|
Re: المتشعوذ (Re: درديري كباشي)
|
فالتحيا ذكرى السكة حديد عندما كانت مدن السودان لا ترتبط ببعضها البعض سوى بطرق مسفلته نادرة وقليلة وقصيرة نسبيا أطولها على ما أعتقد كان طريق مدني الخرطوم .. كانت القطارات تجوب جميع أرجاء السودان تطوي الاراضي الشاسعة تنقل الناس والبضائع .في أطول شبكة حديدية عرفتها القارة الأفريقية والعالم العربي. وكانت تشكل شرايين الحياة في السودان .. بأنضباط دقيق في الوقت لا يعكرها الا موسم الخريف في بعض الأحيان عندما تجرف السيول الخطوط الحديدية . فتنقطع لفترة محدودة سريعا ما يتم صيانتها ويعود النبض من جديد . وكان القطار حياة قائمة بذاتها والعاملين بالسكة حديدا يشكلون مجتمعا راقيا ببيوتهم المتدرجة شكلا ومساحة حسب الرتب والوظائف . ومحطات السكك الحديدية المنتشرة في القرى والمدن .. وكشك السنفور المبنى ذو الطابقين الذي يدير المحطات وتوجه القطارات . وحتى ساعة المعصم التي يلبسها العاملين بالسكة حديد كانت تختلف عن ساعات الآخرين أذ أنها تعمل بنظام الأربعة وعشرين ساعة . فتسمعهم يتحدثون عن الساعة ( تمنتاشر والساعة تستعاشر ) بأستغراب . أما نحن فأرتبطنا بالسكة حديد أرتباطا وجدانيا مزدوجا .. أولا ارتباطا مشتركا مع جميع أهل السودان كمسافرين يشكل لهم القطار نقلة روحية وجسدية عظيمة في حالة التسفار .وكذلك أرتباطا آخر يخصنا وذلك بأن معظم أقاربنا عملوا بالسكة حديد ..فأصبح أرتباطنا بالقطار نفسه وبمساكن السكة حديد وبالورش والمحطات . وكان على رأسهم جدنا الراحل عليه رحمة الله الخليفة خوجلي .أذ أنه كان يعمل سائقا للديزل . وهذه ميزة كثيرا ما تباهينا لأقراننا بها أي بأن جدنا سائق قطار فهو الذي يجوب السودان قائدا لهذا المخلوق العملاق .. ولنا معه مواقف وذكريات منحوتة على جدران الذاكره كما حجر رشيد الفرعوني . ومن تلك المواقف مرة أنا وأبن خالتي كنا نقضي الاجازة بمنزل جدنا بحي العمال بكسلا .. طلبت منا الجدة توصليه للمحطة ومساعدته في حمل أغراضه لأنه في حالة سفر .. وصلنا معه فعلا .أما هو فقرر أن يكافئنا فأسدى لنا معروفا عجيبا نادرا ما يتكرر .أخذنا معه في تجربة العمل خطوة بخطوة .. دخلنا معه الى داخل الديزل .أول مرة أعرف أن هذا الصندوق الأزرق الطويل ما هو الا عبارة عن ماكينة عملاقة مغلفة بصندوق حديد أزرق .. دخلنا معه عبر ممر ضيق وبدأ في تشغيلها وفحصها .. الصوت من الداخل يكاد يصم الأذن الى الأبد .. لكن السعادة التي كنا فيها طغت على كل شئ .. بدأ يشرح لنا .. ومن ثم وقفنا معه في كابينة القيادة وبدأ بنا عملية المناورة .. وهي تعني في عرف السكة حديدة .. ترتيب وقطر العربات التي ستكون بصحبة القطار .. فقد كان قطار بضاعة .. بدأت المناورة سعدنا بالديزل جيئة وذهابا وهو يقطر العربات ويهتز بعنف كلما قطر عربة .. وأخيرا وقف وأنزلنا جدنا من الديزل وودعنا ملوحا وهو يتحرك بالقطار مسافرا . تفجأنا بأن القطار أصبح طويلا جدا بعد أن نزلنا وعربات البضاعة بلونها البني الفاتح والمميز تذهب خلفه طائعة..أصبحت صفا طويلا ..أطلق جدنا صافرة المغادرة بعد أن أعطيت له إشارة التحرك . لا زال يلوح لنا حت ىأختفى في الأفق.. كان يمكن أن ينتهي هذا اليوم بهذه النهاية الممتعة .. والتي كم تقت العودة للبيت حت أحكيها لأصحابنا من أبناء الحي . لولا أبن خالتي هذا كانت به شقاوة زائدة فقرر ألا نعود الى البيت أي , نبقى قليلا في السكة حديد . وزاد الطين بلة إذ أنضم إلينا واحد في سننا من أبناء حي السكة حديد أكثر شقاوة ومتمرسا .. السكة حديد كان لازال بها قطارات البخار القديمة التي تعرف ب ( الوردية) كانت وظيفتها تشتغل داخل المحطات فقط .. تقرن عربات الركاب وتعدها للسفر وتجمعها من ورش الصيانة .. ويبدو أنه أبن السكة حديد كان متعودا .أذ بدأنا نتسلق بصحبته في تلك العربات التي تجرها الوردية جيئة وذهابا .. لم نكن ندري أن هنالك عيون راقبتنا وتحركت نحونا .. وهي عيون شرطة السكة الحديد .. السكة حديد كانت أشبه بدولة داخل دولة لها شرطة خاصة بها .. قبض علينا أنا وابن خالتي . أبن السكة حديد ورطنا وهرب دون أن ينبهنا نحن الغزاة الجدد .. حاولوا أن ينتزعوا منا إقرارا من نحن ومن أين أتينا .. لم نقر ونفصح عن أسم جدنا خوجلي ..لأنه مهما كان العقاب قاسيا لن يكن ربع الذي سيمنحنا له جدنا .. صحيح هو كان شخص رقيق ولطيف وهو يودعنا .. لكنه في حالة الخطأ ليس لثورته حدود .. ونحن نعرف جيدا هذه الثورة .. لذلك تحملنا تهديدات الشرطة بالسجن وكلام كبير لم نفهمه وأخيرا خلص الأمر لبضعة جلدات تحملناها .. ولكن ألمها لم يمحو حلاوة هذا اليوم الذي لازال خالدا في الذاكرة ..أنا وابن خالتي عدنا نحمل الألم ونتبادل اللوم أنا أقول له ..ما قلنا لك نعود الى البيت وهو يقول لي ما قلت لك أجري ما سمعت الكلام .. وهو إطلاقا لم يقلها بل ولم يكن يدري أنه علينا أن نجري . .كما فعل أبن السكة حديد المتمرس . رحم الله جدنا ورفقائه .. بل رحم الله السكة حديد وأعاد لها سيرتها الأولى .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
المتشعوذ ( وحكايات مجنونة ) | درديري كباشي | 09-29-15, 03:10 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 09-29-15, 04:23 PM |
Re: المتشعوذ | محمد البشرى الخضر | 09-29-15, 04:58 PM |
Re: المتشعوذ | Dahab Telbo | 09-29-15, 07:31 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 09-30-15, 07:46 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 09-29-15, 07:39 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-01-15, 08:54 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-01-15, 10:17 AM |
Re: المتشعوذ | محمد البشرى الخضر | 10-01-15, 10:58 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-01-15, 11:06 AM |
Re: المتشعوذ | محمد البشرى الخضر | 10-01-15, 11:23 AM |
Re: المتشعوذ | مرتضى احمد عبد القادر | 10-01-15, 02:09 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-02-15, 09:32 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-02-15, 09:35 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-02-15, 09:36 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-02-15, 10:55 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-02-15, 02:17 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-03-15, 05:56 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-03-15, 04:56 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-04-15, 03:03 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-06-15, 02:59 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-07-15, 09:34 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-07-15, 04:35 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-08-15, 09:38 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-10-15, 09:42 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-15-15, 02:56 PM |
Re: المتشعوذ | مامون عبدالله نور | 10-15-15, 06:49 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-18-15, 04:35 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-18-15, 04:36 PM |
Re: المتشعوذ | ابو جهينة | 10-19-15, 09:45 AM |
Re: المتشعوذ | ابو جهينة | 10-19-15, 09:45 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-19-15, 02:14 PM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-22-15, 10:30 AM |
Re: المتشعوذ | درديري كباشي | 10-24-15, 02:21 PM |
|
|
|