|
بقايا تاكسي ...
|
تتمدد جدران البيت و تكبر حتى تسع كل زوايا الخواء بدواخله .. يقف متفرساً في كل ما حوله ، يُمْلي ناظريه و هو يجوب بهما كل أنحاء المكان... يجول ببصره في الشارع يستعرضه بيتاً .. بيتاً وجوه الجيران تتأرجح ملامحها في ذاكرته .. تطفو أحداث و مساجلات على سطح ذاكرته المتعبة .. إنتابته مشاعر شتى قبْل أن يطرق الباب الذي غاب عنه خمس سنواتٍ طوال.. غالَبَ دمعة تقف على أطراف مقلتيه و هو يتأمل بقايا عربته ( التاكسي ) تقبع أمام منزله .. دون أن يشعر هتف هاتف من دواخله المتلهفة : ( أهذا أنت يا رفيق الدرب ؟ أراك تقف متماسكاً أكثر مني ... هل أبوح لك بسر ؟ شوقي إليك كان يخالط حنيني إلى تراب البلد و الأهل ...) رغم الظلام الحالك .. كان يرى كل تفاصيله عبْر ما يختزنه في عقله من مواقف و أحداث .. إندلق مخزون أيامه الخوالي دفعة واحدة .. كبوابة مشرعة تؤدي إلى تصفح سِفْر قديم تختلط فيه بداياته و نهاياته... رمقه و حزن يكسو وجهه و يغمر كيانه ... هيكل بلا أحشاء .. بقايا مقاعد بلا حشايا .. نوافذ بلا زجاج .. و مقابض مخلوعة عنوة .. تلاشى اللون الأصفر الذي كان يتلألأ تحت الشجرة الضخمة عقِبَ كل تلميع على شارع النيل أمام ( القراند هوتيل ) و ( فندق السودان) .. أخذ نفَسا عميقاً .. و تنهد .. و هو يتأبط حقيبته بيد و بيده الأخرى يتحسس جسد العربة الساكن .. كأنَّ عِبْق الصندل الذي كانت تُصِر زوجته على ( تبخير ) كل أركانه به لا زال يفوح كما كان في الأيام الخوالي فيظل يشده إلى إبتسامتها طيلة مشاويره في حنايا العاصمة و أزقتها و حواريها حتى موعد قيلولته و هو يحكي لها تفاصيل يومه و هو يغالب النعاس. لم يتمالك نفسه .. و قد هيجته الذكرى. تدارك دموعه قبل أن تنزلق .. فغيَّر مجرى تسارُع الصور في مخيلته.. ربَتَ على هيكل العربة .. بدأ بمقدمتها .... مسح على بقايا طبقة الطلاء المخشوشنة برفق و حنو .. ها هو المكان الذي كانت تتدلى منه ( المراية ) .. لم تعد هناك .. إنداحت عشرات الوجوه من مكان ( المراية ) تعكس وجوه زبائنه القدامى و هو يرنو إليهم عبْرها تارة و تارة يُبْقي نظره على الشارع .. تنامى إليه لغطهم و أحاديثهم و قفشاتهم و كأنها لا زالت تتمسك بأهداب المقاعد و سقف العربة و أرضيتها.. خطرفات جاره السكِّير الذي كان دائماَ يصادفه أول كل شهر في ( المحطة الوسطى ) حاملاً كيس الورق المتخم و رائحة الخمر تفوح منه وضح النهار ... ضجة الوقوف عند بوابة المستشفى الميري .. شاى ( بت المِنا ) كثير السكر .. تطفو على سطحه حبات ( الهبهان ) تهرول في إتجاه حركة الملعقة بيد ( ست المنا ) .. و زخات بخور ( التيمان ) تطغى على الغبار المتصاعد من زحمة المتكالبين على باب المستشفى للدخول ( بعواميد ) الطعام. و هنا كانت تتأرجح ( السبحة العتيقة ) التي أهدته إياها عمته .. أما هنا فكان يرقد ( المصحف ) ... ملفوفاً في قطعة من القماش الأبيض .. أدخل رأسه برفق من جهة باب السائق .. تنامتْ إليه أصوات أغنيات قديمة تختلط بكم هائل من موسيقاها و إيقاعاتها .. تخيل نفسه يدخل المفتاح ليفتح الباب صباحاً و هو ( يبسمل و يحوقل ) ... نظر إلى ( الدريكسون ) الذي أمسك به أول مرة بعد أن ذبح ( خروف الكرامة ) و بَصَمَ بالدم على ظهر التاكسي و على جنباته.. إنزلقتْ ذكرى أول مشوار .. و هو يجول بأمه على شارع النيل عملاً بالنَذْر الذي قطعه على نفسه ... ( ندْراً علىْ لو إشتريت التكسي ... أول مشوار بفسحك في الخرطوم دي كلها ... شارع شارع ) ... إبتسامة أمه يومها التي كانت تنم عن الرضا و السعادة الغامرة لا زالت ترقد على بقايا مقدمة العربة كصورة في إطار عتيق .. و دعواتها يتردد صداها في جنبات الهيكل الخاوية .. و من هذا الباب دخل العسكري ليلكزه بهراوته قبل أن يجرجره زملاؤه خارج التاكسي لأنه تجاوز ساعات ( حظر التجول ) .. و تنهال عليه الصفعات و هو يحاول جاهداً أن يتحاشاها و يُسْمعهم تبريراته . قفزتْ إلى مقدمة ذاكرته ليلة أن أحستْ زوجته بآلام المخاض ... ليلتها لم يجد الداية التي كانت تباشرها فقد سافرت فجأة لواجب عزاء.. و أصر التاكسي ليلتها أيضاً على عدم التحرك و كأنه يتآمر هو الآخر على قدوم مولوده الأول .. .. عندما أتى بالداية من الحارة الأخرى .. قالت له : ولدك دة إن شاء الله حيكون بخيت و سعيد .. همهم في دواخله : وين السعادة و البَخَت يا حاجة ؟ ترك ولده في الرابعة من عمره ... و ها هو يعود إليه بعد غربةٍ حفرتْ في روحه أخاديد نازفة ... يعلم الله كيف و متى تُنْكَأ ... غمرته سعادة تلك الأيام .. إنفرجت أساريره و هو قاب قوسين من أسرته و حفاوتها الدافئة ... أفاق على سكون الشارع .. و على وقفته التي طالت يسبح في بحيرة تأملاته. شعر بضجيج الهدوء المُطْبِق .. و صَمْت عربته يكاد يملأ المكان بصخب عارم.. شلال ذكرياته التي سافرتْ به ثم ألقتْ برحالها على عتبات بيته و ساكنيه ، يلفه تماماً .. و يجرفه بعيداً. طرق الباب بيد مرتجفة .. و هو يرمق ( التاكسي ) من طرف خفي و كأنه يستأذنه الإنصراف عنه.. إنفتح باب بيته و أطلتْ زوجته .. شهقتْ متراجعة و غير مصدقة .. ثم نضح وجهها بفرحة مباغتة .. هتفتْ بإسمه بصوت مخنوق ... سرعان ما أطلقتْ زغرودة يخالطها بكاء في هستيريا متواصلة ... و هي تنادي أولادها ....واحداً تلو الآخر في سعادة و بهجة طفولية غامرة.. عندما عانقها طويـلاً ... و دفن وجهه بين طيات عبقها الراقد بين حناياه أبداً .. خُيِّل إليه بأن هيكل العربة المتهالك قد إكتسى رونقه الأصفر القديم و أنه وقف على ( لساتكه ) الأربع و أطلق حشرجته القديمة لينطلق به مرة أخرى ليجوب شوارع الخرطوم... ***
( أبو جهينة .... من بانوراما الأيام الخوالي )
|
|
|
|
|
|
|
|
|