية التي ظلت تشكل الممالك والإمبراطوريات في التاريخ. فهم يوهمون أنفسهم، ويوهمون الناس، أن هناك حالة "إسلامية"، متسقة، ومتماسكة تطلب التوسع، والتمدد لـ "وجه الله"!! هذا النوع من القفز على حقائق التاريخ، وعلى الآليات والديناميات التي تصنع الإمبراطوريات، والممالك، هو الذي تسبب في عشى العقول، وعدم قدرتها على رؤية التاريخ في أطر صحيحة. وهو ما جعل علائق الجوار لدينا لا تزال منحبسةً في أطار حالةٍ من الشك حول النوايا، وحالةٍ من التوجس المستمر. فنحن وجيراننا من أهل إثيوبيا ظللنا ضحايا لنخب متتالية، دينها هو السلطة والثروة، وليس الإسلام، أو المسيحية. والاستثناءات القليلة التي يمكن أن نستثنيها في هذا التوصيف، إنما تنحصر في حالات الهوس الدينية، التي تخلق أسوأ صور العنف، وأقصى صور عدم الاكتراث بالدم البشري.

    الحبشة بين مهديتين!!
    تُعد فترة حكم الملك عمدا صيون Amda Seyon (1314م ـ 1344م) هي الفترة التي ترسخ فيها حكم الأسرة السليمانية. ففي عهده توسعت المملكة لتشمل إقليم قوجام، حول منحنى النيل الأزرق الخارج من بحيرة تانا، وما وراء ذلك إلى إقليم بيجديمير. وقد وافقت فترة حكم عمدا صيون في الحبشة، فترة حكم السلطان الناصر قلاوون المملوكي في مصر. يقول ترمينغهام نقلا عن المقريزي، إن السلطان قلاوون (1285 ـ 1341م)، قام بتدمير كثيرٍ من الكنائس، مما حدا بالملك عمدا صيون أن يرسل إليه وفداً حبشياً في العام 1321م، طالباً منه إعادة بناء الكنائس التي دمرها، والكف عن اضطهاد الأقباط. وقد أنذر عمدا صيون الناصر قلاوون قائلاً إنهم سوف يتخذون إجراءات مماثلة ضد الرعايا المسلمين، في الحبشة، إن هو لم يوقف التعدي على الأقباط وكنائسهم في مصر. غير أن الناصر قلاوون سخر من الوفد الحبشي وقام بطرده. وحين سمع السلطان حق الدين، حاكم سلطنة إيفات الإسلامية المتاخمة للمملكة الحبشية بهذه الأنباء، تشجع وحول مناوشاته المستمرة مع أطراف المملكة المسيحية الحبشية، إلى حرب حقيقية، أغار فيها على الحدود الحبشية، وأحرق عدداً من الكنائس، وأجبر المسيحيين على اعتناق الإسلام. (فتحي غيث، الإسلام والحبشة عبر التاريخ، ص 127). الشاهد أن الحبشة ظلت مستهدفة "إسلاميا" لقرون وقرون، وما جرى من ضغط على المسلمين الأحباش في عهد الإمبراطور يوحنا، في القرن التاسع عشر هو أمر سبقته تحرشات استمرت لقرون عديدة، ولا ينبغي أن يُنظر إليه بمعزل عن حالة التأهب التي جعلت الممالك الحبشية المسيحية المختلفة تقف على أمشاطها قروناً، تحسباً لغزوات المسلمين.

    رسم الكاتب فتحي غيث في كتابه المسمى (الإسلام والحبشة عبر التاريخ)، الذي وردت إليه عدد من الإشارات في هذه السلسلة من المقالات، صورة للهبة "المهدوية" التي قام بها أحمد بن إبراهيم الأشول (1506م ـ 1543م)، المعروف بـ (أحمد قران). واستند غيث في رسمه للصورة على كتاب (فتوح الحبشة) لعبد القادر بن سالم بن عثمان شهاب الدين الشهير بـ "عرب فقيه". واسم الكتاب (فتوح الحبشة) تطرق فيه مؤلفه لما يحلو للمؤرخين المسلمين تسميته بـ "الغزو العظيم". يقول شهاب الدين نقلاً عن أحد الرواة الذين يثق فيهم، أن أحدهم رأي في منامه النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه أبو بكر، وعن يساره عمر بن الخطاب، وبجوارهم علي بن أبي طالب، وبجانبهم الإمام أحمد بن إبراهيم ـ فسأل الرجل النبي قائلاً: من هذا يا رسول الله، ويجيبه النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا هو الرجل الذي سيصلح الله به بلاد الحبشة)). أمضى أحمد بن إبراهيم الأشول سنواته الأولى في صراع مع السلطان أبو بكر في هرر، وانتهى الصراع بينهما بقتل السلطان أبي بكر، وقام أحمد بن إبراهيم بتنصيب شقيق القتيل ملكاً على هرر. ويقول فتحي غيث: ((وعندما فرغ من هذا الأمر، أخذ يعمل على تحقيق الهدف الأكبر الذي شعر بأنه قد خُلق له، وهو أن يكون (إماماً للمسلمين)، ويستولي على جميع أرجاء الحبشة. وانطلق أحمد بن إبراهيم يكتسح الهضبة الحبشية جزءاً، جزءاً، حتى استولى عليها جميعها. ويقول فتحي غيث: ((ولقد اتسمت غزوات الإمام أحمد بالسرعة والمفاجأة والحماس والشدة التي لا تقاوم، وتخللتها الكثير من مظاهر القسوة)). فقد خير أحمد بن إبراهيم المسيحيين من الأحباش إما أن يسلموا، وإما أن يدفعوا الجزية، وإما أن يُقتلوا. ويقول صاحب (فتوح الحبشة)، أن سكان الهضبة الحبشية اعتنقوا الإسلام، نتيجة لذلك الغزو الكبير. ويورد فتحي غيث عن كونزلمان قوله: ((لم يبق على مسيحيته أكثر من العُشر، وهؤلاء هم الذين فضلوا دفع الجزية. ولقد حاول بعضهم مقاومة الإمام، وتحصنوا في بعض الأماكن، فهجم عليهم الإمام فاستسلمت الغالبية، وقبلت دفع الجزية. أما من رفضوا فقد قضى عليهم الإمام)). ومن الإشارات المهمة التي أوردها فتحي غيث، هي أن الإمبراطور أحمد بن إبراهيم أصبح إمبراطوراً على كل الهضبة الحبشية وهو لم يتعد الرابعة والثلاثين من العمر!! ومن جانبي، فقد رأيت أن أنظر في دلالة صغر سن صاحب "الغزو العظيم" هذا. فلو عرفنا أن فترة حكم الإمام أحمد بن إبراهيم الأشول للحبشة التي أجبر فيها الأحباش على اعتناق الإسلام، قد استمرت لخمسة عشرة عاماً، وأنه توفي عن 37 عاماً فقط، لعرفنا أنه بدأ "مهديته"، أو دعوته الجهادية ضد المسيحيين وعمره 22 عاماً فقط. فتصور شخصاً يتصرف نيابةً عن السماء، معطياً نفسه حق تغيير دين الآخرين قسراً، وإعادة رسم الخريطة التاريخية، الدينية والثقافية، لكل الهضبة الإثيوبية، وعمره لم يتجاوز الـ 22 عاماً!! في الحلقة القادمة أناقش التشابه بين مهدية أحمد قران، ومهدية مهدي السودان محمد أحمد بن عبد الله، والاستعانة بالبدو لقهر الحضر من اجل بناء سلطان جديد، والآثار الممتدة لمثل هذه الانقلابات. (يتواصل).
    نقلا عن صحيفة الأحداث 5 يوليو 2010

    _________________
                  

08-07-2017, 12:15 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل؟! (13)

    [email protected]

    ما قام به أحمد بن إبراهيم الغازي، الملقب بـ (أحمد قران)، من غزو لسائر أرجاء الهضبة الحبشية كان عملاً عدائياً، اندفاعياً، فجائياً. كما كان، أيضاً، خروجاً على ما ظل سائداً بين الإمبراطورية الحبشية، وجيرانها من المسلمين المحيطين بها، من حيث معرفة كل طرف بنقاط القوة لدى الآخر، مضافاً إلى ذلك ما كان من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بترك الأحباش وشأنهم ما تركوا المسلمين. ولذلك، فإن ما قام به أحمد بن إبراهيم الأعسر، كان إخلالاً فادحاً بالتوجيه النبوي بشأن الحبشة، وبميزان القوى الذي ظل قائماً في تلك المنطقة لزمانٍ طويل. ولذلك، لا غرابة، أن انهارت السيطرة التي حققها أحمد بن إبراهيم الغازي على سائر بقاع الهضبة الحبشية، بمجرد موته. فقد انهار كل ما حققه عبر سنوات حروبه التي امتدت لخمسة عشر عاماً، فجأةً، وعادت، من ثم، الهضبة الحبشية، مرةً، أخرى إلى قبضة ملوكها المسيحيين. ذكر فتحي غيث في كتابه (الإسلام والحبشة عبر التاريخ): ((أن بعض المسلمين خاطبوا الإمام أحمد قبل إحدى المعارك يحذرونه من مغامراته التي لم يقدم عليها آباؤه، أو ما سبقه من الملوك والسلاطين، الذين كانوا يكتفون بمناوشة الحبشة بالإغارات التقليدية على حدودها فقط، أما حربهم داخل بلادهم ففيها خطرٌ كبير، قد يعود على المسلمين بالخسران. ولكن الإمام أحمد أجابهم بأن الجهاد في سبيل الله لا يمكن أن يعود بالخسران على المسلمين)) (ص 152).

    الرأي الذي أشار به أولئك الرجال للإمام أحمد، كان رأياً مؤسساً على معرفةٍ راسخةٍ بتاريخٍ طويل، وعلى حكمةٍ تراكمت عبر الأجيال، وعلى ادارك عميق لتاريخ الحبشة، وللطبيعة الوعرة للهضبة الحبشية. بعبارات أُخر، ما أشار به هؤلاء الرجال على الإمام أحمد، يدل على معرفةٍ بما هو ممكن التحقيق، وما هو غير ممكن التحقيق. أو دعنا نقول: ما يمكن تحقيقه والمحافظة عليه، وما يمكن تحقيقه، ولكن تستحيل المحافظة عليه. غير أن الإمام أحمد، في ما يبدو، لم يكن ليسمع غير الصوت المنبعث من داخله هو. فقد دلل رده على من نصحوه أنه ليس ممن يقيمون وزناً للتاريخ، أو للمعرفة المتراكمة، أو للمشورة. لقد كان منطلق الإمام أحمد منطلقاً جهادياً، توسعياً، غاب فيه صوت العقل وصوت الحكمة. ولا عجب إذن أن كان رده على هؤلاء الذين حذروه، رداً بسيطاً، صارماً، استخدم فيه لغة الخطاب الديني لإخراس الاعتراضات وللإفحام: ((الجهاد في سبيل الله لا يمكن أن يعود بالخسران على المسلمين))!! غير أن المحصلة النهائية دلت على أنه مخطئ، إذ عادت غزواته بالخسران على المسلمين ولقرون. كما أن الأحباش المسيحيين لا يزالون يرون في غزوات أحمد بن إبراهيم الغازي أقوى الأدلة على النزعة الحربية التوسعية، الاستئصالية الإسلامية. مات في حروب أحمد بن إبراهيم الغازي عشرات الألوف، وربما مئات الألوف، ورغم ذلك، عاد قلب الهضبة الحبشية إلى قبضة الأباطرة المسيحيين، مثلما كان، منذ القرون الميلادية الأولى. يضاف إلى ذلك أن أحوال الإمارات الإسلامية نفسها تضعضعت نتيجةً لذلك الغزو. يقول فتحي غيث، وهو من المهللين لغزوات أحمد بن إبراهيم، في كتابه المشار إليه عاليه: ((فقد شعر المسلمون أن حالتهم بعد الغزوة كانت أشد ضعفاً من حالة أعدائهم، المسيحيين. بل أصبحت من الضعف بحيث صارت أرضها ممهدة لأن تكتسحها قبائل الجالا من الجنوب. فلقد أنهكت البلاد حروب الإمام أحمد، وتسببت هزيمته في فقد كثير من الأموال والأرواح وخصوصاً بين قبائل العفارAfar والصومال الذين اعتمد عليهم الإمام في غزوته)). (ص 160). ولا غرابة، فهذه نتيجة منطقية لاستخدام العاطفة الدينة الفجة، والعنف، والشراسة البدوية، لصنع التاريخ.

    حداثة السن والنزعة الجهادية:
    لابد لكل من ينظر إلى حروب الإمام أحمد بن إبراهيم الأعسر، ألا يغفل عن حقيقةٍ هامة، وهي أنه كان في مقتبل العشرينات، حين أشعل تلك الحروب المتتالية التي أحرقت الإقليم كله. وقد اتسمت تلك الحروب بالعنف العنيف، حتى بشهادة من يتحسرون على نهايتها التي جاءت في صالح أباطرة الحبشة المسيحيين. لقد كان أحمد بن إبراهيم الغازي مدفوعاً بعقيدة جهادية توسعية. وإطلاق لقب "الغازي" عليه، وهو لقب أصبح جزءاً من اسمه، يدل، هو في حد ذاته على نزعته الجهادية التوسعية. لقد تلبست هذا السلطان، ما يشبه الحالة المهدوية، خاصة بعد أن قام بقتل السلطان أبو بكر، أمير هرر، في العام 1526م، ونَصَّبَ شقيق السلطان المقتول ملكاً تابعاً له. والسلطان أبو بكر نفسه كان قد زحف من هرر إلى زيلع، قبل عام واحدٍ من موته، أي في العام 1525م، فاستولى عليها بعد أن قتل أميرها. (ترمينغهام ـ الإسلام في إثيوبيا). وعموماً فإن من يتأمل تاريخ إمارات الطراز الإسلامي في تلك الفترة، يحس حالة الإضراب الداخلي والتناحر على السلطة. في هذا الجو جيَّش أحمد بن إبراهيم الغازي الجيوش من قبائل الجالا والعفر والدناكل، لكي يقوم بما لم يقم به سابقوه وهو الاستيلاء على قلب الهضبة الحبشية، بحد السيف. ولقد عانى الإمام أحمد من اعتماده على البدو في غزواته تلك. يقول فتحي غيث عن الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي: ((ولكنه كان قلقاً من (الجالا البدو) الذين يشكلون جانباً هاماً من قوته، لما يتصفون به من صفات يصعب ترويضها، فعلى الرغم مما بذله معهم من مجهودات، فضَّل كثيرٌ منهم العودة إلى موطنهم حاملين معهم ما غنموه من أسلاب). (ص 152) .

    الهوامش المعزولة ونزعة الجهاد:
    خفت صوت االدعوة إلى الجهاد، بمعنى الحرب الدينية، منذ التوسع الإسلامي الإمبراطوري الأول، الذي أعقب عهد النبي والشيخين، حين اتسعت الإمبراطورية الإسلامية لتشمل ما وراء فارس، وما وراء الشام، وما وراء مصر، مرورا بالساحل الشمالي لإفريقيا حتى المغرب وأسبانيا. فقد تغير حكم الوقت حينها، ونمت المعارف، وكثر الاختلاط بين الناس بمختلف أجناسهم وعقائدهم، وألوانهم، وثقافاتهم. وساد الاستقرار حيناً من الدهر، ونمت روح التعايش بين أهل الأديان المختلفة، وتشابكت مصالحهم وارتباطاتهم، واعتمادهم على بعضهم بعضا. ولقد بلغت حالة التعايش الديني والتسامح في الحقبة الأندلسية حداً أصبح به مبنى العبادة الواحد يستخدم مرتين: مرة للمسلمين في يوم الجمعة ومرة للمسيحيين في يوم الأحد. ولا يزال اليهود، إلى يومنا هذا، يرددون أن أفضل أوقاتهم إنما كانت تلك التي عاشوها في ظل الحكم الإسلامي في الأندلس. يقول د. محمد الكتاني في ورقته المنشورة في مجلة الإسلام اليوم Islam Today (N° 25-2008) تحت عنوان: "تفعيل ثقافة الحوار باستخدام الحضارة": إن التكامل الحضاري بين المسلمين واليهود والمسيحيين وغيرهم من المجاميع الإثنية والطوائف الأخرى قد وصل في الأندلس عبر ثمانية قرون درجة غير مسبوقة. ويضيف د. محمد الكتاني أن محمد كرد علي (1953 م) قد نقل عن المستشرق سيديلوت، 1875) م) قوله، إن المسلمين في الأندلس جعلوا يوم الأحد يوم عطلة. ويقول هذا المستشرق أيضاً، إن شيئا مشابها كان يجري في منطقة المشرق، حيث ُسمح للمسيحيين بإعادة بناء الكنائس التي تم تدميرها أثناء الحروب الصليبية، كما جُعلت إدارة الكنائس والمعابد اليهودية في أيدي القساوسة المسيحيين، والرابايات اليهود. كما ذكر أن بعض المسيحيين واليهود كانوا يختارون التقاضي أمام المحاكم الإسلامية ثقةً منهم في النظام العدلي القائم وقتها.

    انقضى ذلك العهد الذي أوصلته تلك الصحوة الحضارية الكبيرة، ونمو الحس المتمدين، إلى ترك النزعة الجهادية وراء ظهره. غير أن الحرب الجهادية الدينية، عادت كرةً أخرى. ولكنها حين عادت ثانية، لم تنطلق من المراكز الحضرية الإسلامية، وإنما انطلقت من الأطراف البعيدة، كهرر في الهضبة الحبشية، في القرن السادس عشر الميلادي، ممثلة في حركة أحمد بن إبراهيم الغازي، وفي بادية نجد في القرن الثامن عشر الميلادي، ممثلة في حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفي غرب السودان في القرن التاسع عشر الميلادي، ممثلة في حركة محمد أحمد بن عبد الله، المعروفة بالحركة المهدية. ولو تأملنا كل هذه الدعوات لوضح لنا أنها دعوات تنطلق من مجرد العاطفة الدينية كما تفتقر إلى العمق المعرفي، وبالتبسيط الشديد للأمور. فليس هناك ما هو أكثر بساطة من اختزال مسألة الإصلاح في مجرد نشر خطاب ديني دبجه فرد واحد، ثم تم فرضه على الناس، مسلمين، وغير مسلمين، بقوة السلاح. أيضاً لم تنطلق تلك الدعوات، كما سلفت الإشارة، من المراكز الحضرية، حيث التراكم المعرفي، والخبرة، والحكمة المتوارثة، وإنما انطلقت من الأطراف والهوامش الإسلامية. ولذلك لو أجرينا مقارنة بين حالة التعايش الإسلامي، المسيحي، اليهودي الذي تم في الأندلس بما جاء بعده مما رأيناه من محاولة أحمد بن إبراهيم الغازي السيطرة على الهضبة الحبشية، وتقتيله لمسيحييها، وتخريبه لكنائسها، ونظرة المهدويين السودانيين للأحباش، وعزمهم على "إعادة فتح العالم الإسلامي" كله، ثم نظرة الوهابيين إلى المتصوفة، وحربهم مع القباب والأضرحة وتسويتهم للقبور بالأرض، لاتضح لنا مبلغ حالة الردة التي وقعت فيها الحضارة العربية الإسلامية، في النصف الثاني من الألفية الميلادية الثانية.

    قهر الحضارة بالبدو!!
    استهدفت كل هذه الدعوات التي سبقت الإشارة إليها، البسطاء من البدو، فعبأتهم بالخطاب الديني، وجيشتهم. ولم تستهدف العلماء، والقادة، والمدركين المجربين من الناس. أو قل، على الوجه الأصح، أنها خاطبت العلماء في بداياتها، ولكنها انصرفت عنهم حين ظهر أن العلماء والمجربون لا ينقادون، دون أن يتساءلوا، ويستوضحوا. ولربما يفحم العلماء، والمدركون من الناس، والحكماء، في أحيان كثيرة، أصحاب هذه الدعوات، ويزعزعون ثقتهم في عقيدتهم الصماء المتمركزة أساساً حول ظنهم بأنهم أصحاب رسالاتٍ وأوامر سماوية لا يملكون عنها منصرفا. ولذلك سرعان ما يترك هذا النوع من الدعاة العلماء والحكماء، وعارفي مخاطر الانقلابات الفجائية، وراء ظهورهم، وينصرفون عنهم إلى البسطاء، خاصة في البيئات البدوية المعتادة على الحروب وعلى الغارات، وعلى النزاعات المسلحة، والقابلة، من ثم، للتعبئة وللتجييش، فيلهبون عواطفهم، ويعطونهم السلطة الدينية والإذن باجتياح المتشكل القائم بقوة السلاح، دون فرز أو تمييز. فتنقلب الأمور كلها رأساً على عقب. هذا الوضع يسفر، في حالة الانتصار، عن رفع الأقل معرفة إلى مركز القيادة، وإنزال الأكثر معرفة من مركز القيادة. فالشخص الذي يصدِّق ويتَّبِع هذا النوع من الدعاة الدينيين، هو الأفضل عند هذا النوع من الدعاة، وهو الأقرب إلى الله، مهما كان جهله، وذلك لمجرد أنه صدَّق بالدعوة واتبعها. أما العالم، الذي يعرف كيف يتشكك، وكيف يتساءل، وكيف يحاجج، فلا مكانة له. بل ربما قادته هذه الصفات، ليس إلى الإبعاد وحسب، وإنما إلى القتل في نهاية المطاف.

    أورد الدكتور عبد المجيد عابدين، في كتابه (تاريخ الثقافة العربية في السودان) قصة الشيخ المضوي عبد الرحمن، أحد أحفاد الشيخ إدريس ود الأرباب الصوفي المعروف المدفون في بلدة العيلفون. يقول الدكتور عبد المجيد عابدين، أن الشيخ مضوي حكى قصته مع المهدي لنعوم شقير، فقال: ((بعد أن أتممت دروسي في الأزهر ذهبت إلى بلاد كركوج في أعالي النيل الأزرق، فأقمت فيها حلقة للتدريس، واشتغلت بالزراعة. فلما ظهر محمد بدعواه لم أحفل به. ولكن، لم يلبث أن انتصر على أبي السعود في جزيرة أبا، ثم على راشد بك في جبل قدير. وكثرت أقوال الناس بعجائبه وكراماته، فاهتممت إذ ذاك بأمره وهاجرت إليه. فرأيت منه أمورا حملتني على الارتياب بأمره، فأولاً: أني رأيته يؤثر أقاربه وأخصَّاءه بالغنائم على بقية جيشه، ولا يقسم بينهم بالتساوي كما يطلب الشرع. وثانياً: أني رأيت بعض أنصاره نزلوا على تجار سائرين فقتلوهم وأخذوا أموالهم ووزعوها بينهم ولم ينكر عليهم ذلك، ولا قاصَّهم) (ص 132.). وذكر الشيخ المضوي أنه كتم اعتراضاته تلك عن المهدي، خوفاً على نفسه. فالمهدي قد كفر من لا يؤمنون بمهديته، واستباح دماءهم. ويروي الدكتور عبد الله علي إبراهيم، في كتابه، (الصراع بين المهدي والعلماء)، استنادا على Elles. R. J.، واقعة إعدام القاضي ميرغني الذي صحب المك آدم لمقابلة المهدي، وكيف أنه سيق إلى الإعدام حين واجه المهدي منكراً مهديته. وقد ظل القاضي ميرغني يحاول طيلة الطريق من جبال النوبة إلى الأبيض، يحاول إثناء المك آدم من الذهاب إلى مقابلة المهدي، خاصةً بعد أن تلكأ المك آدم وأبطأ على المهدي، الذي وجه إليه دعواتٍ متكرراتٍ للقدوم إلى الأبيض. وقد أثبت الدكتور عبد الله علي إبراهيم، في كتابه المذكور عاليه، بعضاً من الروايات المحلية التي تقول إن المهدي أجرى في زيارته الثانية لجبال النوبة مناظرةً مع علماء جبال تقلي، وذكر منهم القاضي ميرغني، والعالم طه، ودفع الله ود بَقُّوْيْ. وإنني لأميل إلى القول بأن ما شاهده أتباع المهدي من إعداماتٍ لخصومه في بدايات حركته، انعكس على مسلك قادته الذين رباهم، وكان لذلك أبلغ الأثر على مآلات الحركة المهدية، عقب وفاته. فقد أصبح الغدر، والتنكيل بالمعارضين، بل حتى الذين تحوم حولهم بعض الشكوك، سياسة ثابتة للدولة المهدية، عبر سنواتها الثلاث عشرة التي أعقبت وفاة المهدي. وهذا مما يذكره مؤرخينا على استحياء، ويمرون عليه مرور الكرام.

    في تقديري ينبغي أن تصحب النظرة إلى التاريخ الظروف المحيطة أو الـContext . وأعني هنا تحديداً النظرة إلى البنية الكلية للحضارة الإسلامية، وحالة السيولة والسعة في قبول الآخر المختلف التي بلغتها تلك الحضارة في الحقبة الأندلسية، ثم حالة التراجع المعرفي، والضمور العقلي، التي أصابتها حتى انبعثت الدعوات الجهادية فيها مرة أخرى منطلقة من هوامشها وصحاريها، وأكثر أطرافها فقراً، وقلة علم. علينا أن ننظر إلى العزلة المعرفية التي كانت تلف الحقبة المهدوية في السودان، والتي كانت تلف أيضاً، بادية نجد إبان انطلاق الدعوة الوهابية، وكانت تلف، من قبلهما، إمارات الطراز الإسلامي التي كانت قائمةً على أطراف الهضبة الحبشية. حين ننظر إلى درجة وعي وإدراك أصحاب هذه الدعوات، مقارنةً بالمستوى المتحقق في الحواضر المشرقية الكبرى كالقاهرة، وإستنابول، ومن ورائهما الحواضر الغربية، نجد أن هذه الدعوات انطلقت من عزلة مطبقة، ومن فقر معرفي، وحضاري كبير. فلو نحن جردنا هذه الحركات، وانتصاراتها العسكرية، من الأشواق الدينية الساذجة، ومن "الرمنسة"، ثم قارناها بالإطار الذي أحاط بها، وبَيَّنَّا العزلة المعرفية المطبقة التي اعتورتها، وفصلتها من التواصل مع معارف وقتها، ثم ركزنا على اعتمادها في استخراج الأفكار الإصلاحية من متون الكتب الدينية، وحدها، ومن الرؤى المنامية، وأضفنا إلى كل أولئك المآلات التي صارت إليها هذه الحركات، وما أسفرت عنه في الواقع، لأعاننا ذلك على الخروج من حالة عدم الانتفاع المزمنة من تاريخنا، التي ظلت تلفنا، ولا نزال، نرزح فيها، حتى اليوم. (يتواصل).
    صحيفة الأحداث - الاثنين 12 يوليو 2010
                  

08-07-2017, 12:16 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟! (14)

    "في البدو والحضور":
    عندما تحدثت عن الانقلابات الاجتماعية التي ينتج عنها إحلال البداوة محل الحضارة، باسم الدين، لم أعن أن الحط من قدر أهل البادية. ولم أعن أن مطلق حاضرة أفضل من مطلق بادية. ما قصدته هو تبيين هرمية الوجود الاجتماعي للبشر، وانتقال الحياة من الوحشية إلى الإنسية، ومن شظف العيش إلى رغده، ومن بساطة الحياة إلى تركيبيتها، ومن سكونها إلى حركتها، وما يعتور هذه السيرورة التاريخية من انتكاسات، كثيرة تحدث هنا وهناك. هناك مسار عام فيه انتقلت الحياة من الغابة إلى المدينة، ومن الجهل إلى العلم، ومن قلة الحيلة إلى سعتها. ولذلك لابد لنا من قياس التغييرات التي تحدث وفق هذا الإطار الكلي، لنرى ما إذا كانت الهبة، أو الثورة المعينة، قد أضافت إلى حركة الصعود الكلية، أم انتقصت منها. يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته، طبعة دار الفجر للتراث، العام، 2004: ((البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم ... ولا يُنتهى إلى الترف والكمال إلا إذا كان الضروري حاصلاً، فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد أن التمدن غاية للبدو يجري إليها وينتهي سعيه إلى مقترحه منها ... والحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها، أو التقصير عن أحوال أهل مدينته)) (ص 163). فوما رسمه ابن خلدون هنا لهرمية وتراتبية الحالتين "البدوية" و"الحضرية"، إنما يصور المسألة على شكل جيد جداً. ولقد سبق أن أوردت في مقالاتي السابقات رأي ابن خلدون في غلبة العرب على النوبة، وقوله كيف أن العرب تغلبوا على النوبة، بعد أن ملأوا بلادهم فسادا. أحببت أن أورد قول بن خلدون هذا، لأن التصور السائد هو أن العرب جاءوا بالإسلام إلى السودان، وهذا صحيح، ولكنه يحتاج إلى تمعن. فما يتم بناؤه على هذه الحقيقة التاريخية، من غير تمعنٍ، ليس صحيحاً تماماً. فغلبة العرب على النوبة وإدخالهم الإسلام، لا يعني بالضرورة أن الحالة الحضارية في هذه المنطقة قد ارتفعت. فوصول العرب، ومعهم الإسلام، على الصورة التي وفد بها إلى المنطقة، لا يعني أن ذلك التحول كان خيراً وبركة على النوبة، وعلى أهل السودان. والسبب هو: أن الذين اجتاحوا ذلك الإقليم كانوا رعاةً بدواً، ولم يكونوا علماء ودعاة. لقد دمرت النقلة التي أحدثها أولئك الوافدون إلى الإقليم ما تبقى من تراثٍ حضاري لبلاد النوبة. لقد أطفأ ذلك التحول جذوة الروحانية النوبية التي كانت فتيلة شمعتها قد ضعفت وقلَّ توهجها. كما قضى ذلك التحول، أيضاً، على الإرث الثقافي النوبي، المتراكم عبر الحقب، أو ما يسمى بالـartifacts، المتمثلة في الفنون المختلفة، من خزف، ونحت، وتشكيل للمعادن، وصياغة للمجوهرات، ومن فنونٍ معمارية، خاصة معمار المعابد والأهرامات النوبية، الكنائس المسيحية التي هُدمت، أو أهملت حتى تهدمت، والجداريات الملونة التي أُتلفت، وأهم من ذلك كله القضاء على الطاقة الخلاقة التي أنتجت هذا الإرث الحضاري المتميز. فالتصور التبسيطي simplistic الذي تشكل في أذهان السودانيين، وعززته سيادة النظرة الدينية، هو الذي جعلنا نظن أن وصول الإسلام إلى بلاد النوبة كان حدثاً مشابهاً، وربما مطابقاً، لما جرى في جزيرة العرب، حين أشع فيها نور النبوة في القرن السابع الميلادي. تحدث هذه المطابقة غير الصحيحة، لمجرد أن العرب حين تغلبوا على النوبة كانوا حاملين للبطاقة الإسلامية، وكان النوبة مسيحيين!! ولكن حقيقة الأمر ليست بمثل هذه البساطة.

    إسلام الدين وإسلام الحضارة:
    البطاقة الإسلامية التي لا يقف وراءها محتوى حضاري، لا تكفي لإثبات أن ما حدث كان حراكاً إلى الأمام. فالهبَّة الدعوية لا عبرة بها إن لم تتحول إلى حالة حضارية. وما حدث في السودان أن القبائل العربية الرعوية التي وفدت إليه كانت تحمل "البطاقة الإسلامية" ولكن بلا عميقٍ من المعاني الإسلامية الحقيقية. وهذا هو ما أشار إليه ابن خلدون، حين ذكر أن العرب عاثوا في النوبة فسادا، ثم ملكوها. استقرت القبائل العربية الرعوية، حين وفدت إلى السودان، في المراعي الشاسعة بعيداً عن النيل، وبمرور الزمن ونمو التبادل التجاري زاد الاستقرار والتداخل عن طريق التزاوج مع النوبة. وأستفاد الأعراب الوافدون من نظام الوراثة لدى النوبة، فأصبحت لهم بمرور الزمن الغلبة في نهاية الأمر. ولقد كانت النوبة تعيش فترة اضمحلال حضاري، وحين امتزج بهم العرب وغيروا هيئة بلادهم لم يضيفوا عنصراً حضارياً جديداً، ولم يحدثوا نهضة حضارية، كما فعلوا في مصر، وفي الشام، وفي الأندلس، وإنما أطالوا وعمقوا حالة الاضمحلال الحضاري. والسبب بسيط، وهو أن الذين وفدوا إلى وادي النيل، كانوا بدواً،كما كان بعضهم الآخر تجاراً، ولم يكونوا رسلاً أو مبشرين بقيم جديدةً. ولذلك فهم قد جلبوا إلى وادي النيل خلالاً بدوية وطمعاً في التملك. وعموماً فإن قدومهم لم تنتج منه نقلة بقدر ما نتج منه تعميق وإطالة لحالة الغيبة الحضارية التي كان هذا الإقليم داخلاً فيها أصلاً. وقد كانت الحالة الحضارية لهذا الإقليم ملء سمع العالم القديم وبصره، حتى حوالي سبعة قرون من لحظة وفود العرب. وإني لأزعم أن آثار هذه النقلة لا تزال ماثلة في حياتنا الراهنة. وهي التي ظلت تُغَلِّب عندنا الديني اللاحضاري، على الديني الحضاري.

    هذه الحالة التي تتغلب فيها البداوة على الحضارة تكررت مرات في التاريخ الإسلامي. يقول جورج طرابيشي في كتابه، (من النهضة إلى الردة، الصادر عن دار الساقي، في طبعته الثانية، في العام 2099م أن سيرورة انغلاق الحضارة العربية على نفسها بدأت في نهاية القرن الخامس الميلادي، حين كفًّر أبو حامد الغزالي الفلاسفة في مؤلفه "تهافت الفلاسفة". ويرى طرابيشي أن عملية "الأسلمة" ارتدت من المجتمع إلى الإسلام، إذ ارتفعت الأصوات بتطهير الإسلام وتنقيته، مما يُعتقد بأنه "ليس إسلامياً". ويضيف طرابيشي أنه ليس من قبيل المصادفة أن تزامنت تلك الانتكاسة مع الاحتلال السلجوقي للقسم الشرقي من الدولة العربية الإسلامية. فالسلاجقة كانوا "شعباً" من البدو، وقد أحدثوا خراباً كثيراً في مدن خراسان والعراق، قبل أن يستولوا على بغداد عام 1055م. ويقول طرابيشي، إن حظ السلاجقة من الثقافة بقي ضحلاً حتى بعد اعتناقهم الإسلام السني. ويؤرخ وصول السلاجقة إلى السلطة لحالة الانفصال المرعبة بين الدين والثقافة. ويضيف طرابيشي ملاحظة هامة، وهي: كلما قلَّت ثقافة الحاكم، ووعيه، وتمدنه، كلما تشدد في الدين ضماناً لمشروعية حكمه، (ص 88). أما المثال الثاني الصارخ لانتصار البداوة على الحضارة فيمثله الغزو المغولي لبغداد، في القرن الثالث الميلادي. يقول طرابيشي إن الغزو المغولي قد أحدث دماراً مادياً ماحقاً، فأحرق بغداد، وأعادها، بعد خمسة قرون من العز الحضاري، منقطع النظير، إلى عصر القرية. ونلاحظ أن حضارة بغداد قد استهدفت في المرتين المذكورتين، من جهتين بدويتين: الأولى كانت قوة داخلية، تمثلت في الأتراك السلاجقة الذين اعتنقوا الإسلام، ولكنهم ارتدوا بالحالة الحضارية الإسلامية التي كانت قائمة, إلى الوراء. أما المرة الثانية فقد كانت من جهة خارجية، وهم المغول الذين وفدوا من سهوب آسيا الشمالية الشرقية فأرجعوا عقارب الساعة في بغداد دوراتٍ إلى الوراء.

    الشاهد أن مسألة التدين والتحضر مسألة تحتاج إلى إعادة فرز. فالتدين لا يعني بالضرورة التحضر. ويقول هادي العلوي في حواره مع جواد سليم، المنشور تحت عنوان: (هادي العلوي: حوار الحاضر والمستقبل)، الصادر من دار الطليعة الجديدة، في العام 1999م: ((التفريق بين "إسلام حي" و"إسلام ميت" يرجع إلى التفريق بين إسلام الدين وإسلام الحضارة ... إسلام الحضارة يشتمل على العلوم والفلسفة والفقه بوصفه حقوقاً، وعلم الكلام، بوصفه فكراً فلسفياً، وثورةً اجتماعية، والتصوف بوصفه معارضةً. أما إسلام الدين فيشتمل على العقائد والعبادات والفقه بوصفه شرعاً دينياً، وعلم الكلام بوصفه لاهوتاً، والتصوف بوصفه منحى غيبياً. مع حلول القرن الثامن الهجري، توقفت بوجه عام الفعالية الحضارية، فلم تبق الفلسفة ولا الفلاسفة، ولا التصوف بمنحاه الأصلي، ولا علم الكلام كفكر فلسفي. كما توقف مد الثورة الاجتماعية، وحركة المعارضة، وانفرد الدين بالعالم الإسلامي))، (ص 54-55).

    البصمة الحضارية والمعتقد الديني:
    أردت أن أخلص من كل ما تقدم أننا بحاجة إلى إعادة النظر في الصورة التي رسمناها لتاريخينا في مخيلتنا الجمعية. وأعني هنا، الصورة التبسيطية (simplistic)، التي تعتمد المعتقد الديني وحده كمرتكز حضاري، وتهمل الإرث الثقافي والحضاري المتراكم منذ سوالف الحقب. وأحب أن أعقد هنا مقارنة بين حالنا وبين حال كيان حضاري آخر، هو الكيان الحضاري الفارسي الذي اعتنق الإسلام بعد انهيار الدولة الساسانية على أيدي المسلمين، عند مبتدأ الفتوحات الإسلامية. لقد كانت هزيمة المسلمين للفرس هزيمة بدوية لمركز حضاري كبير، غير أن المسلمين الفاتحين الذين دخلوا ذلك الإقليم الحضاري العتيد كانوا قد دخلوه حاملين قيماً إنسانية جديدة، لمدنية جديدة، كانت في طور التخلق. فنور النبوءة كان حينها لا يزال في أوج توهجه في نفوس الفاتحين. ولذلك، فقد امتزجت تلك القيم الإنسانية الجديدة بالإرث الحضاري التليد لبلاد فارس، وأنتج ذلك المزيج نقلةً حضاريةً جديدة ارتفعت بما كان سائداً هناك إلى سمط جديد. ولو قارنا هذا الوضع بما نتج من غلبة أعراب البادية، الذين جاءوا إلى السودان، على أهل النوبة، لأتضح لنا الفارق الكبير. فالقيم التي جاء بها أولئك الأعراب كانت أقل إنسانيا، وأقل ثقافياً، وأقل حضارياً من قيم المغلوبين. ولذلك فقد كان الأمر، في جملته، رجوعاً إلى الوراء، ولم يكن تقدماً إلى الأمام، كما رسخ في وعينا الجمعي.

    احتفظت بلاد فارس بشخصيتها الحضارية، ولم يتم "استلابها إسلاميا". لم تتاثر الشخصية الفارسية كثيراً بما ظل يتشكل، ويُعيد تشكيل نفسه لدى العرب. تحول الفرس إلى مسلمين، ولكنهم بقوا فرساً، ولا يزالون. فبلاد فارس، متمثلة في إيران الحالية، لا تزال تنطلق من منطلقاتها الحضارية التليدة التي امتزجت بالإسلام، ولم تبع نفسها لما تسمى نفسها في البلاد العربية "مراكز إسلامية". أما نحن فقد ذوبنا شخصيتنا الحضارية التاريخية فيما هو أقل منها. وهذا هو سبب معناتنا الطويلة هذه. لقد خلطنا بين الروح المدنية للفكرة الإسلامية، وبين القشرة التي حملها إلينا البدو. هذه القشرة هي التي حلت محل حضارة وادي النيل النوبية والمسيحية العتيدتين اللتين سادتا هذا الجزء من وادي النيل، لما يقارب الثلاثة آلاف سنة. علينا أن نسأل أنفسنا، أين ذهبت المعرفة بالهندسة، وبالرياضيات، وبجماليات العمارة التي تجسدها، وحتى يومنا هذا معابد وإهرامات البركل والبجرواية، وغيرها من مواقع تاريخنا. كيف تحولنا من البناء بالحجر على ذلك النحو المتفوق ذي الهندسة التي تحبس الأنفاس، لنبقى لما يقارب الألف عامٍ مع أبنية الطين، والقش، وزرائب الشوك؟ أين اختفت المعرفة بالألوان، وبفنون الرسم والتلوين التي جسدتها جداريات الكنائس، وأين المعرفة بصهر البرونز، وبصوغ الحلي الذهبية، التي حين يراها المرء اليوم في المتاحف العالمية، يظن أنها من صنع هذا العصر. وأهم من ذلك، أين البنية الاجتماعية المتماسكة التي وقفت وراء تلك الإنجازات الحضارية الرائعة؟ هناك حلقة مفقودة في تاريخنا لم يتم فحصها على نحوٍ كافٍ، وأرى أن الأوان قد آن لفحصها فحصاً علمياً، رصيناًً، متأنياً، بعيداً عن "الكلفتة" وعن هتافيات تمجيد الإسلام بلا معرفة بما يعنيه الإسلام حقيقةً!.

    الأعراب وعداء السلطة والعمران:
    ذكر ابن خلدون في مقدمته، ((أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقاً وجبلة، وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج على ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له. فغاية الأحوال كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران، ومناقض له ... وأيضاً هم متنافسون في الرياسة، وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه، أو أخاه، أو كبير عشيرته، إلا في الأقل، وعلى كره من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية الأحكام، فيفسد العمران وينتقض)) (ص 194 – 195). فلو نحن نظرنا إلى حياتنا المعاصرة، وفحصنا سيرة فشلنا السياسي الممتدة، بحيدة، وتجرد، وذهن مفتوح، لاتضح لنا، بجلاءٍ شديد، أن جذور فشلنا السياسي إنما تتلخص في فشلنا في العمل كجماعة، وفشلنا في الحفاظ على حالات التمدن، إنما ترجع إلى ذلك اللقاح البدوي الذي تم حقنة في شرايين بنيتنا التاريخية، لحظة تدهور الحضارة النوبية والحضارة المسيحية. وما قاله ابن خلدون من عدم قدرة البدو على العمل كجماعة يمكن أن تعكسه في حالتنا الحاضرة حقيقة بسيطة: فلقد وصل عدد الأحزاب لدينا عندنا ما بين مهرجان تكوين الأحزاب في منتصف أربعينات القرن الماضي، وما بين العام 1953م حوالي الثلاثين حزباً!! أما في الانتخابات التي فرغنا منها قبل شهرين تقريباً، فقد بلغ عدد الأحزاب المسجلة السبعين حزبا!!

    بعد أن أدخلت الحقبة التركية، (1821م ـ 1898م) أساليب الدولة الحديثة، وخططت عاصمة حديثة للبلاد، هي الخرطوم، نجد أن المهدي حين دخل الخرطوم في العام 1885م، لم يبق فيها سوى مدة قصيرة. إذ سرعان ما عبر النيل إلى الجهة الغربية من النيل ليشيد عاصمته الجديدة أمدرمان لتصبح قرية طينية بالغة الضخامة. ولنا أن نتساءل، وأن نتأمل، لماذا زهد المهدي في الخرطوم، الحديثة، العامرة، بقصورها وحدائقها، وتخطيطها الحضري، ولم يحتف بما وجده فيها من مظاهر تحضر، ولم يفكر في أن يدفع بذلك التحضر إلى الأمام؟! والجواب أو بعضٌ من الجواب عندي، أن المهدية، فيما يبدو، قد دمغت التطور الحضاري الذي مثلته العاصمة التركية الخرطوم، بالكفر والخروج عن صورة الدين الحق، كما يراها المهدي. فالتدين والتحضر لدى المهدويين لا ينسجمان incompatibleولذلك فقد نظر المهدي إلى العمران نفسه بوصفه مفارقةً لسواء السبيل. وهذا نموذج آخر لاختلاط النزعة البدوية بالدين. أيضاً، بعد أن جاء البريطانيون وأحدثوا في البلاد قدراً معتبراً من النظام والانضباط، في الفترة الممتدة من 1898م، وحتى لحظة الاستقلال في العام 1956م، نجد أن نخبنا الوطنية التي تسلمت مقاليد الأمور من الإنجليز تمكنت في سنواتٍ قليلة من إرجاع عقارب ساعة التمدن القليل الذي حدث، والانضباط الذي تحقق، دوراتٍ كثيرة إلى الوراء. واستمر بنا الحال من التدهور عبر المتبقي من عقود القرن العشرين، حتى بلغ بنا الفشل في بناء مشروع الدولة، في العقد الأول من الألفية الجديدة، درجة النكوص إلى حضن القبيلة. فالحالة البدوية الرعوية التي كان منها مبتدانا، أصبحت، وللمفارقة، هي منتهانا ونحن ندخل القرن الحادي والعشرين!! إن الحالة الصومالية التي وصلت حد انفراط عقد الدولة، والحالة السودانية التي تسير في وجهة انفراط عقد الدولة، تقتضيان إعادة النظر في المكونات الجذرية للمرتكزات الحضارية لهاتين الأمتين. وأول ما ينبغي أن تستهدفه إعادة النظر، إنما هو الإسلام البدوي اللاحضاري الذي تلبسه البداوة والقبلية لشرعنة الحالة القائمة من العجز والعزلة وشتات القوى، واستدامة كل أولئك، في مواجهة العلم، والحكمة، وروح التدين الحقيقية، وخلق حالة حضارية مستقربة ونامية. (يتواصل).
    صحيفة الأحداث - 19 يوليو 2010
                  

08-07-2017, 12:18 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل (15)
    =
    أهمية المكون العربي الإسلامي:
    ربما أحس البعض أن هذه المقالات تنطوي على محاولةٍ لإنكار المؤثرات العربية والإسلامية، التي شكلت جانباً مهماً في تكوين البنية الكلية للأمة السودانية. وعلى أيسر تقدير، فإن البعض ربما ظن أن هناك محاولة للتقليل من شأن هذه المؤثرات العربية الإسلامية، أو دمغها كلها بالسلبية. غير أن حقيقة الأمر بخلاف ذلك. فالمكونات العربية الإسلامية التي انداحت في مجموع البنية الكلية للأمة السودانية، قد تركت تأثيراتٍ غير قابلةٍ للنقض irreversible. وكون هذا التأثيرات غير قابل للنقض، لا يعني أنها قد كانت جميعها تأثيراتٌ إيجابية. فبعضها إيجابي، غير أن كثيراً منها كان له اثرٌ سالبٌ، ويقتضي من ثم، المراجعة التي قد تصل درجة المحو والإزالة. كما أن من بين المؤثرات الإيجابية ما يحتاج التطوير. الشاهد، أن التأثيرات العربية الإسلامية التي انداحت في هذه المساحة الجغرافية الشاسعة، المسماة السودان هي من الوضوح بحيث لا يمكن إغفالها، أو تهميشها. كما لا يمكن اعتبارها مجرد داءٍ عارضٍ يجب التخلص منه، كما هو ظاهرٌ في خطاب الغلاة من دعاة استعادة الطابع الإفريقي النوبي. فدخول العرب، ودخول اللغة العربية، رغم العلل التي صحبتهما، قد مهدا الطريق ليتصل إنسان النيل، الذي نسي حضارته، وفقد وقدته، ودافعيته، بالجذر الحي للثقافة الإسلامية، التي كانت تعيش آنذاك لحظة ضحاها الأعلى. وملاقحة الحضارات المحلية الآفلة، بمكونات حضارات حية وافدة، أمر متكرر في التاريخ البشري. فالإسلام حين جاء قضى على الحضارتين الرومانية والفارسية، اللتين كانتا تعبران بحر شيخوختهما. ولكن حين خمدت الوقدة الدينية التي صحبت البعثة المحمدية، بُعَيْد الفتنة الكبرى، لجأت الحضارة الإسلامية إلى التراث الهيليني فترجمته، ولكنها أدغمته في بنيتها الفتية الناهضة، وخلقت به حالة قفزة حضارية جديدة.

    ما أحاول إبانته هنا، هو أننا لم نتعلق حتى الآن بشكل جمعي بالجذر الحي للحضارة الإسلامية، وبطاقاتها الواعدة، القادرة على رسم غدٍ أفضل، وإنما ظل تعلقنا، وتمسكنا، مرتبطٌ في غالبيته بقشرتها التي انعجنت من مزيج البداوة، والفقه المدرسي الشكلاني. وهما السمتان اللتان ظلتا تكبلان هذا الفضاء شرق الأوسطي، العربي، الإسلامي، ذي التمددات في شمالي، وشرقي إفريقيا. المحاولة إذن لا تتجه إلى إنكار وجود مؤثرات عربية إسلامية، أو إلى التقليل من شأنها. فهذه المؤثرات لم تستثن جانباً من جوانب الحياة السودانية، على اختلاف تجلياتها، وتبايناتها بين المجموعات الثقافية، والعرقية، والدينية، واللغوية في السودان، دون أن تمسها بقدرٍ من المقادير. وإنما تتجه المحاولة إلى فرز ما هو إيجابي من الثقافة العربية الإسلامية التي وفدت إلينا، وأصبحت جزءاً من رؤيتنا للوجود، ومن مزاجنا، مما هو سلبيٌ فيها. وما أريد أن يُفهم عني أنني أعني أن الثقافة العربية الإسلامية هي الإطار المرجعي لكل الشعوب السودانية، شديدة التعددية، وإنما أعني أنها تمثل الإطار المرجعي لنا نحن أهل الشمال والوسط النيليين؛ أي غالبيتنا المتسربلة بعباءة الهوية العربية الإسلامية. هذا الإطار المرجعي العربي الإسلامي الذي ظل يحكم رؤى النخب النيلية، إطارٌ مرتبط بالبداوة، وبالفقه المدرسي، بأكثر مما هو مرتبط بروح الإسلام الأصيلة الخلاقة، وجوهره الخالد، المتمثل في القدرة على تحقيق مصالحة الإنسان مع بيئتيه الطبيعية والاجتماعية، ومصالحته مع نفسه، والقدرة على تهيئة المناخين الداخلي (داخل الفرد)، والخارجي (عبر المجتمع)، لبسط العدالة، وتحقيق السلم بين الناس.

    طلب الإجازة من الخارج!
    المحاولة إذن، إنما تتلخص في الدعوة إلى فرز وتخليص مكوناتنا العربية والإسلامية، ذات السمات الإنسانية الكوكبية، من السمات الماضوية السالبة، التي تكرس التمترس في الشوفينية القبلية والعقدية والطائفية، التي لا تملك ما يجعلها قادرةً على العبور إلى مستقبل البشرية. فالمكونات السالبة، غير المعافاة، هي التي تم بها استعمارنا، واستلحاقنا، بمعنى الـ subordination ، لمركزية خارجية مهيمنة. لقد تم إلحاقنا، نحن السودانيين، بمراكز خارجية لا تملك طاقاتٍ ولا وعوداً بالمستقبل!! وكل ما جنيناه، ولا نزال نجنيه من هذا التيه الطويل ليس سوى حبسٍ مستمرٍ في دوامةٍ من العجز عن التأثير في البيئة التي نعيش فيها. يُضاف إلى ذلك أن الاستلحاق أصابنا بقدرٍ مريعٍ من هزال الثقة في الذات، ومن مركبات النقص التي جعلت نخبنا تبحث عن الإجازة والقبولapproval ، مما رأته تلك النخب مراكز للعروبة والإسلام. وردت في مذكرات القطب الاتحادي الراحل خضر حمد قصة يمكن أن نأخذها دليلاً على السعي المحموم الذي كانت تقوم به نخبنا طلباً للإجازة من تلك المراكز. يروي الأستاذ خضر حمد أنه في زيارة قام بها إلى الشام بغرض ربط السودان بمراكز العروبة، تعرف على الأمير شكيب أرسلان. وقد وصف خضر حمد الأمير شكيب أرسلان بقوله: ((الأمير الثائر الأديب الشاعر العربي المسلم الذي قضى حياته كلها يجوب البلاد ويدعو للعرب والعروبة وينشر دعوة الإسلام)). وقد اجتمع الأستاذ خضر حمد بالأمير شكيب ونخبة من علماء الشام في فندق "أورينت بالاس" في مدينة دمشق. كتب خضر حمد عن ذلك اللقاء بالأمير شكيب أرسلان قائلاً: ((وجلسنا نتحدث عن السودان وعروبته، والجنوب وأعمال المبشرين فيه وكان ملماً بآخر التطورات آنذاك. وأثناء الحديث سألني أحد الحاضرين أنا من السودان العربي أم من السودان الزنجي؟ ولم يتركني الأمير أرد ولكنه تولى الرد نيابةً عني وأخذ يقول للسائل: "ألا ترى أنفه الأقنى؟ ألا ترى وجهه المستطيل؟ .. ألا ترى؟ حتى أشعره بالجهل التام)). (مذكرات خضر حمد، ص 121).

    ليس بخافٍ في ما تقدم، الاحتفاء الشديد من جانب الأستاذ خضر حمد بتلك المرافعة التي قام بها الأمير شكيب أرسلان في الدفاع عن عروبة الأستاذ خضر حمد، التى وضعها السائل، ببراءة شديدة، موضع شك. فلو أن سحنة الأستاذ خضر حمد بدت للرجل السائل سحنةً عربيةً فعلاً، وفق ما يعرفه ذلك السائل عن السحنة العربية، لما تقدم بسؤاله أصلاً. غير أن الأمير شكيب أرسلان استنكر مجرد السؤال، لما انطوى عليه من إحراجٍ للضيف القادم أصلا لعرض عروبته، وتلقي الإجازة والمباركة بشأنها. ولذلك فقد طفق الأمير أرسلان يمطر الرجل بالأسئلة الاستنكارية: ألا ترى أنفه الأقنى؟ ألا ترى وجهه المستطيل؟، ((حتى أشعره بالجهل التام))، وفق عبارة خضر حمد. ولو قرأنا احتفاء خضر حمد بدفاع الأمير أرسلان بما قاله خضر حمد في مكانٍ آخر من مذكراته، عن سكنى السودانيين من أصول نيجيرية في منطقة جنوب النيل الأزرق، لوضح لنا ضيق المنظور المتعلق بقضية المواطنة الذي وسم رؤى صانعي الاستقلال في بلادنا، ومتسنمي المناصب السيادية الرفيعة فيها. والأستاذ خضر حمد ينتمي إلى الفئتين. كتب خضر حمد في مذكراته: ((وسافرت إلى الكرمك والروصيرص عن طريق الباخرة من السوكي إلى الروصيرص. وعن طريق السيارة من الكرمك إلى سنار. وفي كلا الطريقين عرفت أن أرض السودان استغلها المهاجرون من نيجيريا، وأن القرى التي تمتد على النيل من السوكي إلى الروصيرص الغالبية الغالبة من سكانها هم أهل نيجيريا)). (مذكرات خضر حمد، ص 36). وينبغي أن نلاحظ أن الأستاذ خضر حمد قد كتب مذكراته هذه في العام 1967، أي قبل ثلاث سنوات فقط من وفاته، التي كانت في العام 1970م. فمفهوم المواطنة، والحرص على العرق، لم يتغيرا لدى الأستاذ خضر حمد، طيلة فترة نشاطه السياسي التي امتدت إلى حوالي الأربعين عاماً!!

    الفكرة لا العرق!
    بعبارات أخرى، إن الذي لا ينفك يردده دعاة "عروبة" و"إسلامية" السودان، ليس سوى تغنٍّ عاطفيٍ فج، لا يعكس فهما عميقاً للمعاني الإنسانية، الإيجابية، للعروبة ولا للإسلام. فالفكرة الإسلامية قد أدغمتها البداوة الفكرية في العروبة، وحولتها إلى فكرة عرقية عنصرية. لقد تم تفريغ الإسلام من الفضائل التي استجمعتها، ومخضتها، التجربة النبوية المشرفة، وفتحت بها للإنسانية جمعاء أفقا تطورياً جديدا. تلك القيم الكوكبية المستقبلية يمكن تلخيصها في مفهوم "العدالة" الذي جسدته سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عبر هو عن ذلك بقوله: ((كلكلم لآدمَ، وآدمُ من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم))، وقوله أيضاً: ((الخلق عيال الله، فأحبهم إلي الله، أنفعهم لعياله)). هذه العبارات البسيطة الناصعة التي تسقط العرق وتؤكد على الفكرة، وعلى العدالة، ونفع الناس، تصلح لكي تكون معياراً ممتازاً لفرز ما هو إسلامي، بمعنى "إنساني"، وما هو بخلاف ذلك. فالعدالة والمساواة هي جوهر الدعوة العالمية للإسلام، وما عدا ذلك فهو محض تدثر بالإسلام لخدمة القلة المنتفعة من الحكم باستدامة المظالم والقهر!! ولذلك، فإن جوهر الإسلام الخالد إنما وصل إلى السودان مع التصوف، وليس بمجرد انسراب أفواج القبائل العربية في وديان بلادنا، كما ظل مُتصوَّراً. التفريق بين هاتين النقلتين التاريخيتين مهم جدا، في ما أرى.

    يقول الدكتور فرانسيس دينق في كتابه (صراع الرؤى: نزاع الهويات في السودان)، ترجمة د. عوض حسن، وهو كتابٌ صادرٌ عن مركز الدراسات السودانية، 2001م: ((أحد أهم الأسباب الرئيسية الداعية للتضارب والارتباك في أزمة الهوية السودانية يتمثل في الطريقة التي أُعطيت بها الهوية الشمالية شخصية مركبة تمزج عناصر الثقافة، العرق، والدين. الطريقة التي تم بها ذلك، تُواري البعد العرقي وتُداري العنصرية، تعمق النظرة الذاتية للبعد العرقي للعروبة، والانقسام بين الشمال والجنوب. مما يجعل الأمر صعباً حتى للجنوبي المسلم المستعرب، لتقريب شقة ذلك الانقسام. وتتمثل الطريقة التحليلية لتحسين وتخطي وضع الانقسام في فرز العرق، الثقافة، والدين، ثم التدقيق في صحة الإدعاء الشمالي للعروبة عرقياً وثقافياً، مع التمعن في شكل الإسلام الممارس في الشمال من وجهة النظر هذه. في الجنوب، كما في البلدان الإفريقية، تُمارس أديان مختلفة داخل العديد من العائلات، ولكن الدين لا يتدخل في وحدة العائلة الضرورية، التي تترسخ بولاءات القرابة. ويحمل هذا السلوك الكثير المشابه للتقاليد الصوفية، التي مثلها مثل المعتقدات الإفريقية المحلية، مُشخصنة، وترتبط كثيراً بالنسب، وتتميز بقدرٍ كبيرٍ من التسامح)). (ص 459). نلاحظ أن الدكتور فرانسيس دينق يرى أن مزج الدين بالعرق ينفر أصحاب الأعراق الأخرى، حتى حين يكونون مسلمين. أيضاً، نلاحظ أن الدكتور فرانسيس دينق قد استثنى التصوف من تهمة تكريس العنصرية، إذ أثبت له ميزة قبول التنوع. وهذا صحيحٌ جداً، فالمتصوفة الأوائل الذين وفدوا إلى السودان، هم الذين جاءوا بجوهر الإسلام الخالد، وهم الذي أخرجوا الناس من الولاء لشيخ القبيلة، إلى الولاء لشيخ الطريقة. وفي ذلك نقلة من ضيق العرق إلى سعة الفكرة. ولا يعني ذلك أن جميع المتصوفة قد برئوا من العنصرية ومن نزعة الاسترقاق، وإنما يعني أن التصوف إنما يمثل رؤية إسلامية مرتبطة بجوهر الفضائل الإسلامية الكوكبية، خاصة لدى الكبار من أقطابه.

    لقد أسهم التصوف في إخراج الناس من الارتكاز على المعاني المتجذرة في البداوة، والجلافة، والاستعلاء بالعنصر، والفخر بالقدرة على البطش، وعلى توسيع الحيازة، إلى باحات الارتكاز على المعاني الإنسانية السامقة الحاضة على التواضع، وعلى لجم الشره والمطامع، وعلى المسالمة، وتنمية التشارك في الخيرات، والتفاني في خدمة الناس، والبر بهم، والرأفة بهم. واستمر الحال هكذا والتصوف يعمل على خلق ماعون روحاني يتسع للجميع، إلى أن دارت الدوائر على روح التصوف، بوفود الاستعمار التركي، ومن بعده الحكم الثنائي الانجليزي المصري، ومعهما ذراعهما الأيمن المتمثل في الفقه المدرسي. فالفقه المدرسي إنما يمثل النقيض، في كل شيء، لقيم التصوف، خاصة وقوفه إلى جانب المستضعفين، ونفوره من ممالاة الحاكم، كما هو معروف عند الأقطاب الكبار.

    مزيج البداوة والفقه:
    إن أكثر ما أنابنا من انسراب القبائل العربية إلى سهول السودان، في بدايات ذلك التحول، كان في غالبه إضفاءً لطبيعةٍ بدويةٍ، وتغليبٍ لخصائصها على خصائص بيئةٍ مستقرةٍ، عرفت الحضارة منذ آلاف السنين. أدى ذلك التحول إلى الانتقال من مزاجٍ كلفٍ ببناء الحضارة، إلى مزاجٍ بدويٍ رعوي يتبع روتينا ثابتا قصاراه المحافظة على ما هو قائم. وقد أسهمت تلك النقلة إسهاماً كبيراً في انقطاعٍ تواصلية التاريخ السوداني، وإلى غيبة طويلةٍ من جانب تلك البيئة الحضرية العريقة، عن الفعل المؤثر في بيئتها المادية، والروحانية. فقد كانت الهجمة في مبتدأ أمرها، "بدويةً"، وتحولت بعد قرون لتصبح هجمةً "فقهية"، فانتهينا في حالتنا الراهنة إلى هذا المزيج "البدوي"، "الفقهي" المعادي للنمو، وللنهضة، مما لا نزال نشكو من أعراضه، صباح مساء، ولا نعرف موطن مكمنه، أو حقيقية مسبباته. غير أن تلكما الهجمتين، بكل علاتهما المشار إليها، أصبحتا جزءاً لا يتجزأ من كياننا التاريخي القائم. ومن ثم، لا سبيل لنا للتملص منهما، ولا مناص لنا من التعامل معهما بعقلٍ، وبموضوعيةٍ، وبحكمةٍ، ونضج. بعبارةٍ أُخرى، لم تكن تلكما الهجمتين شراً كلهما، فهما لم تخلوا من جوانب إيجابية. وحتى السالب منها يمكن النظر إليه كطرفٍ من الإيجابي. فالتاريخ لا تتشكل صورته الكلية من العناصر الإيجابية وحدها، لأن التاريخ إنما يسير على رجلين تختلف كل واحدةٍ منهما عن الأخرى، من حيث القيمة. ويصاقب ذلك ما يتم في الطبيعة من تكامل الطاقتين السالبة والموجبة. والتاريخ لا يصنعه البشر وحدهم، كما يتوهمون، وإنما تصنعه معهم عناصر تفجرها التيارات الكونية المنبعثة من مركز الإرادة القديمة، التي تفرض على البشر، في كثيرٍ من الأحيان، أوضاعاً لا تتماشى وخياراتهم. تلك الأوضاع المفروضة، تتغلب عادةً على خيارات الناس، فيعجزون عن مدافعتها، وتصبح، من ثم، أمراً واقعاً. ذلك الأمر الواقع الذي يحل بالناس، كما البلاء، رغم أنوفهم، يمثل في كثيرٍ من الأحيان القاعدة الجديدة التي من دونها لا تكون الانطلاقات الجديدة. وعموماً فالبداوة لم تتغلب على الحالة الحضرية التي كانت سابقة لها في سودان وادي النيل الشمالي والأوسط، إلا لأن تلك الحالة الحضرية القائمة وقتها كانت قد ضعفت، واضمحلت، وفقدت طاقتها على الدفع، وعلى التخلق في صورٍ جديدةٍ صاعدة. بل فقدت، في نهاية المطاف، مجرد القدرة على الدفاع عن نفسها.

    بناء الدولة وتلاشي الدولة
    يقول هادي العلوي إن البدو معادون للسلطة المركزية بطبيعتهم. فهم حين ارتدوا، إنما ارتدوا لأنهم ظنوا أن أبا بكر أراد أن ينصب نفسه عليهم ملكاً. فهم بتجربتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا الفرق بين النبي، وبين الملك. فلقد انقادوا لنبي لكونه نبياً. ولكن حين عرفوا أنا أبا بكر كخليفة لن يكون ملكاً كما كانت تخوفاتهم، رجعوا عن الردة. ويستدل العلوي على تحليله هذا بأن رجوع الأعراب عن الردة لم يكن بسبب أن الرجوع قد تم فرضه عليهم بالقوة. فجيش دولة المدينة الصغير، في ذلك الوقت، لم يكن في وسعه، حسب رأي العلوي، بسط سيطرته على كل أرجاء الجزيرة العربية الشاسعة. ولذلك فالعلوي يرى أن سبب رجوع الأعراب عن الردة، إنما كان بسبب اطمئنانهم إلى أن أبا بكر لن يكون ملكاً عليهم. الشاهد هنا، أن كون البدو يقفون بطبعهم ضد السلطة المركزية، أمر إيجابي، ولكنه سلبي في نفس الوقت!! فسلبيته إنما تكمن في كون السلطة المركزية ضرورية في مراحل البناء، ولذلك فإن عدم الانتظام تحت سلطة مركزية واحدة يعيق خلق البنية الحكمية التي تعين على النمو الحضاري. فالبيئة البدوية ربما بقيت للآلاف السنين دون أن يتغير في نمط الحياة فيها شيء. ولذلك فالبدواة تستديم الجمود، وتستديم حالة العجز، وتستديم القناعة بالقليل.

    ولكن للوضع جانباً أخر: فحين تتقدم الأمور، وتتحقق الديمقراطية وتتفتت السلطة، يصبح وجود سلطة مركزية قوية أمراً معيقاً للتقدم، ولبسط العدالة. فالتقدم الحقيقي إنما يقاس بقلة تدخل السلطة المركزية في إدارة شؤون الناس. فالديمقراطية الحقيقية هي التي تعمل على توسيع سلطة قوى المجتمع المدني وتضييق سلطة الدولة. ولذلك فإن نفور البدو من الدولة المركزية إنما يمثل (استراقاً للسمع) لحالةٍ مستقبلية لا مناص من تحققها. غير أن تلك الحالة المستقبلية لن تتحقق إلا عن طريق نظام مركزي، وخضوعٍ مقننٍ للأفراد لذلك النظام المركزي. فقول الماركسية بضرورة (تلاشي الدولة)، قول صحيح، ولكنه جاء في إطار تنبؤاتٍ خاطئة بسيرورة تفتيت الدولة. وقول كارل ماركس: ((الحكومة ليست سوى لجنة تنفيذية تستخدمها طبقة في اضطهاد الطبقات الأخرى))، هو الآخر، قول صحيح أيضاً. غير أنه بحاجة لأن يتم إخراجه من معادلة العنف والقوة الماركسية، ووضعه في أطر حراك اللاعنف، والتغيير الذي يتم عن طريق الإصلاح الوئيد. باختصار شديد، البداوة ليست شراً كلها. فكوننا شعبٌ تمكن من إجبار نظامين عسكريين على التخلي عن السلطة، أمر تعود بعض أسبابه إلى هذا المزاج البدوي الذي لا يهاب السلطة، ويأبى الخنوع والاستكانة. غير أن بداوتنا هذه نفسها التي جعلت منا شعباً متميزا باستعلائه على حكامه، وتلك فضيلة، قد جعلت منا أيضاً شعباً لا يعرف كيف يتفق وكيف يستجمع جهوده لتصب في مجرى واحد. وهذا هو ما جعل ثوراتنا المتكررة ثورات بلا مردود يذكر. (يتواصل).
                  

08-07-2017, 12:19 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (16)


    ليس من غرض هذه المقالات الإعلاء من شأن الهضبة، أو الحط من قدر السهل. ومن يحاولون رؤية الأمر على هذا النحو، يخطئون جوهر المغزى منها كلياً. فللهضبة مشاكلها العويصة، مثلما لنا نحن مشاكلنا العويصة أيضاً. فالقطران تحتوشهما المشاكل، على اختلاف طبيعتها، من كل حدب وصوب. كما أن القطران تعوزهما الحيلة، ويعانيان ضمور الموارد، التي من دونها لا تتم مواجهة الفقر، المدقع، المزمن، وبؤس البنية التحتية وهزالها المريع. وفي حالة السودان فيمكننا أن نضيف إلى كل ما تقدم، ما عُرف عنا، من تناثر الجهود، التي لا تتشكل أمةٌ من الأمم، وترقى المراقي، إلا بتضافرها. فنحن، والإثيوبيون، "في الهم شرق"، مثلما خاطب شاعرنا تاج السر الحسن دمشق، في رائعته "آسيا وإفريقيا"، حيث قال: ((يا دمشقُ! كلنا في الهمِّ والآمال شرقُ!!)). ما أردت قوله تحديداً، وباختصار شديد، هو أن إمكانية النهوض، أو ما يمكن أن يُعبَّر عنه بـ "الـ potential للنهوض"، لدى الهضبة، في اللحظة الراهنة، يبدو أكبر مما هو لدينا. فهم قد وصلوا نقطةً جعلتهم أكثر استقراراً منا، وأكثر قدرة على إطفاء الحرائق، والتحاور في ما بينهم، علاوة على بقائهم بعيداً عن مخاطر التدويل، والمطامع الخارجية الصراح. غير أننا، لو وعينا عللنا، وعرفنا كيف نبرئها، فإن الإمكانية لدينا أكبر مما لديهم!! ما ميز الإمكانية لدى الهضبة، في الظرف التاريخي الراهن، على إمكانيتنا، هو أن الهضبة قد نعمت بتواصليةٍ تاريخيةٍ طويلة، لم ينعم بها السهل. وللتواصلية التاريخية الطويلة مزايا كثيرة، لا يتسع المجال لعدها. ولكن يمكن أن نقول أن من بين تلك المزايا، البناء النفسي المتماسك للفرد، الذي لم تشوش عليه الانقطاعات التاريخية، ولم تُرجع جوائح البداوة، عقارب الساعة لديه إلى الوراء. وبطبيعة الحال فإنني لا أعني أن كل أهل الهضبة قد نعموا بهذه التواصلية التاريخية، وإنما أعني أن قلب بنيتهم التاريخية، أو الـ core الذي أنتج نخبهم، تميز بهذه الميزة.
    لو نظرنا إلى الحالة الإثيوبية الراهنة، لبدا لنا، وبجلاءٍ شديد، أن النزاعات الدينية قد أضحت أقل حدةً لديهم، مما لدينا. فالتعايش، وقبول الآخر، وابتعاد نخبهم، خاصة الأجيال الجديدة منهم، عن اللعب ببطاقة الدين، بالشكل العنجهي السافر الذي تميزنا نحن به، قد جعلت أوضاعهم السياسية أفضل من أوضاعنا. لقد لعبوا كروتهم السياسية، عبر أنظمة حكمهم المختلفة، بذكاءٍ أكبر منا. فهم يتمتعون الآن باستقلالية نسبية، لم نعد نتمتع بها، نحن. فلقد طالنا التدويل، رغم إرغائنا وإزبادنا الذين لا ينتهيان. ومن يتابع أخبارنا عبر وسائل الإعلام العالمية، والإقليمية، والمحلية، يجد أننا قد أصبحنا "ملطشة" للأجاويد، وللأطماع من كل صنف وجنس. ففي هذا الوقت الذي بدأ فيه أهل الهضبة ينعمون بالاستقرار السياسي النسبي، أصبحنا نحن نبتعد عن الاستقرار، وأصبحت أمورنا في أيدي غيرنا، فامتلأت بلادنا بالسلاح السائب، وتناسلت الحركات المسلحة في أطراف بلادنا كما الفطر، وكثرت زيارات مسؤولينا إلى دول الجوار، وانتشرت في ربوع بلادنا ما تسمى بالقوات الدولية. وأصبحنا مزاراً مفضلاً للمبعوثين، والموفوضين الخاصين، الذين ما تغادر طائراتهم مطار الخرطوم، إلا لتعود لتحط فيه. باختصار شديد: وصلنا مرحلة اللقمة السائغة للجميع، والسبب إنما يكمن فينا نحن، لا في غيرنا!! إنه هزال قدرتنا المزمن على مواجهة علل ثقافتنا!

    إكسير التعددية:
    لقد بدأ الإثيوبيون يعون معنى التعددية الثقافية، وبدأوا يقتلعون خيامهم ويرحلون من مخيم الهيمنة الثقافية التي تفرضها النخب الحاكمة على كل من عداها. ولقد لاحظت أن تلفزيون إثيوبيا، الذي يبث بعض فقراته باللغة العربية، لا يقول: "الشعب الإثيوبي"، وإنما يقول: "الشعوب الإثيوبية"، فهم، فيما يبدو، يحرصون حرصاً شديداً على ذلك. ويبدو أنهم يعنونه حين يقولونه. وفي ذلك مزيَّةٌ كبيرةٌ في إدراك الكل المركب للأمة الواحدة، وفي ادارك سر السلام بين المكونات المختلفة للقطر الواحد. خاصةً، وأن المنعطف الكوكبي الراهن، يتميز، أكثر ما يتميز، برفض الهيمنة الثقافية من قبل ثقافة الحاكمين، وإعلائها بقوة المال والسلاح على ثقافات الآخرين، الذين سُدَّت أمامهم السبل إلى مراكز القرار، وأرائك السلطة. وفي تقديري، أن الذي جعل أهل الهضبة أسرع منا إلى اعتناق قيم العصر، وفضائله، خاصة فضيلة احترام التعددية، وقبول الآخر المختلف، يتلخص في أنهم برئوا تاريخياً من مزاج البداوة، ومن الشوفينية الرعوية، التي ابتليت بها كياناتنا السياسية، التي ما فتئت ترفض النقد، وتعتنق المتشكل القائم، وتعمل ليل نهار على استدامته، وعلى إعادة إنتاجه. والحق، أن نخبنا المتنفذة تعتنق المتشكل القائم إلى درجة التأليه، وتعمل ليل نهار على منح الجمهور أصناماً لتضييع الوقت والجهد، تعكف عليها، ليبقى كل شيء في مكانه القديم. فالبداوة التي تمكنت من السهل، لحظة اضمحلال الحضارة النوبية، وأصبحت لها فيه صولاتٌ وجولاتٌ عبر ألفية كاملةٍ من الزمان، لم تستطع أن تفعل نفس الشيء مع الهضبة، سوى لفترةٍ قصيرةٍ جداً، هي فترة غزوات الإمام أحمد بن إبراهيم الأشول، التي وضعت كل الهضبة تحت سيطرة المقاتلين المسلمين، الذين ساووا بين الإسلام وعنف البادية، وصالوا وجالوا مستخدمين وسيلة العنف العنيف، والاستعلاء العقدي، والصلف العرقي، محاولين محو الإرث الحضاري التليد للهضبة، مرةً واحدةً، وإلى الأبد. غير أن سيطرة الإمام أحمد بن إبراهيم الأشول، على مجمل الهضبة، لم تتعد العشر سنوات، عاد بعدها تاريخ الهضبة ليواصل مساره القديم. ولقد جعلت تواصلية التاريخ لدى أهل الهضبة، روح البناء الحضاري لديهم حية. كما جعلت وجدان إنسانهم متماسكا لم تفرقه الجوائح الطارئة، أباديد. ولعل من نعم الله على أهل الهضبة، أن الاستعمار الإيطالي لم يمكث فيهم سوى لسنوات تُعد في أصابع اليد الواحدة. غير أن الذي أود أن أركز عليه في هذه الحلقة، كثمرة للتواصلية التاريخة لدى أهل الهضبة، هو أن شخصية الفرد فيها، رغم الفقر، وهو عنصر مشترك بيننا، ظلت أقرب إلى احترام السلطة منا، وأكثر احتراماً للعمل اليدوي منا، وأقرب إلى العمل بروح الفريق منا، أيضاً. وكل تلك المزايا لمما يوزن في مسارات نهضة الشعوب، بميزان الذهب.

    الروح الصناعي واحترام العمل:
    تحفظ تواصلية التاريخ، الروح الصناعي لدى الأفراد وتبقي على شعلته متقدة. ولقد فقد أهل السهل في النيل الأوسط والشمالي في السودان هذه الروح الصناعية، منذ سقوط دولة مروي، التي كانت مركزاً صناعياً بالغ التقدم، بمقاييس تلك الحقبة التاريخية. بسقوط مروي، وتدهور الحقبة المسيحية التي أعقبتها، وغلبة أعراب البادية على المستقرين من أهل النيل، انطفأت الوقدة الحضارية، واكتسب أهل النيل زهد البدو في الصنائع، واحتقارهم للعمل اليدوي، حتى غدوا ينظرون إلى أهرامات مروي، ومعابدها، وكأنها عجائب سقطت من السماء!!. والروح الصناعي لدى الأفراد، مرتكزٌ رئيسٌ من مرتكزات نهوض المجتمعات، وتغييرها لأنماط عيشها نحو الأفضل. ولا غرابة إذن أن حض الإسلام، حضاً لا مزيد عليه، على الكسب من عرق الجبين. كما حض على ملء الوقت بالعمل، وكثُرت في ذلك إشارات النبي صلى الله عليه وسلم إلى نبي الله داؤود عليه السلام، صائغ الحديد، الذي كان يأكل من عرق جبينه. أيضاً تُكسب تواصلية الميراث الحضاري، الأفراد، القدرة على الانصياع للقيادة، واحترام التعليمات الإدارية، وفهم ضرورة التراتبيات الهرمية. فبيئة العمل تحتاج قيماً بعينها، لا توفرها البادية بطبيعتها الفردانية المودعة فيها. ولو استطاعت البادية اكتساب قيم الحواضر الزراعية، والصناعية، المستقرة، لما ظلت باديةً، أصلاً. وعموماً فإن قيم البداوة نقيضٌ لمتطلبات البناء الحضاري. والإسلام حين جاء في القرن السابع الميلادي إنما جاء ليحل المدنية محل البداوة. والممارسة الديمقراطية، تحتاج هي الأخرى قيماً حضارية، أساسها القدرة على التوافق، والتركيز على فهم البرنامج السياسي المطروح، من جانب التنظيمات السياسية، والنظر إلى الموضوعات، أو الـ issues، وإلى البرامج، بعيداً عن الروح العشائرية، والولاءات القبلية العمياء، وعن صمم الأذنين الذي يجعل المرء لا يُعجبه غير (الصَّارو). فالديمقراطية تحتاج أن يكون السياسيون والأفراد الممارسين لها ذوي مقدرةٍ على الاستماع إلى الآخر المختلف بذهنٍ مفتوح، وكذلك ذوي مقدرة على النزول في أرض الحلول الوسطى.

    من المهم أن اذكر هنا، أن البريطانيين، حين كانوا بين ظهرانينا، استطاعوا أن يفرضوا علينا حالة مؤقتةً من النظام، ومن العمل وفق روح الفريق. ولكن تلك الحالة لم تدم، لأنها إنما تمت عن طريق التخويف. ذلك التطبع والانصياع للنظام الذيْن مخضهما الخوف، عبر حقبة الحكم البريطاني، لم يصلا إلى الدرجة التي يصبحان بها طبعاً ثابتاً. فحين ذهب البريطانيون، غلب فينا الطبع على التطبع. ولذلك ما أن أدار البريطانيون ظهورهم لنا، حتى انهار كل شيء، فطفحت بداوتنا على السطح من جديد، وكأن شيئاً لم يكن!! وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فقد انهارت سككنا الحديدية، وانهار نظامنا البريدي، وانهار خطوطنا الجوية، وتردت الخدمة المدنية لدينا، وانهار نظامنا التعليمي، حتى أصبحت مجرد الكتابة والقراءة السليمة، معضلةً كبيرةً لدى كثير من طلابنا. وقد سبق أن أوردت إشارات ابن خلدون إلى الخلال البدوية في هذا المنحى، مما أضحى ينطبق علينا تمام الانطباق. هذه الروح البدوية المتنامية، هي التي وضعتنا، ضمن قلةٍ من شعوب العالم التي يمكن أن توصف بالاستعصاء على التحضر.

    من يتأمل مسلك سائقي السيارات في خرطوم اليوم، ويقارنه بمسلك السائقين فيها قبل أربعة عقود من الزمان، يجد فرقاً شاسعاً من حيث فهم قانون المرور، واحترامه، ومن حيث الذوق، والروح المدنية، واعتبار الآخر الشريك في الطريق. لقد وصلنا درجةً أصبحنا فيها، بلا مدنية، وبلا دين تقريباً!! تدهور الحس المدني أو الـ civility، لدينا، في العقود الأربعة الماضية، بشكل مريع للغاية، وتزايدت الشتائم والسباب في الطريق العام. ولا يمكن أن يفصل عاقلٌ بين هذا وبين تدهور الممارسة السياسية، وتدهور قامات القادة، وضيق سبل كسب العيش، والهجرات الملحمية ####### exodus من أريافنا إلى عاصمتنا مما حول حياتنا إلى غابة كبيرة. ولربما لا يصدق السودانيون أن عاصمة إثيوبيا القطر الذي يبلغ تعداد سكانه الثمانين مليونا، لا يتجاوز سكان عاصمته الأربعة ملايين!! وهذا أمر جدير بالتأمل. ويضاف إلى كل الزرايا التي طالتنا، الرزية الكبرى المتمثلة في تدهور التعليم وخوائه، وبعده عن الأهداف القومية في خلق الإنسان المتمدين، وخواء وسائط الإعلام، وفراغ قلوب وعقول القائمين عليها مما ينفع الناس.

    الضيق بالنقد:
    من المؤسف حقاً، أننا لا نبحث مشاكلنا بحثاً علمياً. بل إن البحث العلمي الذي يُجلي بشاعات حياتنا، ويشكف، دون مواربة، جوانبها القبيحة، يثير حفائظ الكثيرين منا. ورفض النقد، إنما يمثل في حد ذاته، خلةً بدويةً قحة! فالبداوة قد قامت على العُجْب بالذات، في كل حال. والعجب بالذات كان ماكينزمات البقاء، في حياة البداوة، فهو ضروري بالنسبة لها. ولذلك فإن البداوة لا تتساهل في الإعلاء من شأن ذاتها بإزاء الآخرين، حتى في الجهل، كما قال شاعرهم: ((ونجهل فوق جهل الجاهلينا)!!. فساكن البادية يربط بقاءه بقدرته على إعلاء ذاته، بل، وأبعد من ذلك! بالقدرة على الاعتداء على الآخرين، والبطش بهم. قال شاعرهم، أيضاً: ((بغاةٌ ظالمين، وما ظُلمنا، ولكنَّا سنبدأُ ظالمينا)). وقال آخر منهم، معبِّراً عن عدم قدرتهم على العيش من دون أن يعتدوا على أحد، قائلاً: ((وأحياناً على بدرٍ أخينا، إذا لم نجد إلا أخانا)). وقال ثالثٌ واصفاً حالهم، قائلاً: ((قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم/ طاروا إليه ذرافاتٍ ووحدانا/ لا يسألون أخاهم، حين يندبهم / في النائباتِ، على ما قال برهانا))!! هذا الروح القديم الذي خدم الحالة البدوية، وكان ضروريا لها، لا يصلح إطلاقاً في عصر المدينة، التي أخذت تتسع، لتجعل من قرى الأرياف مدناً مصغرة. المشكلة أن هذا الروح البدوي، لا يزال مُفعَّلاً عندنا، رغم سكننا البنايات الحديثة، وركوبنا السيارات، واستخدامنا الهاتف النقال، وولوجنا دنيا الانترنت، وعوالم الويكي والفيسبوك، الخ ذلك. ولقد أثر إبقاؤنا على ذلك الروح البدوي، الذي لا يقبل ذكر النقائص، على قدرتنا على ممارسة النقد الذي لا يكون إبراءٌ العلل ممكناً من دونه. ولقد طال ذلك الأمر الأكاديميا لدينا، فبلغ درجة التأثير على مجريات البحث العلمي. فقد افتقدنا الحرص على روح الصرامة العلمية، وعلى التفكير الحر الذي لا يزور عن مواجهة المتشكل القائم، المعلول، غير المفحوص. فالضغوط الحكومية، والضغوط الاجتماعية، جعلت كثيراً من باحثينا يتسقطون الرضا والقبول العام. فالسباحة مع التيار هي المفضلة لدى غالبيتنا. ورغم أن المباحث التي يمكن أن تسير في الوجهة الفاضحة لعلل ثقافتنا المزمنة، وطرق الدروب التي تقود إلى إبرائها، من الكثرة بمكان، إلا أننا نجد أن الباحثين يتجنبونها، ذات اليمين وذات الشمال. وإلى أن يجيء الوقت الذي يتم فيه الترحيب بالبحث العلمي الرصين، دون تحفظ، والترحيب بالمبادرات الإحيائية، والمخاطرات الفكرية والثقافية، واجتراح الطرق الجديدة، فإن مشاكلنا سوف تظل تراوح مكانها، كما يقول التعبير الشائع.

    البداوة وقيم العمل (work ethics):
    علينا أن نسأل أنفسنا، لماذا يرحب أرباب العمل السودانيون بالعمالة الأجنبية، أكثر مما يرحبون بالعمالة السودانية؟ ما الذي يجعلنا نحن السودانيين غير قابلين للتوظيف unemployable داخل بلدنا؟ لماذا تمتلئ مطاعمنا، ومقاهينا، ودكاكين الحلاقة، لدينا، وبيوتنا، بالعمالة الإثيوبية؟ أليس أهل البلد أولى بوظائف بلدهم؟! ولا أريد أن يُفهم من قولي هذا أنني أدعو لطرد العمالة الإثيوبية. لا، ولا كرامة!! فأنا من دعاة التكامل، بين الهضبة والسهل، وتوسيع مواعين هذا التكامل الذي يبلغ درجة الكونفدرالية، وما هو أكثر ربطاً منها. وحقيقة الأمر، أن التكامل بين الهضبة والسهل، أمرٌ فرضته الشعوب، فرضاً، من غير أن تستأذن فيه النخب، ولم تجد الحكومات بداً من قبوله. وما علينا سوى أن نراجع سجلات مفوضيات اللاجئين لنعرف أعداد أهل الهضبة الذين نزلوا إلى السهل مستجيرين من عسف الحكام وغوائل الطبيعة، وأهل السهل الذين صعدوا الهضبة لنفس ذات الأسباب. ما أردت قوله من حرص أرباب العمل لدينا على توظيف العمالة الأجنبية، هو أن الواقع يعرفك بأحوالك، أفضل من أي شيءٍ آخر. بعبارةٍ أخرى، كوننا كسودانيين، لا نوظف السودانيين، يدل أبلغ دلالة على علل الشخصية السودانية التي تمنعها خصائصها النفسية السالبة، وبعدها عن ثقافة التجويد والإتقان، من الانسجام مع بيئة العمل. فالسبب في أن أكثريتنا غير قابلة للتوظيف، لا يتعلق بضعف المهارات وحسب، فالمهارة يمكن أن يتم اكتسابها في وقتٍ قليلٍ جداً، خاصة في الوظائف الخدمية الدنيا، وفي وظائف المهن البسيطة. وإنما يكمن السبب في كوننا غير قابلين للتوظيف، في ذلك الروح السلبي، (الـ attitude negative )، الذي نتميز به، وفي السمات المسلكية الشخصية السالبة (الـ dispositions negative)، التي تجعل الشخص غير منسجم مع بيئة العمل، بسبب بداوة طباعه، واعتداده برأيه وبنفسه، وعدم استعداده لانصياع لما يقوله رؤساؤه، وربما احتقاره للعمل الذي يؤديه، أصلاً. كل هذه السمات السالبة تحول بين المُسْتَخْدَم وبين التأقلم مع بيئة العمل الحضرية الحديثة، ذات الإيقاع المنضبط. فالروح البدوي، مضرُّ ببيئة العمل المعاصرة، ويمثل خصماً عليها، لا إضافةً لها. علينا أن نتساءل: لماذا، حتى بعد ما يزيد على قرن كاملٍ من نشوء الدولة الحديثة في السودان، نجد أن السودانيين لا يحسنون الصنائع الضرورية للحياة اليومية، مما جعل أصحاب المباني، والأعمال المهنية المختلفة، يركضون وراء السباكين، والكهربائيين، والنقاشين، والحدادين الأجانب؟ نحن بحاجة لكي نعرف لماذا ظلننا كذلك؟! نحن بحاجة حقيقية لكي نعرف كيف نخطط لخلق فرد متحضر كلف ببناء الحضارة، متماهٍ مع قيمها، قادرٍ على استدامتها. ما الذي يجعل الفرد الإثيوبي متوافق مع بيئة العمل، وأكثر قدرة من فردنا على الالتزام المهني، وعلى ما يسمى في أدبيات الأعمال التجارية، بخدمة الزبون أو الـ customer service؟

    التدريب، ثم التدريب!!
    لقد أنفقت الدول التي رقت مراقي الحضارة الحديثة، الكثير من الجهود، والكثير جداً من الأموال على البرامج التدريبية لخلق الفرد المتوافق مع بيئة العمل، ومناخ العمل، والقادر على الإنتاج، والمدرك لتكاملية دوره مع أدوار الآخرين في البنية الكلية للحياة الناهضة. ويدل على ذلك أننا نجد أن المجتمعات ذات التواصلية الحضارية، التي ورث أفرادها فضائل حضارية، وروحانية، لم تكتفِ بالخصائص الموروثة وحسب، وإنما عملت ليل نهار لتطوير تلك الخصائص، وصقلها بمناهج التعليم، وبالبرامج التدريبية المكثفة، وبالخطاب الإعلامي المدرك لوظيفته في البناء القومي للأمة. فالإيقاع المنضبط لحركة العمل، ونماء روح الإتقان، في الحضارة الغربية، إنما تم تأسيس كثير منه على ما يسمى بقيم العمل المسيحية Christian work ethics. فأين هي قيم العمل الإسلامية؟! لقد أكلتها البداوة!! وعموماً، فإن الحضارة تُبنى بناءً، بالتخطيط المتقن، وبالمراجعة الدءوبة. وهي قطعاً لا تتم اتفاقاً. لابد من معرفة العلل التي تكبلنا، ومنها هذا المزاج البدوي، وهذا الاستعلاء، والإحساس الأجوف بالتميز. وأسوأ من ذلك، إضفاءنا التظاهر بالمظهر الديني السطحي الفارغ من كل قيمة، على تلك "النفخةٍ" البدوية، التي لم تعد عملةً صالحةً للتداول في عالم اليوم. لابد من العمل العلمي الدءوب لإبراء علل ثقافتنا، وذلك بالحديث المفتوح عنها، والتبصير بها، والعمل على زرع قيم جديدة مكانها، بالتعليم الحقيقي، والتدريب المستمر، والإعلام المدرك لوظيفته ودوره. وقبل كل ذلك، وفوق كل ذلك، ببث روح التدين الصحيح. وليس كل قيم البداوة سالبة، ولكن في البداوة قيمٌ كثيرةٌ سالبة لا يمكن أن تقوم معها بنية حضرية متماسكة. ولذلك فإن برامج التدريب ينبغي ألا تقتصر على تقديم المهارات المتصلة بالمهنة، وإنما تتعداها إلى السمات الشخصية، أو الـ dispositions. فالعمل في كل صوره إنما يحتاج إلى أفراد منضبطين disciplined متوافقين مع بيئة العمل. فإذا كانت المجتمعات التي مارست العمل في بيئات العمل الحديثة، تهتم كل ذلك الاهتمام بخلق سمات شخصية أفضل في أفرادها العاملين، فما بالك بالبيئات التي جاء أفرادها من خلفية تاريخية انقطعت فيها التواصلية، وضمرت فيهات القدرة على العمل الجماعي، وضَعُفَ فيها التماهي مع الهم العام، وعلت فيها الأنفة الجوفاء واحتقار العمل، وساد فيها الضيق بالتوجيه، أياً كان، وتعسر فيها النزول عند الرأي الآخر، مهما كانت وجاهته، وأسوأ من ذلك، أن جهلاءها لا يستحون من الاستعلاء على علمائها!!
    (يتواصل).

    _________________
                  

08-07-2017, 12:19 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    17
    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟!

    نجاح في الخارج وفشل في الداخل!!
    يتساءل بعض الناس كثيراً عن سبب نجاح بعض السودانيين في الخارج، خاصة في الدول الغربية، ويُدهشون لسرعة تأقلمهم مع الأطر المتقدمة، وانسجامهم مع تفاصيلها، ووفائهم بمتطلباتها، ومنافستهم، في الأداء، لأهل تلك البلدان، التي يحلون فيها، كمهاجرين. حتى أن بعضهم ليبدو وكأنه قد وُلد في تلك البيئات، وترعرع فيها، وتشرب قيم العمل فيها!! فكثير من السودانيون حصلوا على درجات علمية عالية، في الدول الغربية، وتسنموا الكثير من الوظائف الرفيعة في التدريس، والبحث، والإدارة، وغيرها. كما تسنم كثير من السودانيين وظائف مرموقة في المنظمات الدولية. ولذلك، يتساءل كثيرون، لماذا يتسم السودانيون بالذكاء، والقدرة على الإنجاز، وبأنهم يمكن أن يُعتمد عليهم في أداء الواجبات والمهام، خارج بلدهم، في حين يعاني بلدهم نفسه من مشاكل هيكلية عويصة، أقعدته، ومن تردٍ مضطردٍ، لا يشي بتوقفٍ قريب؟!! وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يعزو المرء تلك الظاهرة لسبب واحد، فظاهرة نجاح السودانيين في الخارج، وفشلهم في خلق دولة عصرية في بلدهم، تقف وراءه أسباب عدة. ولكن مما يهمني إظهاره، وتسليط الضوء عليه، في هذه السلسلة من المقالات، هو المناخ المقيد، والمهدر، للطاقات المتجذر في الإرث الثقافي المتراكم الذي شكل مناخ العمل، وقيم العمل، داخل القطر. ويبدو لي أن سبب نجاح تأقلم السودانيين مع قيم العمل الحديثة في البيئات المتقدمة التي يفدون إليها، يعود إلى السودانيين حين ينتقلون إلى تلك البيئات الجديدة، يجدون أنفسهم في مجالٍ مغايرٍ، يتسم بالتحفيز، وبالخلو من القيود التي رسخها المتشكل الاجتماعي العشائري في بيئة العمل السودانية. في البيئة الجديدة التي يفد إليها السودانيون، تكون قيم العمل work ethics قيماً عصرية. ينطبق ذلك في الأساس على الدول الصناعية الكبرى، وبشكل أقل كثيراً، على بعض الدول الخليجية التي أخذت تتبنى، من حيث الهيكل، نظماً، وقيماً للعمل تحاول حذو النموذج الغربي. فالدول الصناعية عبرت من الرعي، إلى الزراعة، ثم إلى التصنيع. وعبرت بذلك من الإقطاع إلى الرأسمالية، كما عبرت من سلطة الكهنوت الكنسي، إلى دولة الدستور، والمواطنة، والحقوق المتساوية. ولذلك، حين ينتقل المهاجر من بلدان كالسودان، تعاني من وطأة القبضة العشائرية وسيطرتها على وعي الأفراد، يجد المرء نفسه مواجهاً ٍببيئةٍ لا تأبه بما رسمه هو لنفسه من صورةٍ مفخَّمةٍ. البيئة الصناعية الحديثة، لا تحفل بالأنا العشائرية المتضخمة، ولا تلقي بالاً لأنفة الوافد من البيات العشائرية، وترفعه عن العمل، خاصة العمل اليدوي. فقيم البيئات العشائرية، لا تصلح عملةً للتداول في الأطر الحداثوية. ولذلك، يصبح أمام الفرد الوافد إلى بيئات الدول الصناعية الكبرى، سبيلان لا ثالث لهما: فإما أن ينسى ذاته المتضخمة، وأنفته، وكبرياءه البدوي، وفكرته النرجسية عن نفسه، فيقهر كل أولئك، وينسجم مع متطلبات البيئة الجديدة، وإما أن يواجه متاعب لا قبل له بها. وعلى رأس تلك المتاعب، الانضمام إلى جيوش فاقدي المأوى، الذين يهيمون على وجوههم في الشوارع، يفترشون الأرصفة الباردة، ويلتحفون السماء التي لا يكف صقيعها ومطرها عن الهطول!

    صدمة البيئة المغايرة:
    عندما أتحدث عن الصدمة التي تحدث للوافد من البيئات العشائرية إلى البيئات الحديثة، لا أتحدث حديثا نظرياً، وإنما أتحدث من واقع تجربة هجرتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي، ومعاناتي الشخصية في التخلي عن الصورة التي رسمتها لنفسي، وغذتها تربيتي العشائرية، ومعها مناهج التعليم، وربما وسائط الإعلام، التي ظلت تتضافر لترسم للفرد السوداني ما يليق به، وما لا يليق من صنوف العمل. كنت أقدم شهاداتي التي حصلت عليها في السودان، ظاناً أنهم سيحتفون بها، مثلما أنا محتفٍ بها!! غير أنني فُجعت، أنهم كانوا ينظرون إليها، ويمنحوني ابتسامةٍ غامضةٍ تحتمل كل أنواع التفسيرات الممكنة، ويردفون ذلك بأن يعتذروا لي عن عدم وجود عمل. وللإنصاف، لابد لي من أن أثبت هنا، أنهم كانوا يفعلون ذلك معي بطريقة غايةٍ في التهذيب. باختصارٍ شديد، لم يكن أحد يحفل بشهاداتي تلك! بل إن بعضهم لم يستطع أن يفهم ما احتوته تلك الشهادات. فحين تخرجنا من الجامعات في السودان، لم يكن نظام الكورسات شائعاً حينها. وكانت شهاداتنا لا تعكس بالضبط الذي تلقيناه من علم، أو الذي اكتسبناه من مهارات. كما كان أساتذتنا الجهابذة، مغرمين، غراماً شديداً، بمنح الدرجات المتوسطة والمتدنية!!

    باختصار شديد، كانت نقودي التي ذهبت بها إلى أمريكا تتناقص، وأنا بلا عمل، أرفض الوظائف البسيطة التي كانت تعرض لي، منتظراً الوظيفة التي تناسب مؤهلاتي. ولو كنت صادقاً مع نفسي، لاعترفت أن مؤهلاتي لم تكن، في حقيقة أمرها، أكثر من حروف، وأرقام، على ورقة! حين تنفد نقودك، وتعجز عن دفع إيجار الشقة، فإنك سوف تجد نفسك، وأسرتك، إن كانت لك أسرة، كما هي حالي، هائماً على وجهك في الشارع، في لمح البصر. ومع تناقص النقود، والاقتراب من حافة هاوية الإفلاس، ما كان أمامي سوى قبول العمل في وظيفة سائق في متجر للبيزا، تنحصر مهمتي في غسل الصحون، وتنظيف المحل، حين لا تكون هناك طلبات من الزبائن، وتوصيل الطلبات إلى البيوت حين تبدأ الطلبات. لقد ذهبت شهادتي الجامعية، وسنوات التدريس الثمانية عشر التي أمضيتها في المدارس المختلفة في السودان، وفي سلطنة عمان، أدراج الرياح، أو down the drain، كما يحلو للأمريكيين التعبير، في مثل هذه الأحوال. قبلت وظيفة البيزا مكرهاً، وانتابني إحساس ممض بالخجل من جراء التمريغ الذي حدثت لكبريائي العشائري. ولو علمت عشيرتي في ود الترابي بأن "أستاذ النور" عمل في توزيع البيزا على المنازل، وفي غسل الصحون، وتنظيف الواجهة الزجاجية للمحل، لأقاموا عليَّ مأتماً وعويلا. ولا أريد أن أفصل في الحديث عن معاناتي النفسية التي عانيتها، وأنا أحاول أن اقنع نفسي بقبول ما جرى لي، فقد كانت التجربة، في جملتها، معاناةً كبيرة. غير أن تجربة العمل نفسها أسهمت في إخراجي، من وعيي العشائري بذاتي، وجعلتني أقرب إلى تفهم الأطر الحداثوية. خاصة حين وجدت أحد المتقاعدين من وظيفة مرموقة يعمل معي جنباً إلى جنب، ولا يعاني المشاعر التي أعانيها!! فقد قال لي إنه يكره أن يبقى في البيت طيلة اليوم بلا عمل، وأن الساعات التي يعملها في متجر البيزا تخرجه من ذلك الإحساس الممض بالفراغ، كما أنها تجعله يحرك جسده، وهو بحاجة إلى ذلك في تلك السن، كما أنها تدر عليه دخلا إضافياً، يرفد راتبه التقاعدي.

    الشاهد أن بيئة العمل الحديثة تجبر الوافد على الخروج من الذهنية العشائرية، والعجرفة، والصلف، والاستنكاف عن العمل في الوظائف البسيطة. فلقد أعدُّونا، وهيأونا منذ نعومة أظافرنا، لنكون "أفندية"، ولا شيء غير "أفندية"؛ نمسك بالأقلام، ونجلس على المكاتب، ونزهو بتعليمنا الذي يركز على تخريج أصحاب ياقات بيضاء، خارج الإطار القيمي الذي خرَّج أصحاب الياقات البيضاء، في سيرورات الدول الصناعية!! فنحن قد حولنا الياقات البيضاء إلى مجرد بريستديج فارغ من أي محتوى نافع. فالأفندي، صاحب البدلة والكرافتة، الممسك بالقلم الفاخر، الجالس على المكتب عندنا، ليس في حقيقة أمره سوى راعٍ من رعاة العشيرة. ولا عيب في الرعي، بطبيعة الحال، فالرعي مهنة شريفة، وهو نشاط مارسه سيد البشر في صباه، وإنما العيب في ما ينطوي عليه ذلك الأفندي من تضخم الذات العشائري، ومن المسلك العشائري، ومن الاستسلام للمحسوبية العشائرية، ولكل الروح العشائري المناقض لقيم الحداثة، والهادم لها بجهد لا يني. الشاهد، أن البيئات الحداثية التي تعتمد المنافسة، وتعتمد المُحَاسبية accountability تجبر الفرد الذي يفد إليها على إعادة إنتاج نفسه، من جديد، وفي لمح البصر!! فالبيئة الجديدة، العصرية، المنضبطة، التي تركت وراءها تقاليد القبيلة والعشيرة، تصبح هي بيئته الجديدة، التي لا مندوحة له من الوفاء بمتطلباتها، باعتناق قيمها، وإعلائها، ومد قامته، ومطها، للوفاء بكل توقعاتها. ويجعلني ذلك أعود للمقارنة بين الهضبة والسهل، وأثر التواصلية الحضارية، كما في حالتهم، والانقطاع الحضاري، كما في حالتنا، على تشكيل الشخصية. ولو قارنا عدد أهل الهضبة الذين امتلكوا أعمالا تجارية في الولايات المتحدة، بأهل السهل الذين امتلكوا أعمالا تجارية هناك، لانقطعت المقارنة تماماً.

    تذويب الفرد في ذات الجماعة:
    في حين تركز البيئات الحداثية على إبراز فردية الفرد، وعلى وضعه أمام واجباته، وتحرص على محاسبته على التقصير، نجد أن البيئة العشائرية تسعى بكل الوسائل على إذابة الفرد في ذات الجماعة، والتماس الأعذار له، وإعفائه من مسؤولياته. وحين تقوم البيئة العشائرية بذلك، فهي تنتقص تماهي ذلك الفرد مع قيم الحداثة. تلف البيئة العشائرية الفرد الذي يعيش فيها بخيوط متشابكة من القيود الاجتماعية، والواجبات "التطييبية"، الروتينية، المبددة للوقت وللجهد. ولقد سبق أن أشرت إلى ذلك في خاتمة كتابي: (مهارب المبدعين: قراءة في السير والنصوص السودانية)، الصادر عن دارك مدارك في الخرطوم والقاهرة في العام 2010. فقد أوردت في مسالة تبديد العلاقات الاجتماعية لوقت الفرد، ما ذكره الشاعر الراحل، صلاح أحمد إبراهيم. في حوار أجراه معه الأستاذ، معاوية جمال الدين. وتم نشره في مجلة كتابات سودانية، التي يصدرها مركز الدراسات السودانية، في العدد أربعين، ص 42. قال معاوية لصلاح أنه ـ أي معاوية ـ ومعه آخرون، يعتقدون أنه كان في وسع صلاح أن يعطي أكثر مما أعطى، ولكنه لم يفعل، فما السبب؟ فرد عليه صلاح قائلا: ((المجاملات الاجتماعية تستهلك وقتا غالياً. هذا لا ينطبق على صلاح وحده. المبدعون في السودان يقاسون ذلك الشيء فإما (الفاتحة) أو العمل الذي بين يديك .. الزائر ـ مجيئه في الوقت الذي يحلو له، ويبقى لديك المدة التي يراها، وأنت ليس لك أن تقول له معذرةً، ولكن لدي عمل، فذلك سوء أدب. في الخارج ليس هناك شيء من هذا، وعلاقات المرء الاجتماعية محدودة بالقدر الضروري، وليست بمثل هذه الملامية، كان الله في عوننا جميعا)).

    ما ذكره صلاح في رده على معاوية يوضح كيف أن شبكة الواجبات الاجتماعية إنما نُسجت أصلاً لتطويع الفرد ومحق ذاته في ذات الجماعة، ليصبح قصارى همه هو تسقط الرضا الاجتماعي، والانمحاق في الكيان الجمعي للجماعة، بحيث لا تبقى لفرديته باقية. هذه المظلة الماحقة لا تستثني أحدا، ولا تفرق بين وقت أحد وآخر، ولا بين طاقة فرد وآخر. إنها تخلق من الجميع "متوسطا" حسابياً فيه يتساوى الجميع. هذا، في حين أن الإبداع فردي، والإنجاز فردي، والتفوق فردي، والاختراقات الكبيرة التي غيرت وجه الحياة، كلها، إنما أتت من اجتراحات فردية. ولذلك، فمجرد أن يخرج السوداني من بلاده، يصبح شخصاً آخر. وما ذاك إلا لأن حمولاً ثقيلة تنزل عن كاهله. إنها تنزل عن كاهله بمجرد خروجه!! وحين يعقب نزول تلك الحمول الثقيلة التأهيل والتدريب العصريين، وتنضم إلي ذلك متطلبات ومحفزات البيئة الجديدة، الضابطة، يصبح الأداء مختلفاً تماماً.

    إرثان متشاكسان:
    للسودان، من وجهة نظري، ارثين اثنين: إرث موجب، أساسه قيم الإنسان المتحضر، المستقر، الذي عمر وادي النيل منذ آلاف السنين. وقوام هذا الإرث، الشخصية التي مخضتها، في الحقب الأقدم، الديانات النوبية القديمة، ثم الديانة المسيحية، ثم التصوف الإسلامي. هذا الإرث هو الذي خلق السمات التي نعتد بها، والتي يرى الآخرون أننا نتميز بها. اتسم السودانيون بالأمانة، وبأنهم يُمكن أن يكونوا محل ثقة. ولقد سبق أن أوردت في بدايات هذه السلسلة تزكية النبي صلى الله عليه وسلم للشخصية النوبية القديمة. هذا الإرث لا يزال موجوداً، وهو الذي يميزنا عن غيرنا. غير أننا نسنا هذا الإرث، وأخذنا نعزو سماتنا الإيجابية لأسباب أخرى.حين وفد المتصوفة إلى السودان، بنوا مناهجهم، ومقاصد منهاجهم، على القيم الموجبة من الإرثين النوبي والمسيحي، وأضافوا إليه إضافات شديدة الأهمية، ناسب احتياجات مجتمعاتهم في تلك الأزمنة. غير أن هذا الإرث بأضلاعه الثلاثة هذه، أضحى إرثاً مغطىً عليه بإرثٍ آخرَ، سالبٍ، وهو إرثٌ طرأ لاحقاً، فهو حديثٌ نسبياً. هذا الإرث الثاني إرث ذو ضلعين تمثلهما البداوة الوافدة، والفقه المدرسي الوافد. هذا الإرث الطارئ الذي غطى على الإرث الأول، مغرق في الشكلانية، وفي الاستمرارية عن طريق الإنكار للنقائص. ولقد طغى هذا الإرث الثاني، ثنائي الأضلاع، وطفا على سطح حياتنا، وغطي على الإرث الأول، وهمشه، ولكنه لم يقض عليه تماماً. وقد بلغ من سيطرة الإرث الثاني الطارئ هذا أن أفقد التصوف جوهره، وجعل المتصوف يباري الفقيه في الزلفى إلى السلطان!!

    حين يخرج السوداني اليوم من البلاد يتعطل فيه الإرث البدوي القبلي العشائري الفقهي، وتنطلق منه الطاقات المتجذرة في الإرث الروحاني الأول. وهذا، من وجهة نظري، يمثل جانباً من السر في نجاح السودانيين الذين تلقوا تعليماً جيداً، خارج حدود بلدهم، ووجدوا فرصة العيش في بيئات تقدس العمل، والانضباط، والحيدة!! ولذلك، لابد لنا من أن نميز بين هذين الارثين، وأن نعمل على تغليب الإرث الأول القديم، على الإرث الثاني الطارئ العارض. فالشخصية السودانية بخير، حين تنطلق تصرفاتها، من معدنها الأصلي الذي لم يصل التآكل إلى مركزه. فقد غطت على قلب المعدن الأصيل شوائب عارضة. فجذوة الانطلاق في نفوس السودانيين لا تزال حية، ولكن غطى عليها رمادٌ كثيف. هذا الرماد الكثيف تمثله قيم البداوة والعشائرية السالبة، مضافا إليها الفقه المدرسي الشكلاني، الذي يحفل بالمظهر الفارغ، ويتجانف عن الجوهر الثمين. فلو بعثرت رياح الفكر العاصف، الناقد، عنها هذا الرماد، فإنها سوف تتضرم من جديد. وعندها يحدث الانطلاق، الذي لا توقف بعده.

    لقد اعتنقت ما تسمى بالحركة الإسلامية السودانية ـ وهي حركة مستلبةٌ، متجذرةٌ في السالب والمقيِّد الآتي من الخارج ـ الفقه المدرسي الشكلاني. وحين تشظت تلك الحركة، وفقدت قوة دفعها الأولى، وانبهمت أمامها المسالك، لم تجد أمامها غير العشائرية، لترتد إليها. ولذلك فإن التآكل الذي أصاب الأخلاق، وقيم العمل، وأصاب التمدين، أو الـ civility، في العشرين سنة الأخيرة، في السودان، غير مسبوق في تاريخ السودان على الإطلاق. ومع هذا التردي المروع، ازدادت حالة الإنكار، فوصلت هي الأخرى معدلاتٍ غير مسبوقة! كما ازدادت، أيضاً الشكلانية والمظهرية، لتغطي على الإحساس المفجع بالفشل. طغا الخطاب الديني الفارغ من أي محتوى حقيقي نافع، وكثرت مظاهر التدين الفارغة من أي مردود إيجابي، وانحدرت اللغة اليومية لتسقط في مستنقعٍ زنخٍ من الببغائية. وهكذا تراجعت العقول والفهوم، وانحدرت الحالة في جملتها إلى دركٍ سحيقٍ من الشكلانية الفقهية، ومن "النفخة" العشائرية، وهكذا اتسعت الشقة بيننا وبين واقع العصر اتساعاً موبقاً. ولذلك فإن ما سمي بـ "المشروع الحضاري" تحول إلى ردة حضارية بالغة الفظاعة. (يتواصل).
    نقلا عن الأحداث – الاثنين 9 أغسطس 2010
                  

08-07-2017, 12:20 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (18)

    الإنجليز وتفعيل العشائرية:
    من الأمور التي يمكن أن يستدل بها المرء على قدرة العشائرية وقابليتها، على أن تكون ترياقاً مثبطاً ومعطلاً للدفع الحضاري، ما عُرف عن الاستعمار البريطاني من حرصٍ شديدٍ على تفعيل هذه النزعة وسط الشعوب التي يستعمرها. ولا غرابة في ذلك! فاعتناق نظرية "فرق تسد"، وهي النظرية المفضلة لدى أنظمة الحكم الاستعمارية، والشمولية، تقود، وبشكل طبيعي، الكيان المسيطر، سواءً كان كياناً استعمارياً وافداً أو كياناً شمولياً محلياً، إلى العمل الدءوب على شرذمة القوى التي تتهدد وجوده. ولذلك فقد كان البريطانيون حريصين، غاية الحرص ألا تتبلور القومية السودانية، وألا يتبلور انتماء سكان القطر فتصبح كلمة "سوداني" هي المظلة التي يستظل بها الجميع. كان الإنجليز حريصين، على أن يثبت كل سوداني اسم قبيلته في الأوراق الرسمية. وكانوا كثيراً ما يسألون المواطن: إلى أي قبيلةٍ تنتمي؟! ولقد قاوم أبكار المتعلمين السودانيين هذه الخطة البريطانية، وكان يصرون على القول بأنهم "سودانيون"، الأمر الذي كان يضايق البريطانيين كثيراً. ولقد استخدم البريطانيون نفس هذا النهج في فترة حكمهم لدول الخليج العربية، الأمر الذي أبقى على اسم القبيلة، مرتبطاً باسم الفرد، حتى يومنا هذا. فمن خطط المستعمر، أي مستعمر، ألا يصحو الشعب الواقع تحت نير حكمه القهري الفوقي، وألا يكتسب من الوعي ما يجعله يطالب بتقرير مصيره.

    اهتم الاستعمار البريطاني أكثر من غيره من القوى الاستعمارية الغربية، بدراسة حالة الشعوب التي يحكمها. فلقد ركز البريطانيون على دراسة منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة إفريقيا جنوب الصحراء، ومنطقة جنوب شرقي آسيا، وغيرهما من الأقاليم التي استهدفوها بالاستعمار. وقد شملت الدراسات الاستعمارية الديانات، والطوائف المنضوية تحتها، والجغرافيا، والتاريخ، والتركيبة السكانية، والثقافة، والموارد الطبيعية، والأنثروبولوجيا، وغير ذلك من حقول البحث العلمي. كما تمت الاستفادة من كتابات الرحالة، ومن تراكم المعارف لدى البعثات التبشيرية، نتيجةً لاحتكاكها بالمجتمعات الريفية، المحلية، التي وفدت إليها. وتمت الاستفادة، أيضاً، من أعمال الأنثروبولجيين، وعلماء الاجتماع، وغيرهم. جرى استغلال كل ذلك، في رسم الخطط قصيرة وطويلة الأجل، من أجل الإبقاء على الهيمنة الاستعمارية، وعلى استدامة الاستكانة للسيطرة الاستعمارية، أطول مدةٍ ممكنة. فأهم الوسائل لتمديد الهيمنة الاستعمارية، إنما يتلخص في خلق نخب ترتبط مصالحها ارتباطاً عضوياً، بمراكز الهيمنة الاستعمارية. ولذلك، فقد بقيت مصالح النخب المحلية التي صنعها المستعمر، مرتبطةً بالمستعمر، حتى بعد خروجه. فقد تطورت مصالح الوطنيين الممسكين بمفاصل السلطة والثروة، في تناغم مع التحول الذي طرأ على أساليب الاستعمار، التي انتقلت من السيطرة العسكرية، وإدارة البلدان المستعمَرَة من الداخل، إلى إدارتها من على بعدٍ من الخارج، عن طريق النخب المحلية، التي تم تكييفها لتخدم المصالح الاستعمارية، بعد أن ارتبطت رؤيتها ومصالحها بالرؤية وبالمصالح الاستعمارية.

    البداوة والسلفية الجهادية:
    لكي يبقي المستعمر من يستعمرهم مباشرة، أو غير مباشرة تحت قبضته، فإنه يعمل على تعطيل نمو وعيهم. وعلى خلق حالات من النزاع تتسع كل حين ويصعب إيقاف تناسلها. وبما أن القبيلة تمثل أقوى تعبيرات البداوة، والعشائرية، عن ذاتيتيهما، فقد أصبحتا المركبين المفضلين للسلطات، استعمارية كانت أم وطنية، للإبقاء على الحالة الراهنة القائمة، أو ما يسمى بالـ status quo. فالبدوية والعشائرية تعملان بطبعهما ضد بناء القومية الواحدة، وتعيقان، بحكم نزعتهما التي تعلي من قدر الذات، وتحط من قدر الغير، جهود ترسيخ قواعد المواطنة، وفق المفاهيم الدستورية العصرية. فالقبلية بطبعها المودع فيها، تهتم، أكثر ما تهتم، بالعرق، فالفضيلة عندها مرتبطة بالعرق. وربط القيمة والفضيلة بالعرق، يثير، وبالضرورة، حنق من تجعل منهم الأدبيات البدوية، قوماً أقل محتداً، وشأناً، وفضيلة. والإسلام حين جاء، إنما جاء مناقضاً، ومنذ الوهلة الأولى، لقيم البداوة، وللقبلية، وللاستعلاء العرقي. فقد قال النبي الكريم: ((كلكم لآدم، وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم!!)). وهكذا، نقل الإسلام، وببساطة شديدة، وبحسمية شديدة أيضاً، متعلق القيمة، من نطاقٍ أقل حضارية، إلى نطاق أكثر حضارية، وبما لا يقاس. فهو قد أبعدها من ضيق العرق إلى رحابة القيمة الإنسانية المعرفية والخلقية. أو قل أخرج متعلق القيمة من الزهو العرقي العنصري، إلى رحابة النفع، وإشاعة الخير بين الناس: ((الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله، أنفعهم لعياله)).

    لقد تنبه الدارسون البريطانيون، وأصحاب الدراسات المرتبطة بالعمل الاستخباراتي، في حقبة الاستعمار، إلى أهمية التكوينات القبلية، والانتماءات العرقية، في خلق حالات التشرذم، وفي استدامة حالات النزاع. ولقد لعب الاستعمار البريطاني، والمخابرات البريطانية، الكرت القبلي، البدوي، بنجاح مشهود، في مناطق مختلفة، ومواقع مختلفة، وفتراتٍ مختلفة، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط. فلكي تفرغ الإسلام من محتواه الحضاري، عليك فقط أن تجمع بين النزعة القتالية البدوية، وبين الدعوات الدينية السلفية التبسيطية. كما عليك تسييس الطوائف الدينية وتفعيل القوى العشائرية. والآن، فإن الأمريكيين، الذين يحاولون خلق حالة استعمارية شبه تقليدية جديدة، ينحون نفس هذا المنحى في العراق، وفي أفغانستان، ولكن بنجاح أقل من النجاح المشهود الذي حققه البريطانيون في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. فالأحوال تغيرت، وأصبحت الشعوب أكثر وعياً من ذي قبل. كما أن المواطن الغربي، الذي كان يدعم سياسات الحكومات الغربية الاستعمارية، قد أصبح، هو الآخر، أكثر وعياً بحقوق الآخرين، وبقيمتهم الإنسانية. وعلى أقل تقدير، فقد أصبح هذا المواطن الغربي أقل حماساً لتقديم الدم ثمناً للنفط، ولغير النفط، من الاحتياجات اليومية الغربية. ومع ذلك فإن هذه السياسات، لا تزال تحقق شيئاً من النجاح.

    جيشت الحركة الوهابية في الجزيرة العربية قبائل البدو، وسلحتهم بعقيدة سلفية تبسيطية مصمتة، وهاجمت بهم المراكز الحضرية في الحجاز، وفي العراق، وفي الكويت. ولقد كان الظرف التاريخي مواتياً تماماً لكي تنجح تلك الحركة وتخلق دولةً كبيرة. فالإمبراطورية العثمانية كانت تفقد مشروعيتها الدينية، وأخذت تتآكل، وبسرعة كبيرة. ولم يكن من الممكن وقف انحسار ظلها. فهي لم تعد في تلك اللحظة التاريخية قادرة على الوقوف أمام مخططات الغرب، الهادفة لخلق شرق أوسط جديد، وفق الحاجة الغربية آنذاك. وذات التاريخ يعيد نفسه اليوم، من حيث التوجه لخلق شرق أوسط جديد، ولكن في سياقٍ مختلف. غير أن الجزيرة العربية، التي سادتها الرؤية الوهابية، ظلت تعاني من آثار هذا المزيج البدوي، السلفي، التبسيطي، خاصةً وأن المذهب الوهابي اكتسب بتحالفه مع السلطة القائمة، بعداً سياسياً، رسالياً، وأصبحت له تطلعاته للتمدد خارج جزيرة العرب. وحين تم اكتشاف النفط، وتنامت الثروة في قفزات كبيرة، في العربية السعودية، أكتسب هذا الحلف قوة أكبر، بلغت أن جعلت له تأثيراتٍ حقيقية تعدت جزيرة العرب، لتطال الفضاء العربي الإسلامي برمته. فلقد غير البترودولار الخريطة الفكرية والسياسية للمنطقة العربية برمتها. غير أن تقدم الزمن أبرز خطورة الشق الديني من التحالف بين البيتين الوهابي والسعودي، على السلطة الزمنية، التي تمثل الشق الآخر منه. فكلما تقدم الزمن، كلما تناقض هذا المزيج السلفي الرعوي مع اندياحات الحداثة، وتمدداتها. وكلما ظهر أن السلفية الجهادية تولد أشكالا مناقضةً ومناهضةً، للصورة الأولى للحلف. وتحاول العربية السعودية الآن، وبمختلف الأساليب، تلمس طريق آمنٍ للخروج من هذه الوهدة، من غير أن تحرز، حتى الآن، سوى نجاحاتٍ محدودةٍ جداً. فبالإضافة لحالة الاختناق الاجتماعية الداخلية، التي خلقها تفعيل البداوة سياسياً، وتقوية سلطتها بالعقيدة السلفية الجهادية، في مجتمعات الجزيرة العربية، وخاصةً في المجتمع السعودي، وهو الأكبر حجماً، والأكبر وزناً بين مجتمعات الجزيرة العربية، فإننا نجد أن نشوء تنظيم القاعدة، وهو تنظيم انطلق من ذات الأرضية، قد أخذ يسبب صداعاً مزمناً، لا لذلك الحلف، وأهل الجزيرة العربية، وحسب، وإنما للإقليم برمته، وللعالم بأسره. لقد تغلغل تنظيم القاعدة في اليمن، وتغلغل في العراق، وتغلغل في الصومال، بل ودخل إلى أعماق الصحراء الكبرى في إفريقيا ليهدد الدول العربية الإسلامية، المشاطئة لحوض المتوسط، وساحل الأطلسي، إضافةً إلى الدول الإفريقية ذات الغالبية المسلمة جنوب الصحراء الكبرى. ولو أردنا أن نرى أبشع ما يمكن أن ينتج من مزيج العشائرية، والسلفية الجهادية، فلننظر إلى ما يصنعه الشباب الصومالي اليوم بالناس في الصومال، وبالصومال نفسه. ولست بحاجة إلى الإشارة إلى ما يشير إليه كثير من الباحثين، وهو أن هذا الصومال المتشظي، والذي انفرط فيه عقد الدولة المركزية، هو، وللغرابة، من أكثر أقطار القرن الإفريقي تجانساً، من حيث اللغة، والعقيدة، والعرق. فهو لا يعاني من المشاكل التي تعاني منها الأقطار شديدة التنوع، كالسودان، مثلاً. غير أن العقيدة السلفية الجهادية النزَّاعة إلى تكفير المسلم المختلف، والتي لا ترضى بغير انصياع الجميع لها، لا تترك للآخرين مساحة للتوافق وللتسويات. يضاف إلى ذلك، أن شدة الصلف العشائري، والانحصار الموبق في رؤية كل شيء من خلال منظور المصلحة الجهوية الضيقة، لا يتركان للآخرين المستهدفين بالإقصاء، فرصةً سوى فرصةَ حمل السلاح. كل هذه السوءات البنيوية في الوعي الجمعي النخبوي التراكمي، هي التي جعلت من الصومال نموذجاً لا يشق له غبار في فشل الدولة. وأخشى أن نكون، نحن السودانيين، على ذات الطريق المفضي إلى الخراب العظيم، والهلاك الماحق!!

    لو نظرنا إلى تاريخ ما يسمى بالثورة العربية، والمشاريع الوطنية المختلفة لقوى اليسار العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين، ثم إلى انهيار هذه المشاريع في بضع عقود من الزمان، وبروز ما يسمى بـ "المد الإسلامي"، أو "الصحوة الإسلامية"، لوجدنا أن ما زرعه الإنجليز في المنطقة العربية، في القرن التاسع عشر، لا يزال يؤتي أكله في خدمة المصالح الغربية، حتى يومنا هذا. باختصار شديد، ما عليك سوى تفعيل الطائفية، والقبلية، والبداوة، والعشائرية، وحقنهما بالمفاهيم الدينية الجهادية التبسيطية، ليصبح الاضطراب والتفكك، والتشرذم، هي النتيجة الطبيعية. ولذلك حين انفصل السودان من حضارته القديمة، وروحانيته القديمة، واجتاحته جوائح القبلية والعشائرية والشكلانية الفقهية أصبح مرتعاً لعبث اليد الأجنبية الإقليمية، والدولية، سواء بسواء!

    إثيوبيا والبحث عن نموذج للتحديث:
    يمكن القول أن دولة إثيوبيا حفظت كيانها الثقافي التاريخي الذي لم يتعرض قط للانقطاعات. كما سلمت تماماً من الاستعمار. ولو استثنينا السنوات القليلة التي احتل فيها الإيطاليون أديس أبابا، (1936م-1941م)، أثناء فترة الصراع العسكري العنيف، الذي جرى في القرن الإفريقي بين البريطانيين والإيطاليين، في فترة الحرب العالمية الثانية، لأمكن القول إن إثيوبيا لم يتم احتلالها بواسطة المستعمرين على الإطلاق. وما من شك أن وعورة الأراضي الإثيوبية، وقدرة الإثيوبيين على أن يعيشوا حياةً مكتفيةً ذاتياً فوق موائدَ صخريةٍ شاهقة العلو، كبيرةَ المساحة، قد كانت من العوامل التي لعبت دوراً كبيراً في حماية قلب الهضبة من الاحتلال. غير أن الأمر يتعدى، من وجهة نظري، مجرد الحماية التضاريسية التي وفرتها طبيعة أثيوبيا لأهل إثيوبيا، إلى السيرورة التاريخية التي أنتجت هذه الأمة ذات الأصالة، وذات التميز، وذات الاعتداد الهادئ الموزون بشخصيتها الحضارية. فالشخصية الحضارية، للإنسان الإثيوبي شخصية شديدة التميز. ولقد انعكس ذلك التميز، في نظام حكمها الإمبراطوري الشبيه بالنظام الإمبراطوري الياباني، وفي مسيحيتها المختلفة، عن كل مسيحية أخرى. فهي مسيحية ذات سمات روحانية شرقية. وقد استعصت على التبعية للكنيسة الكاثوليكية الأوروبية، وللكنيسة القبطية المصرية. ولقد خلق كل ذلك بناءً نفسياً متميزا للإنسان الإثيوبي. وأقل ما يمكن أن يقال عن الإنسان الإثيوبي أنه إنسان لم يشوهه الفقر، ولم يُيْئِسْهُ من روح الله، رغم شدة وطأته عليه، وطولها.

    إن سر تماسك الكيان الإثيوبي، عبر حقب التاريخ المختلفة، إنما يعود إلى هذه التواصلية الحضارية، التي لم ينعم بها أي من البلدان التي أحاطت بهذه البلاد. ولا غرابة، والحالة هذه، أن يكون الإثيوبيون أول الواصلين لحالة الاستقرار النسبي، ومن ثم الشروع في البناء الثابت الصاعد، نحو الحداثة المُوَطَّنة، في هدوءٍ نسبيٍ، لا ينعم به جيرانهم. في ورقته التي حملت عنوان، (البحث عن نموذجٍ للتحديث: الإثيوبيون المتعلقون بالنموذج الياباني)، التي تم نشرها في مضابط مداولات مؤتمر فلوريدا للمؤرخين، الذي انعقد في العام 2004م، تحدث البروفيسر جاي كلارك، عن من أسماهم بالـ Japanizers، أو الإثيوبيون المتعلقون بإتباع النموذج الياباني. ولقد اختار البروفيسر كلارك، أعلاهم صوتا في فترة النصف الأول من القرن العشرين، وهو هروي ولدي سلاسي، 1878م ـ 1939م ، الذي عمل في السلك الدبلوماسي الإثيوبي، كما عمل وزيراً للخارجية منذ العام 1930م. ولقد كان هروي ولدي سلاسي مستشاراً موثوقاً به من قبل الإمبراطور هيلاسلاسي. ولقد ذهب ولدي سلاسي مع الإمبراطور هيلاسلاسي إلى المنفي في العام 1936م، أثر الغزو الإيطالي لإثيوبيا، ومات في منفاه في انجلترا. يقول بروفيسر كلارك إن ولدي سلاسي كان يرى أن اليابان وإثيوبيا تتشاركان الكثير من السمات. فالبلدان ظل يحكمهما نظام إمبراطوري، لم يتغير لقرون طويلة. ففي حين أن هيروهيتو هو الإمبراطور رقم 124 في سلالة جيمو الإمبراطورية اليابانية، فإن هيلاسلاسي هو الإمبراطور رقم 126 في السلالة السليمانية الإثيوبية. أيضا، يتشارك البلدان النظام الإقطاعي، غير أن اليابان انطلقت من نظامها الإقطاعي لتصبح قوة صناعية كوكبية، في فترةٍ بالغة القصر، جعلت منها نموذجاً مثيراً لإعجاب الشعوب. كان ولدي سلاسي يبحث عن نموذج للتحديث لم يرتبط صانعوه باستعمار الشعوب، ولا مصلحة له ـ حسب رأيه ـ في تعطيل نمو الشعوب. ولذلك فقد كان يرى أن اليابان يمكن أن تكون النموذج الأمثل لإثيوبيا. ولقد تبدو رؤى ولدي سلاسي التي مر عليها حتى الآن ما يقارب القرن من الزمان، رؤىً رومانسيةً حالمة. غير أنها كانت تمثل في الربع الأول من القرن العشرين، وعياً مبكرا بضرورة الاستقلالية، وبضرورة إتباع نموذج رأسمالي غير غربي، وتلكما ميزتان كبيرتان.

    وعيٌ مبكرٌ بضرورة النموذج:
    يقول البروفيسر كلارك إن الإثيوبيين الذين تلقوا تعليما غربياً في بداية القرن العشرين، ثم عادوا إلى بلادهم، لم يطب لهم أن يشاركوا مواطنيهم دعة الاسترخاء على وسادة أمجاد الانتصار على الإيطاليين في معركة عدوة في العام 1896م. فقد كانوا يعرفون، حق المعرفة، أن انتصارهم على الإيطاليين لم يكن نتيجة لتقدمهم التقني، وإنما لظروف كثيرة مختلفة يسرت لهم ذلك الانتصار. كانوا موقنين أن ما ينتظر بلادهم كثير، وأن ذلك النصر الكبير يجب ألا يصرفهم عن رؤية كم هي متخلفةٌ بلادهم. ولقد انقسم هؤلاء العائدون إلى ثلاث فئات: "المثقفون التقدميون"، و"الإثيوبيون الشباب"، والـ Japanizers، وهم رافعو شعار الاقتداء بالنموذج الياباني. وقد طغي تأثير الـ Japanizers في الفترة ما بين 1920م ـ 1930م. ففي حين كانت رؤية المثقفين التقدميون أن إثيوبيا بحاجة إلى الإصلاح، فإن رؤية الفصيلين الآخرين، وهما "الإثيوبيون الشباب"، والـ Japanizers كانت تنحصر في أن إثيوبيا بحاجة إلى نموذج لتقتفي أثره وهي تسير في وجهة التحديث. ومع أن هؤلاء المثقفين كانوا مجمعين على ضرورة التخلص من النظام الإقطاعي الذي خلفه الزمان وراءه، إلا أنهم كانوا يرون أن الرأسمالية البرجوازية المطروحة كنموذج إنتاج بديل، لا تلبي حاجة المجتمع الإثيوبي. فالبرجوازية التجارية الإثيوبية الرجعية، كما وصفوها، لا تستطيع تجميع رأس المال الضروري للنهضة. كما أن المستعمرين الإمبرياليين لن يسمحوا لإثيوبيا بالنمو لتبلغ الحجم والوزن الذي تصبح بهما قادرة، في يوم ما، على كسب السوق الداخلي لنفسها. أيضاً، مع الضغوط الإمبريالية الغربية، فإن إثيوبيا لا تملك فسحة الوقت وبذخه لكي تتطور تطوراً رأسمالياً برجوازياً، طبيعيا. فالنموذج الرأسمالي الذي اقترحه الـ Japanizers يتلخص في استخدام الموارد المتوفرة باستخدام قوة الدولة، واستخدام ما أسموه "أسلوب الثورة من أعلى". فعلى الدولة أن تتولى تجميع رأس المال، في الوقت الذي تمنح فيه البرجوازية التجارية دعماً فعالاً يخلق لها مناخاً أفضل لتنمو. يقول كلارك: ونسبة لضعف تقسيم العمل في إثيوبيا، فإن إثيوبيا لم تستطع الخروج من الفوضى الإقطاعية الطويلة، إلا قريباً جدا، إذ بقي بارونات الإقطاع متخندقين في المقاطعات. ولذلك فإن إتباع النموذج الياباني في إثيوبيا، والخروج من قبضة الإقطاع الممتدة منذ أمدٍ طويل، في ذلك الوقت، كانت تحتاج إجراءات أكثر شدةً وصرامة، من تلك التي احتاجتها اليابان، صاحبة النموذج الأصلي.

    الشاهد هنا، أن الطلائع الإثيوبية كانت واعيةً منذ الربع الأول من القرن العشرين، بمشاكل بلادها، فطفقت تبحث عن نموذج رأسمالي "غير غربي" لتقتفي آثاره. كما كانت واعية بمشاكل البرجوازية التجارية المحلية، وبضرورة تراكم رأس المال الضروري للتنمية من خلال قوة الدولة وما أسموه "الثورة من أعلى". ومرت العقود بين الربع الأول من القرن العشرين، إلى الربع الأخير منه دون أن تحدث الطفرة المرتقبة. وعموما فإن تجميع طاقات أمة بأسرها لا يتم بين يومٍ وليلة. غير أن الرؤية السليمة للنخب القائدة تبقى ضرورية. ونتيجة للمجاعة التي ضربت مقاطعة ولُّو في العام 1974م، تضعضعت ثقة الشعب الإثيوبي في الإمبراطور هيلاسلاسي. وتداعت الأحداث إلى أن تسقط إثيوبيا في قبضة العسكر، الذين حوَّلوا، تحت قيادة منقستو هايلي مريام، الدولة الإثيوبية العريقة إلى دولية ماركسية لينينية!! واستمرت تلك الحقبة حتى العام 1991م، حين زحفت تحالف قوى الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية على أديس أبابا، وسقط نظام منقستو، الذي فر إلى زيمبابوي قبيل وصول الثوار إلى العاصمة. خرجت إثيوبيا من حقبة الماركسية اللينينية بأقل قدرٍ ممكن من الخسائر. كما كسبت من تلك الحقبة العنيفة المظلمة الخروج من دوامة العنف، ومن قبضة الإقطاع، ونظام حيازات الأراضي الإقطاعي الموروث. كما خرجت، أيضاً، من اللوثة الماركسية اللينينية، بنسل جديد من القياداتٍ الشابةٍ الجديدة. وهي قيادات جيدة التعليم، وأوضح رؤيةً، وأكثر نضجاً سياسياً، وأكثر قدرة على اللعب السليم بكروت التوازنات الداخلية، والإقليمية، والدولية. وقبل هذا وذاك خرجت إثيوبيا بتسويةٍ نهائيةٍ للمشكل الإريتري. ولا غرابة إذن، أن أخذت إثيوبيا تتحسس طريقها إلى التحديث، ببطء، ولكن بكل تأكيد، Slowly, but surely، كما يُعَبِّر الأمريكيون. (يتواصل).
    الأحداث ـ الاثنين، 16 أغسطس 2010
                  

08-07-2017, 12:21 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يغفو مارد الهضبة، ويصحو مارد السهل؟ (19)

    البصر الفاحص والبحث النوعي:
    سأخرج في هذه الحلقة الثالثة قبل الأخيرة وربما أيضاً في الحلقتين المتبقيتين من هذه السلسلة، عن ما سبق أن انتهجته من ارتكازٍ على ما كتبه الآخرون، مما ورد في كتب التاريخ، ومما ورد في المدون من مختلف الرؤى السياسية المتعلقة بتقلبات هذا الإقليم، لألج عالم الملاحظة، الدالة على المعنى المستنطق منها، مع مزجها بشيءٍ من القراءة والتحليل. وسلسلتي هذه انطلقت منذ البداية من الملاحظة، ومن الدهشة الطازجة التي اعترتني وأنا استقبل بحواسي ذلك العالم الإثيوبي الزاخر، الذي ظل خارج وعيي، زماناً طويلاً، رغم قربه الجغرافي الشديد. ولذلك فسوف أحاول، في هذه الحلقات الثلاث المتبقيات، ترجمة انعكاسات تجربة رؤية القطر الإثيوبي عبر القراءة الوصفية، مع إعمال الرؤية الأدبية، والفنية. وكل ذلك يدخل ضمن خُصلات strands ما سُمِّي في العقود الثلاثة الأخيرة، بمنهج البحث النوعي أو الـ qualitative research. يقول إليوت آيزنر، البروفيسور بجامعة ستانفورد، وأبرز علماء التربية الفنية في الولايات المتحدة، وفي عالمنا اليوم، في مقالته الموسومة، ((الجبهة الجديدة في منهج البحث النوعي))، إن ربع القرن المنصرم شهد نمواً غير مسبوق في استخدام مناهج بحث غير تقليدية في العلوم الاجتماعية. ولقد كان الدافع وراء الميل نحو هذه المقاربات الجديدة مرتكزاً بشكل جزئي على الرغبة في تأمين معلومات أكثر أصالة عن الناس، وعن الأوضاع، موضوع البحث. ولقد تأسس ذلك التوجه على استدراكٍ لحقيقةٍ هامة، وهي أن مناهج البحث التقليدية تعمل، في كثير من الأحوال، على تقييد المعلومات المستجمعة أو الـ،data بطرقٍ تضر بتمثيل الظاهرة التي يود الباحثُ فهمها. ونتيجة لهذه الاحترازات التي تنامت، والحرص على أن يتم عكس وتمثيل الظواهر المدروسة بشكل صحيح، ظهر الميل إلى استخدام مناهج بحث تتجنب الأساليب العادية التقليدية التي كانت متبعةً من قبل. أيضاً لفت كتاب جون كوليير جونير، ومالكولم كوليير، المسمى: (الأنثروبولوجيا البصرية: الفوتوغرافيا بوصفها منهجاً للبحث)، نظر الباحثين لأهمية منهج البحث البصري. وقد صدر هذا الكتاب في طبعته الثالثة عن دار نشر جامعة نيومكسيكو في العام 1990م بمقدمة من إدوارد هول. ويؤكد مؤلفا الكتاب أن الصور الفوتوغرافية لا تمثل مجرد معينات إيضاحية illustrations وحسب، كما كان متعارفاًٍ عليه من قبل، وإنما تمثل الصور أداةً لجمع المعلومات أو الـ data، والتحقق منها، بشقيها: الكمي، والنوعي. وأضيف أنا من جانبي، على ما تفضل به المؤلفان، أن ما ينطبق على الكاميرا، ينطبق أيضاً على عين الإنسان، وعلى بقية حواسه في إدراك الظواهر. فعين الشخص، ذي الوعي البصري المتقدم، وذي الذاكرة الفوتوغرافية، والعقل القادر على التحليل، وعلى استنطاق الصورة، وعلى الاستنتاج والربط، هي الأخرى أداة بحثية بالغة الأهمية. ولا غرابة أن َسمَّى إليوت آيزنر، الذي سلفت الإشارة إليه، كتابه الهام في البحث النوعي بـ (العين المستنيرة) The Enlightened Eye. وقد وضع البروفيسور ريتشاردسون ل. (2000)، في ما كتبه بمجلة "الاستعلام النوعي"، Qualitative inquiry، خمسة معايير، يرى أنها معينة للباحثين الإثنوغرافيين. من ضمن هذه المعايير معيارٌ أسماه بالتأثير impact. والسؤال الذي وضعه ريتشاردون في هذا الصدد، ضمن معاييره الخمسة، يقرأ: ((هل أَثَّرَ عليَّ هذا؟ عاطفياً، أو فكرياً؟ هل حرَّكني؟)). فما يحركك يستحث البحث، ويستحق توسيع الرؤية بخصوصه.

    إعادة "الروحنة" للعيش:
    كتب الأستاذ عوض الحسن، في مقالاته البديعة، التي أسماها "خواطر حبشية" ما نصه: ((حين خطوت خارج مطار أديس أبابا "الماهل"، واستقبلتنى "الزهرة الجميلة" بوجهها الصبوح، وبشاشتها المألوفة، ورونقها، وروائها، وودّها، داهمتنى أحاسيس ومشاعر وذكريات ومقارنات شتّى. أول ما خطر بذهني التعبير "الجو صحوٌ"، نكتبه في كراسات الإنشاء ونحن في بداية عهدنا بالمدارس، ونسمعه في النشرة الجوية في تلفزيونات الدنيا، ولا نعرف معناه الحقيقي، (مثلما نكتب ونغنى عن الزهور "والوردي" دون أن نراها). وأنا أقف على ربوة مطار أديس أبابا، والمدينة تصحو من سباتها، قلت لنفسي، وأنا ثملٌ برائحة صباح المدينة المنعش، ورائحة أشجار الكافور التي هيّجتها أمطار الأمس، ومزهوٌ باكتشافي: (أيوااا ! هذا ما يعنُونه بالجو صحو!). الهواء شفيفٌ لطيفٌ نظيف، وأشعة الشمس رقيقةٌ رحيمةٌ حانية كأنما غسلتها أمطار الفجر، فنزعت عنها حدّتها وصهدها الذي نعرف كجوع بطوننا. وخضرة الأشجار زاهيةٌ شفافةٌ نضرة، لا يثقلها مثل الغبار الذى يحطّ بصفة دائمة على أشجار الخرطوم، فيحيل لونها، حتى في موسم ازدهارها، وفرهدتها، خضرةً كابيةً غبشاء. وأشجار "الجاكاراندا" ذات الأغصان النحيلة السوداء، تكلل هاماتها زهورها البنفسجية التي تهزها رياح "البلق" ـ الخريف الصغيرـ فتسقط حول جذوعها دوائر من الظلّ البنفسجي. كلّما رأيتها جاهدت نفسي كي لا ألتقطها مثلما كنّا نفعل حين تهب رياح الخريف، دون أمطاره، على ديار الشايقية، في سبتمبر من كل عام، والبلح قد طاب، فتُسقِط "تمر الهبوب"، حلالاً لمن يلتقطه من الصبية)).. انتهى.

    اقتبست النص أعلاه، لأنه نصٌ عامرٌ بالانفعالات، وبالدلالات، القائمة على ما تعطيه الحواس. ولا أخال أحداً يقرأ هذا النص، دون أن يكون وجدانه قد تأثر به، وتحرك، واعتراه قدرٌ ما من الطرب والنشوة. وأقل ما يمكن أن يقال عن هذا النص، هو ما احتواه من خلاصةٍ تتمثل في أن تلك البقعة المسماة أديس أبابا، والتي تبعد عن الخرطوم بحوالي التسعمائة كيلومتر، أو يزيد قليلاً، لا أكثر، هي في حقيقة أمرها عالمٌ آخرٌ تماماً. فهي مختلفةٌ جغرافياً، كما هي مختلفةٌ في كثير من الوجوه، ومتفقةٌ فيً وجوهٍ كثيرةٍ أخرى، أيضا. من تلك الوجوه المتفقة المختلفة، التاريخ، وطبيعة الثقافة الموروثة. ومن الناحية الجغرافية فإن الانتقالُ إلى أديس أبابا القريبة جداً من الخرطوم، يمثل الانتقالَ إلى وسط مناخي يبعد آلاف الكيلومترات. فالارتفاع الذي يبلغ سبعة آلاف قدم فوق سطح البحر يخلق تبايناً مناخياً كبيراً، رغم قرب المسافة البينية القصيرة التي تفصل بينها وبين السهل الغربي المجاور لها. يخلق هذا الارتفاع الشاهق شعوراً مغايراً لدى القادم. فيرتقي به إلى ما يشبه الحالة الشعرية، وإلى ما تغمر به تلك الحالة الشعرية، القلب، والشعور، من دفقٍ مميزٍ من النشوة الإستاطيقية المُرَوِّية. إن الزاد الشاعري، والإستاطيقي، والشعور "الصوفي، و"الشهود الجمالي"، الذي ملأ به مرأى المدينة نفس صاحب النص المقتبس عاليه، إنما يمثل ما هو أكثر من الانفعال الشعوري اللحظي. فهو زادٌ يقتات منه القلب والشعور لوقتٍ، قد يطول وقد يقصر، حسب قوة الجرعة، وحسب درجة الانفعال.

    مورد السياحة المهمل:
    بين الهضبة والسهل فرصٌ ثرةٌ، من صور التكامل، وعلى رأسها ما أسميه "التكامل الروحاني"، وهو مورد بقي بلا استغلال، لقلة الوعي به. ومن دلائل التكامل الروحاني التي نزلت إلى أرض الواقع في القطرين خاصية التكامل النغمي المرتبط بالسلم الخماسي. الاشتراك في السلم الخماسي بين القطرين وبين سائر أقطار الحزام السوداني الممتد من ساحل البحر الأحمر حتى غرب إفريقيا، لم يأت صدفة. هذا الملمح بحاجة إلى مزيد من البحث ومن التحليل ومن استنطاق الدلالات، للتدليل على التكامل الوجداني الذي هو نتيجة للتداخل الثقافي التاريخي العميق. والتكامل الروحاني لا يقوم إلى وراء ضباب الكراهيات واللدادات العقدية الضيقة، وهو ما أعول عليه في هذا الطرح، من أجل خلق مظلة تكامليةٍ إقليميةٍ كبيرة، تتفرع منها صورٌ أخرى عديدةٌ من صنوف التكامل. ولكن مما يمكن أن يشار إليه هنا، مما يمكن أن يكون طرفاً منه، هو التكامل السياحي. ويمثل التكامل السياحي بين الهضبة والسهل مورداً باذخاً، يمكن أن يسهم إسهاماً معتبرا في التربية الوجدانية لأهل القطرين الجارين، ولاستكناه المدفون في شؤون وشجون هذه الجيرة الودودة المحيرة. ومورد السياحة البينية، موردٌ مهملٌ، لم يتم استثماره بعد، على الوجه المطلوب. ولقد تضافرت مختلف العوامل، لتعطل التكامل الاقتصادي بين الهضبة والسهل، لتعطل، من، ثم التكامل السياحي، بينهما. فمتى يا ترى ستنتهي النزاعات، وتنتهي الاضطرابات، ويبدأ العيش الحقيقي للناس في هذين البلدين القريبين البعيدين؟! وما أكثر امتلاء إقليمنا بكل ما يحول بين الناس وبين أن يحيوا!! ويبدو أن حالة الاضطراب الطويلة، والتوجس المتبادل، وضمور الخيال وسط النخب، واستلاب وعيها بواسطة أطر التفكير القديمة البالية إضافةً إلى استشراء ضيق ذات اليد وسط المواطنين، قد جعلت من هذا المورد، مورداً مهملاً. فإن أكثريتنا، التي ألفت البؤس المزمن وقلة الحيلة، غدت لا ترى في السياحة إلا ترفاً، و"خمجاً" لا يعنينا! وما الأمر في حقيقته كذلك! فالسياحة جزءٌ من العمل متمِّمٌ له. والترويح عن القلوب مأمور به دينياً، إذ قال خير الخلق، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: ((روحوا عن القلوب ساعةً، بعد ساعةٍ، فإن القلوب إذا كلَّتْ عميتْ)). كما أن السياحة نوعٌ من أنواع التعليم المستمر، ووسيلةٌ ناجعةٌ من وسائل كسر حدة الأوهام، التي تباعد بين الشعوب، خاصة الشعوب المتجاورة، ذات التاريخ المشترك، والمزاج المشترك. فلو نمت البنية التحتية كالطرق السريعة الفسيحة، في داخل كل قطر من القطرين، ثم اتصلت عبر الحدود بينهما، ونمت حولها الاستراحات والفنادق البسيطة النظيفة، المرتبة، ذات السمات المحلية، وكانت زهيدة الثمن، لأصبح في وسع كثيرين، من بينهم العامل البسيط، والموظف البسيط أن يأخذوا أسرهم لأسبوع أو أسبوعين، يمضونها خارج كبسولة روتينهم الحياتي المبدد لطاقات العقل، والجسد، والروح.

    تصوروا لو أن طلاب المدارس تنقلوا في رحلاتٍ بين الهضبة والسهل! تصوروا لو تنقل التشكيليون، والمغنون، وفرق الرقص، والرياضيون، بين الهضبة والسهل، خارج الأقنية الحكومية الرسمية الميتة المتيبسة! تصوروا لو أصبحت الحدود مفتوحة للتبادل التجاري، وللتبادل الفكري، وللتتبادل الثقافي! وتصوروا لو نشط الاستثمار في الجهتين بواسطة الجهتين! تصوروا لو ارتبطت السكك الحديدية، وتسارعت وتائر التنقل المرتبطة بالأعمال التجارية، وبالعمل، وبالسياحة، وبالاستطباب، وبكثيرٍ، كثيرٍ، من غير ذلك!! إن أوهام العقول المعشعشة في رؤوس النخب، لهي وحدها التي تخلق ما يحول بين الشعوب وبين أن تحيا، كما أراد لها الله أن تحيا، في سلام، وفي أمن، وفي امتزاج: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)). ومفتاح فهم هذه الآية العظيمة، على الوجه الصحيح، إنما يكمن في الخطاب الإلهي بـ "يا أيها الناس"، والخطاب بـ "يا أيها الناس" أقرب إلى الجوهر الخالد للدعوة الإسلامية، من الخطاب بـ "يا أيها الذين آمنوا". كما أن كلمة "لتعارفوا" تمثل كلمةً مفتاحيةً أخرى في فهم هذه الآية المبشرة بالتقارب العميق بين بني البشر، عبر حواجز اللون، والعنصر، واللغة، والعقيدة.

    كون أجدادنا اختاروا لنا العيشَ في بلادٍ يكتنفها الحر والغبار، طيلة أيام العام، جعلنا من أحوج خلق الله إلى الاسترواح، والاستجمام، لأن رهق عيشنا وكلاحه، رهقٌ وكلاحٌ مستدامان. الشاهد، ما نحلم بتحقيقه مستقبلاً من رفاهٍ، هو أمرٌ يمكن تجسيد طرفٍ منه في الواقع، الآن، لولا ضمور الخيال السياسي، وتبديد النخب لطاقات الشعوب في ما لا ينفع. يقول الأستاذ محمود محمد طه: ((إن آجلاً لا يبدأُ عاجلُه اليومَ، ليسَ بمرجوٍّ!!)). فكل خيرٍ نتخيله، من غير أن نشعر بطرف منه متحققٍ في لحظتنا القائمة هو مجرد وهم. فالرفاه ليس نقطةً ثابتةً تقوم منفصلةً هناك في نهاية طريقٍ طويلٍ، نصلها في الحين الذي يتسر لنا فيه الوصول إليها، وإنما الرفاه سيرورةٌ تنبثق صورتها المستقبلية الكبيرة من شرارتها الصغيرة المعاشة في الحاضر. فالرفاه يبدأ الآن، بالقدر الذي نستطيعه. فهناك، على الدوام، قدرٌ منه ممكن التحقيق، في التو! والحكومات الرشيدة، هي الحكومات التي تعرف كيف تخطط للرفاه، وتعرف كيف تنزله من مرتبة الحلم المعلق في السماء، إلى مرتبة ما يطاله طوق المواطن البسيط. الحكومات الرشيدة هي التي تعلم الناس معنى الرفاه، وتيسر لهم سبل تحقيقه، وفق المتاح والممكن.

    إن في الهضبة جنَّاتٌ من نعيم الطبيعة، وفي السهل أيضاً جناتٌ من نعيم الطبيعة، ولكنها جناتٌ مهملة، وتقع جميعها خارج حدود الوعي الجمعي. إنها جنات أذهلت عنها الناسَ أصواتُ البنادق، وطول العراك، إضافة إلى المساغب الطويلة. هموم العيش، في صوره الأولية تجعل الإنسان ذاهلاً، يمشي مكباً على وجهه، كما السوائم. كتب الأستاذ محمود محمد طه، في كتابه السفر الأول، الذي صدر في العام 1945م، ما نصه: ((إن هذه الحياة التي نحياها نحن اليوم ـ هذه الحياة التي تستغرق مطالب المعدات والأجساد كل جهادها، وكل كدِّها ـ لهي حياةٌ لا يغبطُ عليها حيٌّ حياً. فإن نحن رضيناها لأخلافنا من بعدنا، إنا إذن لخاسرون!)).

    الذي يضحك أخيراً، يضحك كثيراً!!:
    أول ما تلحظه العين في أديس أبابا هو قلة المركبات، وانعدام الاختناقات المرورية. وعموماً فإن عدد سكان أديس البالغ أربعة ملايين، يعد قليلاً جداً لقطرٍ يوشك أن يبلغ عدد سكانه الثمانين مليونا. فهم لم يهجروا أريافهم إلى عاصمتهم، بالصورة التي حدثت لنا. أيضاً يلحظ المرء قدم السيارات عموما. وأغلب سيارات التاكسي سيارات روسية ماركة "لادا"، وربما يكون بعضها ماركة "فيات" الإيطالية. فالتشابه بين "اللادا" و"الفيات" كبيرٌ جدا. ولا غرابة، فاللادا الروسية قد صُممت أصلاً على غرار سيارات الفيات الإيطالية، بناءً على اتفاقٍ بين الطرفين. والسيارتان تشبهان سيارات "نصر" المصرية، لنفس السبب. الشاهد أن السيارات العاملة في التاكسي، سيارتٌ تعدى عمر غالبيتها ربع القرن من الزمان. ويبدو أن غلبة اللادا على سيارات التاكسي يمثل بعضاً من مخلفات الحقبة الشيوعية. أيضاً من الأمور التي يلاحظها الزائر، أن المواطنين يمشون بأرجلهم على جنبات الشارع لمسافاتٍ طويلة. ولقد يكون مرد ذلك إلى قلة الدخول لدى الشرائح الفقيرة، وما أكثر هذه الشرائح. ويعضد حقيقة أن أكثرية أهل أديس يفضلون السير على الأقدام، ما أوردته دراسة الطريق الدائري لمدينة أديس أبابا التي أعدها الاستشاريون باركمان ليمتد، حيث ذكرت الدراسة أن ما يقارب السبعين في المائة من سكان المدينة يتنقلون سيراً على الأقدام. ولذلك، فقد أخذ تنقل الراجلين اعتباراً هاماً في تصميم الطريق الدائري الجديد ذي الثلاث مراحل، الذي تم افتتاح مرحلتين منه الآن.

    يبدو أن المستقبل في النمو الحضري السليم سيكون في جانب أديس أبابا أكثر مما هو في جانب الخرطوم، التي أصبح وضعها في مضمار التطوير والتمدين الصحيح، محتاجٌ إلى معجزةٍ حقيقية. فقد تعقدت أمورها بصورة لم تترك للسلطات فرصة، سوى القيام بوضع بعض المساحيق التجميلية، التي كثيراً ما تجعل المشهد أكثر قبحاً، بل وربما تخلق تعقيدات فنية مستقبلية. عموماً لم تدخل أديس أبابا في النفق المظلم الذي دخلت فيه الخرطوم. فهي غير مكتظة، والسائقون فيها أكثر انضباطاً، وأكثر انصياعاً لقواعد المرور، كما أنهم أكثر تهذيبا. وبالنظر إلى نسبة سكان الحضر إلى سكان المدن، في كل من إثيوبيا والسودان، فإن الإحصاءات تقول أن سكان الحضر في إثيوبيا يمثلون 17% من السكان، بينما يمثل سكان الحضر في السودان إلى مجموع السكان 33%. وفي هذا دليل صارخ على نزوح الناس في السودان من الريف إلى المدينة، مما عقد أوضاع المدن، خاصة العاصمة القومية، وأخرج إدارتها عن السيطرة. فحال أديس أبابا ينم عن تطور طبيعي، يسير وفق خطة، لا يقضي فيها جانبٌ فالتٌ، على جانب آخر منها. فالنمو الحضري غير المدروس في الخرطوم، خاصة ما جرى في العشرين سنة الأخيرة، خلق تعقيدات إضافية جمة، وأسوأ من ذلك، فهو قد أصاب إنسان الخرطوم في مقتل، وتلك محنةٌ كبرى!! وعموما فلو كان في الإمكان الإبقاء على الأمور، على طبيعتها، حتى تأتي اللحظة المناسبة للتطوير السليم، فإنه، من دون شكٍّ، أفضل من التطوير غير المدروس، الذي كثيراً ما يفاقم المشاكل، ويخلق ديناميات جديدة يصعب التحكم فيها. وما من شك أن الحرب الجهادية التي أشعلها أهل الإنقاذ في مطلع التسعينات من القرن الماضي، هي التي أفرغت الريف من سكانه ودفعت بهم دفعاً في هجرة جماعيةٍ، ملحميةٍ، إلى أطراف الخرطوم التي بلغ امتدادها من الشمال إلى الجنوب الستين كيلومتراً تقريباً، ومن الشرق إلى الغرب الأربعين كيلومتراً تقريباً. فلكي يتم إكمال بنية تحتية أولية، كتعميم نظام للصرف الصحي، ونظام لتصريف مياه الأمطار تحت الأرض، وتوفير مياه نظيفة للشرب للجميع، وإيصال كهرباء بسعر يمكن أن تتحمله الأغلبية الفقيرة، وخلق نظامٍ فعالٍ لجمع النفايات لعاصمةٍ بمثل هذا الحجم، فلربما احتاج الأمر إلى إمكانات مثل إمكانات وزارة الخزانة الأمريكية!

    هناك الكثير من الشواهد التي تدل على البنية التحتية لمدينة أديس تنمو نمواً طبيعياً. هذا رغما عن أن أديس، بصورة عامة، أقل حداثةً من حيث المظهر من الخرطوم الآن، فواجهات محلاتها التجارية أقل حداثة. غير أن البنايات الحديثة، ذات الطوابق العديدة، التي لا تزال تحت التشييد، تمثل الآن الجانب الأبرز من المشهد الحضري للعاصمة الإثيوبية. ولن تمر بضع سنوات، إلا وتكون العاصمة الأثيوبية أحدث وأجمل، وأضبط إيقاعاً من العاصمة السودانية التي تكاد الفوضى أن تبتلعها. نعم لا تزال أغلبية مساكن عامة المواطنين، أقل جودة من أبنية سواد سكان مدينة الخرطوم. فالعمارات الحديثة التي تقوم على جانبي الشوارع الرئيسية في أديس، تخفي وراءها مساحات شاسعة من بيوت الصفيح الصغيرة المكتظة. غير أن خطةً طموحةً لإسكان الفئات الفقيرة في شقق تضمها عمارات تشاركية condominiums، تسير الآن على قدمٍ وساق. وقد بدأت هذه الخطة الطموحة في تغيير وجه المدينة بالتخلص التدريجي من أبنية الصفيح في تلك الأحياء الفقيرة. عموماً، يبدو أن القطر الإثيوبي يصحو ويسير في وثباتٍ متتابعات في طريق النمو الصحيح. فإثيوبيا وإن تأخرت في جهود التحديث، إلا أنها ستكون الضاحك الأخير، الذي سيضحك كثيراً. أديس أبابا، في حالتها التي حافظت عليها لزمانٍ طويل، مدينة ممكنة الإصلاح، كما أنها سهلة الإصلاح، سهلة التطوير. فهي ظلت تنمو في هدوء، ولم تفلت فيها الأمور كما فلتت في الخرطوم، التي اتسع فيها الفتق على الراتق، وأصبح كل ما تقوم به السلطات ليس سوى لهاثٍ لا يني للامساك بفوضى تتكاثر دوائرها كالفطر في البرية. (يتواصل)
    الأحداث 23 أغسطس 2010
                  

08-07-2017, 12:21 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ (20)

    مراحل نمو أديس أبابا:
    يقول الموقع الإليكتروني لإدارة مدينة أديس أبابا، إن مدينة أديس أبابا تأسست في العام 1886م بواسطة الإمبراطور منيليك. وأن الخطة الهيكلية للمدينة خضعت لاحقاً لعدد من عمليات التحديث، خاصةً على أيدي الإيطاليين، أثناء فترة الاحتلال الإيطالي القصيرة للمدينة، (1936م ـ 1941م). ومن المثير للاهتمام أن المعماري الفرنسي الأشهر، لي كوربوزير، أعد مخططاً لأديس أبابا، في العام 1936م، غير أن الإيطاليين لم يأخذوا به. وقام الإيطاليون بتقسيم المدينة إلى قسمين، من أجل أن يبرزوا تميزهم الكولونيالي على بقية السكان. أحد هذين القسمين خصصوه لأنفسهم، ولغيرهم من الجاليات الأوروبية، في حين خصصوا القسم الآخر للمواطنين الأصليين. ولا تزال بقايا هذا التقسيم ماثلةً إلى اليوم. ولقد استدعى الإمبراطور هيلاسلاسي الرجل الذي وضع مخطط مدينة لندن الكبرى، ويدعى باتريك أبركرومبي، فقام أبركرومبي بتطوير مخطط هيكلي للمدينة، واكتمل تنفيذ ذلك المخطط في العام 1956م. وتوالت التحديثات في خطة المدينة عبر الاستعانة بمختلف بيوت الخبرة الأوربية. ويعمل مكتب مراجعة الخطة الكبرى لمدينة أديس أبابا الآن، على إحداث نقلاتٍ هيكليةٍ غير مسبوقة في المدينة. الشاهد أن طرق المدينة كانت فسيحة منذ البداية، وهي قابلة للتطوير المريح. ولقد أكملت الشركات الصينية الآن، المرحلة الثانية من الطريق الدائري، التي يبلغ طولها 33 كيلومترا. هذا الطريق الدائري السريع الذي لا تعوقه أي تقاطعات يلف حول قلب مدينة أديس، رابطاً كل شبكة طرقها الرئيسية. وهو طريقٌ تم تصميمه على أحدث التصورات للطرق الدائرية، بما تشتمل عليه من جسورٍ معلقةٍ، ومحولات مرور interchanges تسمح بالانسياب الدائم لحركة المرور، دون توقفٍ أو انتظار. يضاف إلى التصميم العلمي السليم فهناك التنفيذ عالي الجودة الذي لا تخطئه العين. ومن يرى ما يجري الآن من تحديث لشوارع أديس أبابا، يصاب بغمِّ شديد حين يتذكر (تعلُّم الحلاقة في رؤوس اليتامى) الذي تمارسه شركات الإنقاذيين، غير المؤهلة علمياً، وفنياً، في شوارع الخرطوم، وتسميه اعتسافاً تحديثاً وتطويراً!! أما من حيث تمديد شبكة الصرف الصحي، فيقول موقع ويكي واتر Wiki Water المهتم بقضايا المياه في العالم، أن أديس أبابا، شأنها شأن المدن الإفريقية جنوب الصحراء، تعاني من نظامٍ للصرف الصحي يتسم بالقصور الكمي والنوعي. وأن نظام الصرف الصحي القائم ظل يخدم وسط المدينة فقط، وأن عدد المنتفعين منه لا يتجاوزون 3% من جملة السكان. فطول الشبكة لا يتعدى 120 كيلو متراً. غير أن الخطة الأم للعام للصرف الصحي 2002م، والتي تُعد تطويراً للخطة الأم للعام 1993م، تستهدف أن تصل خدمات الصرف الصحي في العام 2020 إلى مليون ساكن، وأن تصل الخدمة بالسبتك تانك القبل للشفط الدوري، إلى مليون وربع المليون ساكن. كما تتضمن الخطة المعدلة، حفر مليون وربع المليون مرحاض حفرة Pit Latrine لشريحة ثالثةٍ من السكان. أما عن الخرطوم، فيقول نفس الموقع، إن الإحصاءات تقول إن 28% من سكان الخرطوم متصلة أبنيتهم بنظامٍ للصرف الصحي، غير أنه لا توجد معلومات متوفرة حول حالة هذا النظام من حيث الكفاءة والصيانة. وذكر التقرير أنه يقال أن 500 كيلو متر من أنابيب الصرف الصحي، تحت التشييد. غير أن التقرير ركز على عدم توفر معلومات محايدة حول حالة الصرف الصحي في الخرطوم، بشكلٍ عام. كما أكد التقرير، دون مواربة، على انعدام خطة منشورة للنهوض بحالة الصرف الصحي في المناطق الطرفية من الخرطوم، خاصة مناطق الذين نزحوا مؤخراً للخرطوم، الذين تقدر أعدادهم بمليوني نسمة. ومع تفوق الخرطوم على أديس أبابا في عدد الأبنية المرتبطة بنظام الصرف الصحي، في اللحظة الراهنة، إلا أن ما ورد في الموقع يعكس، بجلاء شديد، أن لأديس أبابا خطة طموحة معلنة، لتحقيق أرقام محددة، في مدى زمني محدد. وهذا لا يبدو متوفراً ولا واضحاً، على مستوى الخطط المعلنة للنهوض بهذا القطاع الحيوي المرتبط بالصحة العامة. وهنا يكمن الفرق بين التخطيط الوئيد السائر نحو هدفه بجد، وبين والارتجال، والدعاية الحكومية التي تجسد الجعجعة من دون طحن.

    الإسكان الشعبي:
    أشرت في مقالتي السابقة أن الدولة الإثيوبية، تقوم بعمل طموحٍ ورائدٍ لتغيير مساكن الصفيح، التي تمثل غالبية مباني السكن في العاصمة الإثيوبية. فقد شرعت سلطات مدينة أديس في تشييد عماراتٍ حديثة تحوي شققاً سكنيةً صغيرة، تكون في متناول ذوي الدخل المحدود، خاصة فئة الشباب الذين بدأوا حياتهم العملية للتو، وكذلك لغيرهم من المواطنين من ذوي الدخل المحدود. والمدهش في هذه الشقق هو سعرها المنخفض، والتسهيلات التي تُمنح بها لساكنيها. وحين يقارن المرء ما تقوم به إدارة مدينة أديس أبابا، الآن، من تسهيلات تستهدف الأخذ بيد ذوي الدخل المحدود، بتخلف سياساتنا وضعفها في مجال تحسين سكنى الفقراء من مواطنينا، فإن المقارنة تصبح منقطعة تماماً. ولا أخالني مغالياً إن قلت إن النخب التي حكمت السودان، منذ الاستقلال، لم تنجح إلى اليوم، سوى في إحداث تضييقٍ ممنهج، وسحقٍ منقطع النظير لفرص الطبقة الوسطى في النمو، فما بالك بالشرائح الفقيرة التي لا يأبه بها أحدٌ عادةً! ما يجري في إثيوبيا، من جهودٍ بالغة الجدية لتغيير الأحوال، خاصة أحوال الطبقات الفقيرة، رغم ضيق ذات يد الدولة الإثيوبية، يُظهر، وبجلاءٍ شديد الفرق الجوهري في البنية العقلية للنخبة الإثيوبية، التي أثبتت انشغالها بالهم العام، والبنية العقلية لنخبنا، التي ما عرفنا منها إلى اليوم، سوى العناية الفائقة بالشأن الخاص. يستوي في ذلك منهم من سودنوا الوظائف قبل أكثر من نصف قرن، والذين يجلسون الآن على الكراسي، منشغلين ليل نهار بتوسيع أملاكهم الشخصية، وبالتمكين للمجد الأسري، والثراء الأسري. فتهافت نخبنا على أسلاب الدولة، وهي نخب جعلت من الدولة، في خمسة عقودٍ من الزمان، دولةً مهيضةً مضيعةً، متشرذمةً، مزدراةً من الجميع، إنما يمثل واحداً من أهم المظاهر الدالة على علل الثقافة، وعلل البنية الوجدانية، وعلل التدين المظهري الشكلاني الذي اُبْتُلينا به. وكل تلك أمور تستدعي، في مجموعها، حفراً في سيرورة بنيتا العقلية والوجدانية. أعني، حفراً جدياً، يتجاوز ترهات التزيين، والتنميق المخاتل، للسائد، والراكد، والمتخثر، مما يمارسه الواقفون على أبواب موائد الرسميين، خاصةً حملة الأقلام، ومن يُسمون برجال الإعلام، وبائعي الرؤى الذين لا تتعدى رؤاهم حدود الزخرف اللغوي المخدر. فكل أولئك، إنما يقتسمون، وبفعلٍ مبيَّتٍ، كيكة الفقراء المقصيين المنسيين.

    التخطيط لتصعيد الفئات الفقيرة:
    يقول الصحفي الأمريكي الإثيوبي يارِد مُسِّي، إن عدد المواطنين المقيمين في أديس أبابا الذين سجلوا للحصول على قطعة أرض حكومية، في الفترة ما بين 1988م و1995م بلغ أكثر من 63 ألف شخص. غير أن الذين تقدموا للبناء فعلاً، من ذلك العدد، لم يتعدوا الـ 3.4%! والسبب هو عدم القدرة المالية، لا غير. فأكثر من 92% من سكان مدينة أديس، تقع دخولهم الشهرية تحت خط 167 دولاراً أمريكياً، (حوالي 500 جنيهاً سودانياً). ولذلك كان لابد من أن تدعم الدولة المشاريع الإسكانية، وإلا فلن يحدث تغيير أبداً، ولن يبنى أحد قطعة حصل عليها، وستبقى الأمور مجرد حبر على ورق. ومن ثم شرعت مدينة أديس أبابا في مشروع ضخم للإسكان الشعبي. بلغت تكلفة المشروع المقترح، الذي يهدف في مرحلته الأولى، لبناء ما يقارب خمسةٍ وستين ألف وحدةً سكنيةً، حوالي 188 مليون دولاراً أمريكياً. ولقد مثلت تلك التكلفة ما يصل إلى 81% من ما جمعته المدينة من عوائد للعام 2004/2005. جعلت السلطات مقدم الدفع 7.5% من سعر الوحدة، على أن تأخذ السلطات 25% من الدخل الشهري لمالك الوحدة السكنية، ليتم سداد القرض العقاري في 20 عاماً، على أساس سعرٍ للفائدة يتراوح ما بين 0%، و2% على التوالي. وبناءً على ترتيبات الدفع على هذا النحو، فإن دخل الفرد المتقدم لهذه المساكن فئة الـ "أستوديو" (صالة ومطبخ وحمام)، يجب ألا يقل عن 416 بر إثيوبي، في الشهر، وهي تعادل 49 دولاراً أمريكياً، (أقل من 150 جنيهاً سودانياً!!). أما الفرد المتقدم لفئة الشقة ذات الغرفة الواحدة، والصالة، والمطبخ، والحمام، فيجب أن يكون دخله الشهري، 730 بر إثيوبي، أي ما يعادل 86 دولاراً أمريكياً، (حوالي 250 جنيهاً سودانياً!!). ولنا أن نتصور الفرق بين الحكومة الأثيوبية التي جعلت الشقة "الاستديو"، والشقة ذات الغرفة والصالة، المبنية في عمارةٍ حديثةٍ، معقولةٍ من حيث درجة التشطيب، وبها نظام صرف صحي مركزي، جعلتها في متناول من يتراوح دخلهم الشهري بين 49 دولارا، و86 دولارا في الشهر، وبين حكوماتنا التي جعلت من بلادنا، بلاداً لا يمكن أن يحلم فيها موظفٌ نظيف اليد بامتلاك شقة، يد الدهر!! بل، في بلادنا، لا يستطيع حتى المغترب، الذي يبلغ دخله الشهري ألفي دولار في الشهر، مجرد الحلم بمثل ما جعلته الحكومة الإثيوبية في متناول أفقر الفقراء من مواطنيها!؟

    لكيلا يظن القارئ الكريم، أن هذا الحديث مُبالغٌ فيه، فإنني أحب أن أضيف شهادة شابةٍ أثيوبية تعمل لدى شقيقي في السودان. فقد علمنا منها أنها حصلت على شقةً بغرفةٍ وصالةٍ من شقق الإسكان الشعبي، بما يعادل سعراً كلياً لم يتعد الـ 10.000 دولاراً أمريكياً!! دفعت منها مقدماً مبلغاً لم يتعد الـ 2000 دولاراً، على أن تسدد المتبقي من القرض العقاري، على مدى يمكن أن يتراوح بين عشرة إلى عشرين عاماً، بقسطٍ شهريٍ زهيدٍ، لا يمثل عبئاً يُذكر على دخلها الشهري!! وهكذا تحولت هذه الشابة التي تخرجت من الجامعة قبل سنواتٍ قليلة، من السكنى مع أمها في منزلٍ من العيدان الخشبية المجللة بالطين، مُحاطٍ بسور من ألواح الزنك، لا تتعدى مساحة الأرض الكلية التي يقوم عليها الأربعين متراً مربعا، حسب قولها، إلى السكنى في عمارةٍ حديثةٍ، في شقةٍ ذات غرفةٍ واحدة، وصالة وحمام ومطبخ. وهكذا يتحقق الحراك الاجتماعي صعوداً في درجات السلم، أو ما يسميه الغربيون بالـ social mobility . ويتم ذلك بالتخطيط السليم من جانب الدولة، وتفاني النخب في إصلاح الحال العام، وبالمؤسسية، وباهتمام القادة بفتح أفق الأمل للشباب الذين يبحثون عن سكنٍ صغيرٍ، عصريٍ، صحي، يناسب إمكاناتهم وحاجاتهم في المرحلة العمرية التي يمرون بها. وما من شك أن هذا العقار الصغير سيصبح منصة انطلاقٍ للشباب نحو سكنٍ أكبر، حين تكبر عائلاتهم التي ينشؤونها. ما من شك أن إثيوبيا تواجه تحدياتٍ كبيرة بسبب حجم سكانها الضخم، وبسبب قلة مواردها الحالية. ولكن حين يبدأ مشروع الإسكان الشعبي هناك بإنشاء 65 ألف وحدة سكنية، تكتمل جميعها في خمس سنوات، في عاصمة لا يتعدى عدد سكانها الأربعة ملايين، فإن ذلك يمثل مؤشراً واضحاً على جدية الدولة على إحداث نقلة حقيقية في الإسكان. وتبدو الخطة الأثيوبية للتمليك السكني حالياً، شبيهة جدا بالخطة الأمريكية للتمليك العقاري، التي انطلقت بقوةٍ عقب الحرب العالمية الثانية. فقد ارتفعت الملكية للمساكن في الولايات المتحدة الأمريكية، في عقد واحد من الزمان، في تلك الفترة، من 45% إلى 65%. ولقد مكنت فترة سداد الأقساط العقارية، التي تبلغ الثلاثين عاماً، ملايين الأمريكيين من التحول من الإيجار إلى امتلاك المنازل.

    دلالات الغلاء الاستثنائي في السودان!!
    يتساءل الناس في حيرةٍ عن سبب غلاء الأراضي في السودان، وغلاء أسعار الشقق فيه، وكذلك أسعار الإيجارات السكنية، بل وغلاء كل شيء، على إطلاق العبارة!! فالشقة متوسطة الحال، في مدينة سودانية مثل الخرطوم بحري، مثلاً، تماثل سعر شقتين، أو ثلاث شقق في القاهرة!! وربما أربع إلى خمس شقق في أديس أبابا!! كما تماثل سعر شقة سكنية متوسطة الحال في مدينة أمريكية، وربما سعر بيتٍ منفصلٍ، على أرضٍ واسعةٍ، تحيط به الخضرة، في مدن الريف الأمريكي الصغيرة. أما الشقق في الخرطوم الأم، فلا مقارنة لأسعارها إلا بفاخر الشقق في أمريكا، أو بشقق الأحلام في دبي، أو بشقق مدينة لوسيل بالدوحة. ما سر الغلاء في خرطومنا يا ترى، وهي مدينة لا تحمل من متعلقات المدينة الحديثة، سوى اللفظ؟! ما سر ارتفاع سعر الأراضي في الخرطوم بهذه الصورة، وأكثريتها، في الأصل أراضي حكومية، أعطيت للمنتفعين بها، وفقاً لعقود الحكر. أيضاً، لماذا طفحت على وجه حياتنا الاجتماعية، هذه الفقاعة الخادعة من الإعلانات التجارية التي تملأ الشوارع، وصفحات الصحف، وشاشات التلفزيون؟ لماذا وكيف تم هذا التصعيد الكاذب لأساليب الحياة المرفهة الباذخة، لتطغى على حقيقة مشاكلنا، وحقيقة أولوياتنا القومية؟ لمن هذه الإعلانات الملحاحة عن المجمعات السكنية الحديثة؟ ولمن هذه الإعلانات المكلفة عن الأثاث الفاخر؟ ولمن هذه العروض للسيارات، التي لا يقل قسط أصغرها حجماً، وأصغرها سعةً للماكينة، (1.3 سي سي)، عن الألف جنيه في الشهر؟! لماذا يكون سعر السيارة في السودان، ضعف سعرها في الخارج، وسعر الثلاجة، ومكيف الهواء، والغسالة، والبوتاغاز وجهاز التلفزيون، ضعف سعرها في أي مكان في العالم؟ وقس على ذلك فيما يخص السيخ، والأسمنت، نزولاً إلى لمبة الإضاءة المنزلية! لماذا يدفع سكان السودان نفس السعر الذي يدفعه الأمريكيون لجالون الوقود، مع الفارق الخرافي في الدخول؟ لماذا يساوي سعر كيلو الطماطم في مدينةٍ كالدوحة، مثلاً، وهي مدينة ليس فيها دعمٌ حكوميٌّ للسلع الغذائية، أقل من ربع سعره في الخرطوم، علماً بأن الدوحة تستورد الطماطم من أماكن مثل سوريا والأردن ؟! من تستهدف الإعلانات عن صالات المناسبات، وأماكن التخسيس، وأماكن التجميل، والمشافي الحديثة، وغيرها من الأماكن التي يتطلب التعامل معها دخلاً وفيراً، في حين أن متوسط الدخل السنوي لأكثر من 90% من شعب السودان لا يتجاوز بضع ألوف من الجنيهات؟! أردت أن أقول من كل ما تقدم أننا نعاني مشاكل وعيوية وأخلاقية، أساسية. وأننا ظللنا نَزْوَرُّ من مواجهتها ذات اليمين، وذات الشمال، إما خوفاً من السلطة، أو طمعاً في القرب منها. وجوهر هذه السلسلة من المقالات إنما يتلخص في محاولة الإشارة إلى أن أحد أهم جوانب أزمات الحكم والسياسة عندنا، إنما يعود إلى حالة الانبتات من الجذور الحضارية الحقيقية، واستبدالها بهلامٍ زلقٍ من الزيف والمخاتلة، تمت تغطيته تحت مظلاتٍ عدة، من بينها مظلة الإسلام. فالمقاصد الإنسانية للدعوة الإسلامية السامية المنحازة للفقراء، تم تزييفها تاريخيا، وإفراغها من محتواها، ولقد تحولت في سودان اليوم، إلى أداةٍ عصريةٍ للسيطرة النخبوية الفالتة، من كل زمامٍ، وإلى منهجٍ للإفقار الجمعي المستدام. الانبتات الحضاري هو الذي أحدث هذه التشوهات الوعيوية والأخلاقية، التي جعلت نخبنا المسيطرة تتمتع بهذا القدر الاستثنائي من "تخانة الجلد". فهذه اللامبالاة بأحوال الفقراء التي تتصرف وفقها النخب المسيطرة، لهي حالةٌ لم يعد لها وجودٌ في عالم اليوم، بهذه الصورة الغليظة، إلا لدى قادةِ قلةٍ قليلةٍ جداً من الأمم شديدة التخلف، التي لا تزال ترزح في وحول غابات الوعي الإنساني، التي هجرتها وحوشها، أو تكاد. إن سياسات التحرير الاقتصادي الإنقاذية لأسوأ، وبما لا يقاس، مما ظلت تمارسه الرأسمالية العضوض، في نسختها الأمريكية شديدة التوحش. مع فارق هام جداً، وهو أن التعريف الأمريكي للفقر، يجعل الفقير الأمريكي، أفضل حالاً، من حيث الضمانات الحياتية المؤسسية، من أهل الطبقة الوسطى السودانية. لم تفلح سياسات التحرير الاقتصادي على النحو المنفلت الذي جرت به، إلا في خلق دولة رفاهية صغيرة جداً داخل الدولة المترهلة، المتشظية، المتآكلة. ولذلك لم يكن، من ثم، مناصٌ من حماية هذه الكبسولة الصغيرة، بالإجراءات القمعية، وبقوة السلاح. فالإخفاق في جعل الدولة دولةً للجميع، والعجز في انتهاج نهج علمي للتطوير المستدام، وتفاقم إفقار الشرائح الفقيرة، وإرجاع وعيها إلى الوراء، إنما يعود أغلبه إلى أن النخب والفئات المتحالفة معها في السيطرة على مفاصل السلطة والثروة. هذه النخب التي عجزت عن أن ترتفع عن إيثارها لنفسها، وعن أنانيتها. وتلك مشكلة عميقة الجذور، وتتصل اتصالا وثيقا بمكونات الوعي، وبالتشوهات التي أحدثتها الإغفاءات الحضارية الطويلة، وطغيان الجوانب السلبية من الوعي الرعوي على الشخصية الحضارية الأصلية، المتشكلة منذ سوالف الحقب. هذا هو ما يحتاج إلى البحث المعمق، المتجرد، الصارم، ودق الطبول للاستيقاظ من هذه النومة الكهفية، الدهرية، الطويلة. (إلى الحلقة الأخيرة في الأسبوع القادم، إن شاء الله)
    الأحداث 30 أغسطس 2010
                  

08-07-2017, 12:22 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟! (21 الأخيرة)


    أود أن أبدأ الحلقة الخاتمة من هذه السلسلة، بما بدأ به الدكتور منصور خالد، فصله المسمى "مأزق الهوية السودانية"، في كتابه: "السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام، قصة بلدين” اقتبس الدكتور منصور خالد نصاً من المؤرخ الكبير أرنولد توينبي، تحدث فيه عن أثر استقرار السودان على محيطه الإقليمي في إفريقيا. وتوينبي من المؤرخين المبصرين، أصحاب التنبؤات المستقبلية. كتب توينبي: ((مصير إفريقيا معلق بالسودان، فإن نجح السودان في تحقيق مصالحة بين عنصري الوطن، فإنه يؤدي بذلك عملاً رائداً، تفيد منه القارة، كلها. أما إن دام الصراع في السودان، وأضحى مزمناً، فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع حدة التوتر في البلدان الإفريقية المنشطرة كلها. وآجلاً أو عاجلاً ستصبح إفريقيا السوداء بؤرة للتذمر ضد إفريقيا الشمالية)).

    التوهان الحضاري:
    أحد أهم محاور هذه السلسلة، هو محور التوهان الحضاري، الناتج عن انقطاع التواصلية في المسار الحضاري للسودان. فهناك فجوات كبيرة في مسيرتنا الحضارية، قادتنا لكي نصبح اليوم، هذه الأمة التي تتسم بهذا القدر المروِّع من العجز عن فهم الذات، وعن تجميع الطاقات من أجل التغيير، وعن امتلاك القدرة على إدارة شؤونها، وتحريكها في الوجهة الصاعدة. فالوقدة الحضارية التي انتظمت الممالك النوبية القديمة، وانتظمت الممالك النوبية المسيحية، في ما بعد، وبقدر أقل من سابقه، اضمحلت وماتت. ودخلت المنطقة أثر ذلك، في حقبةٍ رعويةٍ طويلة، تراجعت فيها العلوم، والفهوم، وتراجعت فيها المهارات، وقلَّت الحيلة. هذه الحقبة الرعوية الطويلة الممتدة لا تزال قائمة، وأرجو أن نكون مارين بأخريات أيامها. في حقبة التيه هذه أضحت البلاد فضاءً عاطلاً، خاملاً، منعزلاً. وأصبحت، من ثم، مجرد كنزٍ مهملٍ ملقىً في العراء، مجتذبٍ لأطماع الطامعين، الباحثين عن كنوز الأمم النائمة. يقول محمد المكي إبراهيم، في كتابه الرائد، "الفكر السوداني أصوله، وتطوره" إن اتصال السودان بالخارج، وتفاعله معه، بعد الانقطاع الذي امتد منذ انهيار الحضارات النوبية، يمكن أن يؤرخ لعودته بالغزو التركي المصري. فالسودان قد خرج من دائرة الاتصال بالمراكز الحضرية في العالم، منذ انهارت فيه الحضارة المروية. وبناء عليه، فإننا كأمة تحاول الآن رسم صورة لذاتها بين الأمم، ظللنا نمخر، ومنذ قرون طويلة، عباب بحرٍ شاسعٍ من انبهام الرؤية، ومن ضياع البوصلة. لقد قادنا الانبتات عن الجذر الحضاري القديم، إلى فقدان المعرفة بالمكونات الجوهرية لشخصيتنا الحضارية، وإلى فقدان الثقة في الذات، ومن ثم، إلى التطلع المستمر إلى ما وراء الحدود، طلباً للحلول، وللخلاص. فالحلول في ما استقر في وعينا، مظنونٌ فيها ألا تأتي إلا من الخارج!! وحتى أنسابنا، في السودان الشمالي والأوسط ظلت، منذ ما قبل سلطنة الفونج، تنتهي إلى جذورٍ خارج تربة الوطن! حتى غدونا وكأننا أمة تعيش حالة منفى دائمة، بأكثر من كوننا أمةً تعيش فوق تراب بلادها، التي لها فيها جذورٌ ضاربة في العمق، تعود، على أيسر تقدير، إلى أكثر من خمسة آلاف عام. هذه الغربة عن ذاتنا الحقيقية، هي التي جعلت نخبنا، وطلائع متعلمينا، مستلبين لقوىً خارجية. فقد نخبنا تلهث، وبشكلِ مستمرٍ، طلباً للقبول والإجازة الخارجيتين. ولسوف أورد شواهد مستفيضة حول هذا الأمر حين تتحول هذه المقالات إلى كتاب. هذه الحالة من الإستلاب، هي التي جعلتنا ندير ظهرنا لجزءٍ هام جداً من ارتباطنا العضوي بمحيطنا الإقليمي، الذي يجمعنا معه تاريخ مشترك متشابك، وانسجام روحاني، لم نعي أبعاده ودلالاته العميقة، حتى الآن.

    نحن ومصر وأثيوبيا:
    لم يعانِ منه قط جيراننا في الهضبة مما نعاني منه. فهم لم يذوبوا أنفسهم في فضاءٍ ثقافي سوى فضاء إثيوبيا. فاليهودية التي دان بها بعضهم قبل ثلاثة آلاف عام، ظلت يهوديةً أثيوبية. والمسيحية التي يدين بها غالبيتهم اليوم، بقيت مسيحيةً إثيوبيةً. ولقد استعصت المسيحية الإثيوبية استعصاءً شديداً على الاستتباع للكنيسة القبطية المصرية، والكنيسة الكاثوليكية الأوروبية. فمسيحية إثيوبيا ظلت مسيحيةً موطنَّة indigenized، كما تقول الدراسات. وكان من الممكن أن يكون إسلامنا نحن أيضاً إسلاماً موطناًً، لو أننا عرفنا كيف نخرج من قبضة الاستلاب الفقهي العثماني، التي وقعنا فيها قبل ما يقارب القرنين. لم يعول الإثيوبيون في تاريخهم على حلولٍ تأتيهم من الخارج. ولم يغتربوا قط عن شخصيتهم الحضارية، اللهم إلا في حقبة منقستو الشيوعية، وقد كان ذلك اغتراباً قسرياً، وقف وراءه إرهاب الدولة الذي عُرف وقتها بـ "الرعب الأحمر". لقد ظل الإثيوبيون مالكين لقرارهم الوطني، عبر تاريخهم. أما نحن فقد ظللنا نُدار من الخارج، منذ ما يقارب القرنين من الزمان، باستثناء حقبة الثورة المهدية.

    نحن إما مستلبين عروبياً، وإما إسلاموياً، والاستلابان يتشاركان تربةً واحدة، ويخدمان أجندةً خارجيةً واحدة. نحن لم نُجَذِّر فكرياً لما يمكن أن يسند وعينا بذواتنا كأمة. ولذلك ظللنا نتغنى بأشواقٍ هلامية، كـ "الأخوة الإسلامية"، و"الأخوة العربية"، غافلين عن ما تقتضيه إدارة الدولة القطرية، في عهد الدولة القطرية، من حزمٍ، ومن وعيٍ بالمصالح القطرية، ومن إدراك يقظٍ للخصوصية القطرية. لقد ظل السودان وإثيوبيا، والساحل الصومالي، ومنطقة البحيرات، وغيرها من مناطق القرن الإفريقي، هدفاً ثابتاً للتوسع المصري، منذ سوالف الحقب. وقد شهد القرن التاسع عشر تكثيفا غير مسبوق للنهم الخديوي المصري، نحو الفضاء الجنوبي لمصر. فالتاريخ والجغرافيا جعلا عيون مصر، وبالضرورة، مصوَّبةً جنوباً. وقد استوت في ذلك التطلع الثابت صوب الجنوب، مصر الفرعونية، ومصر الأموية، ومصر المملوكية، ومصر الخديوية العثمانية، ومصر الحديثة. ويخطئ من يظن أن الأجندة المصرية في النظر جنوباً قد تغيرت، أو أنها سوف تتغير قريباً. فهي وإن تغيرت آلياتها، المتمثلة في الغزو المسلح، فإن مقاصدها بقيت كما هي. وتصويب مصر لبصرها جنوباً أمرٌ طبيعي، في نظري. فهو شيءٌ تمليه عليها الطبيعة، ولا اعتراض لي عليه. كل ما في الأمر، ينبغي أن نقف في وجه إدارة مصر لاستراتيجيات مصالحها جنوباً، وفق النظرة القديمة الموروثة. تلك النظرة التي لم تستطع النخب المصرية الانفلات من أسرها، حتى هذه اللحظة. علينا أن نقف هوناً ما، مع جيراننا الإثيوبيين، الذين ظلننا مثلهم، نصد غوائل الغزوات القادمة من الشمال. علينا التيقظ، والحذر الشديد، حتى يجيء الوقت الذي تدير فيه مصر أمورها جنوباً وفق قاعدةٍ واضحةٍ لتبادل المصالح، وليس على قاعدة الهيمنة والاستتباع، والابتلاع، واللعب بالكروت المتوفرة، بصورة لا تراعي شيئاً سوى المصلحة الآنية الضيقة.

    عرف الإثيوبيون مخاطر الاستتباع، ووقفوا في وجهها، ولا يزالون. أما المصريون فلا يزالون يستهدفون، وبقسوة، كل من لا يرى رأيهم، ولا يتنازل عن مصالحه لمصلحتهم هم. (راجع هجوم الصحف المصرية على الرئيس ميليس زيناوي، في الشهور الثلاثة الماضية). أما نحن، فلم نعِ ما ظل الإثيوبيون واعين به. ولذلك لم تقم أي حكومة من حكوماتنا، على اختلاف توجهاتها، بالوقوف بالحزم اللازم أمام المطامع المصرية، باستثناء حكومة المهدويين، وحكومة عبد الله خليل، التي لم تستمر في الحكم سوى عامين. ولسوف يمضي وقتٌ، ربما يطول، وربما يقصر، حتى نستطيع أن نضع العلاقة مع مصر في موقعها الطبيعي الصحيح. وأجرؤ فأقول أن وضع هذه العلاقة في إطارها الطبيعي، هو شرط استقرارنا، وشرط تحقق أمنا القومي، بل وشرط بقائنا كأمة موحدة!! غير أن ذلك لن يتم، ما لم نعيد النظر، بشكل جدي، في وعينا بذاتنا، وما لم نربط أنفسنا بجيراننا الشرقيين في إثيوبيا، وإرتريا، ربطاً عضويا. فالسودان، وإثيوبيا، وإرتريا تمثل ثقلاً بشرياً كبيراً، تعدى الآن المائة مليون نسمة.

    استلاب الهوية واستمرارية الخديوية!
    أزعم أن الوضعية الشاذة التي اختارها السودان لنفسه في الإقليم كان لها القدح المعلى، في جر السودان إلى أن يصبح ضلعاً في حروب الوكالة، التي انتظمت القرن الإفريقي في العقود الأربعة الأخيرة. ولو نظرنا في جذر هذا الأمر ملياً، لاتضح لنا أن إشكالية الهوية المستلبة، هي التي جعلتنا وكيلاً للمصالح العربية في القرن الإفريقي. والمؤسف أننا وكيلٌ يرعى المصالح "العربية" و"الإسلامية"، من غير أن تكون له مصلحة تذكر في تلك الرعاية. فنحن على الرغم من كوننا نقع في ذات الفضاء الذي استهدفه الغزو الخديوي، المصري، في القرن التاسع عشر، إلا أننا ظللنا نتصرف وكأننا جزءٌ من القوة الخديوية، وجزءٌ من استراتيجياتها المرسومة، لوادي النيل، والهضبة، وإقليم البحيرات!! فالسودان، على الرغم من أنه يقع جغرافياً، وتاريخياً، وعرقياً، ووجدانياً، في قلب المنطقة المرغوب إخضاعها، واستتباعها، إلا أن صفوته ظنت خطأً أن مصالحه لا تنفصل عن مصالح الإمبراطورية الخديوية وتحوراتها اللاحقة في مصر، كما لا تنفصل أيضاً عن المصالح "الخليجية، و"شرق المتوسطية". هذا الاغتراب السوداني عن الجغرافيا، وعن التاريخ، وعن المكان، وعن الروحانية التي تميز الإقليم، هو الذي جعل العارفين بإفريقيتهم، المعتدين بها، يصنفون السودان، في خانة الطابور الخامس المندس في إقليم القرن الإفريقي، والبحيرات!!

    يقول الدكتور فرانسيس دينق، في كتابه "حرب الرؤى"، الصادر عن مركز الدراسات السودانية، في طبعته الثانية، في العام2001، إن السودانيين يُصدمون حين يجدون أنهم لا يُصَنَّفون كعرب. فالغربيون، عادةً، يصنفونهم كأفارقة، والعرب لا يأخذون زعمهم بأنهم عرب مأخذاً جدياً. والسودانيون ـ والمقصود هنا، إنما هم النخب الشمالية، مضافاً إليهم عموم الشماليين الذين اشتروا تلك الرؤية منهم ـ. هذا القطاع المتشبث بالهوية العربية الإسلامية التي لا تحمل اي حمولاً حضارية، يُعَزِّي، نفسه، حين يحيط به ذلك التناقض الحاد، بأن الأمر لا يعدو كونه جهلاً من جانب العالم الخارجي بحقيقة أمره! وقد أورد د. فرانسيس دينق، ما أشار إليه البروفيسور علي مزروعي، الذي يرى في تهميش السودان، تهميشاً مركباً. فهو مُهمَّش بحكم وضعه المتضارب بين العرب والإفريقيين، وبين العالم الإسلامي والعالم المسيحي. فالسودان يعتبر هويته العربية أرفع مكانةً من هويته الإفريقية! هذا مع أنه يظهر لكل أهل البسيطة، أقرب إلى الإفريقية، منه إلى العروبة. ولذلك ينظر كثير من الأفارقة إلى السودان بوصفه خائناً لحقيقة وضعه، وذلك بقبوله وضعية الاستتباع ثقافياً، وسياسياً، للعالم العربي.

    سرطان حروب الوكالة Proxy Wars
    الشاهد، أن النظرة من جانب الدول الإفريقية نحو السودان، نظرة مملوءة بالشك والريبة. فما جرى من السلطات الخديوية المصرية، "العربية الإسلامية"، ومن السلطات السودانية المهدوية، "العربية الإسلامية"، ومن سلطة الإنقاذ الحالية، "العربية الإسلامية"، تجاه الهضبة، يبرر استمرارية النظرة المستريبة، من جانب إثيوبيا، وغيرها من دول الإقليم. هذه الوضعية غير المنسجمة مع المحيط، الناتجة عن الهوية المنحولة، وتصور المصالح تصوراً مؤدلجاً، "مُرَمنسا""romanticized” ظلت تتأرجح، ما بين المظلة القومية العربية، والمظلة الإسلاموية، هو الذي قاد السودان لكي يصبح قاسماً مشتركاً أعظماً، في حروب الوكالة التي انتظمت، ولا تزال تنتظم القرن الإفريقي. حروب الوكالة الطويلة هذه خلقت حالةً من الاضطراب، أضرت أبلغ الضرر بالنمو الكلي للإقليم. وإذا انفصل الجنوب، لا قدر الله، فإننا مهددون من جديد، بحرب وكالةٍ جديدة، تدور رحاها، هذه المرة، في إقليم دارفور، وربما في أقاليم سودانية طرفية أخرى. باختصارٍ شديد، لكي تصبح دولةٌ مثل السودان، دولةً متماسكةً، لابد لها من أن تعترف بتنوعها، ولابد لها من أن تتصالح مع مواطنيها، بأن تبني هويةً قوميةً تعبر حواجز العرق، واللون، واللغة، والعقيدة، والجندر، والطبقة. ولا يحتاج المرء للتفصيل هنا في سيرة الحروب بالوكالة التي دارت بين السودان وإرتريا، وبين السودان وإثيوبيا، وبين السودان وتشاد، وبين السودان وليبيا، وبين السودان ويوغندا، وبين إرتريا وإثيوبيا، والعكس، فسيرة كل تلك النزاعات لا تزال حية، ومعداتها وآلياتها لا تزال مخزونةً في ترسانات الكيد الجواري.

    حين جاءت الإنقاذ، بدأت، أول ما بدأت، بأطماعٍ هائلة في أسلمة القرن الإفريقي، وقد روى طرفاً من ذلك الدكتور منصور خالد، في كتابه، "السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام، قصة بلدين"، نقلاً عن مقابلة للدكتور حسن الترابي، مع صحيفةٍ غربية، قُبَيْل منتصف التسعينات، حيث ذكر الترابي أن القرن الإفريقي سوف يصبح إقليماً متحداً "إسلاميا". أيضا، أورد الدكتور منصور خالد في نفس الكتاب، عن مخاوف إرتريا وإثيوبيا حيال النظام السوداني الإسلاموي، ما نصه: ((ففي البدء تشككت أثيوبيا وإرتريا من مغامرات النظام الجديد في بلديهما، مما جعل رئيسي البلدين يوجهان إنذاراً مشتركا لنظام الخرطوم. وفي يوليو 1994، تقابل الرئيسان أفورقي وزيناوي مع الرئيس البشير، في العاصمة الإثيوبية، وكانت رسالتهما إليه إنذاراً أخيرا: "إما أن توقف التدخل ومحالة التأثير على المسلمين في بلدينا، وتحتفظ بنموذجك الإسلامي داخل حدود بلادك، أو سيكون لنا شأن آخر)).

    "حصان طروادة" المياه!!
    من أمثلة الاستلاب السوداني، ما يجري الآن من تجاهل السودان لمصالحه في كهرباء السدود الإثيوبية، وهي مصلحةٌ استراتيجيةٌ كبيرة. كذلك، مصالحة في استراتيجات السيطرة على الفيضانات، التي أصبحت مخاطرها تزداد كل صبحٍ جديد، بسبب تزايد التغيرات المناخية. فلقد اندغم، موقف السودان في أمور مياه النيل، ومشاريع السدود، مع الموقف المصري، بلا فرزٍ كافٍ. فالأجندة المصرية، كالعهد بها دائما، تتعارض استراتيجياً، مع أجندتنا. ونحن ننسى التاريخ القريب! فقد سبق أن هجَّرنا مواطنينا من أجل أن تشيد مصر السد العالي، ورضينا أن تخزن مصر مياه السد في أراضينا، فتغرق مدننا وقرانا وآثارنا الحضارية التي لا تقدر بثمن، من أجل ما نسميه "الأخوة العربية والإسلامية". ولكن حين قام السد، لم ترسل مصر من سدها هذا ولا "فولتاً كهربائياًً" واحداً صوب الجنوب. هذا على الرغم من أن التوليد الكهربائي الكلي في السودان، في ذلك الوقت، كان أقل من بضع مئاتٍ من الميغاواتات! وبالطبع فإن جزءاً كبيراً من اللوم، إنما يقع على حكومة الفريق عبود، التي وقَّعت اتفاقية القبول ببناء السد، وتهجير أهالي حلفا، دون أن تجعل لبلادها نصيباً من كهرباء السد، ولو عن طريق الشراء!! هكذا ظلت نخبنا ذات الوعي المُغَيَّب، تتصرف في مقدرات البلاد!!

    مأزق البطاقة الإسلامية:
    إن التمجيد الذي ظلت تلقاه سلطنة الفونج، حتى جعلها كبار شعرائنا جذراً حضارياً أوحداً للأمة، تمجيدٌ يحتاج إلى إعادة فحص. فسنار ليست سوى حلقةٍ متأخرةٍ من حلقات التراجع الذي اعترى حضارتنا التليدة. وليس غرضي هنا سلب سنار فضائلها، وإنما غرضي أن أقول أن فضائل سنار كانت فضائل متواضعة جداً، لا بمقاييس اليوم، وإنما بمقاييس عصرها الذي عاشت فيه. فنحن حين نغلو في إعلاء شأنها، إنما نستعيض بالبطاقة الإسلامية عن المحتوى الحضاري، وعن الإرث الفاعل القادر على صياغة صورة المستقبل. وأحدث تجليات هذا المأزق في حياتنا المعاصرة، إنما تتمثل في الزيف الفاضح، الذي لف دعوة دعاة "تطبيق الشريعة الإسلامية"، منذ استشرائها بُعَيْد منتصف القرن الماضي. لم تترك سنار التي نرفعها إلى مصاف الحضارات العظيمة، من الآثار الحضارية العينية شيئاً يُذكر، ولم تترك من الأدبياتٍ المكتوبة ما يُعتد به! فكل ما وصلنا من أكثر من ثلاثمائة عامٍ من الحكم السناري المتصل، لم يتعد "كتاب الطبقات"، و"مخطوطة كاتب الشونة"، وبعض الوثائق المتفرقة، هنا وهناك!!

    ما من شك أن الإسلام مثل طاقة دفع حضارية كبرى في التاريخ البشري. ولا يزال يملك في داخله طاقة للبعث الحضاري، وللتمدين، قابلة للتفعيل. ولكن، لا يمكن تفعيل الطاقة الإسلامية في عالم اليوم، إلا كرؤية كونية، أخلاقية، موجهة، وليس كأساس لإنشاء دولة دينية جديدة. ولربما علينا أن نتنبَّه أن الإسلام الذي وفد إلى السودان، لم يمثل سوى خيطٍ واحد من خيوط تجليات الطاقة الإسلامية. وحتى هذا الخيط الواحد، الذي وصلنا، لحظة غروب الحضارة الإسلامية في مجموعها الكلي، لم يكن سوى نثارٍ من حالةٍ حضاريةٍ كليةٍ، خمدت نارها، وتبعثر رمادها. انتشر الإسلام في السودان، بصورة موسعة، على يد المتصوفة. وهم حين جاءوا به، جاءوا به في شكل نهجٍ تعبدي، يطالب السالك بأكثر قليلاً مما تطالبه به الشريعة، بوصفها مدخلاً على التعبد. فالطرق الصوفية حصرت نفسها في التسليك، والتهذيب، عن طريق العبادة، وإدامة الأذكار. لذلك، كان التصوف الذي وصلنا، على قيمته الكبرى، وبصمته المميزة، التي لم يخل منها وجدان أي سوداني، أبعد ما يكون عن القوة القادرة على البناء الحضاري. فالتسليك، والتهذيب، مرتكزهما الأساس هو الزهد. وما أكثر ما كان الزهد حابساً للناس عن ارتياد مراقي الإنجاز الحضاري. والمتصوفة الذين وفدوا إلى السودان لم يكونوا من كبار المتصوفة، وإنما من أواسطهم، وغمارهم. فالذي وصلنا، إنما وصلنا من فضاءٍ غرق في الانحطاط الفكري، والأخلاقي، حتى تفتت. وحتى هذا القدر المتواضع من معاني التصوف، سرعان ما خكدت وقدته بدخول الفقه الأزهري المستتبع للسلطة الخديوية التركية الاستعمارية.

    الأقاليم الروحانية:
    تلتقي الشعوب السودانية، على اختلاف هوياتها الثقافية بالشعوب الإثيوبية، على اختلاف هوياتها، هي الأخرى، في القيم الروحانية الكبرى، كعزة النفس، والاكتفاء بالقليل، والتكافل، والتوادد، والتراحم، والمسالمة، والبر المنقطع النظير بالوالدين. هذه القيم مرتكزة على إرثٍ إنساني عميق الجذور، يقع في ما وراء تبسيطات المؤسسات الدينية الرسمية، وجهالاتِ النخب وأوهامها. أسعدتني الظروف، قبل شهرٍ أو يزيد، بلقاء الإمام الصادق المهدي، في واحدةٍ من ليالي بيت الفنون بالخرطوم بحري. في ذلك اللقاء العابر، أشاد السيد الإمام بهذه المقالات، وقال ما معناه، إن المودة، والمحبة، والتراحم المتبادل، بين الشعبين السوداني والإثيوبي، يدل على أن هناك شيئاً مدفوناً. والشيء المدفون، في نظري، هو أننا والإثيوبيين، ننتمي إلى إقليم روحاني مغاير للإقليم الروحاني المتوسطي!! وعموماً يمكن القول إن الديانة الواحدة يمكن أن تنتشر في فضاءات روحانية متباينة، فتاخذ هيئة تلك الفضاءات. فالإسلام الشيعي، في فارس، مثلاً، له نكهةٍ فارسية. والإسلام السني، في جزيرة العرب له طبيعة إقليمية مرتبطة بتاريخ جزيرة العرب، وبطبيعة أهلها الموروثة. وإسلام الإثيوبيين في الهضبة، يمثل إسلاماً ذا نكهة إثيوبيةٍ خالصة. وإسلامنا نحن في السودان، كان أقرب ما يكون إلى تشيع الفاطميين، غير أنه تحول لاحقاً إلى إسلامٍ ذي صبغةٍ تركية. وعموما، فأهل السودان من المتصوفة، كان لهم في بداية أمرهم مزاج روحاني، أقرب ما يكون إلى مزاج الشيعة، منه إلى مزاج السنة، ولا تزال بقايا هذا المزاج قائمة حتى اليوم. فالإسلام السني في السودان، طغى عقب الغزو التركي. ولقد مثلت الثورة المهدية في السودان، أكبر انقلاب على حالة الاستلاب السنية، التي أحدثتها الحقبة التركية. وبعد القضاء على الدولة المهدوية، أعاد البريطانيون والمصريون الإسلام السني إلى سابق عهده، لكونه يخدم أغراضهم الاستعمارية. ولسوف أعالج ذلك بتوسع في الكتاب الذي سوف يخرج من هذه السلسلة. مثلت الثورة المهدية، في القرن التاسع عشر، صيحةً سودانيةً صميمة ضد الاستلاب العقدي، والثقافي، الأجنبي، مثلما مثلتها، في القرن العشرين، وفي أفق جديد، أطروحات الأستاذ محمود محمد طه، التي تمثل أقوى صيحةٍ لسودنة الإسلام، وترجمته في الإطار الروحاني التاريخاني الموروث للقطر السوداني، مقروناً بطاقة وحاجة الإطار الكوكبي العصري، الذي أخذ ينشد التعايش السلمي، ونبذ العنف، وحكم القانون. ولسوف أعالج، هذا المسار الممتد بين الدعوة المهدية في القرن التاسع عشر، والفكرة الجمهورية في القرن العشرين، في سلسلة مقالات تحت عنوان: "سودنة الإسلام، من الدعوة المهدية، إلى الدعوة الجمهورية". إلى هنا تنتهي هذه السلسلة من المقالات.

    في الأسبوع القادم أكتب ملاحظاتٍ، على هامش الملاحظات التي أبدتها السيدة الفاضلة، الأستاذة أم سلمة الصادق المهدي، في تعليقها على هذه السلسلة، في صحيفة الصحافة، عدد 26 أغسطس 2010

                  

08-08-2017, 08:04 AM

مدثر صديق
<aمدثر صديق
تاريخ التسجيل: 04-30-2010
مجموع المشاركات: 3896

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. النور حمد: لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو (Re: عبدالله عثمان)

    سلام
    الاخ عبدالله عثمان

    اعتقد ان كل ما ذكر اعلاه يقوم على فرضية ان الجارة اثويبا بها نهضة اقتصادية كبرى ..........

    و ان لا اعتقد بصحة هذا الكلام

    اولا: لبعض تقارير البنك الولى (موجودة بموقع البنك الدولى ) و مواقع اخرى

    ثانيا : الواقع المعاش : اثيوبيا ما زالت اكبر مصدر للاجئين في العالم

    ثالثا : التنمية في اثيوبيا غير متوازنة فتركيز التنيمة فقط في بعض اقاليم اثيوبيا ....( اثيوبيا ستقوم بتصدير الكهرباء و لن يستفيد الشعب الاثيوبي منها ....

    رابعا : الظلم و التهميش السياسي و الاقتصادي الواقع على جميع الاقليات في اثيوبيا

    خامسا : قلة الاراضى الزاعية في اثيوبيا و صعوبة المناخ في هذه المنطقة مع كثرة السكان مما يجعلها دائما عرضة للمجاعات و الحروب






    _________________________
    احسنوا الظن بالناس ......

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de