وداعا جاك دريدا

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 00:13 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الشاعر اسامة الخواض(osama elkhawad)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-11-2004, 04:47 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20378

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    تأليف: برنارد هاريسون

    ‏ الميثولوجيا البيضاء

    دريدا ونقاده في العقل والبلاغة

    ترجمة: رشاد عبد القادر

    تمهيد:‏

    في البداية نُشِرَتْ مقالة "الميثولوجيا البيضاء" عام 1971 في مجلة "البويتيك"، وصدرت ثانية- بوصفها المقالة الأطول من بين إحدى عشرة مقالة- في "هوامش الفلسفة" 1972؛ وهي مقالات "تشق طريقها" بمناحٍ واتجاهاتٍ متعددة "عَبْر تناول صارم مترابط للبقع العمياء، مناطق القلق، والتناقضات المتنوعة التي تميِّز خطاب العقل الفلسفي". إنّ ما تتناوله الميثولوجيا البيضاء معالجةً هو، بشكل عام، موقع الاستعارة في الخطاب الفلسفي. وقد اقْتُبِس العنوان عن الحوار اللاذع والذكي بين "آرِيْستْ Ariste وبوْلِفِيل Polyphile، أو لغة الميتافيزيقيا" في كتاب حديقة أبيقور لـ أناتول فرانس. حيث يكتشف آرِيْست الميتافيزيقي بوْلِفِيل وهو يتصفح "أحد الكتب الصغيرة التي تضع حكمة العصور بين يدي القارئ، مُسْتَعْرِضاً جميع المذاهب، الواحد تلْو الآخر، من اللإيليين السالفين إلى الانتقائيين المتأخرين، مُنْتَهياً إلى لاشليير M.Lachelier". بَيْد أن بولفيل غير مبالٍ بنيل الحكمة. فهو، مستبقاً بذلك على نحو لافت اهتمامات دريدا، لا يُعْنى إلا بـ"الشكل اللفظي" للمنطوقات المميزة للميتافيزيقيا التي عرضها في ملخص صغير وعلى نحو عشوائي عبر حواره، فأوصلته إلى المثال الرائع: "تتملَّك الروح الله باتِّساق إذ تشترك في المطلق." ‏

    يسأل آريست بولفيل، بعد أن يلاحظ بحذر: أن "كل شيء يشير‏ [إلى...]، وأنه يمكن تأسيس استنتاج من هذا القبيل على نحو راسخ في المحاجة، يسأله إلام أفضت به أفكاره عن "الشكل اللفظي" للقضايا الميتافيزيقية. يرد هذا الأخير على سؤاله عبر وصف لغة الميتافيزيقيا باستعارة مسهبة مطولة. فالميتافيزيقي يشبه شاحذ السكين الذي يختار سن العملة المعدنية والأوسمة بدلاً من المقصات والسكاكين. بعد أن يمحو حاشية القطعة المعدنية النقدية؛ التاريخ والصورة، بحيث لا يبقى أثر لـ فكتوريا أو وليم أو الجمهورية، يقدم قطعه المعدنية النقدية المشوَّهة، بما أنها لم تعد تملك أية قيمة أو أصل قومي يميزها، على أنها سك عملة قد تحرر من قيود الزمان والمكان، عملة ذات قيمة لا تثمَّن وتداول لا حدود له. إذن، بحسب بولفيل، ومع سيرورات التجريد التي تولد المفردات الميتافيزيقية: "كل مصطلح أولي للغةٍ يمثّل في الأصل شيئاً حسياً معيناً". حتى في أعلى مستويات التجريد يبقى خطاب الميتافيزيقي مسكوناً بالدلالات المجسدة المادية الممحوَّة والأصلية لمصطلحاته، إذ تستقي الادعاءات الميتافيزيقية من هذه الفحاوي المتآكلة المتنصلة وحدها أياً يكن المعنى الذي لم تزل تمتلكه. التجريد نفسه احتيال لأنه استعارة مقنَّعة؛ فالفلسفة الأخلاقية، مثلاً، تبدأ في تضاد الصور، في تضاد السبل القويمة والملتوية. وبدلاً من أن تحررنا من الاستعارة باسم العقل، تمارس الميتافيزيقيا باسم التجريد والعبارات العامة أسلوباً في التفكير لم ينجح إلا في أن يحجب عن نفسه استعاريته العميقة بإبعاده الاستعارة إلى هوامش نشاطها "الرسمي". وبدلاً من مناصرة العقل والحقيقة في حرب أفلاطون بين الشعراء والفلاسفة وبِقَدَر غريب، "يُجبَر الميتافيزيقيون الذين يفكرون في الهرب من عالم الظواهر على العيش أبد الدهر في المجاز. شعراء يرثى لهم إذ يجعلون ألوان الحكايات الرمزية القديمة باهتة، وهم أنفسهم ليسوا إلا جامعي الحكايات الرمزية، صُنّاع الميثولوجيا البيضاء". وكما يعبر دريدا، إن مجرد خطأ مطبعي، وما يلمح إليه يظهر في نسخته فعلاً، كفيل بتحويل آريست Ariste، المدافع عن الميتافيزيقيا، إلى آرتيست [ 'Artiste'فنان].‏

    يقدم آريست وبولفيل الثيمات الرئيسة لمقالة دريدا الذي يفترض أن يكون القارئ متآلفاً معها. وتعد مقالته أيضاً مصدر نوعين من اللعب بالكلمات التي يستخدمها دريدا على نحو مميز، هنا كما في أمكنة أخرى، ليبني تضمينات محاجَّته ويعرضها، وكلتا اللعبتين غامضتان بما فيه الكفاية، ما يتطلب شرحاً للقارئ الذي يتناول المقالة للمرة الأولى، على الرغم من أن الأمر قد يقع تحت طائلة الحذلقة. الهم الأول: العنوان. إذ ثمة نسق من ظلال المعاني لمفردة Blanche في الفرنسية يمتد عبر المفردات التي لها الأصل ذاته كـ blanchir (يبيّض [قماشاً]، يبيض [بمادة مبيضة]، يحل، يعتق، blanchisserie المصبغة، وblanchiment (تبييض الجدران، تبييض أوراق النبات [منعها من الاخضرار]، وغيرها). يوحي السياق أن هذا النسق وحده هو ما كان قد وضعه مؤلف آريست وبولفيل نصب عينيه، رغم أن بعض ظلال المعاني التي يحتوي عليها - كتهميش وحجب مظاهر نشاط المرء، ودس الأشياء تحت البساط- ستكون أيضاً في المركز من محاجة دريدا. غير أن Blanche تنطوي أيضاً على ظلال معان عرقية (العرق الأبيض، وغيره)، ويتخذ دريدا خطوات يفعِّل فيها هذا النسق أيضاً في ذهن القارئ. إن الميثولوجيا التي يجمعها "شعر" الميتافيزيقيا "الكئيب" هي، في نظر دريدا، الميثولوجيا المميِّزة للغرب وللعرق الأبيض. وكما أسلفنا، ليس ثمة بيِّنة في السياق أن أناتول فرانس، صاحب العبارة الأصلي، قصد أن يتم تناولها هكذا. لكن يمكن للمرء أن يجيب بروح نقد جامعة ييل في الثمانينيات: إن دريدا، في دفعه لظلال معانيها [الميثولوجيا البيضاء] في ذلك الاتجاه المبرر لغوياً بأكمله، إنما يقيم الدليل على قوة رأي من آرائه الأكثر مركزية وهو أن اللغة تفوق القصد، فالمتكلم لا يمكنه، بوضع توقيعه على نص ما، أن يؤسس أي حق في أن يستبعد نسقاً ثانوياً من القراءات المحتملة بوصفه غير مقبول ومتنافراً مع مقاصده؛ وفي نهاية الأمر، لا تستند الكيفية التي نفهم بها ما نقرؤه إلى مقاصد الكاتب الخاصة، بل إلى القدرات المتأصلة في اللغة التي اختار الكاتب أن يكتب بها.‏

    مصدر دريدا الآخر للعب بالكلمات في المقالة هو مفردة exergue "حاشية القطعة المعدنية". يقدمها قاموس أكسفورد بوصفها ذات أصل فرنسي، وهي مصوغة بوضوح من اليونانية X خارج و?pyov العمل: "قد يقصد بها، كونها شبه يونانية حولت إلى الفرنسية hors-d'oeuvre (المشهّي)، شيء ما يقع "خارج العمل". ومن حيث معناها النُّمِّي التقني، حاشية العملة النقدية هي "الحيِّز الصغير الذي يكون عادة على قفا العملة المعدنية أو الميدالية، في أسفل الصورة أو الرسم الرئيسي، المخصص للنقش الثانوي كالتاريخ والحرف الاستهلالي من اسم النقاش، وغيرها. والنقش المدرج هناك أيضاً." إن ما ينطوي عليه هذا التعريف، سنرى أنه عنصر أساسي في لعب دريدا على المصطلح، هو أن محتويات الحاشية تحدث صدعاً في الاكتفاء الذاتي للقطعة، إذ تربطها بالزمن، تربطها بصانع وبأصل وبمكان في التاريخ. بمعنى ما، لا تمثل محتويات الحاشية جزءاً إضافياً للنقش بقدر ما تمثل ما وراء النقش، تمثل تعليق العملة النقدية على فشلها في أن تفسِّر نفسها بنفسها بقدر ما يتعلق الأمر بوجودها ومنابعها، وتمثل تعليقاً على فشلها في أن تظل شيئاً "متحرراً من الزمان والمكان"، شيئاً ذا قيمة لا تُثمّن وتَداوُل لا حدود له.‏

    محاجَّات دريدا‏

    يطلق آريست غير المقتنع طلقة الوداع، بانسحابه المفاجئ، قائلاً: "لو أنك ساجلت وفق الأصول، لتمكنت من تفنيد محاجاتك بسهولة تامة". وقد وُجِّهت التهمة نفسها إلى دريدا. الحق، بات متعارفاً عليه أن لا يتهم أفراد الدوائر الفلسفية التي تتحدث اللغة الإنكليزية دريدا بأنه لا يساجل "وفق الأصول" فحسب، بل حتى لا يملك محاجّات البتة ليقدمها، ويعلل التأثير الهائل لأعماله، حسب الذائقة، إما بوصفه ضلال دُرْجة أدبية، أكثر مما هي عقلية، أو بوصف [هذا التأثير] نتاج جيل جديد من الفلاسفة والنقاد الذين لم يعودوا يأخذون المحاجة على محمل الجد أكثر مما يفترضون أن دريدا يأخذها.‏

    يندرج معظم الفلاسفة التحليليين في المعسكر الأول. أما ريتشارد رورتي، الذي يندرج، إن لم يكن يكوّن، في المعسكر الثاني، فيعتبر أن دريدا يعمل بدرجة أقل من خلال المحاجة مقارنة بسيرورات "إعادة بناء النص سياقيا"ًrecontextualization، تشبه تلك التي يتبين بها جابي ضرائب "مبدع" إمكانية جدولة وجيهة لمادة ما في جدول مفضلاً إياه على جدول آخر.‏

    يبدو لي أن كلتا الاستجابتين لا تملكان الكثير لينصح بهما. إذ لا أجد في دريدا مقلداً فرنسياً لـ رورتي ولا أجده مشعوذاً. إن أحد الأسباب التي تكمن وراء الصعوبة التي يجدها الفلاسفة المثقفون تحليلياً في فهم تفكيكية دريدا بوصفها محاجة، أو ما يفهمونه على أنه محاجة، هو أنهم يجدون مشقة في تحديد الآراء الفلسفية التي يهاجمها على وجه التحديد. تقدم الميثولوجيا البيضاء حالة وثيقة الصلة بهذه النقطة. يبدو أن دريدا يهاجم إمكانية وجود خطاب غير استعاري بذاته. إلا أن معظم الفلاسفة التحليليين سيؤكدون أنه من العبث افتراض أن هجوماً كهذا قد ينجح. إن لم يكن بمقدورنا التمييز في الممارسة بين ما هو حرفي [ظاهر اللفظ] وما هو استعاري في استخدامات المصطلحات، فلن نضمر مثل هذا التمييز في استعمالنا لها؛ لكن إن استطعنا التمييز بين الاستعاري والحرفي يمكننا آنذاك أن نقوم بإبعاد الاستعارة عن أنواع الخطاب التي ليس للاستعارة فيها وظيفة، أو لها وظيفة تشويشية وتحريفية ليس إلا. والدافع وراء استبعاد الاستعارة من الخطاب العلمي قديم قدم مقالة جون لوك واستمر هذا الاستبعاد بنجاح إلى حد كبير طوال العقود الثلاثة التالية من خلال المناهج التي يوصي بها لوك في التحديد الدقيق للمصطلحات وإواليات اشتغالها. من الواضح أن الدور المتزايد لعلم الرياضيات في العلوم الطبيعية ساعد هذه السيرورة في بداياتها؛ ولا شك أن تساؤل دريدا عن احتمال وجود الاستعارة في علم الرياضيات وثيق الصلة هنا. إن كان الخطاب غير الاستعاري ممكناً في علم الرياضيات، وبالتالي في الفيزيقا، فلِمَ لا يكون ممكناً في الفلسفة، لا سيما في فلسفة ذات أهداف ومناهج مرتبطة عن كثب مع أهداف العلم؟‏

    إذا لم يغرر بنا تضييق الخناق على دريدا بهذه الطريقة، من الضروري التذكر أن ثمة أكثر من طريقة لتأسيس التمايز بين ما هو حرفي وما هو استعاري. تبرز مشكلة الاستعارة في الموروث التحليلي بوصفها نتيجة تحدٍّ مُدْرَك طرحته المنطوقات الاستعارية على مبدأ فريج Frege ومفاده أن معنى تقرير ما، وليكن S ، هو صدق شروطه [الشروط الضرورية والكافية لحقيقته]. ويقتضي مبدأ فريج - في أبسط أشكاله- مبدئياً على الأقل، كشرط لكمال المعنى إمكانية رؤية كيفية البت فيما إذا كان S [شيئاً] حقيقياً أم مزيفاً. ما يراود ذهن معظم الفلاسفة التحليليين حين يقولون إن تقريراً ما، كـ"الثلج أبيض"، حقيقي حرفياً أو أنه مستخدم حرفياً، هو أن هذا الشرط قد تحقق. والتقرير أو السياق أو استخدام الكلمات الاستعاري، كـ"الوقت، مهووس يُذرّي التراب"، هي إحدى الحالات التي يظهر فيها الرابط الفريجي مفصوم العرى بين المعنى والحقيقة. فهل حقيقةً الوقت مهووس يذري التراب؟ يعجز السؤال عن أن يكون ذا فحوى. لكن لا يبدو أن أبيات تنيسون تعجز عن أن يكون لها فحواها. فهل ثمة، إذن، نوع من المعنى؛ معنى استعاري، لا يمكن فهمه في علاقته مع افتراضات صدق الشروط الآنفة الذكر؟ إن أكثر المجادلات انتشاراً في الوقت الحاضر، تلك الدائرة بين بلاك ودافيدسون، بخصوص الاستعارة تتعلق تماماً بهذا السؤال الأخير.‏

    العقبة الحقيقية التي يواجهها الفيلسوف التحليلي في فهم آراء دريدا في الاستعارة لا تكمن فقط في أن دريدا لم يكن مهتماً بتاتاً بتلك المشكلة، بل تكمن أيضاً في عدم اهتمامه بالكيفية التي يتم بها تأسيس التمايز بين ما هو استعاري وما هو حرفي؛ الأمر الذي تقوم على أساسه تلك المشكلة. إن فكرة المعنى بعامة، في حالة دريدا، تفسر دائماً بطريقة لا فريجية، أو ما قبل فريجية؛ أي ليس من حيث صدق الشروط، بل من حيث العلاقة بين الدال والمدلول التي يأخذها دريدا - وإن كان لا ينفك يفككها- عن سوسير؛ ويصدق الأمر نفسه على مفهوم الاستعارة، أو بالأحرى على التضاد المؤسِّس بين ما هو استعاري وما هو حرفي. فالخطاب الحرفي، في نظر دريدا، هو في الواقع خطاب نستطيع فيه تعيين مدلول كل عبارة، ولتكن E، دون إحالة إلى العلاقة بين E والعبارات الأخرى في اللغة. وعلى النقيض من ذلك، الخطاب الاستعاري هو خطاب يقتضي تعيين مدلول لكل عبارة فيه الإحالة إلى العلاقات بين E والعبارات الأخرى.‏

    إن هذه الطريقة في رسم التمايز بين الاستعاري والحرفي متأصلة، بالسبل التي يتعقبها دريدا في القسم الثالث من الميثولوجيا البيضاء، في تعريف أرسطو للاستعارة: "الاستعارة هي تحويل إلى شيء ذي اسم يدل على شيء آخر". ما يريده دريدا منا أن نلاحظه في هذا التعريف: هو افتراضه الضمني أن دلالة الاسم تبقى ثابتة تناسباً مع سيرورة "التحويل" أو "النقل" الاستعارية. وفي غمرة نقاش المعرفة، يرى أرسطو، في كتابه "فن البلاغة"، وفقاً لترجمة فريز J.H. Freese أن "الكلمات تعني شيئاً ما". وفي تتبعه ترجمة غارنيير الفرنسية، يعطي دريدا هذا التعريف تحويراً يجر به أرسطو إلى نطاق الفلسفة العقلانية لما بعد النهضة: "إن الخاص في الأسماء أن تدل على شيء ما،" ومن هنا يورط دريدا أرسطو في نظرية من نظرية المعنى، مع أن فتغنشتين يستمدها من أوغسطين، فهو يعيّنها أيضاً بوصفها جذراً عميقاً: "لكل كلمة معنى. والمعنى مترابط مع الكلمة. إنه الموضوع الذي تمثله." إذا كان معنى الاسم هو ما يدل عليه، فإن ما يتم "نقله" في الاستعارة هو تلك الدلالة. والآلية اللفظية التي تؤثر على النقل تصبح، على نحو مترابط، مجرد وسيلة نقل تدخل في أي حال من الأحوال في جوهر، بوصفه معنى، ما يتم نقله. هكذا يصل المرء إلى ما وصفه دريدا سابقاً بكونه "الأطروحة الفريدة للفلسفة" في أن الفحوى الذي تنقله الاستعارة (يتكلم دريدا هنا عن تضادات مؤسسة معينة للميتافيزيقيا يعتبرها استعارية بالضرورة في صفتها)" هو جوهر مستقل بصرامة عما ينقله."؟‏

    إن تحديد الاستعارة بهذه الطريقة، أي بوصفها تضاداً بين استخدام مفردة للإبانة عن الكيان الذي تدل عليه على نحو صحيح أو دقيق (المصطلح الأرسطي الذي يبدو لدريدا أنه يساند هذا المعنى هو [proper] kurion وبين استخدامها "على نحو خاطئ" بخصوص كيان آخر لإظهار شيء من التشابه بين ذاك الكيان أو تماثله مع الكيان الأول، إن هذا التحديد للاستعارة، يقترح دريدا، يقلل تلقائياً من مرتبة اللغة اليومية كما وصفها سوسير - حيث تستند إمكانية تعيين موقع دلالة أي مصطلح إلى العلاقات بينه والمصطلحات الأخرى للغة- نقول، إنه يقلل من مرتبتها إلى دور ثانوي بوضعها مقابل فكرة لغة أكثر ملاءمة وأكثر فلسفية يُستخدم فيها كل مصطلح ليَسْتجمع دلالته "الخاصة"، وتصبح الاستعارة مجرد اسم آخر لاستخدام خاطئ للمصطلحات. حيث (يبدأ "أرسطو" دريدا في أن يتبدَّى مرتاباً مثل هوسرل) "المثل الأعلى لكل لغة... (هو)... أن يحمل إلى المعرفة الشيء عينه." ولإنهاء هذه المرحلة من إعادة بناء محاجة دريدا، نقول بإيجاز: في محاجته ضد إمكانية وجود "خطاب يقدّم نفسه بكونه غير استعاري"، لا يساجل دريدا، على نحو مناف للعقل، أن ليس ثمة قضية علمية أو فلسفية تملك صدق شروط أنقى من "الوقتُ مهووسٌ يذرّي التراب"؛ بل يساجل ضد إمكانية وجود لغة "فلسفية" تستطيع، بالمعنى السابق، أن "تحمل إلى المعرفة الشيء عينه."‏

    إننا مطالبون، إذن، بالتركيز على المحاجة، أو عقدة المحاجات المترابطة التي تقول بـ: 1. أن "الأفكار" أو "المفاهيم" تستطيع أن تكون ملائمة أو غير ملائمة للواقع؛ 2. وبالتالي، يجب أن يكون ثمة نسق ما من المفاهيم الصحيحة والمخلصة، إذا جاز التعبير، ميتافيزيقياً للوجود على ما هو عليه؛ 3. أن معظم العلامات الأساسية للغة ملائمة ميتافيزيقياً ستختار مفاهيم من هذا القبيل بحيث تمتلك كل علامة معنى بمعزل عن أية علامة أخرى، بما أن معناها سيكون المفهوم الذي يمثلها ليس إلا؛ 4. أنه من الممكن إنجاز مثل هذه اللغة، على الأقل على نحو متشظّ ومن حيث المبدأ، وبالتالي فهي بمثابة الهدف "الخاص"، والحق الهدف الذي لا مفر منه للتنظير الفلسفي؛ 5. إن اللغة اليومية هي أداة لا تلائم الفلسفة لأن 6. الاعتماد المتبادل لعلاماتها يجعل من المتعذر إنجاز وضوح الإحالة وأحادية معناها التي تجعل من كل علامة أساسية للغةٍ واضحة منطقياً (بمصطلحات رسل) الاسمَ "الخاص لشيء فريد"؛ أي، لإنجاز المثل الأعلى الأرسطي الذي "لم تنكره" أية فلسفة مخلصة لطبيعتها بوصفها فلسفة. "إن هذا المثل الأعلى هو الفلسفة." ‏

    وقد أدت مجموعة الأفكار هذه، في زعم دريدا، وظيفة الدافع الأساس للميتافيزيقيا الغربية منذ أفلاطون، رغم أن دورها، مع تطور فلسفة ما بعد النهضة منذ ديكارت، بات أكثر مركزية وأقل تحدياً. ولتبديد الانطباع السائد، لغاية الآن لدى جماعات معينة في أن غرض دريدا الأساسي هو الظاهراتية، إن لم يكن مقتصراً عليها، يحتاج المرء أن يتذكر فقط الدور المركزي الذي لعبته مثل هذه الأسئلة في المجادلات الدائرة بين برادلي ورسل، حيث كانت أصلاً باعثاً على الموروث التحليلي. ولأن برادلي إلى حد ما يقول بأطروحة - الأمر الذي يذكرنا بشدة بآراء دريدا- أن أي حكم "يستند إلى الشروط التي لا يتضمنها" فهو يعدّ أن الحقيقة يمكن لها آخر الأمر أن تُمنح للعقل، أو بتعبير دريدا "تُحمل إلى المعرفة" على مستوى المطلق. وبالمقابل، يعتبر رسل، وهو يقف هنا بوصفه نمطاً للميتافيزيقي عينه الذي يتصوره دريدا، بأن معنى علامة أساسية إنما هو مقوم بسيط منطقي ونفسي نوعاً ما من مقومات التجربة، يُمنح مباشرة للعقل دونما إحالة إلى معنى أية علامة أخرى في فعل اكتساب المعرفة.‏

    الاعتقاد بأن المعنى علاقة دلالية تقوم بين علامة توقيفية ومظهر من مظاهر الواقع أو مقوم من مقوماته يُمنح للعقل ببساطة ووضوح مطلقين كان، بطبيعة الحال، موضع انتقادات واسعة في هذا القرن ومن منتقديه فتغنشتين وسوسير ومارلوبونتي. على الرغم من استناد دريدا بعض الشيء بدرجات متباينة إلى آراء الناقدين الأخيرين، إلا أن آراءه النقدية تبقى متفردة به في خطوطها العامة. وقد يكون أحد سبل فهم هذه الآراء، على الأقل في الشكل الذي تأخذه في الميثولوجيا البيضاء، هو أن نرى إليها على أنها تفصح عن هجوم على "التقابل الكلاسيكي بين المفهوم والاستعارة". وبحسب مصطلحات ذاك التقابل، إن استخدام اسم للدلالة على مفهوم يحضر مظهراً من مظاهر الواقع؛ جزءاً من حقيقة الأشياء، أمام العقل، في حين أن استخدام اسم استعارياً يؤسس مجرد رابط مبني على أساس تشابه مُدَرك بين اسمين أو تماثلهما. بعبارة أخرى، إن الرابط الذي تؤسسه الاستعارة هو ترابط بين كيانات لغوية؛ أي ترابط ملفق تماماً داخل مجال اللغة. ورابط الاسم/المفهوم، من جانب آخر، ليس جوهرياً علاقة لغوية مطلقاً. إنه رابط بين العقل والعالم الذي تمثله اللغة أو تعبر عنه. قد يكون للخطاب الاستعاري قيمة ما ولكن قيمته تكمن فقط في مساعدته أن يضعنا على مسار مفهوم جديد. يقدم القسم الأخير من مقالة دريدا نقداً لهذه القصة المألوفة لدى نيتشه وغاستون باشلار. فالاستعارة، إذن، مسلمة بها في الفلسفة طالما أنها تعد بالرجوع إلى حرفية المفهوم ومعها مصادر إضافية:‏

    تحدد الفلسفة الاستعارة على أنها خسارة مؤقتة للمعنى، اقتصاد للخاص من دون تلف يتعذر إصلاحه، التفاف لا مفر منه بلا ريب، لكنها أيضاً تاريخ وقد وضع نصب عينيه إعادة استيلاء دائرية على الحرفي ضمن أفق المعنى "الخاص".‏

    إذن، نحن نقف قبالة مثال عن نمط تفكير يستدعي على نحو مميز تفكيكية دريدا: إذ ثمة مفهومان، في هذه الحالة هما الاستعارة والمفهوم، متقابلان بطريقة تنطوي ضمناً على منح امتياز لأحدهما دون الآخر وذاك بجعل الأول يتبدى مركزاً والآخر هامشاً (من هنا جاء عنوان كتابه "هوامش الفلسفة"). إن تفكيك مثل هذه التراتبية المفهوماتية، وفق فهم دريدا للمصطلح، ليس مجرد مسألة قلب علاقة المركز والهامش. إنه بالأحرى تبيان أن التمايز بين المركز والهامش الذي نحن بصدده يمكنه أن يصبح واضحاً عبر استناد خفي إلى مكونها الهامشي ليس إلا. هدف دريدا من تضاد المفهوم/ الاستعارة إظهار أن هذا التضاد بأكمله يستند إلى الاستعارة، بالمعنى الثاني من المعنيين اللذين ميزناهما آنفاً. ولكي يكون التضاد واضحاً من حث رؤية العلاقات بين الخطاب "الخاص" والاستعاري اللذين يدمجهما هذا التضاد، ينبغي على مصطلحات المفهوم والاستعارة نفسها أن تكون مصطلحات في لغة "خاصة"؛ أي، لغة تكتسب فيها المصطلحات معنى بمعزل عن العلاقات فيما بينها، وذلك باتصالها المتكافئ مع مقومات واقعٍ خارج اللغة وتعادلها معه. محاجة دريدا، في الواقع، أنها ليست كذلك وأن ليس ثمة مصطلحات تستمد من لغة كهذه. يستند هذا الاستنتاج جزئياً، بطبيعة الحال، إلى تطبيق أوسع للتفكيكية المنخرطة في زعم أكثر شمولية بأن فكرة لغة كهذه هي عينها فكرة متصدعة؛ فهي لا تستطيع أن تتسم بالإقناع إلا من خلال نزع التشديد عن سمات محددة وتهميشها، ويصنف هذا الزعم في مكان آخر تحت المصطلح الدريدي "الاختلاف والإرجاءDifférance" الذي ينتمي إلى لغة بذاتها. غير أن ذاك الزعم الأوسع ليس في مركز الاهتمام المباشر للميثولوجيا البيضاء. ويمكن أن نوجز محاجات دريدا المركزية في مقالته فيما سيأتي:‏

    1. إن مفهوم الاستعارة ليس دخيلاً على الميتافيزيقيا. بل إنه مفهوم ميتافيزيقي.‏

    ويستهل القسم الثاني من المقالة، Plus de Metaphore، ببيان من هذا القبيل: "تبقى الاستعارة، في خصائصها الأساسية كافة، فلسفة كلاسيكية، ومفهوماً ميتافيزيقياً".‏

    2. وهو [مفهوم الاستعارة] في حد ذاته، شأنه شأن المفاهيم الميتافيزيقية الأخرى، ينبثق من شبكة من مثل هذه المفاهيم: نظام من المصطلحات حيث تفسر معانيها، في علاقاتها بعضها ببعض، الواحدة الأخرى على نحو تبادلي.‏

    إذن، الهدف الذي يضعه دريدا لنفسه في مناقشته لأرسطو، بادئ الأمر في القسم الثالث من المقالة، هو إظهار كيف أن التمايز بين الخطاب "الخاص" والحذفي، وهو مركزي في حد ذاته في زعم الفلسفة بأنها تشكل خطاباً من النوع الأول، ينبثق من شبكة التمايزات، التي "يبدو أنها تنتمي إلى سلسلة أنطولوجيا أرسطو الطويلة عديمة الحركة، بنظريتها في قياس تمثيل الوجود، بمنطقها، ونظريتها المعرفية، وبمزيد من الدقة بشعريتها وبلاغتها".‏

    3. من هنا، أن أية محاولة لإقامة التضاد بين الاستعاري والحرفي (أو "الخاص") في لغة تتعالى على ذلك التمايز الذي يميز، من وجهة نظر خارج اللغة، ما بين العلاقة المباشرة بين الاسم وحامله وبين العلاقة غير المباشرة بين اسم واسم متورط في الاستعارة والعبارات الملتوية، نقول، ستفشل هذه المحاولة لأن المصطلحات التي تشتغل بإوالياتها ستبرهن أنها نفسها قابلة للتأويل فقط، عند نقطة ما، من خلال قوة الاستعارة والعبارات الملتوية.‏

    في الواقع هذه هي الحركة التي تسود مناقشة دريدا للمحاجة في القسم الثاني من المقالة، أسباب فشل محاولات محددة أن تقدم تصنيفاً يفترض فيه أن يكون غير استعاري لاستعارات أرسطو. بعد ذلك، في "حذف الشمس"، يتناول دريدا الثيمة نفسها بالبحث في مناقشته اشتقاق أرسطو، في كتابه "الشعر"، اسماً لفعل الشمس، الغفل من الاسم في حالات أخرى، في "قذف لهبها" من الفعل "يبذر" [speirein] وتتمثل فكرة دريدا هنا: بما أن قياس التمثيل بين أشعة الشمس والبذر غير "مرئي" [vu]، ولا تفرضه الطبيعة علينا على نحو لا مرد له، إن تبدى لنا بوصفه إكراهاً، فهو يستطيع فعل ذلك لأنه ينبثق من "السلسلة الطويلة التي نادراً ما تكون مرئية" لقياسات التمثيل التي سيكون مصطلحها الأول صعباً على أي امرئ أن يظهره، هذا إذا تجاوزنا ذكر أرسطو. بعبارة أخرى، يتصدى أرسطو لإمكانية أن التسمية - المجتزأة والهامشية من خلال مناقشته الكاملة للاسم بحسب دريدا- من جانب، والتعبير الملتوي وقياس التمثيل من جانب آخر، قد تُثبت في آخر الأمر استحالة انعتاقها. ترجع هاتان المحاجتان إلى زعم مركزي: لكي يقول الميتافيزيقي ما يريد قولـه، يحتاج إلى أن يرى الأمور من وجهة نظر خارج اللغة، وجهة نظر مبدئياً منيعة عليه. مثلما يقول دريدا، "تستحيل السيطرة، من الخارج، على الاستعارة الفلسفية في حد ذاتها باستخدام مفهوم استعارة يظل نتاجاً فلسفياً". من الواضح هنا أن تعليل دريدا لاستناد الميتافيزيقيا إلى الاستعارة يمضي عميقاً أكثر من تعليل أناتول فرانس. إذ أن محاجة "آريست وبولفيل" ترتد إلى النزاع الوضعي المعهود: إذ ثمة استخدام أساسي بدائي للكلمات حيث تستمد، بمعزل عن علاقة بعضها ببعض، معانيها من الترابط مع مظاهر الخبرة البسيطة المجسدة المادية، لكن، وعلى وجه التحديد، ما يطعن دريدا في صحته هو إمكانية أن يظهر في التجريد هذا الترابط البدائي بين اللغة والعالم [الخارجي] من "سلسلة" العلامات.‏

    4. ومن ثم ليس ثمة شيء بوصفه "جوهراً"؛ أي أن معنى مصطلح ما "مستقل بصرامة عما ينقله." فما يدل عليه تعبير ما، وليكن E، هو أمر داخلي في اللغة التي ينتمي إليها.‏

    من هنا،‏

    5. يكف "التفاف" الاستعارة أو العبارات الملتوية، تلك السفينة التي تصورها عادة الميتافيزيقيا الغربية على أنها تعود محملة بمعنى حرفي جديد، يكف عن أن يكون ممكناً تصوره وكأن المرء يسلك منعطفاً مسدوداً. والحذف، كما يظهر المصطلح في عنوان القسم الثالث من المقالة، هو، في البلاغة، بين أشياء أخرى، إسقاط كلمة أو أكثر تكون ضرورية للتعبير عن معنى كامل لجملة ما. لكن- هذه هي فكرة دريدا- إذا كان المعنى الكامل لجملة ما لا يجب أن يمنح بربط مصطلحاتها واحداً تلو الآخر بجواهر ممنوحة خارجياً إلى اللغة، فإن فكرة معنى معبر عنه تماماً، معنى غير حذفي تتلاشى إلى فراغ؛ وبما أن سلسلة مثل هذه التأويلات لا نهائية، فإن تراكم طبقات المعنى الملحقة (أحد العبارات المفضلة لدى دريدا) قد تكون لا نهائية أيضاً.‏

    ويستتبع هذا أن جميع الخطابات، بما فيه الخطاب الميتافيزيقي، تقع في أحبولة الإمكان، السلطة الزمنية والعرف المكاني التي يتمنى شاحذ بولفيل الميتافيزيقي أن يحرر قطعها المعدنية النقدية المتآكلة كيما يخلع عليها قيمة غير محدودة وتداولاً لا حدود له. إن الخطاب الميتافيزيقي خطاب مشتق من الاستعارة، وليس ما تُرك وقتما طهرت اللغة نفسها من آثار الاستعارة والعبارات الملتوية والحذف على اختلاف أنواعها.‏

    السياسة والهومانيزم‏

    إن أحد أهداف الميتافيزيقيا الغربية، ابتداء من أفلاطون وأرسطو إلى هيغل، ماركس، هوسرل، هايدغر أو سارتر، كان توصيف الجوهر أو الطبيعة المتطابقة مع مفهوم الإنسان. وهو المشروع الذي يضعه دريدا نصب عينيه حينما يتكلم عن الهومانيزم ويناشد نهاية الإنسان كشأنه في مقالة أخرى في "هوامش الفلسفة". يستند هذا المشروع، بطبيعة الحال في نظر دريدا، إلى قوة اللغة، من جانب، في خلق معنى جديد وذاك بتحويل العلاقات بين العلامات كيما تنتج التفسير المتعلق عن بعد ولكن الدخيل تماماً على جوهر الإنسان الأمر الذي كان ميزة لأرسطو وهايدغر على التوالي، ويستند من جانب آخر إلى إنكار وتهميش تلك القوة لصون معقولية الزعم القائل أن ثمة مثل هذا الجوهر وينبغي نشدانه. جوهر أصلي، وحدي، كفيل بأن يُمنح للفكر بنهائية [وإلى الأبد]. إن حركة الاستناد والتهميش المزدوجة هذه هي، في نظر دريدا، في الصميم من دافع الثقافة الأوربية على مر السنين في أن تقدم نفسها على أنها محددِّة لطبيعة الإنسان بذاته. ما يقصيه هذا الدافع هو الاختلاف بفحواه الثقافي وبالمعنى الذي يقصده دريدا بـ(الاختلاف والإرجاء)؛ أي، قوة العلامات في أن تنمو ملتحمة مع المعاني الملحقة التي تختلف عن تلك المعاني الملحقة سابقاً وترجئ إلى أجل غير مسمى توطيد معنى وحدي نهائي. ويمثل تجمع الثقافات غير الغربية سياسياً، داخل الغرب وخارجه، القوة المهمشة لـ "الاختلاف والإرجاء" الذي "يثقل، بوطأة صامتة متنامية مهدِّدة، على السياج الذي أقامه كلام الغرب [حول نفسه]." تتعلق لعبة الاستعارة الاقتصادية التي تستفتح الميثولوجيا البيضاء بهذه الثيمة. وقطع بولفيل النقدية المشوهة هي موضوع لـusure بمعنييها- الاستعمال (الكشط) abrasion (استهلاك القيمة بالبلى والاستعمال) والمراباة (usury) بما أنها تفتح إمكانية أن تكون اللغة نفسها، في اللعبة اللامتناهية للاستعارة والحذف، قادرة على منح فائدة لـ"الميتافيزيقيا؛ الميثولوجيا البيضاء التي تعيد حشد ثقافة الغرب وتعكسها". وما نقش على حاشية القطعة المعدنية أو الميدالية - التاريخ واسم النقّاش- هو الذي يحمل، على وجه الدقة، الإحالة إلى احتمال [حدوث شيء ما]، وإلى التاريخية، والآخر، أي ما يجب إقصاؤه إن كان ينبغي على الكسب الاقتصادي الذي وعد به الـ usure أن يتحقق. من المغري بطبيعة الحال، أن نربط هذه الثيمة؛ أي استغلال وتهميش الآخر غير الغربي في الآن نفسه، بباكورة تجربة دريدا، حينما كان طفلاً لأسرة يهودية جزائرية، في الاستبعاد السياسي والشخصي في ظل قوانين حكومة فيشي العنصرية التي يرصدها دريدا بمشاعر مؤثرة في نص عن السيرة الذاتية يشغل ذيل صفحات (أي، هوامش) كتاب جاك دريدا لـ جيوفري بنينغتون‏ ودريدا. ‏



    بعض اعتراضات قياسية‏

    إن أكثر اعتراض ماثل للعيان يثار ضد التفكيكية، من قبل الفلاسفة والنقاد غير المبالين على حد سواء، هو أنها تستلزم تبعات عبثية أو تبعات لا تصدق. والأكثر شيوعاً في هذا الزعم المعلن بصراحة وفظاظة شديدتين هو: 1. أن محاجات دريدا تلغي التمايز بين اللغة والواقع خارج اللغة بإذابتها هذا الأخير في الأول؛ 2. أطروحته في أن محاولة تأسيس معنى ممتلئ لتعبير ما يخضع من حيث المبدأ لإرجاء غير محدود، تستلزم أن ليس ثمة تعبير له معنى في أية حال (عدمية لغوية)؛ 3. ومع التخلص من فكرة أن أي تعبير له معنى محدد ومن إمكانية التمييز بين اللغة والعالم، بدد دريدا إمكانية أي تصور واقعي (أي، غير نسبي وغير براغماتي) للحقيقة؛ وأخيراً 4. بتبديل النقد العقلاني للميتافيزيقا بما يبدو أنه توجه بلاغي للنقد خان دريدا التزام حركة التنوير الفلسفية بالعقل وأسبغ غشاوة على التمايز المنهجي بين الفلسفة من جانب وبين الأدب والنقد الأدبي من جانب آخر.‏

    من الواضح، بطبيعة الحال، أنه لن ينظر كل امرئ إلى 1 و4 على أنها تكوّن "اعتراضات". والحق، أن إحدى أكثر السمات المميزة واللافتة للمناقشة الغزيرة- غالباً يكون ملؤها الحنق- في الثلاثين سنة التي مضت لعمل دريدا هو ميل مؤيِّديه في أن يلوحوا باكتشافات تصنع عهداً جديداً هي نفسها التي يلوح بها المنتقصون من قيمته بوصفها سخافات.‏

    كما سيتكشف البحث في كتابات دريدا بيسر (على المرء الحذر نوعاً ما للتمييز هنا بين كتابات دريدا وملخصات مشايعيه وشروحهم لأعماله)، فقد أنكر دريدا غير مرة أن تكون آراؤه تستلزم أياً من التبعات الآنفة. وبالمثل كما يعلق بنينغتون بعد تعيين سلسلة استشهادات كهذه، "لا يكفي إثارة هذه الفقرات التي قد تكون دائماً مجرد تنصل أكثر من كونها تفنيداً".‏

    بقدر ما يتعلق الأمر بـ1 و2، كما ساجلت بإسهاب في مكان آخر، ليس ثمة ضرورة للتفنيد بما أن كليهما استنباط خُلْفيّ [استنباط غير متفق مع المقدمات]. جلي من محاجة الميثولوجيا البيضاء في تلخيصنا لها، أن دريدا لا يساجل ضد القناعة المألوفة العادية أن ثمة كيانات بذاتها خارج اللغة، بل يساجل ضد الأطروحة الفلسفية أن ثمة معاني (دلالات) يتم تصورها بوصفها كيانات خارج اللغة. إذا كان هناك مثل هذه الكيانات، ممنوحة لحضور الوعي الهوسرْلي المحض، أو لاكتساب المعرفة الرسلي [من رسل]، كان بمقدور سائر مصادر المعنى المتضمنة في المفهوم المتطابق أن تُمنح بإسهاب إلى العقل المتأمل في مثل هذا الكيان (فكرّ، مثلاً، في "الفطرة البسيطة" الديكارتية التي تعزز ابستمولوجيا "الإدراك الواضح والمميز" الديكارتي). مؤكد أن إصرار دريدا على الاختلاف والإرجاء بوصفهما أمرين أساسيين للعلاقة القائمة بين العلامة والمدلول يتبع كنتيجة له إنكار الأطروحة الفلسفية، على اختلاف أنواعها، أن المضمون الدلالي الممتلئ لمفهوم ما، يمكنه أن يُمنح وبإسهاب إلى فعل معين خاص، غير لغوي أو خارج اللغة، للوعي. ويتبع كنتيجة أبعد له، أن المرء لا يستطيع أبداً أن يكون على يقين في أنه استخلص كامل المعنى المضمر باستخدام معين للكلمات في سياق معين (هذه هي، دون شك، النتيجة التي يضعها بعض شراح دريدا نصب أعينهم عندما ينسبون طابعاً تلمودياً إلى عمله). ما لا يتبعه هذا الإصرار كنتيجة له هي أطروحة - تحال إلى دريدا على نحو غير محكم- أننا لا نستطيع أن نميز في سياق معين من الاستخدام بين ما قد يعنيه تعبير ما في ذاك السياق، وما لا يمكنه أن يعنيه في السياق عينه؛ لذا لا نستطيع أن ننسب أي معنى محدد إلى أي تعبير في أي سياق مهما يكن. الحق، أن الأمر ليبلغ درجة العدمية الدلالية. إن إعادة صياغة مبدعة ستخدم، من دون شك، في استخلاص مثل هذه الأطروحة من الجمل وأشباه الجمل القصيرة المقتطفة من عمل دريدا وتقدَّم، مجردة من سياقها، بوصفها دليل إدانة. غير أني على ثقة أن ليس ثمة إمكانية استدلال على مثل هذه الأطروحة تترتب على تحليل متأنٍ، مهما يكن، لمحاجة دريدا كما حاولنا منذ وهلة، وبطبيعة الحال، لا تترتب على المحاجات المقدمة هنا. هذا فضلاً عن أن هذه الأطروحة ستكون متناقضة مع أمر هو قطعاً زعم مركزي في فلسفة دريدا، أعني، الأطروحة التي تقول إننا لسنا بحاجة مَنْفَذٍ إلى المقاصد الواعية للكاتب أو المتكلم أو أحوالهما كي نكون قادرين على فهم ما يكتبه أو يقوله.‏

    دريدا والبراغماتية الأمريكية الجديدة‏

    إن معرفة معنى تعبير هي، للوهلة الأولى، معرفة الكيفية التي ينبغي للمعنى أن يستخدم في الخطاب. أخذت مجموعة كبيرة من الكتابات الفلسفية واللغوية، ولم تزل، ذاك الفكر البين لتدل ضمناً أن معرفة المعاني هي معرفة القواعد [النحوية]. وقد كانت إحدى الوظائف التقليدية للاعتقاد بالمعاني أو المفاهيم الفعليين؛ بمعنى خارج اللغة، التي يهاجمها دريدا في الميثولوجيا البيضاء، أن توضح ما الذي يضفي سمة المصداقية على القواعد التي نحن بصددها. أُضفِيَت المصداقية على القواعد، على حد قولهم، لأنها تقوم، خارج اللغة، على أساس طبيعة الأشياء. هنا يكمن السبب في أن الخطاب بمقدوره أن يمثل بصدق طبيعة الأشياء. وإذن، يستمر الخطاب في تتبعه مسار الواقع من خلال واقعة أن المفاهيم التي يمضي بها الخطاب حثيثاً ليست مجرد بنيات لغوية، بل سمات، أو كما كان الراحل رسل سيقول: "مقومات" الواقع عينه. إذا نبذنا المعاني فإننا بالتالي، هكذا يزعم، ننبذ الحقيقة نفسها، أو أقله ننبذ أي تصور للحقيقة غير نسبي وغير براغماتي. من ثم نصل إلى المجادلات بشأن الواقعية، اللاواقعية والنسبية، التي غذّت حديثاً الموروث التحليلي في الفلسفة.‏

    على النقيض مما يظن عادة، يبدو ليس ثمة سبب للافتراض أن دريدا قد حازب، سواء أكان عمداً أم سهواً، في هذه المساجلات. ويبدو أنه ليس ثمة ما يمنعه من أن يتخذ موقفه على أساس الزعم السلبي المحض في أن التفسير التقليدي للمعاني بتحويله لها إلى صنف من الكيانات الميتافيزيقية إنما هو تفكيك ذاتي. بالمثل، لو سأل سائل عما يمنحنا السيطرة، إذن، على فكرة الجزم الحقيقي، ليس هناك ما يمنعه من الإجابة على نمط فتغنشتين أو أوستين أن ليس ثمة شيء ميتافيزيقي واحد يمنحنا السيطرة على فكرة الحقيقة بوجه عام، بل هناك كثرة هائلة من الأشياء غير الميتافيزيقية تمنحنا سيطرة عليها في حالات مجسدة متنوعة من الحياة اليومية، ولصياغة هذه النقطة بتعابير أكثر دريدية نقول: إن مفهوم الحقيقة يتشكل داخل اللغة مثله مثل أي مفهوم آخر، ينتثر داخلها، كأي مفهوم، إلى ما لا نهاية استجابة لقوى الاختلاف والإرجاء.‏

    في الواقع أعتقد أن هذه المواقع هي التي يستند إليها دريدا، رغم أن المكان ليس مناسباً لجمع التأييد النصي لهذا الزعم. كما لا توجد مراوغة بخصوص هذه المواقع. لكن عدها قراء عديدون، القراء المتحدثون باللغة الانكليزية خاصة، مواقع مراوغة. في حين صعب على آخرين الاعتقاد بأن محاجات دريدا لا تحيله بالضرورة إلى موقع نسبي شكوكي جذرياً عن القواعد والمعنى اتخذه كواين Quine وكتاب آخرون من ضمن إطار تأثير الأفكار الكواينية كدافيدسون Davidson، رورتي، أو كريبك Kripke. أشار صاموئيل ويلر Samuel C. Wheeler III في دراستين له إلى الحركة المؤسسة لأسرة الآراء الأخيرة هذه، وقد اعتبرتا إلى حد بعيد بكونهما تقيمان رابطاً وثيقاً بين فكر دريدا‏ وفكر دونالد دافيدسون:‏

    بدون النظرية الجوهرية [الماهوية] بخصوص المعاني والقواعد الدلالية، ثمة فحسب جمل مقبولة في متن معين للخطاب. الجمل المقبولة في متن الخطاب هي، على مختلف أنواعها، أجزاء من "نظرية" تتباين أجزاؤها بطرق متعددة في الدرجة لا في النوع. توجد "الأشياء"، إذن، بوصفها افتراضات نظرية ما. وما يحل محل الضرورات والجواهر الموضوعية هي فكرة الوجود وفقاً لنظرية؛ أي، تعهد أنطولوجي. ‏

    ما ينيط بدريدا، في نظر ويلر، الإمساك بالاختيار بين "الجوهرية بخصوص المعاني والقواعد" والبرغماتية الدافيدسونية وشكوكيتها بوصفه اختياراً لا مفر منه هو محاجته أن معنى علامة ما، مع غياب المعاني الممنوحة لحضور الوعي بأكمله وبكليته، يستند إلى الآثار التي تربطه بعلامات أخرى، التي بدورها تحدث آثاراً هكذا إلى ما لا نهاية. وفي قوله: "إن هذا التصور السوسيري في أن المنظومات المفهوماتية أنظمة اختلافات، يشبه شبكة اعتقاد كواين"، يعتبر ويلر أن محاجة دريدا تستلزم أطروحة كواين الشهيرة في "عدم تحدد الترجمة":‏

    إن الصورة التي يتطلبها إنكار الحضور... هو أنه هناك نزعات المؤول لما ينبغي عليه قوله ومتى ينبغي قول ذلك (نظريته) ونزعاتنا لما ينبغي علينا قوله ومتى ينبغي قول ذلك. الترجمة أو التأويل هي مجرد ترسيمة تقوم على أساس هذه العناصر. والتساؤل عما يعنيه حقاً منطوق ما بلغة في لغة أخرى مثله مثل السؤال أي مواقع كرة القدم هو موقع الدفاع. ‏

    هذا الفهم هو في حد ذاته مثار جدل، فهو يتجاهل التباين، المشار إليه، بين التحليل الفريجي للمعنى من حيث صدق الشروط الذي يتقاسمه عملياً سائر الأطراف المشاركة في المجادلات التي أثارها ويلر في الفلسفة التحليلية، وبين تصور دريدا السوسيري جوهرياً عن المعنى بوصفه متورطاً في علاقة بين علامة (دال) ومضمون مفهوماتي (مدلول). ومحاولة البرهان، شأن دريدا، على أن الميتافيزيقيا الغربية ليس بمقدورها الزعم أنها رسخت على نحو قاطع مضمون مدلول معين، مفهوم "الإنسان" مثلاً، لاستحالة إقصاء الانجراف المنتثر في مضمون هذا المفهوم أو أي مفهوم آخر، ذاك أن إمكانية مثل هذا الانحراف متأصلة في طبيعة أية لغة يمكن للميتافيزيقيا (لا أن تُنطق أو يُفكر، بل) أن تُكتب بها، نقول إن محاولة البرهان هي، من دون شك، أن يلتزم المرء بإنكار "الجوهرية بخصوص المعاني والقواعد". لكن من الصعوبة بمكان أن نفهم لم ينبغي لهذه المحاولة أن تلزم المرء بأطروحة كواين في عدم التحدد، إلا إذا أخذ الاختيار بين الجوهرية بخصوص المعاني وعدم تحدد الترجمة الكوايني [من كواين] كي تستنفد الخيارات النظرية المتاحة، إذ أن هذه الأطروحة هي بلا ريب، رغم الرواج الهائل حديث العهد لطريقة كواين في النظر إلى المسائل، مثار جدل.‏

    يبدو واضحاً، على أية حال، أن تضمينات موقع دريدا تتعارض مع التضمينات الدافيدسونية، أقله من جانب بارز. وقد لاحظ آيرن هارفي Irene Harvey أن دريدا يعير دور الأمثلة في الميتافيزيقيا اهتماماً مركزياً:‏

    ابتداء من عمله عن هيغل، على نحو بارز في Glas [نواقيس]، توخى دريدا تعيين حدود "بقايا" الـAufhebung9 [بديل، إبطال]. فبدءاً من مكان اليهود فيما يتعلق بالأسرة، الدولة، النصرانية، والفلسفة، يتعقب دريدا المسالك التي يقصي بها هيغل اليهود فقط كيما "يتضمنـ"هم "في مستوى أعلى"؛ أعني، ليس بوصفهم يهوداً، بل بوصفهم النصرانيين الأصليين، في-الـ-طريق ليكونوا ما هم ليسوا عليه... وما هو بمثابة المجازفة بالنسبة (لدريدا) هو توضيح حدود هذا الإقصاء والتضمن في الآن نفسه لـ اللا-مثال non-example بكل ما للمصطلح من معنى- داخل المذهب الفلسفي الهيغلي. فاليهود ولا-مكانهم ليسا إلا مثالاً عن هذه الطريقة لكونهم على علاقة مع الـAufhebung. فبما أنهم مستبعدون بمقدورهم أن يكونوا متضمنين؛ على أن الآخر راديكالياً، يجب إقصاؤه في حد ذاته. ‏

    ما تعززه هذه الفقرة هو التشديد مرة أخرى على مركزية غرض كتابة دريدا في تسليط الضوء على استناد زعم الميتافيزيقيا الغربية أنها تعبر عن آراء الإنسانية بعامة إلى آخر مستبعد مهمش حيث إمكانيته، إذا جاز التعبير، متأصلة في طبيعة علاقة الدال/المدلول تبعاً [للشكل الذي] أسست به في الاختلاف والإرجاء. كيما يكون هذا موقفاً واضحاً، يجب أن يكون ثمة إواليات اشتغالِ مجانسةٍ لمبدأ الوضوح الذي اقترحه ميشيل دوميه Michael Dummett في سياق آخر. وكي يُفهم الآخر بوصفه ما "يجب إقصاؤه في حد ذاته" ينبغي أن يكون ممكناً للآخريّة أن تظهر نفسها في الكتابة من خلال إواليات اشتغال الاختلاف والإرجاء. إن كان بمقدورها فعل ذلك، فعلى الأقل، أحد أحلام حركة التنوير الفلسفية قد مات: إذ لا يمكن أن يكون ثمة "تاريخ عالمي للإنسانية". في فقرة لافتة للنظر ينحاز رورتي للموروث الكوايني البراغماتي الجديد ونصب عينيه ذاك المشروع [تاريخ عالمي للإنسانية] تماماً:‏

    إن إجابة البرغماتي على السؤال الذي يطرحه ليوتار Lyotard في "التاريخ العالمي والتباينات الثقافية": "هل يمكننا الاستمرار في تنظيم الأحداث المتراصة فوقنا من عوالم الإنسان وغير الإنسان على يد فكرة تاريخ عالمي للإنسانية؟" هو أننا نستطيع وينبغي.. علينا نحن الديوويين [من جون ديووي] أن نمتلك تاريخاً لنعرف ارتقاء جنسنا البشري، تاريخ تشدد وقائعه الحديثة على الكيفية التي تطورت بها الأحوال في الغرب طيلة قرون قليلة مضت، ويخلص إلى اقتراحات عن الكيفية التي يمكن لها أن تتقدم أكثر في القرون القليلة القادمة. لكن لو سأل سائل عن التباينات الثقافية، عما ينبغي لتاريخنا أن يفعله مع الصينيين والكاشيناهو، لا يمكننا الرد سوى أن التواصل، على حد علمنا، مع هذه الشعوب قد يفيد في تعديل أفكارنا الغربية عن أفضل المؤسسات التي يمكن لها أن تجسد روح الديمقراطية الاجتماعية الغربية... إن هذا الضرب من التمركز العرقي هو، نعتقد نحن البرغماتيين، أمر لا بد منه ولا اعتراض عليه... ليس بمقدورنا أن نسلخ جلد الديمقراطية الاجتماعية الغربية عن أنفسنا حينما نواجه ثقافة أخرى ولا ينبغي علينا أن نحاول. كل ما علينا فعله هو أن نمكث ما فيه الكفاية داخل قاطني تلك الثقافة لنحصل على بعض الأفكار عن الكيفية التي ننظر بها إليهم، ونرى إن كان لديهم أفكار نستفيد منها. ‏

    من بالغ الصعوبة تلفيق فقرة أكثر بعداً، في ثقتها بنفسها وغلبتها الثقافية العرضية، عن روح عمل دريدا. لكن الموقف الذي تجسده ليس مشدوداً إلى نير زعم كواين وحده، بل تبعة ضرورية لهذا الزعم مثلما يعبر عنه ويلر: "ثمة فحسب جمل مقبولة في متن معين للخطاب". إن توسيعاً ملائماً لهذا الزعم وإضفاء صبغة أكثر راديكالية عليه، كفيلان بأن يفسحا الطريق لتفسير دافيدسون "للتأويل الراديكالي" الذي بدوره سيخلي الطريق للنتيجة التي يستكشفها دافيدسون في فكرة منظومة مفهوماتية بالذات أن ليس ثمة "أساس واضح يمكننا بناء عليه القول أن المنظومات مخلتفة". ففي حين أن اللغة في نظر دريدا تسلمنا من انجراف مستمر للمألوف إلى الاختلاف والإرجاء، إلى الآخرية، نجد أن طبيعة التأويل البراغماتية في نظر دافيدسون تجعل من المستحيل مبدئياً لأية آخرية راديكالية أن تظهر نفسها في "اللغة" التي تصبح بناء عليه وعلى نحو قاطع وأبدي لغتـ"نا". وندلف من هنا إلى إعادة تقديم رورتي، من الباب الخلفي للبراغماتية، إذا جاز التعبير، وفي ظل يافطة الديمقراطية الغربية المطامنة، من دون شك، لبعض الأسماع، وعلى وجه التحديد مزاعم الميتافيزيقيا الغربية التي قضى دريدا حياته مُجدّاً في قتالها، نقول إعادة تقديمه لكيفية الوصول إلى "التاريخ العالمي" وحتمية علاقة مع الآخرين تأنف أن تواجههم- في حين أنها قد تبحث فيهم وتستفيد منهم- بوصفهم أفراداً متخلصة بذلك من فهم غريب غير أنه مكافئ لما ينبغي أن يكونه الإنسان كي يكون إنساناً.‏



    دريدا وهابرماس في الأدب والفلسفة‏

    الاعتراض الرابع في أن دريدا يخون قضية العقل بإسباغه غشاوة على التمايز بين الخطاب الأدبي والخطاب العلمي، يفصح عنه يورغن هابرماس ويوضح حدوده بقوة. شأنه شأن رورتي، وعلى نحو سديد من دون شك، ينظر هابرماس إلى دريدا، بوصفه يخاطب المشكلة التي تمخض عنها كامل "خطاب الحداثة" في ما إذا كان ممكناً إضفاء سمة المصداقية على معايير العقل الغربي وكيف يتم لها ذلك؟ مثل رورتي أيضاً، يرغب هابرماس في أن يحتفظ بشيء من السيطرة على فكرة التاريخ العالمي، مع أنه سيسلم ورورتي بأنه لا يمكن لها أن ترتكز على البراغماتية سواء أكانت براغماتية ديووي، كواين أم براغماتية دافيدسون على مختلف أنواعها، كما لا يمكن الزج بفكر دريدا في خدمة مثل هذا المشروع. إذ أن دريدا، في رأي هابرماس، عدو العقل بصراحة؛ فهو أحد الأشخاص الذين يريدون "بسط سلطان البلاغة على دائرة المنطقي". وخطأ دريدا، وفق هابرماس، هو ما يراه رورتي وويلر بكونه فضيلته الرئيسة إذ لا يرى بديلاً ثالثاً، من جانب، للإحالة إلى خارج النص Logocentrism التي تقرن الدفاع عن المعايير العقلانية بميتافيزيقيا الحضور، ومن جانب آخر، لا يرى بديلاً ثالثاً للنسبية التي تجعل من ثوابت الصحة والنقد العقلاني داخلية في الممارسات اللغوية والمتعلقة، في نهاية الأمر، باحتمالات الافتراض، التاريخ والمصالح العملية المشتركة التي حدث أنها وسمت مجموعات بشرية معينة بسمة مميزة. يقترح هابرماس خياراً ثالثاً يبلغ، في الواقع، مصاف الاستدلال المتعالي لمعايير العقل لكونها شروطاً مسبقة لإمكانية التواصل:‏

    إن ألعاب اللغة لا تفعل فعلها إلا لأنها تسلم جدلاً بـ"أوضاع مثالية" Idealizations تتعالى على أية لعبة لغوية محددة؛ ولكونها شرطاً ضرورياً لاحتمال بلوغ الفهم، تحدث هذه الـ"أوضاع المثالية" منظور اتفاق متاح للنقد على أساس مصداقية المزاعم... واستناداً إلى هذه الحاجة لإقامة الاختبار ضمن الممارسة العادية يمكن للمرء التمييز، مع أوستين وسيرل Searle، بين الاستخدامات "المعتادة" للغة واستخداماتها "الطفيلية".‏

    ومن طريق الاحتكام إلى الـ"أوضاع المثالية" المختلفة والمعايير المقترنة بالمصداقية التي تحكم الأنماط المختلفة للمشروع اللغوي، يمضي هابرماس حثيثاً في إقامة تمايز بين "لغة الفلسفة والعلم"، ولكونها مخصصة إلى حد بعيد لـ"أغراض معرفية فهي مطهرة من كل ما هو استعاري ومجرد بلاغي، منعتقة من الاختلاطات الأدبية"، وبين اللغة الأدبية المتصورة بوصفها لا تُعنى إلا بإمكانية "العالم التوليدية" للغة نفسها. لا يعير هابرماس بالاً، على ما يبدو، لما قد تكونه فكرة النشاط الأدبي المتصورة في هذه المصطلحات؛ الحال، أنه يذكر ها بعبارات- مثل "لا تواصل شؤون العالم"، تخول "الأفعال الإنشائية"- بـ"خلق لعوب لعوالم جديدة، أو بالأحرى بإثبات قوة العبارات المبتكرة للغة في الكشف عن العالم"- توحي بأنها قد لا تملك أية فكرة أساسية على الإطلاق. إن وجود الأدب في نظر هابرماس شيء من الأحجية، وقد كان كذلك ولم يزل بوجه عام بالنسبة للمنظرين في أوساطنا. إلا أنه صريح في أن الأدب لا يملك دوراً في تكوين هوية المرء سواء أكانت شخصية أم ثقافية، كما لا يملك دوراً في تشكل وجهة النظر أو مصطلحات ترابط المجتمعات، إذ أن هذه المهمات تقتضي ضمناً وظائف معرفية هي ميدان مقصور على "العلم والفلسفة".‏

    إن السيرورات التي تجري لغوياً كاكتساب المعرفة، توارث الثقافة، تشكل الهوية الشخصية، إضفاء السمة الاجتماعية، والدمج الاجتماعي منخرطة جميعها في التغلب على مشاكل يطرحها العالم... وهذه السيرورات التي تجري لغوياً ضمن العالم هي، في نظر دريدا، مطمورة في سياق مكون للعالم يضر بكل شيء: إذ تستسلم بنوع من القدرية للحدث المتعذر ضبطه لإنتاج النص. ‏

    قد يكون الدفاع عن دريدا ضد هذا الهجوم من طريق التنويه إلى المدى الذي يقترب فيه هابرماس من المغالطة المنطقية. إذا كان دريدا على حق لتوقع المرء أن الحدود بين العقل والبلاغة ستبدأ في التدفق والاندماج عندما تتجلى الاستنادات المتبادلة الغامضة المبيتة في تعقد هذه المقولات المستقلة والمتضادة جذرياً في الظاهر فحسب. يسلم هابرماس جدلاً أن هذا لا يمكنه أن يحدث بما أن الطلاق بين العقل والبلاغة الذي يتعالى على دفق اللغة هو فوق لعبة الاختلاف والإرجاء ووراء نطاقها. غير أن هذا في حد ذاته يثبت ما ينكره دريدا في أن مثل هذه المقولات المميزة لطريقة التفكير "الغربية" على الأقل منذ حركة التنوير الفلسفية ليست مجرد نتاج موضعي لإمكان تاريخي آخر، بل تحررات أبدية للعقل الأزلي الثابت. من المحتمل، بطبيعة الحال، أن أطروحة رفيعة وإيجابية كهذه قد تتوقف على دفاع سلبي متواضع. فالحد الفاصل بين العقل والبلاغة قد يتجاوز التمايزات المألوفة والواضحة تماماً مما يجعلها وراء نطاق قوة المحاجة، مهما كانت بارعة ودقيقة، لتحل محلها. بيد أنه من الغامض ثانية ما الذي ستكونه هذه التمايزات. إن أكثر الطرق حصافة ووضوحاً لتمييز تقارير "العلم والفلسفة" عن مثيلاتها في الأدب تركز على التخييل الجلي لهذا الأخير. على أن، ليس ثمة ما يقتضي في موقع دريدا، بقدر فهمي له، أن ينكر التمايز بين تقرير أدبي كـ: "لا بد أن أحداً ما كان يلفق الأكاذيب عن جوزيف ك، فمن دون أن يسيء إلى أحد اعتقل في صبيحة يوم جميل"، والتقرير الواقعي كـ"تبعد الأرض قرابة 93000000 ميلٍ عن الشمس "الناشيء عن واقعة أن هذا الأخير يدعي الحقيقة وهو في الواقع حقيقة. لا يقول دريدا، بأي معنى تافه مناف للعقل، بأن العلم "مطمور" في الأدب. ولا يتعهد، كما أشرنا، بالزعم المنافي للعقل على السواء كسابقه في أنه من المتعذر تطهير الخطاب العلمي، على الأقل ضمن حدود معينة وفي الأقسام المحكمة على نحو معقول للعلوم الطبيعية، من الاستعارة بالمعنى العادي للمزاعم التي تكون صدق شروطها إما مصمتة أو غير أساسية لوظائفها في الخطاب.‏

    لكن إذا كان الإخفاق مصير الدفاع السلبي المتواضع لمقولات هابرماس فلا خيار لديه، إذن، إلا أن يقدم دفاعاً أكثر إيجابية ورُقيّاً، ويجب على المحاجة المتعالية التي أشرنا إليها آنفاً أن تتبوأ كامل أهمية المحاجة. فهل يمكنها فعل ذلك؟ إن دعوى دريدا المضادة هي، في الواقع، أن مصطلحي العلم والأدب، كباقي المصطلحات، لا يضفى عليهما المعنى من خلال وضع الواحد منهما تلو الآخر، إذا جاز التعبير، بالاشتراك مع المضامين المفهوماتية المعطاة بكمال ونهائية مطلقين للوعي، بل هي مصطلحات مفهومة فقط من خلال علاقاتها مع بعضها البعض في لغة هي نفسها لغة محتملة، كيان تاريخي، لغة شعب من الشعوب، لغة قبيلة أو ثقافة، ولكونها كذلك فهي عاجزة عن مقاومة القوى التي تقشر معاني جديدة وظلال معان من القديمة في سيرورة ليس لها نقطة أصل محددة ولا نهاية.‏

    إن أقٌوى ورقة يمكن لهابرماس اللعب بها الآن هي الزعم أن تقسيم معين لوظائف "الأدب"، من جانب" ووظائف "العلم والفلسفة"، من جانب آخر، أمر لا بد منه لأن "الأوضاع المثالية"، معايير تحديد نجاح مزاعم الشرعية أو إخفاقها التي تعين هذه الوظائف، هي "شرط ضروري (لاحتمال) بلوغ الفهم". قد تنشأ الأوضاع المثالية التي نحن بصددها خارج اللغة، بما أنها "مفترضة مسبَّقاً" من قبل "ألعاب اللغة، وبما أنه كيما تفعل محاجة هابرماس فعلها، يجب أن تكون هذه الأوضاع المثالية منيعة على "الحدث المتعذر ضبطه لإنتاج النص" الذي يسيطر على جوانية اللغة.‏

    من المؤكد أنه ينبغي على المرء أخذ الحقيقة على أنها حالة واضحة ومركزية لمثل هذا الوضع المثالي. وبمقدور المرء الآن استدعاء فتغنشتين لمساندة دريدا. لكي يكون ثمة استخدام عام للمصطلحات بأية حال، يجب أن يمتلك المتكلمون منفذاً مشتركاً إلى المعايير التي تفرق بين تطبيق صحيح لمصطلح وبين استخدامه على نحو خاطئ أو فارغ. ذلكم، هذه المعايير التي توضح جوهرياً أن ما يصل إليه التمايز بين حقيقة أسرة هذه التأكيدات وزيفها أو تلك في الممارسة يجب أن تكون داخلية في اللغة؛ إذ لا يمكن لها أن تكون أوضاع مثالية تطبق "من خارج اللغة" على لغة يتم تصورها على أنها تؤدي وظيفة بطريقة أو بأخرى، على اعتبار أنه لا يمكن أن تكون هناك لغة تقوم بوظيفتها إلى أن توطد طبيعتها وإواليات اشتغالها.‏

    الحقيقة، باختصار، فكرة داخلية في لغة بذاتها، وليست وضعاً مثالياً مقترنة مع ضروب معينة من المشاريع تتم مواصلتها عبر لغات يمكن لها أن توجد بوصفها لغات بين متكلمين محرومين على نحو لا يمكن إنكاره من إمكانية "بلوغ الفهم" من دونها. من هنا، فإن تفسير هابرماس ما بعد النهضوي المعين تاريخياً وثقافياً إلى أبعد حد للوظائف النسبية للعلم- مشارك- الفلسفة والأدب لا يمكن الدفاع عنه بوصفه تعالياً أزلياً على "أية لعبة لغوية خاصة"، ذاك أن تقسيم الوظائف التي ينطوي عليها تتولد من طبيعة الأوضاع المثالية التي يفترضها مسبقاً بالضرورة إمكانية طرائق الفهم غير المنصوص عليها سابقاً من قبل لغة ينظر إليها بوصفها حاصل "لعبة لغوية خاصة".‏

    الحق، يبدو ثمة شيء توقيفي، مع أنه مألوف تماماً، حول تقسيم العمل بين العلم/الفلسفة والأدب الذي يقترحه هابرماس. لم ينبغي، مثلاً، أن يمنع الأدب من التأثير في "تشكل الهوية الشخصية"؟ الهوية الشخصية هي لا محالة مسألة نزعات متأصلة إلى حد بعيد، تستجيب بطرق معينة لأنماط معينة من المواقف. إن نزعات استجابة، كهذه، كثيراً ما تترافق مع الميول المعتادة على حد سواء؛ لتفسير أنماط المواقف التي نحن بصددها بطرق تخطيطية، إن لم نقل مقولبة، إلى أبعد حد. فالرواية والمسرحية قد تطور تضمينات مواقف بطرق، هي على نحو مقنع حقيقية لتجربة القارئ في الحياة، تُفْقِد على نحو خطير استقرار طرائق التفسير التخطيطية المألوفة له وتشوش على نحو خطر استتباب طرائقه المعتادة في الاستجابة لمثل هذه المواقف. بذاك، سيعتقد المرء، أن الأدب يؤثر حتماً على "تشكل الهوية الشخصية". يتوافق هذا التسليم مع الخبرة الشخصية لغالبيتنا التي تحتفظ، من بين التأثيرات العديدة التي جعلتنا على ما نحن عليه، بمكان مهم للروايات والقصائد والمسرحيات التي كانت مصدر خبرة لكل امرئ.‏

    والغريب، يبدو لي، أن المرء بمقدوره الاقتراب من لب ما يفصل دريدا عقلانياً عن هابرماس، وبالتالي الاقتراب للسبب نفسه من غالبية نقاد دريدا، من خلال تركيزهم هنا على بلاغة محاجة هابرماس. لنأخذ مثالاً عبارة "الحدث المتعذر ضبطه لإنتاج النص". فهابرماس يستخدمها لتوصيف ما يجري في الأدب، على النقيض من "السيرورات التي تجري لغوياً" التي تكون حياة العلم والفلسفة. فالتضاد الذي تنقله الكلمات عاطفياً (لكن، هل مفردة عاطفي هي المفردة السليمة؟ هل يمكن للمرء، بأية حال، أن يميز بوضوح بين عاطفية ما يقوله هابرماس هنا، بلاغيته، نغمته وفحواه؟) هو بين استخدام اللغة لتنفذ "السيرورات" التي تتعالى على اللغة، من جانب، وبين انغماس مسكر في اللغة التي تتنازل عن كامل السيطرة الواعية للذات فوق طبيعتها نفسها إلى المقتضيات المترنحة لعباب الكلمات المتناثرة على نحو يتعذر ضبطه.‏

    إن ثيمة الأدب والفن هذه بشكل عام بوصفها تقتضي ضمناً تنازل الذات عن نفسها من طريق الهجر عن العقل وضبط النفس الأبولوني إلى القوى الديونيسوسية هي، كما يذكرنا هنري ستيتن Henry Staten، ثيمة في غاية القدم. إنها، كما يقترح ستيتن على نحو لافت، الخوف من فقدان هوية الذات، الذي يحث توصيف أفلاطون لـ"أداء أيون Ion راوية القصيدة الملحمية بوصفه أداء ميكانيكياً آلياً": "إن التحكم العقلاني الواعي تماماً للمنطوق الذي يبتغي- الحقيقة هو الوقاية الوحيدة ضد تشظي الذات التي تخبو في عباراتها." ‏

    غير أنه، إلى أي مدى يستطيع "التحكم العقلاني" أن يمضي؟ إن الفكر الذي يوحّد هابرماس ومن ورائه، بطبيعة الحال، كامل الجناح العقلاني لحركة التنوير الفلسفية مع أفلاطون عن طريق تلك المفردة المكروبة "المتعذر ضبطه" هو أن "تشكل الهوية الشخصية" ينبغي أن يمضي قدماً على نحو مثالي في ظل تحكم السيرورات التي، مهما كانت مبتكرة، تستبقي عند مستوى عميق معين صفة الاختيار العقلاني. بعبارة أخرى، إذا كانت الذات تتغير وجب عليها فعل ذلك لأنها، على مستوى معين أعمق، تقرر لأسباب وجيهة أن تتغير وبذا لا تتغير على ذلك المستوى بل تبقى هي نفسها على نحو منيع. يبدو من وجهة نظر هذا النموذج أنه على البديل أن يقر أن الذات لا تملك وحدة وبالتالي لا تملك وجوداً، بل تتكسر إلى ما لا نهاية وعلى نحو لا عقلاني في محاذاة تصدعات نص دريدا ولا نهائيته. يبدو لي أن الرعب الذي يميل بعض القراء إلى الشعور به في قراءتهم دريدا، شأنهم في قراءة نيتشه، ينشأ من واقعة أن دريدا، مثل نيتشه، يستحضر تهديد قصور الذات في النواة المنيعة للمداولة العقلانية التي تكوّن وفق النموذج العقلاني وحدة الذات.‏

    وبَعدُ، عندما تُعلَن نظرية العقلاني عن الذات بهذه الصراحة الشديدة، أيمكن الدفاع عنها عن بعد؟ لنفترض، ملتفتاً إلى الماضي، أني تغيرت، بت شخصاً مختلفاً نوعاً ما، لنفترض أيضاً أنه يمكن أن نعزو ذاك التغيير إلى اللحظة التي انتهيت فيها إلى تقدير تلك القوة العقلانية لمحاجة معينة حق قدرها؟ فهل يمكن القول دائماً أنني اخترت عن عمد، من خلال نسق محاجات مضمرة على نحو أبعد نوعاً ما، لأصل إلى أن المحاجة التي نحن بصددها مقنعة؟ مؤكد لا؛ أو بالأحرى، ألن يكون مثل هذا الافتراض في غالبية الظروف هو نفسه افتراضاً توقيفياً؟ إذ يجب أن تنتهي الأسس التي تجعل من محاجة ما مقنعة في مكان ما. إن سأل سائل عما نجده مقنعاً في الأسس المقدمة لاستنتاج معين، فإننا ننتهي أن نصرح ثانية بهذه الأسس على نحو كسيح فقط. لأنها هي، وحدها، الأسباب التي تجعل لتلك المحاجة وزناً بالنسبة لنا. لقد ترنحت ثملاً مبتعداً عن نفسي ليس إلا، على جهل بالأنواع الأبولونية للسعار الديونيسوسي، على أثر الحدث المتعذر ضبطه لإنتاج المحاجة! في هذا السياق الذي هو، بطبيعة الحال، بوضوح طريقة جنونية في التعبير عن الأشياء. ولكن هل الأمر أقل جنوناً في سياق تغير طريقة نظر المرء إلى الأشياء التي يحدثها الأدب؟ حينما يتحدث المرء عن مثل هذه التغييرات التي تحدثها البلاغة، بالمعنى الحديث للمصطلح، يكون الإيحاء، بالطبع، أنها أنجزت بوسائل لا عقلانية أو ما دون عقلانية، من خلال الإقناع أو غسل الدماغ. ولكن، أيمكن صون ذلك جدياً، بالنظر إلى غنى العلاقات بين التخييل الأدبي الجاد والواقع؟ ولمّا يقيم وليم بليك في قصيدته لندن علاقة بين:‏

    كَمْ مِنْ صَرْخَة كنّاسِ مَداخِنٍ‏

    أرْعَبَتْها كُلّ كَنِيسَة مُسْوَدَّة؛‏

    وتنهيدة الجندي المَنْحُوس‏

    دَماً تنحدر على جُدْرانِ القَصْر. ‏

    فهل ينبغي لنا أن نقول إنه ينقلنا إلى أرض أحلام مؤلفة من كلمات (حيث أعدُّها هي ما يتحدث هابرماس عنها على أنها "قوة العبارات المبتكرة للغة في الكشف عن العالم" التي تتحول إلى معناها الحقيقي في لغة واضحة)؟ أم أنه من باب أولى يقدمنا إلى تجميع قسري غاشم للأشياء التي نعرف تماماً أنها مترابطة في العالم الواقعي، على أننا نتمكن من أن نبقيها بعيدة عن بعضها ما فيه الكفاية في تفكيرنا ومشاعرنا اليومية إذ أن هذه الارتباطات تصبح غير واضحة ومخففة إن بقيت لافتة للنظر بأية حال؟ أجد صعوبة في إنكار أنه عندما يجبر المرء، كما تجبره الأبيات السابقة، على تذكر هذه الارتباطات والتأمل فيها، تكوّن التجربة ما لا يمكن للمرء إلا أن يدعوه محاجة بسبب من نوعية راديكالية بليك السياسية. يبدأ العقل والبلاغة، المحاجة والإحساس المعمق- مقولات لا يألو هابرماس جهداً أن يحجب فيما بينها- في أن تغشي الواحدة الأخرى في مثل هذا الشعر، لتكشف عن التواطؤ والاستنادات الخفية من النوع الذي سيقود المرء إلى أن يتوقعه في قراءته دريدا. الحق، أن هذه التغشية من صفات (أريد أن أقول) الأدب العظيم.‏

    إذا كان على المرء أن يتحول إلى الراديكالية (ليطور ضرباً مختلفاً للذات إلى حد ما) كنتيجة لقراءته بليك، فمن الواضح، إذن، أن أي فعل أو خيار، سوء أكان عقلانياً أم فعلاً حراً، لن يتسبب في أن تنشأ تلك الذات من السابقة؛ الذات قبل- تاثير- بليك. من وجهة نظر الذات السابقة قد تكون آراء الذات الجديدة لعنة. ولعله لا يمكن للمرء أن يتنبأ من معرفة الذات القديمة إمكانية انبعاث الذات الجديدة. بعبارة أخرى، من وجهة نظر الذات "القديمة"، يوضح التغيير فقط أنماطاً من القلقلة واللانهائية هذه التي يجدها قراء دريدا العقلانيون مروعة. أمر لا يدعو إلى الدهشة، فما نتعامل معه هنا هو حدث النمو الشخصي حيث أن عقلانيته أو عدمها هي مسألة بعض تحكم ضمني تبذله الذات "القديمة"، بل هي قدرة الذات "الجديدة" في أن تبني من جديد سيرورة التغيير من حيث التصور المعدل الخاص بها عما يعد عقلانياً؛ بعبارة أخرى، تصور قد يكون أحد ثمرات التغيير بعينه الذي يجعله واضحاً. يبدو لي، الآن، للأسباب التي وضعت لها مخططاً هنا، والتي أسهبت فيها في مكان آخر، أن إعادة البناء ليست أصعب في حالة تغيير النظرة الشخصية الذي يسببه الأدب منها في حالة تغيير النظرة الشخصية الذي تسببه المحاجة العلمية أو الفلسفية. ويبدو لي، إلى ذاك الحد، أن مقولات العقل والبلاغة التي يتهم هابرماس دريدا بأنه يخلط فيما بينها هي، إن لم تكن زائفة، على الأقل مقولات تظهر بتعمق الأنواع الدريدية للاشتراك الضمني.‏

    قد تبدو هذه الطريقة في الدفاع عن دريدا ضد هابرماس أنها تجعل فكره يتبدى أقل راديكالية، وأقل فوضوية مما أُظهِرَ عليه غالباً في المجادلات بين النقاد الأدبيين التفكيكيين ومن هم ضدهم، التي احتكرت نقاش عمله حتى الآن.لكن أعتقد أن ظهور صراع الخندق الأخير بين العقل والفوضى الذي يسم هذه المجادلات انبثق جزئياً من سمة النظريات والمناهج النقدية- النقد الجديد الأمريكي بالدرجة الأولى- التي قاومها التفكيكيون. يرى النقد الجديد- موضوع سلسلة من التحذيرات لسنا في حاجة للخوض فيها هنا- أن العمل الأدبي يمتلك معنى من شأن الناقد أن يشرحه، ولكن لا تستطيع أية إعادة صياغة نقدية للنص أن تمنح ذلك المعنى بأكمله، ولكن تجربة قراءة كلمات النص، مع فهم كامل ودقيق، تستطيع أن تمنح المعنى بكامله ونهائياً. جادل النقاد التفكيكيون في الواقع، على غرار دريدا، أن فكرة المعنى الكامل للنص في اشتقاقه من تجربة قراءة رفيعة الثقافة ومطلعة على نحو مثالي (حتى لو فسر بوصفه معنى تعددياً يعانق الاحتمالات المتقابلة للتأويل) كانت أضغاث أحلام: ذاك أنه في طبيعة نص ما بوصفه نسيجاً من كلمات ذات علاقات حرون من اختلاف الواحدة مع الأخرى وإرجائها ومع علاقاتها مع النصوص الأخرى، لا يمكن الحيلولة دون انتثار المعنى من دون حدود. وقد رد النقاد ضد- التفكيكيون، بالطبع، أن هذا كان معادلاً للقول أنْ ليس ثمة نص يملك أي معنى، أو أي معنى واقعي، على الإطلاق. لكن، هل يمكن للمناقشات الجدلية أن تظهر الاختيار بين هذه الخيارات بوصفه حقاً أمراً حتمياً، والخيارات نفسها بوصفها مستنفدة؟ ولِمَ ينبغي أن نعتقد بنص أدبي له معنى فوق معاني كلماته وجمله ووراءها؟ لماذا لا نعتقد بدلاً من ذلك بقوة كل من إفقاد استقرار استجابات القراء وإثارتها، بدون وضع أي حد لسلسلة الاستجابات التي قد تثار بطرق غير متوقعة بربط كلمات النص مع بعضها أو مع كلمات من نصوص أخرى؟ إن مثل هذه القيود غالباً ما يفترضها المقصد الخاص بالمؤلف. ولكن هنا، أعتقد أن دريدا على حق في أن ينكر، ليس ما نفهمه من أن المقصد الخاص بالمؤلف يصنع اختلافاً في التأويل، بل بأننا نستمتع بالوصول إلى المقصد الخاص بالمؤلف مهما يكن؛ إذ هو نفسه أكثر من مجرد شيء يصنعه التأويل (أي "تأثير الاختلاف والإرجاء"). فرضاً، قد نحتاج الكثير من إعادة التأويل لتحويل، لنقل، ستيرن Sterne من فاسق تنويري ساخر كما رأى فيه الفيكتوريون إلى نصراني ساخر ولكنه مخلص تماماً، غير أن، كما حاولت أن أبرهن في مكان آخر، هذا التحول في وجهة نظرنا نحو مقاصد ستيرن يستطيع أن ينظم محاجات قوية تماماً لصالح [التحول]. ‏



    خاتمة: دريدا، فتغنشتين، وأرسطو‏

    لا يمكننا التغاضي عن الفكرة الأخرى التي يطرحها هابرماس ضد دريدا ومفادها أنّ التفكيكية بتقديمها نقداً مَحْضاً سلبياً للميتافيزيقيا ليس بمقدورها أبداً أنْ تَنْعَتِقَ بِصرامة منها. على حدّ تعبير هابرماس: "يرث دريدا نقطة ضعف نقد ميتافيزيقي لا ينفلت من مقاصد الفلسفة الأولى. "فالإخفاق، بالطبع، سمة حتمية لموقع دريدا. لا انعتاق من الميتافيزيقيا لأنه لا انعتاق من اللغة ولأن الدافع إلى الميتافيزيقيا، إلى التسليم بالتماثل بين المقومات الأولية للواقع والمدلولات الأساسية للغتنا، مضمّن في التصوّر السوسيري للعلامة بوصفها توحيداً بين دال ومدلول.‏

    والمرء يمكنه دفع ذاك النقد إلى مدى أبعد. حقاً، قد لا يكون ثمة طريقة، كما يجادل دريدا، في أن نؤسّس أساليب كلامنا على صنف معيّن من المدلولات، الممنوحة من خارج اللغة للوعي أو لأيّما شيء آخر، إذ ليس من طبيعة المدلول أن يُمْنَح من خارج اللغة. لكن، لم ينبغي على المرء أن يبيح لفكره التّقيّد، والحال أن دريدا كثيراً ما يبدو عليه، بتحليل سوسير للعلامة؟ لِمَ لا ينبغي على المرء أن يحذو حذو فتغنشتين في تأسيس طرقنا في استخدام الكلمات على الممارسات المفهومة ضمناً؟ ربما تكون القضية الـ في النحو الفلسفي نصّاً فاصلاً هنا:‏

    إنّ دور الجملة في الحساب التحليلي هو فحواها.‏

    فمنهج لقياس - الطول، مثلاً- له علاقة بالنسبة لصحّة تقريرٍ ما عن الطول تماماً كنفس علاقة فحوى جملة ما بصدق هذه الجملة أو زيفها.‏

    وبخلق ممارسة، للقياس في هذه الحالة- وهي لا تحتاج إلى أكثر من مقارنة الحيز الذي تشغله أشياء متباينة على نحو نظامي عبر رؤية عدد المرّات التي نمدد فيها شيئاً آخر، موظّف قياسياً لهذه الغاية، قبالة الحيّز من أقصاه إلى أدناه - نقدّم أسلوباً لتحديد صدق أو زيف أيّ طرف من صنف القضايا التي لها شكل: طول m n A على أنّ A هو ما سنقارنه بشيء آخر و m معامل القياس (ما يُستخدم بانتظام في تأسيس مقارنات من هذا القبيل). إننا، بعملنا هذا، نستحضر مجموعة من العبارات الجديدة إلى الوجود بوصفها عناصر ممتلئة المعني في لغتنا: الطول، أطول من، مُعامِل الطول، وغيرها. مع ذلك، لم يستلزم منح معنى لكل عبارة من هذه العبارات ربط أيّ منها بكيان، مدلول، سواء أمُنِحَ هذا الكيان للوعي أم كوّنته اللغة. لقد استلزم ببساطة منح كلّ تعبير دوراً أو استخداماً معيّناً في سياق ممارسة هي بدورها لم تؤسّس على القواعد أو المقاصد بل ببساطة تأسّست على ما نفعله.‏

    إنّ هذه الرؤية إلى الأشياء، كما بيّن هنري ستيتن، تقدّم عناصر متعادلة [وحدات متماثلة في تركيبها] لعدّة استنتاجات في فكر دريدا، بما فيها الميثولوجيا البيضاء. فبما أنّ المعنى يؤسّس على ما نفعله، وبما أنّ ما نفعله يمكنه أن يتغيّر وهو غير "مقيّد في كلّ مكان، مهما كان، إلى القواعد"، ليس ثمة جواب نهائي للسؤال عمّا هو المعنى "الخاصّ" لتعبير ما. المعاني، في نظر فتغنشتين ودريدا، يتمّ التوسّع فيها داخل اللغة، إذ ليس ثمة علامة لها معنى مستقل عن باقي العلامات: "لفهم جملة ينبغي فهم لغة"57-. والممارسات التي تنتج صدق الشروط، حينما تفصل عن تلك الوظيفة، قد تنتج أيّ عدد استعارات -من النمط الذي يميّزه أرسطو بوصفه "من طريق القياس"58- لن تنتج أبداً، من خلال السيرورة التي يسخر دريدا منها بتورية على أنها الـ USURE، أيّة عودة لـ "الخاصّ"، ولن تنتج أبداً المعنى المشروط بصدقه.‏

    إلاّ أنّ فتغنشتين ليس نسخة كامبردج أو فيينا عن ديريدا، والتباين المركزي بينهما هو أنّ تصوّره عن الارتباط بين المعنى والممارسة، في المرحلة المتأخرة من فكره، قد حرّره من قبول أية نسخة من فكرة أنّ المعنى علاقة بين عبارة، علامة، وشيء آخر: مفهوم، مدلول، نسق صدق شروط. وحرّره أيضاً من الدائرة الفلسفية؛ "قارورة الذباب" إذا استخدمنا إحدى استعاراته، التي نطَنْطِن فيها سدىً عن فكرة وجوب أن يكون من الممكن أن نلصق معنى محدداً بكل عبارة قائمة بذاتها في لغةٍ بناء على رأي مفاده أن هذه الغاية يمكن بلوغها من خلال التفاف عبر اللغة برمتها، والعودة ثانية. أشرنا آنفاً إلى إواليات اشتغال ثنائي الأفكار ذاك في ذهن المثالي برادلي. تلك الثنائية التي أصبحت، من طريق كواين، البديهة المؤسّسة للكثير من تفسيرات الفلسفة الأمريكية المعاصرة في محاولاتها الحديثة لربط دريدا بالموروث الكوايني. يحاول هذا الموروث التخفيف من حدّة المفارقة في المكوّن الثاني من الدائرة عبر جعل المهمة المعينة للمعنى إمبيريقية وشرطية، مجرد مسألة إمكانات التفسير على ضوء التصديق أو المخالفة الفطري. ويفعّل دريدا من جهته المفارقة لأهميتها قلت أم كثرت من خلال التشديد المستمر على أنّ الالتفاف عن طريق اللغة التي يمكنها وحدها أن تقودنا إلى معنى حاسم لعبارة قائمة بذاتها هو التفاف غير محدّد أو أقلّه التفاف طويل على نحو غير محدّد. لن تعود سفن المعنى محمّلة بغنى جديد للحرفيّ، للمعنى "الخاصّ" لأنها لن تعود البتّة.‏

    أما في نظر فتغنشتين، فإنّ السفن ليست بحاجة لأن تشرع في الرحلة منذ البداية. نحن نعرف ما تعنيه طول 3X سنتيمترات إذْ نعلم أنّه بمقدورنا تحديد صدق أيّة جملة لها هذا الشكل أو زيفها بإنفاق مال ووقت متواضعين لشراء مقياس وحدة طول والكشف عن الكيفية التي نقيس بها. وما قد يحدث بالتالي لكلمة طول في رحلتها اللاحقة عبر الأدب والحياة لا يعنينا لأن هذه الرحلات ليست رحلات بحث عن معنى حاسم للكلمة يأخذ على عاتقه ثمناً ينبغي دفعه فقط بسبب من عودته الإشكاليّ، بل من بابٍ أولى هي بعثات لإقامة فرع منافذ وصناعات جديدة للمعنى مولّتها المصادر الأصلية للممارسة المؤسّسة.‏

    إن الحركة التي تحرر فتغنشتين من المفارقة التي ولّدتها فكرة أن الكلمات يجب أن تصل إلى شيء ما غير ذواتها، ولكن تستطيع فعل ذلك فقط من خلال بعضها بعضاً، تحرره أيضاً من مشروع الميتافيزيقيا الغربية المتصوّر بوصفه سعياً وراء الحضور الممتلئ للمعنى ونهائيّته. بعبارة أخرى، أنّه متحرّر من الاشتراك شبه الطفيلي الذي، كما يشير إليه هابرماس عن حق، يربط التفكيكية بما تفككه وقد يربط بالطريقة نفسها مشاريع تحليلية معينة، مهما تكن علميّة في طموحها، إلى مشاريع عتيقة للميتافيزيقيا الغربية تنظر إلى نفسها بوصفها قد تجاوزتها.‏

    تقود هذه الفكرة إلى أخرى. إن بقي فكر فتغنشتين خارج مشروع الميتافيزيقيا الغربية ألن يكون ثمة بعض، أو كثير، ممّا اعتبر تقليدياً بوصفه فلسفة خارج هذا المشروع ضمن مدى سواء أقلّ أم كثر؟ إلى أيّ مدى يتوجّه عمل دريدا، ليس إلى الفلسفة الغربية، إنّما إلى اتّجاهات معينة في الفلسفة الغربية التي باتت لها الغلبة في القرن السابع عشر، في المقام الأول بفضل زخم الديكارتية، وبقيت على ما هي عليه إلى القرن الحالي؟ كيف يكون الغرب، في الواقع، فلسفة غربية، إلى أيّ مدى صمّم حصن لتهميش الآخر غير الغربي ولإقصائه، وإلى أيّ مدى هي نفسها خليط من سائر ضروب التأثيرات: النصرانية، العربية، اليهودية، الهندوسية؟ إنه موضوع ضخم لتقديمه في هذا المقام الأخير ممّا بدأ على أنّه مقدمة غير أنّه مضى، ربما، إلى أبعد من حدود دراسة من هذا القبيل. لعلّه بمقدور المرء الإشارة إلى أنّ مثل هذا الموضوع يمكن البدء به عبر إمعان الفكر عن قرب أكثر لمعالجة دريدا لأرسطو في الميثولوجيا البيضاء. إنّ هذا الـ أرسطو هو سلف الميتافيزيقيا الغربية؛ أعني، أنه في نظره، يملك إحساس القرن السابع عشر الفرنسي. وقد ظهرت طرق متباينة لقراءة أرسطو في أواخر الستينيات، عبر عمل جون جونز John Jones، مارتا ناسبوم Martha Nussbaum، مايلز بيرنيت Myles Burnyeat، هيلاري باتِنم Hilary Putnam، وغيرهم. فباتنم مثلاً في مقالة لها بعنوان أرسطو بعد فتغنشتين تنفخ الحياة في أرسطوٍ يبدو، في استعداده أن يجعل الشكل تغزوه تقلّبات التجربة، قريباً من دريدا -أو فتغنشتين في مرحلته المتأخرة- أكثر مما هو عليه في ميتافيزيقيا الحضور.‏

    وهؤلاء الكتّاب جميعهم على حدّ سواء، بتذكيرهم لنا بشعور من الغرابة الشديدة تجاه الطرق القديمة في التفكير مقارنة بنافذتنا المفتوحة، مثل فتغنشتين، على الآخر المهمش بطريقة لا تفعلها كتابة دريدا تماماً رغم استكشافها الساخط النفيس للحيل وخداع النفس في سيرورة التهميش.‏



    تيريز. كوم
    17/11/2003

    [email protected]
    جميع الحقوق محفوظة بـ تيريز. كوم 2004
    ©copyright
    tirej.com,2002










                  

العنوان الكاتب Date
وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 02:45 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:20 PM
    Re: وداعا جاك دريدا سجيمان10-09-04, 03:26 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:23 PM
  Re: وداعا جاك دريدا Nagat Mohamed Ali10-09-04, 03:48 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:49 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 03:55 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 04:00 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-09-04, 04:04 PM
    Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 06:39 AM
      Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 06:50 AM
        Re: وداعا جاك دريدا AttaAli10-10-04, 07:14 AM
          Re: وداعا جاك دريدا Sinnary10-10-04, 08:27 AM
        Re: وداعا جاك دريدا عشة بت فاطنة10-10-04, 10:35 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:44 PM
  صبحي حديدي:بين جاك دريدا وتفكيك الزرقاوي osama elkhawad10-11-04, 03:47 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:53 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 03:56 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:01 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:03 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:06 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:07 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:10 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:14 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:17 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:19 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:27 PM
    Re: وداعا جاك دريدا Abomihyar10-11-04, 04:33 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:37 PM
  جاك دريدا:الدين في عالمنا osama elkhawad10-11-04, 04:40 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 04:47 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 05:00 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-11-04, 05:03 PM
  وداعا جاك دريدا ومفهوم "المغفرة" osama elkhawad10-11-04, 05:08 PM
  نظريات التلقي وتحليل الخطاب ومابعد الحداثة osama elkhawad10-11-04, 05:17 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:07 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:09 AM
  محاولة لمقاربة ابن عربي في ضوء ما بعد الحداثة osama elkhawad10-12-04, 09:16 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-12-04, 09:28 AM
    Re: وداعا جاك دريدا malamih10-12-04, 11:18 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-13-04, 08:12 AM
    Re: وداعا جاك دريدا Safa Fagiri10-13-04, 08:53 AM
  وجهة نظر اسلامية حول المعرفة في سياق الحداثة osama elkhawad10-13-04, 10:52 AM
  وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" osama elkhawad10-13-04, 10:58 AM
    Re: وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" تراث10-13-04, 01:29 PM
  عن هابرماس بالعربية osama elkhawad10-13-04, 05:42 PM
  من الحداثة وخطابها السياسي لهابرماس-تحدي الاصولية osama elkhawad10-13-04, 05:55 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 05:58 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:00 AM
  هابرماس ومفهوم التواصل osama elkhawad10-14-04, 06:04 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:17 AM
  هابرماس وبوش osama elkhawad10-14-04, 06:20 AM
  Re: وداعا جاك دريدا Yasir Elsharif10-14-04, 06:29 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:35 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:38 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:43 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:45 AM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 06:48 AM
  محاضرة لهايدجر osama elkhawad10-14-04, 07:04 AM
  Re: وداعا جاك دريدا abdalla BABIKER10-14-04, 08:10 AM
  رمضان كريم يا عبدالله osama elkhawad10-14-04, 12:00 PM
  مقالة كانط حول الانوار osama elkhawad10-14-04, 12:04 PM
  فوكو يقارب سؤال "ما هي الأنوار" osama elkhawad10-14-04, 12:08 PM
  هايدجر والاختلاف osama elkhawad10-14-04, 12:21 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:26 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:38 PM
  هابرماس يجيب عن سؤال "ما هو الارهاب؟" osama elkhawad10-14-04, 12:51 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 12:56 PM
  اكاديمي عربي يحكي عن علاقته بأفكار دريدا osama elkhawad10-14-04, 01:02 PM
  دريدا ونقد الميتافيزيقا الغربية osama elkhawad10-14-04, 01:14 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 03:16 PM
  حقل فوكو "الجزء الاول" osama elkhawad10-14-04, 03:20 PM
  حقل فوكو "الجزء الثاني" osama elkhawad10-14-04, 03:49 PM
  عرض للكتاب الذي سرق منه "الفيا" osama elkhawad10-14-04, 03:58 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-14-04, 10:55 PM
  المسرح العربي بين الحداثة وما بعدها osama elkhawad10-15-04, 08:36 AM
  الحداثة المنقوصة لهشام جعيط osama elkhawad10-15-04, 08:39 AM
  الحداثة والأزمنة العربية الحديثة osama elkhawad10-15-04, 08:42 AM
  الخلط بين الحداثة و التجدد osama elkhawad10-15-04, 08:46 AM
  رأي اسلامي:الحداثة باعتبارها فتنة وباطلا osama elkhawad10-15-04, 08:53 AM
  حوار مع المغربي بلقريز يتحدث فيه عن الحداثة والتحديث osama elkhawad10-15-04, 08:58 AM
  اعلان موت الحداثة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ osama elkhawad10-15-04, 09:05 AM
  الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية..(1) osama elkhawad10-15-04, 09:10 AM
  الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية...(2 osama elkhawad10-15-04, 09:13 AM
  الحداثة والتباين والغربنة osama elkhawad10-15-04, 02:11 PM
  تناقضات الحداثة العربية و تعريفاتها المختلفة osama elkhawad10-15-04, 02:16 PM
  Re: وداعا جاك دريدا osama elkhawad10-15-04, 04:59 PM
  رأي اسلامي:سقوط الحداثة osama elkhawad10-15-04, 05:12 PM
  رأي اسلامي حول الحداثة osama elkhawad10-15-04, 05:31 PM
  في نقد الحداثة الكومبرادورية- محسين الدموس (*) osama elkhawad10-15-04, 05:41 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الأول osama elkhawad10-15-04, 05:53 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثاني osama elkhawad10-15-04, 05:59 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثالث osama elkhawad10-15-04, 06:09 PM
  الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّاالجزء الرابع والأخير osama elkhawad10-15-04, 06:15 PM
  رأي اسلامي يرفض العولمة ويربطها بالحداثة وما بعدها osama elkhawad10-15-04, 06:23 PM
  الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة osama elkhawad10-15-04, 07:57 PM
  صبيانية الحداثة وعبثها وربطها بالفساد والجنس والمخدرات osama elkhawad10-15-04, 08:04 PM
  راي حول وجود نماذج للحداثة غير النموذج الغربي osama elkhawad10-15-04, 08:20 PM
  رؤية توفيقية للعلاقة بين الاسلام والحداثةمن كاتب ايراني osama elkhawad10-15-04, 08:37 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de