|
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)
|
2
هربت منه الفتاة الفارسية، مثلما هربت فتيات أخريات عبر بهنّ. ليس متأكداً بدقة هل رآهن في الحلم أم في اليقظة. فالمساحات بين الاثنين تقاربت. تداخلت. أصبح من الصعب عليه أن يميز أين تقع مساحة الحلم، وأين تقع مساحة الواقع؟ بعد قليل، سينسى كل تفاصيل حلمه (النسيان مجدداً). سيدخل إلى الواقع، فها هو القطار يتسكع ببطء بين سراديب الظلام، يتخذ طريقه تجاه الجنوب، إلى المدينة التي يحملها كخيال في رأسه، رغم أنه عاش فيها طفولته، صباه. دفن فيها أحلامه القديمة، تلك التي لم تتحقق إلى اليوم. بين بصيص من نور الشمس، وهي تلقي بأول أشعتها خلسة على الدرجة الثالثة من القطار، سوف يتذكر أنه كان يقرأ في رواية (السجن الكبير). رواية لا ملامح لها في ذاكرته الصدئة. من كان كاتبها؟. حاول أن يتذكر. لم يقدر. استنزف دماغه في محاولات عديدة: اسم الكاتب، ما تتحدث عنه الرواية، مناخها، شخوصها. غاب كل شيء إلا الاسم.. السجن الكبير. هل قرأ تلك الرواية، فعلاً ذات يوم من الأيام البعيدة؟. فقد قرأ الكثير، الكثير جداً من الروايات التي لا يحمل من ذكراها إلا العناوين، فالحياة في منظوره قادرة على نسف كل الأشياء، الحلوة والمرة. لن يتبقى سوى العنوان من كل حدث، من كل كتاب، من كل فيلم جميل، رومانسي.. توقف عند فكرة الفيلم الرومانسي.. لأنه يكاد يكون قد اقترب من صورة الرواية، مشاهد مجتزأة منها، تحاول الذاكرة لملمتها بصعوبة. أيضا كان صعباً عليه أن يتذكر.. إنه كائن مدوخ بالنسيان. قرر مقاومة النسيان. استعان بما تبقى من ظلام الليل، في توحيد مشاعره، فالظلام كان قادراً على منحه دفء مفقود، نوع من الحنين لأمكنة مجهولة في أمسه. ربما لأنه في الأصل كائن تربى في الظلام. ولد في الليل، تحت ضوء فانوس بخيل الضوء. راجع دروسه في ليال شتوية عاثرة الحظ، تحت ضياء النجوم الغارقة في التيه. يكاد يرى الحرف ويتكهن بالحرف التالي. الأمس بالنسبة له، غيب كالمستقبل. الذي حدث كالذي لم يحدث. والذي سيحدث كالذي لم يحدث. ليس ثمة فرق، لكائن غريب الأطوار. كائن لا يمكن العثور على شبيه له إلا داخل رواية أو فيلم رومانسي، خيالي، يبدعه مخرج فنان، عرف كيف يفهم أسرار العالم الخفية، تلك التي لا يراها إلا قلة من الناس، الذين لا يطمعون في مجد. وسط أشباح ظلام الأمس التي حاصرته في هذه اللحظة وهو يحاول تذكر تفاصيل تلك الرواية التي شغلته، فهم أن عليه ألا يتمادى في التفكير، فكل أمر تطيل التفكير فيه يموت. عليه أن يترك الأفكار على راحتها، هانئة البال. لتنام إذن ومن ثم لتستيقظ مع الشمس. كل غائب سوف يفضح ذاته بمجرد أن يُهمل. الإهمال.. فلسفة يؤمن بها، يمارسها دون وعي كبير بها. حاول في مرات عديدة أن يجد لها أسس منطقية راسخة من خلال قراءاته. فشل. لم تكن هناك فكرة كبيرة قادرة على إقناعه، على تشكيل أساس منطقي لأي مبدأ. وصل إلى نتيجة ما زالت مثار شك عنده: (لا منطق يحكم الأشياء، إذا ما تحقق المنطق تحققت الجدوى، والعالم لا جدوى فيه). من يسمع مثل هذه العبارات الأخيرة، سيخاله متشائماً. لكنه على العكس تماماً. هو متفائل إلى أبعد ما يمكن تصوره. متفائل هكذا دون هدف. البحث عن هدف وراء كل فعل يقوم به الإنسان، يراه مضيعة للوقت.. اللاهدف في حد ذاته.. أن تحاول أن تجعل للحياة معنى، وهذا عبط. رغم ذلك فالحياة عنده قذرة وضحلة. دون أن ينتبه، عاد للغوص في بحيرة النوم.. ولكن بلزوجة، بطراوة.. فالنوم لا يأت على هيئة واحدة، هذا أيضا من فلسفته. بعد ساعتين كاملتين، ودقائق معدودات، استيقظ على صوت الكمساري، يطلب من كل راكب أن يريه تذكرته. وجهته. جاء الكمساري مع سطوع الشمس وبزوغ الحر، مع بدء رائحة العرق في الانتشار، فالأجساد كانت متكومة في المقاعد والممرات في الدرجة الثالثة من القطار، تبدو لمن يتأملها كأنها بقايا جثث في حرب أهلية أو مجاعة قاتلة. ضحك مع المشهد.. وتخيل القطار يحمل جثثاً بشرية لمن فقدوا حياتهم في مجاعة أو حرب أهلية، ليلقي بهذه الجثث في الصحراء، بعيداً عن أعين الناس.. الصحافة. الصحافة الأجنبية على وجه التحديد. محلياً لا توجد جرأة على القول.
ي
|
|
|
|
|
|
|
|
|