المدنية والسلطان في "سودان الإسلام" - من "بني ربيعة" إلى "دولة الترابي" - كتاب في حلقات

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 10:51 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عماد البليك(emadblake)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-31-2009, 07:33 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المهدية والنزعة السلطانية الذاتية: (Re: emadblake)



    المهدية والنزعة السلطانية الذاتية:

    ما تشكّل من علاقة متوترة بين السلاطين ورجال الدين، تقوم على المداراة والمناطحة بإشارات ضمنية، ولجوء السلاطين للأولياء توظيفا لخرافاتهم في إمكانية الحصول على نبوءات يستطيعون من خلالها وضع خطط إستراتيجية للمستقبل تكفل لهم مد سلطانهم لأبعد مدى زمني، كل هذه الصور التي ترسخت في دولة الفونج، برزت بشكل أوضح لدى قيام محمد أحمد المهدي بتأسيس مشروعه السلطوي، الذي وظّف الدين لإنجاز "الدولة الإسلامية" الثالثة بالسودان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. غير أن استيعاب هذه المسألة يتطلب درجة راقية من الوعي التاريخي الذي يشكل واحدة من طرق تفكيك القضايا السياسية والأيدلوجية الراهنة، والتي تظل غير محسومة، ويكون تعاملنا معها بنهج غير سليم لا يساعد في فهم مجريات الأحداث ودوافعها الحقيقية إذا ما التزمنا بالشروط "الأرثوذكسية" لقراءات التاريخ.
    تمثل قضية "الثورة المهدية" في السودان إحدى هذه القضايا التي يجب بحث أغوارها، فهي حتى الآن لم تُدرس الدراسة التفكيكية اللازمة لبنيتها وفق العلوم الإنسانية الحديثة، فمعظم الذين درسوا المهدية تعاملوا معها وفق إطار رؤيوي ضيق، أو تعاملوا معها كمقدس لا يحق بتر مفعلاته، بينما الرؤية الحقيقية توضح لنا أن "الثورة" في حد ذاتها ليست إنجازاً مطلقاً، بل هي فعل بشري من الممكن التفكير في زحزحة كثير من مؤطراته ومركباته الأساسية وتفكيك هذه المركبات كي ّما يتسنى لنا دراستها بوعي تاريخي مجرد عن الأسطرة والمخيال الجماعي الذي يتوجه وجهة قداسوية تجاه ذلك المنجز التاريخي.
    ومن أبرز الإشكاليات في دراسة المهدية وبالتالي غياب الاستفادة الماثلة من تراثها في التجارب الأكثر حداثة، كتجربة سنوات البشير، أن المعالجات التي تمت جاء معظمها ظاهريا وفوقيا لم يغص في التربة العميقة لبنيات "الثورة" ولم يحفر بشكل عملي في التكوين السيكولوجي لمفعل "الثورة" (محمد أحمد المهدي) والذي اكتسب هذه التسمية (المهدي) بعد أن خلعها هو على نفسه.
    إن البحث العميق في طبيعة النفس البشرية من شأنه أن يزيح الكثير من الغبار العالق برؤيا الذات في التاريخ، ومن خلال ذلك يكون ممكنا فهم التاريخ بوعي فعال وإيجابي، وبخصوص "الثورة المهدية" بوصفها ظاهرة ارتبطت بالدين، يصبح البحث في بنية إنسانها ضروريا لفهمها كظاهرة موازية للدين والمعتقد، وفي هذا الجانب فإن الدراسات الحديثة في علم النفس تركز على أن "البحث العميق في طبيعة النفس البشرية أصبح ضرورياً لفهم الظواهر الدينية " وهذا ما يمكن أن يبسط المسألة للنظر إليها وإدراكها بوعي تاريخي مجرد عن القداسة والخوف من مواجهة عنف التاريخ المنعكس على الواقع الآني. أيضا ولكي نفهم الدوافع الأساسية لـ "ثورة الإمام المهدي" في السودان، يجب أن نجرد أنفسنا من كل الألبسة الآنية المترتبة عن ذاك الحدث التاريخي القديم، ونخلع ذواتنا من إطار وعيها التاريخي التراكمي، وهذا لا يحدث ما لم تكن هناك حيدة تجاه الحدث التاريخي ومفعله.
    يذكر نعوم شقير في كتابه (تاريخ السودان) أن أسباب الثورة انحصرت في العنف الذي مارسه النظام التركي ونظام الضرائب ومنع تجارة الرقيق ، وكل هذه الأسباب أدت لزحزحة الوعي الجماعي ليخرج عن طاعة النظام.
    هذه الأسباب لا يمكن نفيها كمسببات مفعلة للثورة في خطوطها العريضة، لكن هذه النقاط التي أثارها شقير وغيره من المؤرخين والباحثين، كما يقول الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم "تصف في جملتها الظروف التي تستدعي قيام ثورة أو خلق احتجاج عام ولكنها لا تقف دون إبراز الظروف الذاتية والملابسات التي جعلت محمد أحمد دون غيره ممثلا لهذا الاحتجاج وقائدا للثورة على الأوضاع" ، أي أن أبو سليم يرى أن هذه الأسباب التي أوردها شقير وغيره ليست من شأنها أن تصف لنا لماذا تمت الثورة كنتاج فعلي على يد محمد أحمد دون غيره من السودانيين. هذا السؤال وبالاقتراب من الإجابة عليه يكشف لنا الكثير من البنى التي تقوم عليها عملية توظيف الدين في الثورة، أو في الحراك الاجتماعي، وتوضح لنا درجة من بناء العقل السوداني الحالم بيوتوبيا الدولة الإسلامية، ومن لحظة تأسيسية في التاريخ الحديث.
    لكن استخلاص النتائج ليس بالمسألة السهلة، إذ أن ذلك يتطلب أولا التمهيد النظري الذي يقرّب من فهم الدوافع، ومن هنا يجب دراسة بعض المركبات الهامة في شأن علاقة الدين بالمجتمع في السودان، ودور الدين في تفعيل الشعوب وتكوين وعيها الجمعي الذي من الممكن أن يتخذ كوسيلة لإدراك مآرب جهة معينة من الجهات، أو منظمة ما.
    إن أهم ما يلفت النظر إلى الحركة الإصلاحية التي قام بها محمد أحمد، أنها تعمل وفق منظور الديني حسب ما فهمه "محمد أحمد"، فقد كان "يعمل لبناء مجتمع ديني مقوماته من المجتمع الذي أقامه الرسول (ص) وصحابته" باعتبار أن هذا النموذج هو الذي يمكن أن يمهد للوعي الجماعي في قبول منطلقات الثورة. وبحسب محمد أركون يرى الوعي الجماعي في مثل هذه المجتمعات "أن الحقيقة كلها متضمنة في الوحي وتجربة المدينة"، ويشير أركون إلى أن تجربة المدينة تمثل نموذجاً للموقف الإصلاحي في القرن التاسع عشر الميلادي، أو ما سماها بالنزعة الإصلاحية التي بدأت منذ القرن الهجري الأول من قبل السلف.
    بالنظر إلى القدسية المسقطة على ذلك الزمان وباعتبار تجربة المدينة نموذجا مثاليا يبحث الإسلاميون عن إمكانية إسقاطه على الحاضر، وبوصف التجربة كونها كما يرى أركون بشأن اعتقادهم: "جاءت في زمن مقدس يعلو على كل الأزمان". كل هذا جعل الاستفادة من المضمون المتوارث عن تجربة المدينة محركا فعليا للجماعة، وبشكل غير مباشر أو واع، ومن ذلك المنطلق كانت الإرادة والسؤال هل يمكن بعثها من جديد لكي تشكل ثورة ضد نظام يؤمن بالعنف والضرائب الباهظة ويمنع الناس أن يمارسوا حياتهم التجارية في حرية ويحارب الرق. ويشير أركون إلى أن "الدين حتى ظهور الأيدلوجيات العلمانية الحديثة هو الذي يحمل وظيفة التبرير هذه والتي لابد منها"، أي أن هناك دوافع بحتة تتعلق بشخصية القائد، لكن الدين يأتي مغطياً البنية التحتية أو المركبة الحقيقية للثورة، ولذا فإن انتهاج الإسلام من شأنه "أن يقوم بوظيفة خلع الشرعية على الأنظمة والسلطات السياسية" في مجتمعات ينظمها عرف وقيم تؤمن بها تماماً وتتعامل معها بقداسة لا يمكن تجاوزها أبداً. وما يشار إليه هنا أن بنية الثورة دائما ما تتعلق بجانب أسطوري يضفي عليها الفوقية ويجعل مسألة قبولها حتمياً مثلما يقبل المسلم أن الله واحد، وأن الدين هو الإسلام، فعليه أن يقبل الثورة لأن إطارها المنطقي الذي جاءت به ينتهج طريقة الوعي السائد في المجتمع. ونجد أن أسطورة الثورة التي تمثل الدين مطية لها هي من نوع الأساطير الحديثة وهي "التي لا تتكلم عن قصة الخلق أو صراع الآلهة، وإنما عن صراعات قائمة وموجودة"، وهذا ما يفرقها عن الأسطورة القديمة ويلزم عملية التعامل معها بانتهاج طرق جديدة باعتبار أن منظومات الوعي قد تغيرت.
    جاءت تجربة محمد أحمد المهدي مستمدة من تجربة الرسول (ص) وصحابته، وهذه التجربة كما ذكر هي العامل المفعّل لتحريك بنية الوعي الجماعي لأي حركة سياسية تتخذ الدين كوسيلة لتحقيق أهدافها "فحياة الرسول (ص) تمثل مرتكز السلوك الإسلامي" الذي لا يمكن لأي مسلم أن يرفضه ما دام منتميا لهذه الجماعة، ولهذا تكون للتجربة فعاليتها وقوتها في التمكين لذاتها. وهذا ما فعله المهدي بوعي تام عبر مراحل من الوعي التراكمي وعبر دراسة مستفيضة لبنية الوعي لإنسان السودان في نهاية القرن التاسع عشر، فمذهب المهدي هو عبارة عن "آراء كونها عن الإسلام والمسلمين أثناء تجواله وإطلاعه وأثناء مخالطته للعلماء والصالحين" .
    يذهب نيتشه إلى "أن دعاة الزهد في التاريخ كانوا أبعد الناس عن الزهد وأنهم كانوا يضللون البشر بهذه الدعوة الزائفة" ، ويدعم هذا القول ما يقول به مذهب اللذة السيكولوجي الذي يقف نيتشه ضده وهو: "أن الإنسان ينشد دائما ما وراء أفعاله لذته ومنفعته". وهنا يكون السؤال: هل يوجد في حياة محمد أحمد ما يؤيد هاتين النظريتين المتوافقتين رغما أنهما متولدتان عن فلسفتين متعارضتين؟. هدف السؤال هو البحث عن قاعدة للدوافع الذاتية للتغيير الذي قاده "المهدي". وتستدعي الإجابة على السؤال أعلاه، إلقاء نظرة على ثقافة "المهدي" وبعض من القضايا التي ارتبطت بحياته المبكرة قبل تفجيره الدعوة، حيث أن ذلك يساعد في إدراك "الظروف الذاتية" كما اسماها أبو سليم، والتي يتطلب الوصول إليها معرفة "مزيد من الحقائق والبيانات عن حياة محمد أحمد الأولى ومدى ارتباطه بالحياة العامة، وإلى إبراز العوامل التي دفعت به من الحياة السلبية التي يمارسها المريد الصوفي إلى الحياة الإيجابية الهادفة إلى بناء مجتمع جديد" .
    بدأت الحياة الفاعلة لمحمد أحمد والخطوة الأولى لبسط فكرته التي تجمع بين الدين والسياسة أو تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق أهداف سياسية عملية سنة 1871، وذلك عندما أنشأ خلوته في الجزيرة أبا، وكان إنشاء هذه الخلوة "من أول خطواته وأخطرها" كما رأى أبو سليم، إذ أن الخلوة تمثل المرجعية الأولى لتفعيل بذرة الحياة المستقبلية للفرد في السودان الشمالي والأوسط في ذلك الوقت، باعتبارها مؤسسة تعليمية راسخة في زمنها، تخرّج الفئات التي من شأنها أن تتحكم في تسيير الحياة في المجتمع.
    كانت الخطوة الثانية بعد إنشاء الخلوة، هي تفجير الخلاف مع شيخه محمد شريف والذي كان محمد أحمد من أتباعه المقربين وأخذ عنه الطريقة السمانية، وقد حدث هذا الخلاف سنة 1878. وهنا تختلف الرؤى بشأن مسببات الخلاف، وهي قصة طويلة، بيد أن التحليل المجرد لها يقود إلى أن هذا الخلاف لم يكن دافعه الأول ديني أو أنه بُني على المرتكزات الإسلامية ، وإنما كان بسبب التنافس الذي حدث بين التلميذ (محمد أحمد) ومعلمه (محمد شريف)، لأن التلميذ عندما أسس خلوته المنفصلة سالفة الذكر استطاع أن يجمع من حوله أتباعا أصبحوا يحملون اعتقادا جازما فيه، تحول إلى اعتقاد شخصي وليس اعتقاد في طريقة صوفية ينتمي لها التلميذ، هذا التصاعد الحادث لشخصية محمد أحمد أدى إلى إحساس من جانب محمد شريف بخطورة منافسه الجديد الذي برز على الساحة، فرأى أن يصعد من حدة الموقف بأن أشاع "أن محمد أحمد أفصح عن مهديته وأنه طرده بعد أن فشلت محاولاته عن إثنائه عنها".
    الخطوة الثالثة هي الحركة الإصلاحية التي بدأها محمد أحمد سنة 1880، وهي حركة عميقة الجذور والإشارات حولها صعبة، وكذلك محاولات تفسيرها، لأن "محررات المهدي في هذه الفترة لا تعطي إلا إشارات قليلة" . وفي هذه الفترة بدأ محمد أحمد دعوته السرية عبر حركة دائبة في الأقاليم ودعوة الناس إلى الالتفاف إلى الدين الحق. وحتى ذلك الوقت "يبدو أن حركته كانت ذات أهداف دينية خالصة وإنها كانت تخلو من الغرض السياسي" . غير أن الغرض السياسي الذي لم يتمظهر في الدعوة وقتها كان يجذر نفسه في ذات محمد أحمد، وكانت القاعدة التي تحمل دوافعه الذاتية قد بدأت في التأسيس لنفسها، فلم تكن المسألة في بساطة القول أن محمد أحمد كان مجرد رجل يحقق استجابة لمشاعر الآهلين التي انطبعت بما تركه المستعمرون من أثر سيء، لأن الاستجابة كانت مضمرة فيه وعمل على إبداع شروطها عبر تكوينه الشخصي والواعي بخطواته، الأمر الذي ساعده على التفاف الناس حول دعوته أولا ومن ثم حركة المقاومة التي قادها. وبشكل مختصر فإن هذه المرحلة هيأت المناخ الممهد لإعلان "الثورة" من قبل محمد أحمد.
    وبالفعل وفي مارس 1881 كانت الخطوة الرابعة والفعالة والتي اكتسب فيها محمد أحمد صفة (المهدي)، حيث "كان الناس على استعداد لتصديق هذا الأمر وأتباعه لكثرة ما أصابهم من ظلم ولحقهم من أذى، ولأنهم كانوا قد بلغوا نهاية القرن، وقد شاع أن القرن لا ينتهي قبل أن يأتيهم المنقذ الموعود" . ويشار إلى أن هذه الخطوة قد سبقتها الحركة عبر الأقاليم، والتي قام فيها محمد أحمد بتوثيق علاقات مع رجال الدين سيكون لها آثرها الفاعل فيما بعد، خاصة في إقليم كردفان عندما هاجر إلى هناك. ونجد أن إعلان محمد أحمد لمهديته كان قد أحاطت به هالة من الأسطرة والدعم المتمثل في استغلال مركبات العقل الجمعي لإنسان السودان في القرن التاسع عشر عبر شروط الثقافة والبيئة.
    ويلاحظ أن دعوة محمد أحمد لم تكتف ببعدها الميتافيزيقي في دعم مسارها، إذ أنها أول ما قامت كان يدفعها أيضا عامل "التشكل البيئي" في العقل الجمعي، وقد استفاد محمد أحمد من هذا العامل في مشروعه، فالدين في تلك البيئة التي نشأت فيها الثورة "ينهج له كممارسة روحية وعمل لا علم ودرس"، وهذا ما استوعبه محمد أحمد وحاول أن يطبق به منهجه الدافع لهمه السياسي الذي شكل ثورته فيما بعد، والتي "كانت ثورة بالمعنى العلمي – والاجتماعي طورت مؤسسات السلطنات، وعلى رأسها الطرق الصوفية في سبيل تحقيق أهداف سياسية وعملية"، كما فسرها الدكتور قيصر موسى الزين في دراسة له بعنوان: (الدولة والمؤسسات الاجتماعية في السودان).
    ولكن كيف نفهم استيعاب محمد أحمد للبيئة وتطويرها لرفد "الثورة"؟. يستدعي ذلك فهم مركبات التطور الإنساني في البيئة وهي "المركبة الاجتماعية – الاقتصادية (مركبة الإنتاج )، والمركبة الاجتماعية – الثقافية (مركبة العقل)، والمركبة الاجتماعية – التاريخية أو العناصر الحضارية". فكيف انعكست كل واحدة من هذه المركبات عبر التشكل البيئي مما أتاح استثمارها في تفعيل الثورة؟
    بالنسبة لمركبة الإنتاج فإن أول ما نلاحظه أن الإنتاج الزراعي هو المشكل الأول لهذه المركبة، والزراعة في ذلك المجتمع ارتبطت بالوسائل الطبيعية المباشرة كالمطر، وفيضان النيل، والتي لم تكن تتعلق – وقتذاك - بمعرفة الإنسان المباشرة وإنما تستند على قوى عليا يعلق الإنسان أمله عليها، ويؤمن الإنسان بدفعها للنجاح في سبيل تحقيق الإنتاج، أما الفشل فهو من عنده باعتبار أن الإنسان كائن عاجز ومقصر أمام قوى مطلقة لها مقدرة فاعلة على مستويات واسعة في حياته. وارتباط المركبة الإنتاجية بالعامل الفوقي يجعلها من الممكن أن تستجيب لأي قوى من شأنها أن تعمل على تعديل الإنتاج عبر "مسار فوقي" يستمد قوته من الدين، وهذا ما استفادت منه الثورة المهدية عندما رفضت أساليب النظام التركي الاقتصادية، لكن ما سوف نستنتجه أن الهدف الرئيسي لم يكن يتعلق بتعديل المربكة الاقتصادية فالمهدية "أقامت دولة أكثر مركزية وأكثر ضرائب، وأكثر قدرة على قمع المتمردين".
    أما بخصوص مركبة العقل، فقد سيطرت على العقل الفعالية الميتافيزيقية الفوقية، حيث أن البنية كانت صوفية خالصة تعمل وفق قانون التعالي الصوفي، وقد وعي محمد أحمد هذه المركبة واستفاد منها أكثر عندما أدخل الوعي الديني المتمثل عبر الصوفية في إطار "ثورته". هذا الوعي الذي عندما تمكن من موقعه السلطوي، كان أن جرّد الصوفية من أبعادها ليمركز نفسه على منهج يستمد ذاته من المركزية الجديدة، التي اتخذت الصوفية كوسيلة لغاية. ويظهر هذا الدعم الصوفي في استمداد محمد أحمد لبنية الوعي الصوفي واستغلالها، فإعلان مهديته سبقه تصوفه، وإنشاء خلوته، وعندما أعلن المهدية كان أول ما دعمها ما يعرف بكرامات الأولياء – أي البعد الميتافيزيقي للصوفية عندما تتسامى عن بعدها المادي عند أهلها أو كما يرون.
    ولم يكن محمد أحمد هو الذي بسط لنفسه الطريق بمفرده حيث ساعدته جهات لتدعيم فكرته عبر مستوياتها الغيبية، وحاجتها إلى التمكين السياسي لنفسها، وهذا ما فضحه المستقبل، حيث أن (الخليفة عبد الله) عندما قابل محمد أحمد لأول مرة وهو يبني قبة شيخه القرشي ود الزين:"قيل أنه لما رآه وقع مغشياً عليه، ولم يفق من غشيته إلا بعد ساعة أو أكثر وأغمي عليه ثانية لما نظر إلى إليه محمد أحمد، وحكى عبد الله لمحمد أحمد أن له أب صالح من أهل الكشف وقد قال له قبل وفاته إنك ستقابل المهدي وتكون وزيره وقد أخبرني بعلامات المهدي وصفاته فلما وقع نظري علك رأيت فيك العلامات التي أخبرني بها والدي بعينها ". ويتضح من المشهد "الدرامي" مجموعة من القضايا الهامة، والتي تعكس لنا كيف كان أول لقاء بين رجلين قادا مسيرة "الثورة"، ذلك اللقاء الذي بدأ أشبه بحكاية أسطورية، بيد أنه واقعي، واستخدمت فيه كافة أساليب مركبة العقل الجماعي ليفعل منطلقاته الخفية، ويسلط خطابه، لكن الخطاب يفضح نفسه من داخله حيث يتضمن داخل بنيته رائحة البعد السياسي " وتكون وزيره". وهذا يفسر كل القصة التي لا شك أن الخليفة قام بنسجها متماشيا مع موقع هذا الخطاب الذي ينتهجه المهدي لتأييد نفسه، فكيف لا يرتضيه، عندما يأتي ليدعم حالته من رجل يريد منصبا معينا وقد فاز به. واستغل محمد أحمد كما تمت الإشارة سابقا مركبات الوعي الصوفي في العقل الجمعي، ليمهد ليقام حكومته، كأنما بنى أمره على قاعدة علم الاجتماع الديني التي تقول: "أن الدين يختلف عن الحكومة التي تهتم بالسلطة والفوقية". فلم يكن باكر الدعوة يدعو لإقامة حكم بديل للحكم التركي ولكنه كان ينادي بالعدل بدلاً عن الظلم. ومفهوم البحث عن العدل المستمد من فلسفة الدين لم يكن له موقعه من "الجماعة" – وقتها - كوسيلة للوصول إلى الحكم، فلقد استند العقل الجمعي على أن الدين يحمل في محتواه خلاصاً، لكنه لم يكن يفكر في أن هذا الخلاص سيتحول إلى دولة بديلة للدولة القائمة، وربما ظهرت هذه النية معلنة عندما بدأت معارك محمد أحمد في أبا ومن ثم هجرته إلى قدير، هذا من منظور القراءة الخارجية لعامة من تبعوا محمد أحمد، أما منظوره هو فيحكم عليه من خلال دوافعه الذاتية المبكرة في الاشتغال السياسي ومد نفوذه ليصبح قوة تصنع دولتها.
    وفي تجربة محمد أحمد نحو صياغة مشروعه السياسي تتجلى بعض عناصر الاستغلال لطبيعة المركبات التي تحيط بالدين كالرؤى والأحلام والرموز والنبوءات، "وهي ذات الأدوات التي يستعملها الدين لإيقاع الهيبة ولغرس القداسة في النفوس" كما يشير خليل عبد الكريم . وهي قاعدة قديمة منذ أيام (الجاهلية) فقد استخدمها عبد المطلب جد الرسول (ص) عندما استثمر كل هذه المركبات، ومراجعة سيرته تعكس لنا ذلك مثلما في حادثة زمزم، وحادثة النحر، وقد كان عبد المطلب وفق رؤية خليل عبد الكريم: "يعمل على ضرورة ضرب المثل بالنفس بداية وأهمية القدوة عند دعوة الناس إلى أية عقيدة، وهنا تلازمت أو تزامنت طبيعته المتألهة معه نهجه في مزج الدين بالدولة، وضرورة ذلك حتى تكتسب الدولة القداسة التي انغرست في نفوس المحكومين وأثمرت طاعة كاملة وانقيادا تاما ". وقد سار محمد أحمد بنفس الخطوات تقريبا حتى فرض القداسة التي توازي قداسة عبد المطلب وأعلن دولته في مزج حقيقي بين الدين والدولة، مستفيداً من الماورائيات، واعياً لقاعدة أن "كل المجتمعات بحاجة إلى نظام من العقائد والقيم والمعارف من اجل تبرير نظامها وتأمين شرعيته والحفاظ عليه". هذه العقائد والقيم تستمد نفسها من البيئة عبر مركبة عقل المجتمع والعناصر الحضارية لهذا المجتمع. والقيم غالباً ما تأخذ تمحورها الأسطوري بحيث أنه "عندما ننزع التركيبات الأسطورية من إطارها الاجتماعي/المادي والزمني، فقد تتحول إلى هلوسة. ووما يشير إلى استغلال الماورائيات من فجر دعوة محمد أحمد، قصته عن رؤيا النبي (ص) يقظة وأنه أجلسه وقلده سيفه وغسل قلبه بيده وملأه إيمانا ومعارف وأخبره بأنه الخليفة الأكبر والمهدي المنتظر وان من شك في مهديته فقد كفر ومن حاربه خذل في الدارين، وغيرها من القصص التي تدعم كيفية استثمار محمد أحمد لمركبات الوعي الجماعي والعقل الاجتماعي الكلي. وبشكل عام بخصوص المركبة الحضارية فقد تتداخل هذه المربكة مع عقل المجتمع غير أنه يمكن الإشارة إلى أن المهدية كانت تحوي في وعيها الداخلي ضرورة إقامة نظام سياسي يستمد معارفه وقوته من الإسلام كموازي لنموذج المدينة، وقد طورت المفهوم السلطوي للنظام الصوفي لتقيم نظامها الجديد، مستفيدة من التجربة الصوفية، وكان هذا التطوير قد امتد إلى بعض العناصر (المقدسة) والتعدي عليها – بمعنى أنها مقدسة من قبل عقل المجتمع – حيث أن محمد أحمد "قام بأعمال أنكرها عليه العلماء إذ أحرق الكتب إلا أصول منها، كالقران والصحيحين (البخاري ومسلم) وأحياء علوم الدين، والكتب التي أحرقها كان يرى أنها حجبت المنبعث من القران والسنة، كما أبطل العمل بالمذاهب الأربعة.


                  

العنوان الكاتب Date
المدنية والسلطان في "سودان الإسلام" - من "بني ربيعة" إلى "دولة الترابي" - كتاب في حلقات emadblake01-30-09, 09:53 PM
  الفونج ودنيوية الدين emadblake01-30-09, 09:58 PM
    المهدية والنزعة السلطانية الذاتية: emadblake01-31-09, 07:33 PM
      Re: المهدية والنزعة السلطانية الذاتية: Adil Ali01-31-09, 09:10 PM
        سنوات الخليفة: emadblake01-31-09, 11:42 PM
          Re: سنوات الخليفة: emadblake02-02-09, 10:33 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de