جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 02:26 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عثمان تراث(تراث)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-17-2006, 09:11 AM

تراث
<aتراث
تاريخ التسجيل: 11-03-2002
مجموع المشاركات: 1588

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن

    عرض وتلخيص لكتاب "جمال محمد أحمد" لعثمان محمد الحسن.
    بقلم الأستاذ/ الحسن محمد سعيد


     لا أدعي أنني أعرف جمال محمد أحمد، لكن أسمه كان حاضراً في حياتي كحضور الشمس...قرأت له قليلاً، وسمعت عنه كثيراً ...ما عرفته إلا من خلال معرفتي بأي علم من أعلام الثقافة والفكر والأدب والسياسة والحياة العامة .. رأيته أول مرة في المؤتمر الصحفي الذي عقده بأبكر عوض الله بعد قيام انقلاب مايو 1969م مباشرة مترجماً من وإلى اللغة الإنجليزية، أن لم تخني الذاكرة، وإلا فمع الرشيد الطاهر في ظل (مايو) التي عمل معها من أجل التغيير، ولكنها في نظره أصبحت (شقية وتعيسة)

     رأيت عند عثمان محمد الحسن صفوة القوم من أهل المراكز، والسياسة، والثقافة، والفكر والفن وأهل المغنى والتلحين وحتى الأجانب الفرنجة ولكن لم يسعد بصري برؤية جمال محمد أحمد والطيب صالح رغم قربهما وقربى منه ... عرفت ذلك مؤخراً في مساء العمر وبعد أن تباعدت بنا السبل، في ظل ظروف لم يعد لنا فيها إلا الذكريات .

     أهداني عثمان محمد الحسن كتابيه العظيمين في فبراير 2005م عند زيارتي للخرطوم في إجازة سنوية : أحدهما عن الطيب صالح، والآخر عن جمال محمد أحمد ..
    لا أعرف أيهما معرفة شخصية، ولكني أعرف أن الطيب صالح كان قريباً مني أكثر مما هو الحال مع جمال محمد أحمد ... فكان الكتاب عنه، أول الكتابين الذي قرأت ... وخرجت من كتاب عثمان محمد الحسن عن الطيب الصالح أنني لا أعرف الرجل كما كنت أتوهم ... لقد فتح لي عثمان محمد الحسن ينابيع ثرة عن الطيب صالح ما عرفتها عنه من قبل، وكان ذلك قبل أن أقرأ (مختارات) الطيب في أجزائها التسعة .. وأدركت ساعتئذ أنني أجهل الطيب صالح تماماً، فكبر واستطال عثمان محمد الحسن في نظري بهذا القدر الهائل من الثقافة وهذه المعلومات الثرة عن الطيب صالح وهذه الصداقة الحميمة التي لا تصدر عن ولا تأتي إلا من كل ذي حظ عظيم ..
    لم ادع أنني أعرف جمالاً كما قلت، بيد أني زعمت أنني أعرف الطيب صالح حق معرفته... وما كان في روعي، غير (طيب) واحد، هو (الطيب) القاص والروائي وأن ذهبت بعيداً جاءني (الطيب) المذيع النابه في إذاعة البى بى سي ... ولكن عثمان أظهر لي (طيباً) أخر.. أظهر لي ما غاب عني من جوانب هذا الأديب العملاق المتنوع العطاء...فجاءت الحقيقة أنني أجهلهما الاثنين معاً ... الاختلاف كان في (اعترافي) بحالة(جمال) وإدعائي في حالة (الطيب) ..
     تعرفت إلى عثمان محمد الحسن في عام 1968م حينما التحقت بمصلحة الشئون الاجتماعية بوزارة الإعلام والشؤون الاجتماعية حيث كان مديرها وقتئذٍ أبو عاقلة يوسف رحمة الله وكان عثمان أحد نوابه الثلاثة ..
    تراوحت علاقاتي بين اللامبالاة به، فالاعتراض عليه، فالمعاداة ثم القبول، فالاحترام، فالصداقة، والمناصرة ...
    حين التفت إلىَّ وسط هذا الكم الهائل من الخريجين، وكان الوضع يحكي عطالة مقنعة بلا شك، لمست منه احتراماً أشعرني بذاتي وسط هذا الكم المهمل ... وبدأت دائرة الاحترام تتسع ... وكان إنساناً حين حماني من أتون الغضب والانتقام بعد يوليو 1971م، وفي تلك الأيام التي أعقبت انقلاب هاشم العطاء وكنت وقتها رئيساً لاتحاد الخريجين في وزارة السباب والرياضة والشؤون الاجتماعية .. ولولاه لعرفت الطرد المهين...
    اهتمامه بهندامه، وانضباطه في مواعيد عمله، ومظهره الجاد، كل ذلك يعطي صورة غير حقيقية عنه، وكأنك تلتقي رجلاً عبوساً، قاسياً، كل دنياه، الوظيفية الحكومية، وما فيها من أبهمة وسلطان.. عثمان، عكس ذلك تماماً ... هو جميل في الداخل والخارج ... وله طاقة عجيبة في العطاء، والتفاني في خدمة الغير ـ الأهل والأصدقاء وكل من يقصده ..
    كنت ضمن صفوة مختارة من زملاء العمل يدعوهم لـ(قعدات) ذات طعم في بيته، في مساءات الخرطوم الجميلة .. ولعلى هناك أدركت قيمتي عنده .. من أكون لأحضر تلك (القعدات) مع أهل الهامات الطوال، ثقافة، وعلماً، ومراكز اجتماعية وسياسية ؟؟ تلك الصفوة المنتقاة، وعجبي !! لم يكن عثمان أنيقا في هندامه فقط، وإنما كان كذلك في كل ما يحيط به .. كأنما يمشي والحياة من حوله في أجمل ديكوراتها المتناسقة المتناغمة ... قالت لي زوجة صديقه استاذ الانثربولوجي البولندي في جامعة الخرطوم وهي اسكتلندية الأصل أن عثمان (Neat) في شخصيه وفي بيته، ولك أن تفسر هذه الكلمة الإنجليزية بما شئت من المعاني والدلالات والمجاز..
    وليس عجيباً أن يكتب كتاباً بهذه الأناقة الفريدة عن أستاذة وصديقة جمال محمد أحمد.. هو لا يملك إلا أن يكون كذلك في طريقة عرضه للكتاب وفي وفائه لأستاذه وصديقة .
    هذه المتعة المصفاة الخالصة التي تجدها في أسلوب جمال محمد أحمد، وهو يطوَّع اللغة العربية في أدب الرسائل، جعلتني أربط، بين عثمان الذي أتاح لنا هذه الفرصة النادرة في هذا الكتاب الجامع، وعثمان الآخر الذي أتاح لي فرصة التعرَّف ذات يوم على فنان الجيل العملاق حسن عطية، وعازف العود الفنان الأشهر بشير عباس ... حسن عطية يتلاعب بحنجرته كما يشاء وكيفما يشاء، وبشير عباس يتلاعب بأوتار عوده كما يشاء وكيفما يشاء، وجمال محمد أحمد يتلاعب باللغة كما يشاء وكيفما يشاء .. وجميعهم يخرجون الفن الجميل .. وهذا هو أوجه الربط الذي لمسته ...
     من هو جمال محمد أحمد ؟
     عفواً ...!! وهل يخفى القمر ؟!
     قال عثمان : أنه أستاذي الذي دخلت جامعة الخرطوم على يديه، وتعهدني خلال سني دراستي، وعند تخرجي جعلني أحل محله في أمانة أول برلمان سوداني بعد الاستقلال، ثم جعلني صديقاً ورفيقاً له في رحلة الحياة حتى مماته المفاجئ في عام 1986م ..

     وقال في الكتاب :
     (جمال علم من أعلام التثقيف العام، وكان ضد التخلف في كل صورة... استشهد الكاتب أحمد بهاء الدين مرة بكلمات لفيدل كاسترو قال فيها : " أن شعوبنا في العالم الثالث تعرف بطولة الأيام التاريخية، ولكنها لا تعرف بطولة الجهد اليومي الذي يبني تقدم الأمم " أمثال الجهد الجهيد الذي يبذله جمال وأمثال جمال وهم يضعون اللبنات لبناء صروح أممهم)

     وقال في الكتاب : ما هو الكتاب ؟ جمال محمد أحمد (رسائل وأوراق خاصة) أن جمالاً من مواليد سَرَّة شرق بوادي حلفا سنة 1915م ...
    تعلم في كتاب القرية، والمدارس الوسطى، وفي كلية غردون عام 1937م وجامعة أكستر عام 1946م، وجامعة اكسفورد عام 1954م ..
    عمل معلماً بالمدارس الثانوية بين عامي 1938 ـ 1944م، وبوزارة التربية بين عامي 1947 – 1950م، ثم مسؤولاً عن شؤون الطلاب بكلية الخرطوم الجامعية عام 1949م .. واختير جمال مع شروق شمس الاستقلال للعمل في السلك الدبلوماسي، فبدأ عمله سفيراً للسودان بالعراق بين عامي 1956 – 1959م، وفي أثيوبيا بين عامي 1959 – 1964م ومندوباً لهيئة الأمم 1964 – 1965م وبعدها نقل سفيراً للسودان في بريطانيا عام 1965م ... وأخيراً عمل وزيراً للخارجية .. كما عمل سكرتيراً لدار الثقافة السودانية بالخرطوم .
    منح جمال النياشين من قبل : ملك العراق، ملك الأردن، أمبراطور اثيوبيا، رئيس الجمهورية السودانية ..
    ساهم بمقالاته عن الشؤون الإفريقية في عدد من الدوريات الشهيرة .. ترجم عدداً من الكتب والبحوث إلى اللغة العربية .. وهي : الدولة الاتحادية عام 1959م، وأفريقيا تحت أضواء جديدة، عام 1961م، والعنصر الإنساني في التطور الأفريقي عام 1980م ..
    كما ألف باللغة الإنجليزية : الجذور الفكرية للقومية المصرية عام 1961م، وأعيد طبعة ثلاث مرات، قصص عن سَرَّة شرق عام 1985م، العنصر الديني في اليقظة الجزائرية، نشر ضمن كتاب : بحوث أفريقية نشر عام 1967م، تحية للأستاذ توماس هودجكسن عند تقاعده في الستين من عمره، والعلائق العربية الأوروبية وهو بحث في ندوة الحوار العربي الأوروبي نشر عام 1982م ضمن كتاب باللغة الإنجليزية ..
    ومن كتبه التي كانت معدة للطبع : ولايات النيل المتحدة عن طريق الهيئة المصرية العامة للكتاب، الثقافة الأفريقية المعاصرة، ضمن سلسة عالم المعرفة، عن المجلس الوطني للثقافة والفنون بالكويت ..
    ومن كتبه الهامة : سالي فوحمر 1970م، مطالعات أفريقية 1968م، وجدان أفريقيا عام 1972م، عرب وأفارقة 1977م، المسرحية الأفريقية 1971م، في الدبلوماسية السودانية 1985م، وُمثلت له على خشبة المسرح القومي بأم درمان مسرحية نبته حبيبتي أساسها قصة (شهرزاد من بلدنا) في مجموعة (سالي فوحمر) ومُثلث له مسرحية إذاعية من راديو أم درمان وأساسها قصة (المرة المكاجرة) ومسرحية إذاعية أخرى عن قصة (العروس والخطاب الثلاثة).
    عمل في مجلة (الصبيان) السودانية وهي مجلة شهيرة للأطفال خلال الأعوام (1946 – 1949م) وعمل مع مجموعة من أعلام الثقافة والفكر في السودان وهم : عوض ساتي، بشير محمد سعيد، أبو القاسم بدري، والمستر روبن هودجكن ..
    تحدث جمال محمد أحمد عن أصعب المراحل في حياته أيام كان مراقباً لشؤون الطلبة، وإذ كان عليه التصرف بحكمة، وكانت المرحلة مرحلة مشاركة الطلبة في العمل ضد الإدارة البريطانية .. وكانت أيضاً بداية مرحلة الانتماءات المذهبية بين الطلاب .. يمين، يسار، وسط .. وكان عليه اَّلا يضر الطلبة، وأن يعمل حكمته في الشرح للإدارة البريطانية عن مشاعرهم وطبيعة توجهاتهم الوطنية ..
    بدأت مواهبه الأدبية تظهر منذ وقت مبكر ... وكان يتولى المسؤوليات الأدبية .. قام بتحرير مجلة كلية غردون 1934 – 1935م ... عمل سكرتيراً ثم رئيساً لجمعية الأداب والمناظرة في كلية غردون، في نفس الفترة، تولى رئاسة اتحاد الطلاب بكلية غردون عام 1935م، سكرتير دار الثقافة بالخرطوم 1947 – 1956م، مستشار ثقافي مجلة حوار، مؤتمر حرية الثقافة 1965 – 1969م، عضو هيئة تحرير مجلة التاريخ الأفريقي المعاصر، عضو مؤسس لمركز الدراسات للوحدة العربية عام 1970م عضو هيئة تحرير مكتب النشر بالسودان 1946 – 1949م ..
    أما مسؤولياته العامة فقد كانت : عضو الهيئة الستينية لمؤتمر الخريجين وسكرتير لهذه الهيئة في أول اجتماع لها عام 1936م، سكرتير ثم رئيس جمعية طلاب ما وراء البحار بجامعة اكستر 1943 – 1944م، عضو مجلس إدارة منشورات فرانكلين بنيويورك 1965 – 1967م، عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1980م، أستاذ زائر، مركز دراسات الشرق الأوسط بهارفارد عام 1968م، أستاذ زائر بمعهد الدراسات الأفريقية والأسيوية 1980 – 1983م، ممتحن خارجي لمعهد الدراسات الأفريقية ووحدة التعريب بجامعة الخرطوم 1984م، مدير المعهد الدولي لدراسة اللغة العربية 1979م، مدير دار صحيفة الرأي العام 1970 – 1971، الأمين العام للمجلس القومي للأداب والفنون 1983م، عضو مؤسس للانسايكولوبيديا الإفريقية بأكرا 1962م..
    خلال حياته الحافلة بالعمل والعطاء في صمت، اشترك في الندوات والبحوث الآتية : الإطار الديني للحياة الإفريقية، باللغة بالإنجليزية، الإسلام وآثاره الاجتماعية في أفريقيا عام 1974م، ولايات النيل المتحدة عام 1983م، بالإنجليزية، في التاريخ الثقافي للسودان، ندوة عن أفريقيا عام 1964م، عبرة نكومي ومُقابي لمجلة أفاق، دار المستقبل بالقاهرة عام 1985م، صورة السبعينات في الرواية الإفريقية، بالإنجليزية، قُدم لمؤتمر أمريكا اللاتينية وأفريقيا بالقاهر عام 1980م، صورة الثمانيات في الأدب الإفريقي، نفس المؤتمر وقد عقد في المكسيك عام 1981م بالإنجليزية، مقالات في مجلتي الدوحة والعربي، وقد كان الكاتب بصدد جمع هذه البحوث باللغة الإنجليزية للنشر باللغة العربية، بعنوان: دراسات مختلفة ..
     ما هي قصة هذا الكتاب ؟ جمال محمد أحمد (رسائل وأوراق خاصة) ..
     يقول عثمان :

    (لقد تكونت لجنة أذكر منها بروفسر محمد عمر بشير، وبروفسر عمر محمد عثمان، ودكتور علي عثمان، وأحمد محجوب، لتكريم الأستاذ جمال محمد أحمد بمناسبة بلوغة السبعين .. وطُلب إلى الكثيرين أن يكتب كل منهم فصلاً في كتاب يجمع وينشر في هذه المناسبة .. وعندما طُلب إلىَّ ذلك ضمن آخرين لم أجد أنسب من أن اتناول موضوع رسائله الخاصة ومذكراته المدونة التي لم تنشر .. وعندما عرضت عليه الأمر فرح أيما فرح واقترح علىَّ أن يكون جهدي موضوع كتاب بأكمله لا فصلاً في كتاب .. وبدأ يساعدني أولاً بمنحي كل ملفاته الخاصة كما جمع من أسرته وأصدقائه رسائله إليهم، ووافق على أن أجلس إليه كل جمعة بين العاشرة والنصف صباحاً والواحدة والنصف بعد الظهر أسجل له واسمع منه .. وقد ساعد في الأمر أن مناسبة التكريم تأجلت بعض الوقت، ولم تفلح فكرتنا في أن يُكرم جمال وهو عايش بيننا حتى يستطعم وفاء طلابه وأصدقائه وعارفي جهوده .. فقام كل المجهود في أسبوع تأبينه ووعدت أسرته كما ذكرت في كلمتي بما التزمت به أمام أستاذي قبل وفاته، وكان أمانة في عنقي)

     يقول الطيب صالح في تقديمه لهذه الكتاب، أن أهميته ليست للقارئ السوداني وحده، بل للقارئ العربي عموماً ... فجمال محمد أحمد كان شخصاً (معروفاً مرموقاً في دنيا العرب، فزيادة على أنه عمل سفيراً في عدة أقطار عربية، ثم صار وزيراً لخارجية السودان، فقد كان مفكراً كبيراً، وأديباً صاحب رؤية طريفة وأسلوب لا يشبه أسلوب أحد من الكتاب .. ورغم أنه كان كاتباً مقلاً، فإن المقالات التي كانت تنشر له في المجلات والصحف، والكتب التي صدرت له، كانت تلفت النظر دائماً وتحرك الاهتمام.. وكان حين يكتب في الشؤون الإفريقية أو في الأدب الإنجليزي، أو في علاقات العرب بإفريقيا، يكاد لا يرقى إلى مستواه إلا القليلون ..
    هذا بالإضافة إلى أنه كان شخصاً جذاباً له حضور وأضح، فكان له شأن في الاجتماعات الثقافية والمنتديات الفكرية ..)

     ويرى الطيب صالح أن أهمية هذا الكتاب تنبع من جدته في بابه .. فهو ـ أي الطيب صالح ـ لا يعرف إلا القليل من كتب الرسائل في الأدب العربي المعاصر مثل الكتاب الذي أصدره المرحوم توفيق صائغ، تضمن رسائل جبران المتبادلة، وخاصة مع مارى هاسكل .. وكتاب الأستاذ رجاء النقاش عن الناقد أنور المعدّاوي ... هذا اللون الممتع من الألوان الأدب يكثر في الآداب الإنجليزية والفرنسية، ونادر في الأدب العربي ..
    وميزة جمال محمد أحمد أنه كاتب نشط في الرسائل، تشده برباط وثيق مع أفراد أسرته ومع أصدقائه شرقاً وغرباً ..

     قال عثمان :
    (كانت الرسالة مقالة تعالج شئون الوطن، والشئون الخاصة .. وملكة الكتابة عند جمال بدأت معه وهو يافع يدرس برابعة مدرسين وما قبل ذلك، حيث فاز وقتئذ في مسابقة الإنشاء بالكلية، ونالت القطعة التي كتبها، الجائزة الأولى وكان عنوانها : مؤهلات الزعامة بين العشائر والأمم .. قال ضمن هذه المقالة، التي نشرت بمجلة الفجر فيما بعد :
    (ليست الزعامة مهنة تكتسب بالاحتراف وإنما هي طبيعة متمكنة من النفوس، وقوامها غريزة حب السلطة والقهر، يزيدها المران والتوجه الحسن على مر الأيام قوة ومتانة، ولذا يمكننا أن نقول أن العلوم والفنون والآداب وما منها من سبيل ليست بكافية لأن تخلق الزعيم، وإن كانت هي دعامته ومؤئله حين يعرض لحل المشكلات .. ولست في هذا أبخس العلوم والفنون قدرها، وإنما أريد أن أقول أنها تعيين الزعيم ولا تخلقه، وإلا فكيف تفسر وجود الجيوش الجرارة من العلماء وهذا النفر اليسير من الزعماء)

     عمل عثمان محمد الحسن على تصنيف كتابه عن جمال محمد أحمد إلى : رسائله للأسرة، ورسائله للأصدقاء، ومجهوداته المحلية والإقليمية والدولية، ومساهماته في مؤتمرات السفراء، وأحاديث الجمعة معه، ثم أخيراً خاتمة للكتاب وما أعظمها من خاتمة حزينة حاكية عن رثاء جمال لشقيقه محجوب محمد أحمد، رجل الأعمال المعروف ..
    وفي هذا التنوع في الكتابة يشدك جمال بأسلوبه الساحر وثقافته الثرة وحكمته النورانية التي استقاها من حياة مليئة بالحركة وبالفعل وبالتواضع رغم التفرد .. أنه تواضع من خبر الدنيا وأدرك جوهرها فأبى إلا أن يكون دائماً وطوال حياته في الوضع الذي يستوجبه الموقف .

     مع أسرته، كان صديقاً لأبنائه، يعاملهم كأقرانه، لكن تجد النصيحة والتوجيه والحكمة في ثنايا العبارة الموحية التي لا يملك إلا أن يقبلها المتلقى ..
    ففي رسالته لابنته عايدة (صفحة 49) يقول :
    (كيفك عيوده .. أنا لا أعرف أين انتم الآن، ولذا أرسل جوابي هذا إليك باليد .. وموضوعه هو أن ماما قلقة عليك، قالت أنها تخشى عليك من الزهج في الخرطوم للموقف إياه .. تخشى أن تحتاري في الذي تعمليه .. تزوريهم أولا تزوريهم .. أن ماما تقول أنك لو تُركت وشانك لما زرتهم، ولا حببت لهم الخير.. وتقول أنك تخشين أن يقول عنك الناس جاحدة، وأن يلتفت النسوان للقطيعة فيتكلموا عن الموضوع .. هذا ما قالته لي ماما أمس ليلاً باختصار .. وأريد أن اقترح عليك أن تفعلي الذي يرضيك أنت، أنت فحسب لا غير .. أريد أن اقترح عليك أن تترددي عليهم، أن وجدت ميلاً لذلك، وأن تتركيهم وشأنهم أن كان التردد عليهم يثير غيظاً فيك، أو ذكرى حزينة .. لا تفعلي شيئاً لأن أحداً من الناس كائناً من كان يريد لك أن تفعليه .. أبداً .. يجب اَّلا يظل ما حدث جرحاً في نفسك .. أنا لا أقول كما تقول ماما، أنسي كل شيء، فهذا مستحيل .. ولكني أقول يجب أن تفكري في الزيارات العادية المرحة كنفسك الحلوة ومزاجك الحلو، وانتظري ما يكون من آمرها، كما يجب اَّلا تتدخلي في سلوك مصطفى، فهو حر فيما يفعل .. فعنده عمل طيب، وسلوك رجل، ربما أعان كثيراً .. لا تتدخلي في شئون مصطفى، فهو يعمل دون اتفاق معنا، كما أعمل أنا، وسيساعده هذا، ودورك أنت غير دورنا في هذه اللعبة الطريفة .. أقبلي علي البلد بنفسك الراضية، ولا تجعلي هذا يغمك ـ فأهلك كما تعلمين كثيرون، وكلهم كما تعلمين يتحرق شوقاً ليقرب منك، وأرجو مخلصاً أن تكون ماما مخطئة في زعمها أن هذا هو همك الوحيد في البلد .. عيشي كما أنت لنفسك وزوجك وطفلك حرة من قيود الحمق .. واذكري أبداً أني بجنبك..)
    تلك كانت رسالته لابنته عائدة والتي يدللها بلفظ (عيوده) وهذه عادته عند مخاطبة أبنائه .. عدولى، عروفى، عطوفى .. والملاحظ أن جميع أولاده وبناته يبدأ أسم كل منهم بحرف (العين)..
    ففي رسالته تلك لأبنته عايدة تجد لفظه بسيطاً كأنما يتحدث إليها وهي تجلس أمامه .. مَزْجُُ بلا افتعال للعامية السودانية مع لغة العرب في انسياب رقراق .. لعله كان مهموماً بأمر أسرى، ابنته عائدة جزء كبير منه، بل ربما هي محوره .. ويرغب في أن تسلك سلوكاً محدداً لكنه لم يقله لها مباشرة، ولا بأي صيغة من أب يأمر .. إنما جاء به بأسلوب يتأكد معه المرء أن عايدة لن تفعل إلا الموقف الذي اقترحه لها أبوها، وبهذه الطريقة الديمقراطية في التربية .. (أريد أن أقترح عليك أن تترددي عليهم، أن وجدت ميلاً لذلك، وأن تتركيهم وشأنهم أن كان التردد عليهم يثير غيظاً فيك، أو ذكرى حزينة)
    لاحظ الرغبة في أن تزور أبنته ما هم بصدده، ولكن هذه الرغبة جاءت مربوطة في سياق اختياري (أن وجدت ميلاً لذلك) دون أن يفرض عليها ما يراه هو الصواب .. وهذه ملكة في الكتابة لا تأتي إلا من مقتدر .. وهذا ليس بغريب علي جمال المربى الدبلوماسي والمفكر الذي يتراوح بين المواقف رغم تناقضاتها ..
    وفي وضع آخر يحذرها من خطر المقاطعة، لكنه لم يقل ذلك مطلقاً وإنما وظف دبلوماسيته بطريقة لا تشعر معها أبنته أنها فاقدة للحرية وللإرادة ..(أرجو مخلصاً أن تكون ماما مخطئة في زعمها أن هذا هو همك الوحيد في البلد .. عيشي كما أنت لنفسك وزوجك وطفلك حرة من قيود الحمق) والحماقة لن تكون في الوصل وأنما في المقاطعة ..

     وفي رسالته لأبنائه وهو يجمعهم في رسالة واحدة تجده قمة في البلاغة والمنطق، عندما تنكرت له السلطة وجحدت فضله ..
    عيوده (عايده)
    عدولى (عادل)
    عروفى (عارف)
    عطوفى (عاطف)
    السودانيون يدلعون أبناءهم بهذه الطريقة في لفظ الأسماء وهي كما أظن طريقة خاصة بهم في المنطقة العربية ..
    يقول الأستاذ جمال (صفحة 33 – 41) لأبنائه :
    (أكتب لكم معاً، لا بخلاً بوقتي، أعلق على رسائلكم، لكل وحده، لكني أفعل هذا لتعرفوا كيف استجاب كل منكم لأزمتي، ولتشركوني هنائي بأن كلاً منا رأى الأزمة على نحو ... ساسعى هنا لأنقل لكم ما استطيع نقله من أساليبكم العدة، ولتتعارفوا أكثر، لا لتكونوا أشباه الناس، أكثر الناس، بل تكونوا نظائر، كما انتم، لكل ذاته، ولكل عينه، ولي ذاتي وعيني .. واحدة من جمائل ربي عليكم وعلىَّ أنا، أننا لسنا صوراً متكررة في بيتنا .. نحن نساء ورجال نتراحم، نعم، ولكنا لسنا فكرة واحدة، أو عاطفة واحدة .. فكر عدة، وعواطف عدة .. لن يجدنا أحد ببغاوات ممله .. والآن ،
    عيوده، عَنيتْ بعافيتي حين هتفت تسأل، وألحت علىَّ اَّلا أدع هموم ذهني تخضع جسدي فترهقه .. وتحدث أمها، تحثها على رعاية عافيتي... تلك في زعمي استحابة أنثى تامة الأنوثة .. الأنثى قاصرة لأنوثة، يكفيها أن يكون هناك رجل .. ما هكذا أشباه عيوده .. يعنيهن أن يكون الرجل غلاباً قهاراً ............................................................................
    ..............................................................................................
    عدولى، كتب رسالة من خير ما كتب لي .. وعرفت أول مرة أن الأزمات تشحذ ذهنه فيتقد .. تصدى لما أصابني من نكر، وقال أني أعيش في (نفق) نهاية، يرى الواحد بعدها ضوء النهار كاملاً، أو مصابيح المساء ما تعتمها صفرة عليلة .. لذني أن يرى عادل الأزمة على هذا النحو وأن يعبر عنها باقتدار .. والتعبير عن الذات عندي أنا، أُفعَّل أدوات النابهين من الرجال .. ثم مشى مع منطقة هذا ودعاني إلى ((القتال)) .. وسأفعل .. ما كانت الحياة العامة رياحين أي زمان مضى، ولن تكون الآن ولا في الزمان القابل .. وسار أكثر القادرين على أجساد العاجزين، إن وقفتْ على سبيلهم تلكم الأجساد، ولكن سأقاتل على نحوي أنا، لا على النحو الذي أخاله في باله .. سأحاوره في فهمي لقتالي، وفهمه لقتاله .. وأنا أن نهجت النهج الذي في باله، انتهيت بنفسي لواحد من أمرين : إن أصبت النجاح في ((القتال)) على نحوه، أضحيت واحداً غيرى .. وأن أخفقت سأفقد صورتي في ذهن أهلي .. كلاهما بغير صورتي .. النجاح والإخفاق .. سأقاتل على نهجي .. وسائلني ما هو ذاك ؟ التفوق الفكري على كل من حولي .. يفرح الأكثرون لأن واحداً منهم أقترب من القمم، وييأس الأقلون، لأنهم لا يملكون أدوات التفوق الفكري .. سأظل ياعدولى ذلك" المستوحش " الذي أشرت إليه .. لا عون، لا رفاق .. لكني سائر، أسعد الأكثرين، وأغيظ الأقلين .. أتذكُر ياعدولى بيفردج وكينز اللذين غيرا وجه بريطانيا، ولحد بعيد وجه العالم..........................................................................................
    ..............................................................................................
    استميح عذراً عروفي .. لم أقصد إلى (جورنال) كما تسخر من بعض ما أكتب لك .. أنها ذاتي .. أرى في الرواية التاريخ والفكر والاتجاه، ولا استطيع أن أقاوم .. كان حديث عدولى رشداً كله .. دمه دافق الحيوية .. ذكرت دمى، وأنا أقرأه يحثني على القتال .. كان هذا منذ قريب من ربع قرن .. وكنت وكاترين في الامبيريال، اكستر، وكانت كاترين لحلاوة حديثها، وصباحة وجهها، وطيب ميلادها، من أشهى الصبايا في الجامعة، وكان يَسارُنا لا يريح كثيرين، يروننا في الامبيريال، لا يتردد عليه غير وجهاء المدينة ..................................................
    .............................................................................................
    أما حديثك فقد كان الوجه الآخر من حديث عيوده .. كان ـ كما قلت ـ حديث أنثى مكتملة الأنوثة .. وحديثك حديث فحل مكتمل الفحولة .. استجابت بقلب، واستجبت بعقل وعاطفة .. وقفت وقفات عالم، عند الذي فعلت بحياتي حتى الآن .. وما رأيت في أبيك " البطل " كما يفعل عامة الأبناء .. وقفت عنده ترفع له قبعتك، وتحنق على الذين يقفون سبيلي .. هكذا يفعل خاصة الأبناء .. رأيت في رسالتك تلك القربي بين عقلك وعاطفتك التي الفتها طول عشرتنا .. رأيت لهيب غضبك، في دعوتك اياى أن أجيئ دارى، أفرغ لواحدة من أمهات شهواتي، أقصد الكتابة، وتتولوا الأمر عنى .. أنت حين ترى النُكر، تنفر نفوراً لاهباً .. وتلك حيرتي معك .. أريدك لتذكر خصوماتنا أنت وأنا... تروح أيامي، وأنا أسعد لاعيد ودنا، وأنت عازف .. استجبت على نحوك بأسلوبك .. تعمل كل الذي تستطيع من أجل الناس .. وتعطى ذاتك كلها، لا تبقى باقية .. شاهدى على هذا تعلق سَرَّه شرق بك .. تعلق بأبكر عوض الله بك ..
    لكن، ياصديقي، دعني أضع أمامك استجابتي أنا أيضاً .. فأنا أيضاً بأسلوبي، كما انتم بأساليبكم .. ولن أفقر من ترديد هذا، لأنها نسمة تنعش، أن يكون كل واحد منا دنيا بذاته .. بيننا دنياوات ملأى .. أنا غاضب مثلك مجروح، لأني استحق أكثر من هذا.. كنت واحداً فرداً ممن احتضنوا التغيير ودعوا له وغيري يرقب يريد ليعرف.. وقفت جنب الشباب الذي جاء بالتغيير .. وما كنت أعرف واحداً منهم أنذاك .. وما كان سهلاً أن أفعل ذلك .. فبيني وبين الذين أخرجهم التغيير من المنظر السياسي، صلات عاطفية.. وبيني وبين القلة منهم، (المرضى) مثلا، صلات سياسية .. وكان قد راح مولاى ذاك، ألماً وحسرة على الذي صنع بعض رفاقه بالاستقلال، الذي أنذر له حياته .. وقفت مع التغيير .. ما ارتقبت كما فعل الأكثرون .. ثم لفظتنى ثورتي التي رعيتها بعد شهور .. ودعتني بعد شهور لاعمل في الصحافة .. فجئتها لا أحمل غلاً، ولا أحس مرارة .. ما أخذت على الشباب شيئاً، لأني كنت أقول للمعاتبين أياى، حقيقة ما أحس : الشباب لم يفتح النوافذ والأبواب، إلا لنستنشق الهواء الذكي .. أن رأوا أن يعملوا بمنأى عنا نحن الذين عشنا قبلهم، ذاك حقهم، أن رأوا أن يشركونا، ذاك طيب .. وعملت في الصحافة على النحو الذي تعرف .. أجيئ داري بعد منتصف الليل ..
    هذا حق كله، وأنت أوجزته .. غاب عنك شيء لأني أعرفه ولم أقله لكم بكلمات .. قاله لي منصور غداة إخراجي من الصحافة .أكاد أذكر كلماته ((أنت تحسب أن العمل يكفي)) أنا ملوم لحد .. حتى بعد نصح منصور هذا انصرفت للعمل، ما اعتيطت إلا القليل القليل من وقتي، لدهاليز السياسية .. ما جمعت حولي فئة من الناس تحرسني من عواطف هذه الأزمان .. لا ولا انتميت لفئة قائمة من قبل، استظل بها، حين يجيء اللهيب .......................................
    .................................................................................................
    الآن وقد كان ما كان، اعتب على نفسي، وأردد .. أكان جديراً بي إن أقضي بعض وقت مع السائرين بالليل، بضاعتهم ذكاء غريزة البقاء ؟ ............................................. كيف ينبغي لي أن أحس، وأنا مرة ثالثة ملقى عرض الطريق، لا أعرف ما حقيقة أمري أمر الرجال الجدد، أيريدون عوني ؟ اَّلا يريدونه ؟ أم يارب يريدونه، ولا يقبلون إرادتهم هذه ؟ مادة لرواية تثير الذهن والعاطفة .....................................................................
    .................................................................................................
    عيوده : أنا بعافية ..
    عدولى : سأقاتل بأسلوبي .
    عروفى : لن أعود داري بعد ..

    وفي أحدى رسائله لأسرته جاءت في صفحة (72) يقول فيها: (أيها الأعزاء .............. نحن بخير .. تغيير واحد وقع .. لم تعد لي حياة خاصة فالعمل يستغرق النهار والمساء، كليهما، خشية أن يقول العمال شيئاً، أصوم رغم الاعتدال .. أقضي كثيراً من الوقت في النعاس، وأعمل بالليل .. أسعد ذلك ماما كثيراً .. أرجو أن تحملي هذا لعلوية، كي تجلسا تثنيان علىَّ . ثناؤكما لذيذ، أتخليه، لكن ثمنه عالٍ، العمل يستهويني كثيراً، لكن الذي يدور حول الواحد لا يسلى، لأن أكثر الذي يدور صدام أشخاص، أخشى عليه أن يكون غير مجد لأحد .. فالسياسة ليست حركات جسدية فقط، وزعيقاً يشبه النعيق، وقد دخلنا أمس مرحلة سفسطة حين أُعفى الشبان الثلاثة من المجلس، ولا يعرف الواحد ِلمَ وقفوا هذه الوقفة اليابسة ضد اتحاد لم يقم .. ما أدري أن كنتم قرأتم مقالي .. كتبته قبل أن يتحدث جعفر عن الذي حصل .. يبدو لي أنهم لم يكونوا متتبعين أو أن هناك شيئاً آخر كان في ذهنهم، وحوروه إلى رفض الاتحاد الذي لم يقم في الواقع .. أن أصدقاءك اليساريين يساريون شرقيون، يغرقون أنفسهم في طوفان الكلام .. الشاهد، لا أريد أن أكتب لكم مقالة، لكني أفكر معكم بصوت عال، وأجد بعض الصعوبات الشخصية، وتعجب أنها تجيء من عمر الحاج موسى .. لا أظنه يريد لي المصاعب، لكنه يشفق أكثر مما ينبغي، يحدثني كل يوم وأخر، يقول لي الرئيس يريد هذا، ويريد ذاك، ولا أجد شاهداً على هذا، وبيننا شيء يشبه الخشونة .. وأنا لم أر الرئيس إلا مرة عابرة في مكتبة، وأقحم هذه الحاجات الصغيرة، لكني لم أدعه يفعل، فأنا أعرف منه مائة مرة بالأسلوب الذي يجب أن يتبع ..
    أنا لا احتاج لنصحه عن عبد الرحمن أحمد، وعمر مصطفى المكي، إذ أن هناك خلطاً بين التأميم والتكميم ......)
    مثل هذه الرسائل الخاصة كانت تكشف بعمق ما يدور في الساحة السودانية السياسية قبل انقلاب يونيو1971م، بل وبعده .. وكل عمل السياسة فيما يبدو من هذه السطور الخاصة ارتجال في ارتجال .. وتلعب الأمور الشخصية دوراً أساسياً دون مراعاة لمصلحة البلاد العليا .. فلا غرو أن يتدهور السودان ولا يدفعه بنوه إلى الأمام ..

     لقد كان جمال محمد أحمد شاهداً على عصره .. يصف الأوضاع في رسائله الخاصة وفي رسائله العامة، وبعضها وصل درجة الاستقالة من الوظيفة العامة ..
    ففي رسالة إلى السيد رئيس مجلس السيادة السوداني بتاريخ 30/8/1968م (صفحة 107 وما بعدها) جاء الآتي :
    سيدي الرئيس
    تحدثت مرات للسيد رئيس الوزراء عن أسلوب السيد نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في إدارة شئون الوزارة، ورسم سياستها الخارجية .. وحثني سيادته على الجهد في وضع الحقائق أمام السيد الوزير، كي يقيمَّ الأمور تقييماً واقعياً، وينصح مجلس الوزراء على ضوء ما يعرف من حقائق ثابتة .. وعرضت عليه ونحن في الجزائر التقارير التي أعدها له احد الموظفين في الوزارة عن السفراء ورؤساء البعثات، وأشار علىَّ سيادته اَّلا ألجأ للمحاكم، خشية أن يعرف الناس ما كتب هذا الموظف من كلام جارح عن بعض سفرائنا في الخارج ورؤساء البعثات، وعن رئيس الوزراء نفسه .. وقبلت رأي السيد رئيس الوزراء أملاً في أن يتعرف السيد الوزير على مرءوسيه في الوزارة فيدرك وحدة خلال ما قرأ عن مرءوسيه، ولكنه لم يفعل .
    يئست من أن يجهد السيد الوزير نفسه، ليعرف شيئاً عن تقاليد هذه الوزارة الإدارية، كما يئست في أن أجد نقطة التقاء بينه وبيني في رسم سياسة السودان الخارجية .. وهممت بالكتابة للسيد رئيس الوزراء لكنه ـ عفاه ربنا وشفاه أمين ـ غير قادر الآن على النظر في الأمر .. والسيد وزير الخارجية سيكون قائماً مقامه .. وليس من المنطق أن أكتب إليه أصف له الأذى الذي أحاق بهذه الوزارة وهذا البلد منذ توليه قيادة سياستنا الخارجية .. ولو كنت أثق في أن سيادته سيعرض الأمر على مجلس الوزراء ليرى رأيه فيه، لفعلت .. لكني عرفت من تجربة هذه الشهور أنه ليس ذاك النموذج من الرجال..)

     ويواصل الأستاذ جمال محمد أحمد في هذه الرسالة الفريدة الشجاعة يُفند مخالفات هذا الوزير الإدارية والسياسية .. ومن الطريف أنه في نقده الوزير في الشؤون السياسية تعرض لخطابه في دورة الأمم المتحدة،وقد أعد هذا الوزير قسطاً كبيراً من هذا الخطاب دون الاستعانة بأعوانه .. فأعاد في خطابه هذا أمام الأمم المتحدة لأذهان السامعين تلك الخطب التي كان يلقيها بعض الساسه العرب قبل أعوام .. وسخر منه أباايبان وزير الخارجية إسرائيل وقال (أن وزير خارجية السودان يحسب أن إسرائيل معرض انتهى أوانه، وينبغي عليه أن ينفض) أما الولايات المتحدة فلم (تعلق عن عنف الخطاب لأنها من الذي قال بعض أعضاء وفدها في الأمم المتحدة لا يمثل الرأي العام السوداني. هذا صخب ما ألفناه في السودانيين .. هكذا قال مندوبو الولايات المتحدة لزملائهم، ورفضوا حتى مجرد التعليق على الخطاب.)
    ومؤتمرات وزير الخارجية لم تفد علائق السودان الدولية في شيء بل أثارت الفتنة .. ومن أطرفها وقوعه في مشاكل (لفظية) إذ كان يتحدث عن (فشلا) وهو يقصد (الفشقة) ويعلن على الملأ أننا لا نملك الوثيقة التي تخول لنا الحق في الأرض موضع النزاع .. ومثل هذه الأغلاط اللفظية قادت إلى مشاكل مع أثيوبيا .. وأحرج السفير الصومالي في واشنطن حين جاء هنا وأعلن أن الولايات المتحدة طلبت إعادة العلاقات الدبلوماسية مع السودان، وقد رفض سيادته ذلك، ولم يقع شيء من هذا .. فقد كان السفير يتحدث إليه كصديق .. ويقول الأستاذ جمال في رسالته تلك متسائلاً (ما هي الحكمة في تصريح كهذا، مشكوك السند، لا يخدم أي غرض، إلا شهوة الخصام).

     وظل الأستاذ جمال يناضل ضد سلوك هذا الوزير الذي لا يرعى نظم ولا قواعد ولا قوانين ولا أسس معرفية غير منطلقاته الذاتية، وأبعادها الحزبية الضيقة، إلى أن قدم استقالته من منصبة كوكيل لوزارة الخارجية السودانية ..

     أن مشكلة ترحيل أهل حلفا في عام 1960م من القرن الماضي نتيجة لبناء السد العالي أخذت حيزاً كبيراً من اهتمامه ..وقد أسهم برسائله لأصحاب القرار في تحليل الأوضاع وإيجاد الحلول، وتعريف المسؤولين برأي الأهالي ورغباتهم .. وترطيب الأجواء حتى لا يحدث التصادم .. وقد شغل هذا الجانب حيزاً من الكتاب في الصفحات (125 – 14 لا يسمح هذا العرض بالتعرض لها رغم أهميتها وجمال الأسلوب الذي جاء مبيناً وآثراً .. حرص على المساهمة في حل المشكل رغم أنه كان بعيداً يعمل سفيراً للسودان في أثيوبيا ..

     وفي جانب رسائله لأصدقائه يقول عثمان محمد الحسن في كتابه هذا عنه، أن لجمال ملكة في الوصف وقدرة على تصوير الشخصيات التي تترك عنده إنطباعاً .. وهي مقدرة تفوق الوصف الظاهر لحركات الجسم إلى وصف دخائل الشخصية ..
    وقال عثمان (وكان يقول أيضاً في واحدة من كبسولاته الوصفية أن زوجته التي رافقت مشوار حياته الخصيب، كانت تعتبره أسعد الناس بشقاء السهر، وهو يكتب ويقرأ الليل بطوله .. وهي كما يقول تذكار دائم له بسَّرَة شرق التي يصف أهلها بما فيهم زوجته، بأنهم من مادة السكون .. والكبير عندهم هو الجمل .. وبنفس المهارة في الوصف وفي التعبير وصف والدته ووصف شقيقه محجوب ..)
    ويواصل عثمان رابطاً بين الدكتور التجاني الماحى وجمال محمد أحمد فقال في صفحة (80) في آخرها وأول صفحة (81) ..
    (عندما زارت ملكة بريطانيا السودان خلال سنى ثورة اكتوبر، وقال لي صديقي أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الخرطوم المستر ديك يوبين، أن زيارة الملكة خلال شهور الثورة رغم أن الرئيس عبود الذي وجه لها الدعوة قد انتهى عهده، هذه الزيارة، زيارة للشعب السوداني رغم احتمالات المخاطر والمحاذر الكثيرة .. كان لحسن حظ السودان أن مرافقها كان الطبيب العلامة التجاني الماحى الذي صادفت دورة رئاسته لمجلس السيادة أيام الزيارة، فبهر الملكة بعلمه وبلطفه وبإلمامه الشامل بكل شيء بما في ذلك تاريخ بريطانيا، وعهودها الماضية الزاهرة، وثقافاتها .. عند مغادرتها تسلم سكرتيرها في المطار خطاباً رقيقاً إلى الدكتور التجاني، وأتى يحمله لدار الثقافة بعد قيام الطائرة .. في آخر جملة في تلك الرسالة تقول جلالة الملكة، أنها تعلمت بمعرفته ومن معرفته الكثير lt has been an education knowing you .. وتلك العبارة التي مازالت منحوتة في مخيلتي تذكرني دائماً بجمال محمد أحمد .. فقد تعلمت من معرفته الكثير ..)

     جاء في الكتاب عدة رسائل من جمال لأصدقائه ولكني أثرت أن اختار رسالته لصديقه الدكتور أحمد الطيب أرسلها له عندما كان سفيراً للسودان في اثيوبيا .. وتاريخها 14/2/1960م .. كتب :
    (أخي أحمد، لك الحب والتحيات وبعد ..
    أكثر من سبب للكتابة إليك .. صباح اليوم قرأت كلامك الُمفقَّط، عن الحب والتربية .. ورغم جنوحك فيه لخطاب الناس، كل الناس، بَرَقتْ واحدة من تكلم البوارق التي لا تكون إلا للملمين " الفكر وليد العاطفة " .. ما أصدق هذا الذي تقول، ومنذ أسبوع جاءتني نسخه من " الاتحادي "، وقد فرغ الناس من طبعها الآن .. وفوق هذا، وقبل كل هذا، أنا مشوق إليك .. سعدت للذي سمعته من أنبائك القليلة في الخرطوم، وأنا لا أعرف رجلاً أحن على بخت الرضا منك .. رعاها الأوائل وفق أضوائهم، وجاء بعدهم الرجل الكريم كبير النفس عثمان، فابطأ عليها بسواعده، وعقله الواضح، وسترعاها أنت بحساسيتك وقلبك الذي ـ ما شاء الله ـ ما عرف التواضع، ولا خضع له .. وبخت الرضا تحتاج لآفاقك البعيدة، بعد أن حرسها عثمان بواقعيته القريبة، دانية القطوف ..
    أخي، كيف أنت ؟ تعال أضمك .. فالذي بيننا ـ فيما أقدر أنا ـ يدق دائماً على اللفظ .. أرانا أقدر على التعبير عن هذا النفيس الذي بيننا نجلس نكتب، وأعجز ما نكون حين نجلس نتحدث .. وما أدري، أي مكر هذا، وأي خبت من عقولنا هذه التي تعبت بنا أكثر الأحايين، وتسخر منا كل حين .. وأقول هذا لأني شرعت في قصة أعرف معالمها كما أعرف باطن يدي، ولكني عاجز أكبر العجز عن المشي أمام ............)

    ويمضي الأستاذ جمال في كتابه الرسالة لصديقه دكتور أحمد الطيب وبعد أن وضح عجزه في المضي في كتابة القصة التي هو بصددها قال :
    (وقرأت كثيراً منذ جلست، ثم شرعت في الكتابة إليك .. وها قلمي يسير .. يسير وحده على الورق .. أكاد أجزم أن للوحشة دخلاً في هذا .. وأن للغربة يداً طويلة .. بغداد ما كانت كذلك، ولا بيروت .. كنت أطوف الليل إلا أقله في أعمالي أحياناً، وفي مباذلي أحياناً أخرى، وأجدني قادراً على شيء .. أما هنا ..
    على أن وازعاً آخر كان يدفعني منذ ألفت أن أكتب، وما أدري أي مقدار منه وهم، وأي مقدار منه حق : لم يبق ما نعمله بحيواتنا بعد، لقد مضى خيرها فيما أحسب، حين أُنتزع الحبُ من قلبنا انتزاعاً .. عادت بعد خضرة الحب ونضرته، حياتنا صحراء، لا مذاق لخير فيها، لا طعم لشيء، كل شيء يستوي الآن، وقد خلا القلب إلا من نبضه الذي يبقى الحياة فينا، كما يبقيها في غيرنا من الناس الذي لم تعصف بهم عواطف الحب .. ولم تر قلوبهم وعقولهم وجوارحهم نوازع الإقدام والإحجام وعذاب التردد، وحلاوة اليقين .. أقول استوينا مع الناس منذ هوت من تحتنا أرض الحب، أرض المعركة .. كنا ذلك الحين في موضع نختار فيه .. كان أمامنا الحب نختاره إن شئنا، أمامنا لذة التعبير، واخترنا الحب لأننا كنا نستطيعه ، ولأن عناصره كانت في يدنا، ولأننا، في سذاجتنا الجميلة، كنا لا نؤمن بشيء إيماننا به .. أما الآن فلم يعد ذلك الاختيار، بيننا وبين الحب سنين من العمر .. ولو كان هذا وحده لكان هماً واحداً فحسب، ولكن ظروف حياتنا باعدت بيننا وبين مصادر الإلهام مباعدة لئيمة ماكرة ..
    ما بقى أذن ما نلذ له إلا التعبير عن أنفسنا على نحو من الإنحاء .. لقد نعمت بترجمة الاتحادي، وسترى حين تملك منه نسخة أني عملت للمقدمة عملاً سترضاه .. وكنت في حين الوقت ـ في بغداد وبيروت ـ أختاره ـ أطروحة ما يصلح كتاباً، وأنا سعيد بهذا الاختيار، وسترى أن التذييل الذي كتبته يعبق بالسعادة التي وجدتها حين كنت أقرأ لأكتب التذييل .. ما أدري متى تخرجه ساتام هاوس، ولكنها قبلت أن تنشره هذا الربيع وأدع لي .. شجعني على المضي في قصتي التي تتلكأ بين يدي، ثم أشرع أنت ـ وحقي عليك ـ في كتابة شيء .. زعموا لنا أن الحب يلهم، وما نحن نرى، تجربة غير ما جربه الناس .. الحب يفرق، ولا يجمع !!
    فتحيا غيرها من الكائنات ـ مات واستطعنا أن نكتب .. أرجو أن يصلك الاتحادي قريباً لتكتب عنه في الأيام، تستقبل أخاك الجديد، أخاك الذي قد مات ..
    وأكتب إلىَّ، وأن سطراً، من حين لحين ..)

     لقد اخترت هذه الرسالة لأن جمالاً يتحدث فيها عن الحب .. هي تجربة لها جذور عميقة في وجدان الأستاذ جمال محمد أحمد رحمه الله .. كما أنني أظن أن لهذه التجربة ذات الأثر العميق في حياة الدكتور أحمد الطيب غشيته الرحمة .. لأن جمالاً في رسالته قارن بين لذة الحب ولذة الكتابة، وكان الحديث مجرداً، لأنه يعلم يقيناً أن دكتور أحمد الطيب يعلم مرامية من الإشارة والإيحاء دون حاجة إلى صريح العبارة .. مؤكد أن صديقه الدكتور أحمد الطيب يعلم أنه يتحدث عن حبه العميق لكاترين ولعله عاش تجربتها معه عندما كانا طلاب علم في المملكة المتحدة .. ونحن عرفنا هذا الحب من خلال رسائله لأسرته، كان جرئياً وصادقاً ومربياً حيال أبنائه .. فَعرَف الأبناء من خلال تربية والدهم لهم، وهو يتحدث عن تجربة حبه الأول في ريعان شبابه، أن الحب ليس عيباً ولا حراماً .. فهو عاطفة إنسانية عظيمة، لا يستقيم الكون إلا بها، ابتداءً من حب الله سحبانه وتعالي ونزولاً إلى الحب البشري بكل ألوانه وأطيافه ..
    نحن نعلم أن الدكتور أحمد الطيب تزوج أجنبية ـ انجليزية في الغالب ـ أما جمال محمد أحمد فلم يكن في شجاعته وجرأته، إذ عاد إلى أهله ليتزوج من سَرَّه شرق، إبنة عمه .. عاش جمال حياة أسرية هادئة وسعيدة كما توضح رسائله لأسرته، وعاش دكتور أحمد الطيب حياة غير ذلك انتهت بمأساة حزينة .. وفقد السودان علماً من أبنائه، كان لا يزال لديه الكثير من العطاء ليقدمه .. وكان الدكتور أحمد الطيب كما يقول الأستاذ الطيب صالح في مقدمته (من نوابغ السودانيين، وكان من الأوائل الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه، من جامعة لندن)

     لقد اختصرت كثيراً من العناوين الرئيسية التي جاءت في هذا الكتاب الذي يتناول أدب الرسائل .. وهو أدب جميل ونادر في العربية، وذلك لأن طبيعة هذا العرض وهذا التلخيص لا تحتمل أكثر من ذلك فيما أحسب، وأن كنت أظن أن حديثي هذا قد طال .. كان اختياري صعباً في هذا البحر الزاخر بالأصداف العربية الحرة والمتنوعة .. ولكن عزائي أنها جميعاً ذات بدائع وكنوز، وجميعها (واسطة عقد) ..
    توفى جمال محمد أحمد رحمه الله صدفة في أربعينية شقيقة محجوب .. وكان محجوب أصغر منه سناً .. وقد رثاه بمرثية هي عندي أعظم من مرثية إبن الرومي لإبنه .. ورغم أن الأخ ليس كالابن، ورغم أن المقارنة التي وضعتها جاءت بين شاعر فحل من فحول شعراء العرب، وبين كاتب معاصر جرب كل فنون الأدب : من سرد ، ونقد، ومقال ورسائل، وأدب صحافة، وحتى مذكراته وهو مسؤول في الدولة كانت مختلفة عن رسائل الدواوين العادية، وألف الكتب، وترجم، وشارك في مؤتمرات محلية وإقليمية ودولية، أقول، رغم كل ذلك إلا أنه لم يكتب القصيدة ولم يحاولها .. ولكن كتاباته في كل ما ذكرت جاءت مليئة بالشعر .. وأقول ـ أيضاً ـ رغم هذه الفوارق وغيرها وعلى رأسها أن مرثية أبن الرومي لأبنه محمد قد وضعت على رأس أدب الرثاء في الأدب العربي، ورغم شهرة إبن الرومي، وعدم شهرة جمال محمد أحمد حتى عند السودانيين ناهيك عن جمهرة العرب، حتى أن كاتباً عملاقاً مثل الأستاذ محجوب عمر باشرى الذي أصدر كتاباً عن (رواد الفكر السوداني) لم يتناول فيه جمال محمد أحمد رغم أن جمالاً رجل مثقف وعاصر الحركة الوطنية في نادي الخريجين وتولى منصب السكرتير، ورغم انه من عهد المعرفة الشاملة، وهي إحدى المقومات الأساسية التي وضعها الأستاذ محجوب عمر باشري لاختيار الرواد، وقد وصف الأستاذ الطيب صالح، شمولية جمال محمد أحمد إذ قال عنه في مقدمته للكتاب (أن هذا رجل من طراز رجال " عصر النهضة " كما يقول الإنجليز، رجل شمولي المدارك، لا يبعد موضوع عن مدار اهتمامه)، أقول ـ رابعة ـ رغم كل هذا الذي ذكرت، إلا أن مرثية جمال محمد أحمد لأخيه محجوب هي عندي أعظم من مرثية أبن رومي لأنبه ..
    فإن كانت قصيدة أبن الرومي شعراً خالصاً وفق النظم التقليدي الذي عرفه العرب، وهو الأساس لكل شاعر ولكل من يدرس الشعر، إلا أن مرثية جمال محمد أحمد جاءت شعراً منثوراً بلغ فيه قمة بلاغة الحزن النبيل الوقور، وكأنما كان يحدس في رثاء نفسه.. مات قبل أن يقول هذه القصيدة النثرية في أربعينية شقيقه ..
    يبدأ جمال رثاء أخيه بعبارة صادمة تهز الكيان وتشحذ العقل والوجدان، وتثير اهتمام القارئ، بأنه مقبل على أمر جلل ..
    لم يخاطب عينيه ابتداءً كما فعل إبن الرومي، وهي بداية عادية تغيب عنها وفيها الدهشة الصادمة .. خاصة وأن الرثاء في أغلبه ذكر لمآثر الفقيد .. يقوم إبن الرومي :
    بكاؤكما يُشفى وإن كان لا يجُدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي ..
    ولكن جمالاً يقول مبتدراً رثاءه لمحجوب، وقد جاء في الكتاب صفحة (205) وما بعدها :
    (ما كنت مفتوناً بشقيقي محجوب أخريات عمرنا معاً .. توقعوا مني إذن، أصدق كلام عنه وقد رحل .. حديث القريب عن القريب البعيد عبرة وثمرة .. فيه حديث العاطفة، والعاطفة لا تنمو كالعقل، تخضر برفقة أو زمان ...)
    لا أريد أن أفسد عليكم بتعليقي، هذا اللون الجديد الجميل من الرثاء، فأترككم مع هذه (الماستربيس) التي يكون فيها جمال كأجمل ما يكون، ولكن ليس قبل أن أترحم عليه وعلى شقيقه محجوب .. وليس قبل أن أدعو للصديقين : عثمان محمد الحسن، والطيب صالح بطول العمر وطيب المقام .. فالأول صديق عايشته شخصياً، رئيساً وزميلاً وصديقاً، بيد أني لم أعرفه كاتباً فذأ كما أراه اليوم .. وهذا لقصور مني .. والثاني صديق عايشته من خلال الفكر والأدب .. عرفته كاتباً في حجم الوطن، بل في حجم الدنيا بما فيها من كل شيء جميل .. ولم أعرفه شخصياً، وقد تمنيت ـ ولا يرجع هذا لقصور مني، وإنما أمر ذلك يعود للظروف، وأن كنت قد سعيت يوماً لمعرفته عبر التلفون وعبر رسالة طويلة .. وهذا عزائي، وهو حجتي ..
    وبعد .... قارئي العزيز،
    لك جمال في هذه المرثية، وقد أبت نفسي إلا أن اكتب هذا العرض وهذا التلخيص الذي لم يأت بجديد عما ورد في الكتاب، وإنما هي (شهوة الكتابة) كما يقول جمال رحمه الله ..
    (((ما كنت مفتوناً بشقيقي محجوب أخريات عمرنا معاً .. توقعوا مني إذن، أصدق كلام عنه وقد رحل .. حديث القريب عن القريب البعيد عبرة وثمرة .. فيه حديث العاطفة، والعاطفة لا تنمو كالعقل، تخضر برفقة أو زمان .. تجيء دنياك معك .. ما حيلتك في بعضك ؟ وفيه حديث الرؤية، ذوو البصيرة لا تخفى عليهم صفات رجل كمحجوب، مكوناته، مقوماته ..
    أولى تكل الصفات أنه كان يأبى أن يكون الثاني .. ما قنع أن يكون الأول .. كان يعرف مرماه في حياته وعاش لذلك المرمى حتى بلغه .. استنفذ العمر قبل أوانه، استغفر الله، لكن راح راضياً، أكبر الظن ..
    هذه كبرى خلاله العدة حجبتها عنا حيويته كما فعلت بنا وبموته ما طاف بذهن واحد منا أن صاحب تلك الحيوية يموت، حجبت عنا تلك الشهوة للحياة والرغبة في التفريق، عنا أكبر الحقائق " لكل أجل كتاب " ..
    معارفه الأولون معنا هذا المساء أخوي الحاج مضوي وفضل بشير مثلاً سيعودون بتجارتهم معه سنين كثيرة وراء رؤاه بقلوبهم وعيونهم يصعد القمة دامي القدمين، ألقهم، أية قمة، لا سبيل لها بغير الدم، والذكاء البعيد والعزم الجديد ..
    دعوني اعد بنا لشيء عن البدء لن أعود للبداية مع أبيه وأمه وجده، ذاك أعرفه وله مقام غير مقامنا الحزين هذا .. أعود بإيجاز لحيث بدأ، أنا وهو على حمارنا في الطريق من سَرَّه شرق لسوق الخميس حيث كانت دبيرة الأولية .. كان رديفي سنواتنا الأولى، أنا أكبره بسنتين وتقدمت بنا الأيام عدا العاشرة في الذي أذكر وعندها بدت نزعته للأولية هذا بالطبع في الذي أفسر الآن وقائع حياتنا الأولى، يعينني ضوء خبرات السنين وتعينني معارف الكتب .. ما كنت أعرف هذه النزعة فيه أيامنا تلك، حين شرع ينازعني الأولية على الحمار، بعنف الصبيان أبى إلا أن أكون رديفه وأبيت أنا، وكانت عقدة ذهبنا بها لجدي أحمد زهرة، وكان رجلاً طوالاً، طيب القسمات كثير النخل والبقر والغلة، يفصل في الذي يثور بين أهله في سّرَّه، فصل بيننا وكأنه سليمان بن داوود أنا رديفه في الشتاء وهو رديفي في الصيف، وغلب حمق الصبا حكمة السن، شغب محجوب وتململت أنا، فأراد جدنا أن نروح المدرسة على أقدامنا، وكانت عسيرة يوقظنا جدنا مع النجمة ونقضي قيظ الظهر في دار جدتنا ريا داوود نطعم هناك، ونلهو، ونروح قرب أول المساء لبيتنا في سَرَّه، ممسك بنا الحمق ..
    وفي عطلة الصيف جاء أبي من مصر وعرف بالطبع شقاء والده مع شقاوتنا فأدار الأمر مع ندميه وصفيه منقرو، عم لنا من أمبراي سَّرَة غرب، كان يقضي معه كثيراً من وقته نحمل لهما محجوب وأنا عند مقيلهما في الديوان الأبري المسكر المثلج بهواء ازيارنا تحت النخيل المتشابكة أمام الدار وفي المساء يخلوان بأنفسهما جنبها .. كانا من عشاق الحياة وأحبابها في واحدة من أمسياتهما تلك استقر الرأي على أن يصبحهما محجوب للقاهرة حيث يعودان وكان ..
    كان محجوب حتى في ذاك الصبا الباكر قوي الساعدين عريض الكتفين حازم الحنك يزرع الأرض حين يمشي وما كان بذاك الطول، توحي هيئته الحزم والخشونة، كانت أطرافي ناعمة، وجسمي لدن أقضي كلما تيسر ذلك ليالي أسمع الزبير أبو عاقلة يأتينا من صدر الجزيرة يغني لرفاقه الشباب، وأقضي بعضه جنب محمد صفورة، يعدي بي وبرفاقي الصغار من عشاق صوته وطاره ويعود بهم وبي، أتسلل بالليل حيث ننام قرب حدنا وبقرنا في مربط البقر ـ الكرقة ـ وفي غدوتنا يتجهم لي محجوب سفه عابث هذا الذي أقضي بعض وقتي فيه .. مع الزبير قرب شيخ نور على التل، ومع محمد صفورة في الجزيرة بين سَّرَة شرق وأختها سَّرَة غرب ..
    واستقرت به وبي الحال في أبي روف وبيت المال ترعانا سيدتي زوجتي إبنة عمي أنة عمه وما كانت من العمر والتجاريب على حال تعينها على هذه الرعاية لكنها كانت في حمى أسرة في أبي روف، تشدهم إليها لونها الذهبي وقوامها الغض وصوتها الشجي يلحون عليها غناءها النوبي وتسعدهم عربيتها الملحونة، فكنت قد شرعت في تعليمها أعود والليل قد ذهب أوله مع أبناء بيت إسحق عمر وأبا بكر وعثمان، هذه الأسرة، الطيب وإدريس وقرشي الأخوة أبو سمرة الأخوة أبو شمة عبد الحليم وعبدالله وأخي الباسم حسن، زيادة ونجلس نتم أحاديث المؤتمر والنادي العتيق ومحجوب منصرف لموتوسكة في الحوش أعانه على شرائه الأخ محمد حسن، الذي أعان محجوب على العمل في قراج متشل كوتس .. سيرحم الله ذاك الرجل، كان من الأخيار ينتقي ملابسه حتى في ذاك الزمان البعيد، قريباً من أربعين سنة، كما ينتقي الرجال أهل، الذوق الجميل، وكان صبوحاً في وجهة سمرة تعجب، وفي مشيته خيلاء هو بها جدير، كان حفياً بمحجوب، يراه رمزاً لجيل قادم من العاملين القادرين، وأخذ عنه هذا الإعجاب زميله المستر ووكر مدير القراج، وكان من أخيار قومه أيضاً، كلما رحت يوم الجمعة أتفقد محجوب، ملأني سروراً بالحديث عن قدرات محجوب وانتظامه إن في الذي كان يرى، رمز أمجاد السودان .. ويعابثني عن " الأفندية " إنهم قوم يقولون كثيراً، ينتظرون يوماً يكونون فيه أهل الحكم والقيادة عوض الإنجليز، وكان ذلك دأب أكثرهم أنت لا تحب يديلك كل ذلك الحب، وكنت أحبه، سيد الناس (هذا أعنيه) ساعد محجوب أخي الأول معملي ..
    ما كنت عرفت كثيرين منهم بعد، يضع يده على رأس محجوب يقول لي أطمئن سيكون له شأن .
    وانتقل محجوب سنية تلك من أول من ركب الموتورسايكل من أبي روف للمحطة الوسطى، فأنا لا أذكر أني رأيت في الطريق موتورسايكل، ولا أذكر في الخرطوم أحداً أقتنى موتورسايكل، انتقل من أول من ركب الموتور إلى أول، من افتتح قراجاً حديثاً في الذي أعرف، حيث المبنى، حديث المعدات، حديث الإدارة، مصاقبة منشئته هذه الجديدة، حيث كان ولا يزال الصديق القديم سلامة صالح، وتكاثر صحاب " الأسطى محجوب " بعضهم سعيد به رحم الله عثمان عيسى، خال الصديق فضل بشير، ما بدا يوماً عمله قبل كلمة " حلوة يقولها يبدوها " "ود أختي " وما غاب سمعان عن " الأسطى محجوب " يتبادلان أخبار قطع الغيار وكان سمعان واحداً ممن يتاجرون فيها .. سنوات بعدها أصبحت " المصطبة ملتقى الصفوة " أهل حلفا الذي سبقوا محجوب الخرطوم سنين ويكبرونه في الوسط داوود ..
    عرفت الخرطوم قراجات من قبل وعرفت أسطوات من قبل، لكنها لم تعرف أحداً يعلن وثوقه من نفسه إعلاناً على يافطة مرفوعة " قراج محجوب " أنه محجوب ما أسماه شيئاً آخر، قراج النهضة وقراج الخرطوم أسماه باسمه هذا القادم للبلد عزيمة في صدره ومفك في يده، وغاية من الغابات في عقله أعلن بيافطته تلك أنه في الطريق .. قادم وأنجز الذي وعد قدم ..
    نقف الآن أخواتي إخوة محجوب على عتبات المرحلة الوسطى من مساره رأيناه في مرحلته الأولى صبياً في سَّرَة ينازع أخاه ليكون الأول ونراه في هذه الوسطى بشورته وأرجله القوية ويديه الفعالتين يحتوي بين ذراعيه وحشة البطانة في الهجير وفي الليل البهيم، وتراه يحتوي بين هذين الذراعين زحام التل الكبير، لحظة سأشرح .. رأيناه في البطانة على قندناره يطوي الهجير حيناً والليل حيناً آخر ولا يحتاج زملاءه قطع غيار للواريهم زماناً طويلاً، يغيب فيه يزاحم أثرياء مصر يشتري قطع الغيار أكواماً هناك يعود بها للسودان، وقد دخل مرحل من مراحل تقدمه، يملك مواصلاته على يد أهليه، بدأ سوداننا الجديد ..
    وأرجع بذكراي آه عجب معجب! محجوب ذكرى؟ تلك الرياح الذارية ذكرى؟ عجب معجب! بكل الذي يقول أصفيائي ويكتب أحبابي عن تجاربي وعلمي، غفوت، ما حسبت أن إعصاراً وإن قسا يطفئ ذلك المصباح في قمة القمم .. أنسيت في غفوتي إذ يغشيكم النعاس آمنة صدق الله العظم .. يغشاك ذاك النعاس الطويل وأنت كثير الأمن غافل .. ما ذكرت حديث ربنا لصفيه آثر خلقه إلا حين غشاه النعاس وهو أمن وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون؟ " وكلا " كل نفس ذائقة الموت ..
    ذكرى وإن هممت أنسى تأبي، يشركنا أمتحان ربنا زميله في هجير البطانة وظلماتها الصديق الشقيق إبراهيم م .. جوهر، واثق أنه سيذكر تلك الليالي إليهم، هومحجوب كانا يتعاشران كنفس واحدة، معهما وقد شقا الطريق في صناعة المواصلات المعقال أحمد عبدالله واحد من سادة هذه الصناعة منشئيها والكريم سيد الكرماء، آنف من عرفت تلكم الأيام، في خُلقه الرضي ولباسه الجميل، والدليل الزبير .
    تلك سنون أرست فيها هذه الجماعة القليلة، وأخوتهم في مدن الأقاليم أمثال عبد المجيد حتيلة، وكانوا بجنب طليات وكرشيسى ويونان بروكوبيو سيذكر أياديهم وعوارفهم على الصناعت الصغيرة في المدن، من سيؤرخون للتقدم الاقتصادي في السودان، كانوا أعمدة، سوء حظ إن راحوا عن السودان، والمتكتل قدراته، ونفتقدهم حتى يومنا هذا لولا حماقات لا مكان لها في خلقنا لظلوا معنا ولمشينا أطول في الطريق ..
    ورأت هذه المرحلة الوسطى من حياة محجوب ميلاد شركة التأمينات الأهلية : وكانت واحدة من الأوليات، عشق محجوب القديم قام هو وأخوة له من صناع المواصلات بإنشائها، فكانت الأم لشركة التأمينات العامة، التي دخلت بالسودان صناعة التأمينات، وهي تاج أمجاده الاقتصادية عجزت أمجاده الأخرى، صناعة البلاستيك وتجميع سيارات مازدا، ووكالة انترناشونال هارفشتر أن تنافسها وكان يرجو ذلك محجوب، أقعدته عن طموحه مايو، وأكره أن أزيدكم أحزان على حزنكم عليه، كانت شقية مايو، تعيسة، نقص أشرار في سفينتها لا يساراً عرفوا ولا يميناً به آمنوا على اقتصاد البلاد، وكان محجوب من أعلامها، أخذوه أياماً طوالاً لواحدة من محاكم الجور، لكنه غلب الجند وما جندوا من هيلمان ..
    أدعو هنا واحد من رجالات أهلنا يحدثكم عن محجوب في محكمة الجور الرجل توفيق أحمد يوسف، والد الزبير محمد، ما عرفته معرفتي إياه عصر ذلك اليوم كنت أسمع عن عناده وجسارته وعن قصة لنسن بملكانه هو الشيخ الجليل دهب حسنين والد عبده، وكنت اسمع عن تعليقات له تجاور توأم مصر منذر خرج منها كموسى عليه السلام " خائفاً يترقب "
    الإلحاد حين يدور الحديث كما كانوا يسمون تلكم الأيام " قروية أرقين " قروية أشكيت " وهكذا .
    جاءني وأنا جنبي شاي على مصطبة داري حولي نسوة الأسرة حزانى وأدعي أنا احتمال ما لا يحتمل، يثرثرن وبعيني بصيرتي أرقب الغد لتقع عيناي، على محجوب وإبنة محمد، تأتي بهما تايوتا مكشوفه يجلسان على حفاتيها جلسة الموجع تخفرهما عصبة من الجند، تقف لدى باب البرلمان القديم حيث كانت جلسات محكمة الجور، أول من يلقاهما وهما يلتويان ينزلان من جلسة السكين على التايوتا، أخوه بلسم جراحاته، هبة السماء لمحجوب محمد حسن السلمابي منذ جاء أرضه ..
    دخل سيدي توفيق متمهللاً ينادي أسمي، عليه وعثاء السفر من القرية، عمامته المحكمة على رأسه شاله الجثم على عنقه، عصاته الغليظة على مرفقه، بدأ بصوته الأجش، هش على نسوة الأسرة، دخلن فهن يعرفن ما يحب وما يكره وجلس قربي ما أحوجني أسأل عن سره أساريره البهجة في مناخ حولنا يشبه مأتم، بادر قائلاً أنه جاء خصيصاً ليقول لي لا تحزن محجوب على الهو قذاف، ثم أفاض يذكر ثباته أمام محكمة الجور، مر بعربيته المحلونة كان سعيداً عمنا توفيق قال إنه يرى في محجوب جماعة أهله الأولين عاشوا ساعة هول في فترة من فترات تاريخنا في بأس شديد نافحوا عن العرض والأرض، وقال ممسكاً بكتفي يعود أبنائي، وماذا يعنيك يا ولدي من شرار كل الذي يستطيعون هو أن ينهبوا ما لمحجوب ثق أنهم سيفعلون، العقل الذي صنع العقار والمال الذي سينقضون عليه سيبقى، وربك غير بعيد، إنه قريب يلحظ هذه الأغربة السود، سيبقى عقل محجوب وتذهب عقولهم، إن شاء الله قالها رافعاً ذراعيه للسماء وعصاته تحت أبطه، ومشى ..
    ما كان نبياً عمنا توفيق، وما كان ممن يتخرصون، لكن شهوراً قليلة بعد أن جرحته الأغربة السود، أحزنته، آلمته تركته عدما إلا من ذكائه كما قال الرجل الجسور، بدا محجوب المرحلة الأخيرة حيث انتهت المرحلة الوسطى على النحو اللئيم الذي رأيتم، شرع في السفح حيث بدأ صعد القمم ثانية دامي القدمين، مهشم الأظافر، وصل من هناك حيث ألف واعتاد، من القمم شرع في آخر أولياته وكأن لم تكن محكمة جور ولا أغربة سود .. أشرف على البنك الأهلي مع أخوة له آخرين وعلى شركة الأمن، والذي كان قد بقى من فتات قديم ..
    هذه إبداعات عقل كان يحلق حتى ساعة خذله جسمه الذي أرهقه، ونحن من آثارها أقرب ما تكون تعرفون دقائقها أخوته .. سيد أيها العزيز:
    انتهت مراحل محجوب، وهي مراحل كما ترون تكاد أن تكون مراحل وطننا العزيز في مسار اقتصاده، تاريخ محجوب بضع من تاريخ بلاده، بل هي ذلك التاريخ بعينه لكن يا شقيقي الباقي ..
    وليت عشيات اللوى برواجع لنا أبداً ما أورق السلم النضر
    نعم عائد ذاك الزمان ما عاد في يدك، القادم في يدك، وعاتقك على مقدار هذا الجاني من تراث أسرتك أنا أعرفه آدابك تحول دون رؤية الناس لها، ومسيرته بعد حين، ويرون خلالاً ما أتيحت لمحجوب، ما كان عنده وقت يمضيه في ضروب من خلال أنت تملكها فامض على بركة الله، حارسنا، أنا جنبهم بحبي الذي عهدته منذ كنت، عضدك المعنوي ..
    يحرسك قلبك الكبير، ناصحاً خلفاء محجوب من أبنائه وبناته كدأبك، أنا جنبك خادم لهم كما قلت لهم، وطوع ذكائك لا يسائلناك يصرعان بأمرك أبنائك عاصم المقدام وسامي الحكيم)))..

     ويقول عثمان في خاتمة كتابة :
    (وأخيراً انتهت معايشتي لهذه المتع الجمة وأنا أقرأ واستعرض رسائل أستاذي جمال، وقد حزنت لذلك كثيراً فقد كانت فترة من حياتي مفيدة، فقد ألممت بكثير من أحوال زمان وأفكار زمان وعظماء زمان، الذين أسسوا وطن السودان ودولة السودان وحفظوا تراث السودان، والذين لهم نحن مدينون بالكثير .. كنت أتمنى أن لو استمرت هذه المعايشة .. إن أهم عنصر في فراغي من هذا العمل في زمن أقل من الذي توقعته وخططت له، هو هذه المتعة التي دفعتني إلى أن أواصل الليل بالنهار حتى لا تنقطع ..)
    صنعاء
    28/7/2006م
                  

08-17-2006, 09:35 AM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن (Re: تراث)

    اخي
    انا شاكر لك فلقد عطرت يومي ودواخلي الكهلة بحديث عن شيخي جمال ,,,وددت لو كنت شاركتنا سجالا بيني وبين صديقي وزميل مهنتي ودارستي عبدالله الشقليني في الربع الاول من العام في منبر افرده لشيخي جمال فكنا ندور معا في حوليته وعندما اقترب ميعاد ارشفة منتدي بكري هذا جمعت كل ما تناولناه في مدونة لجمال افردتها له اليست المدونات للاحياء فهو حي بيننا بما ابدع..
    مدونة جمال :
    http://gamal86.blogspot.com

    ودامت ايامك معطرة

    ابوبكر سيداحمد
    http://thenubian.net[/B]
                  

08-17-2006, 12:48 PM

أحمد طه
<aأحمد طه
تاريخ التسجيل: 03-31-2004
مجموع المشاركات: 580

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن (Re: تراث)

    أحسنت...... لك التحايا والشكر
    أقترح على الباشمهندس بكرى حفظ هذا البوست كماده توثيقيه تستحق العنايه
    وتكريما لهذا لرطان البلغ........ شيخى جمال.
                  

08-17-2006, 01:22 PM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن (Re: أحمد طه)

    Quote: وتكريما لهذا لرطان البلغ........ شيخى جمال.


    اكيد يا استاذي .. وما مدوته شيخي الا لمثل هذا.. سالقط كل الحبوب من سنابل قمحه اينما اجدها واحفظها كما كنا في نوبتنا نحفظ قمحنا وبلحنا في جرار صنعناها من طين جروفنا وماء نيلنا الذي فاض كرما فاغرق نوبتنا ...
    سلام
    ابوبكر
                  

08-17-2006, 05:42 PM

مطر قادم
<aمطر قادم
تاريخ التسجيل: 01-08-2005
مجموع المشاركات: 3879

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن (Re: abubakr)

    العزيز تراث
    الى ان اعود مع تحياتى
                  

08-18-2006, 09:08 AM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن (Re: أحمد طه)

    عفوا الاخ احمد طه ...اختلط علي الامر فانا مهندس وبكري مهندس- وانا احيانا اخاطب "بكري" - وترائ لي ان رسالتك لي فاجبت وفي بالي ان اضيف المقال الي مدونة شيخي جمال بعد ان استأذن الناشر (تراث) ..
    معذرة
    ابوبكر
                  

11-02-2006, 11:21 PM

تراث
<aتراث
تاريخ التسجيل: 11-03-2002
مجموع المشاركات: 1588

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن (Re: abubakr)

    اعزائي ابو بكر واحمد طه ومطر.. شكراً جزيلاً على مشاركتكم وكلماتكم الطيبات.
    شكراً لكل قراء البوست.
    واسف جداً لتاخر هذه الشكر.. بسبب غيابي الطويل عن المنبر.
                  

11-03-2006, 03:41 AM

suliman ibrahim
<asuliman ibrahim
تاريخ التسجيل: 10-11-2003
مجموع المشاركات: 183

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن (Re: تراث)

    ((انا اكتب لامتع نفسى ولامتعكم ان نجحت بكلمات))
    جمال محمد احمد

    ماهو اسخف سؤال كنت تسمعه?
    يقول((هذا السؤال السمج هل السودانى عربى ام افريقى.وكنت اقول لعل عبقرية
    السودان تكمن فى محتوى السؤال))

    بعض القراء يعتقدون انك تكتب كلاما غير مفهوم او تتعمد اغموض ?

    ((الكلمة لها عندى قدسية وانا امقت التكرار وموضوع للكتابة لجماهير العريضة
    اضرت كثيرا بطريقة الكتابة نفسها وانا أومن تماما ان يرتفع الكاتب بمستوى
    القراء وليس المطلوب ان يهبط الكاتب إلى مستوى القراء ويترتب على هذاالحدث
    اضمحلال مستوى اللغة))

    رحم الله جمال محمد احمد علم من اعلام السودان وكاتبا مرموقا ومفكرا ملم وعميق
    كثيرون علاقتهم بالادب بدأت حين طالعوا كتابات جمال

    شكرا لتراث صاحب هذا البوست وكل المتداخلين
                  

11-03-2006, 04:40 AM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جمال محمد أحمد كما يحب هو أن يرُى من خلال عثمان محمد الحسن (Re: suliman ibrahim)

    اعزائي

    للمهتميين

    مدونة الحاضر الغائب جمال محمد احمد

    http://gamal86.blogspot.com


    مودتي

    ابوبكر سيد احمد
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de