|
Re: بين حجرين - رواية (Re: هشام آدم)
|
_____________________
كان أمير منهمكاً في تلميع الكؤوس، ووضعها بشكل أنيق على الرفوف، عندما رفع رأسه مبتسماً للريّس وحيّاه بإيماءة سريعة. ابتسم الريّس وهو يتابع حركة الناس. لاحظ أن النادي مزيّن ببالونات ملوّنة، وهناك في الركن القصي من خشبة المسرح التي يوضع عليها جهاز الدي جي. رجال بيوني فورمات زرقاء يعملون على تركيب أجهزة يراها لأول مرة، ولم يكن يعلم فيم سوف تستخدم. ولكنه لم يكن يرهق نفسه كثيراً لمعرفة كل ما يمر عليه. فهو يعلم أنه سوف يعرف لاحقاً عندما يرخي الليل ستائره. فعندما تطفأ الأنوار في النادي الإفرنجي كان الريّس يرى بوضوح أكثر، كالقطط !! – هكذا كان يقول دائماً -. كان ما يراه الريّس هناك لا يمكن أن يراه في أي مكان آخر، لذا فقد كان يتابع كل ما يجري أمامه بانتباه بالغ. ويحاول الاستمتاع بوقته بقدر الإمكان.
اقترب منه أمير مبتسماً ، وهو يحمل في يده اليمني زجاجة البيرة الخاصة به، وقد لفّ على ذراعه اليسرى منديلاً أبيضاً :
* بختك يا عم الليلة بالزات حتمبسط ع الآخر. ويمكن يكون في بيرة ملح زاتو. - دقيقة .. دقيقة. شنو الليلة هنابيك وزينات .. الحاصل شنو؟ * يا زول شايف الراجل الواقف هناك داك؟ - ياتو واحد فيهم؟ * الحلبي المتختخ اللابس بدلة كحلي داك، وشايل ليهو علبة في يدّو - أيوا .. أيوا .. مالو ؟ * عيد ميلاد بتّو الليلة. - يعني شنو عيد ميلاد بتّو الليلة؟ * كيف يعني شنو يا الريّس ؟.. بقول ليك عيد ميلادا الليلة . - يعني مرتو جابت ليهو بت الليلة ولا شنو؟ * الريّس إنتا جادي؟ بقول ليك عيد ميلاد تقول لي جابو ليهو بت؟؟؟ - عليّ الطلاق ما فاهم .. يعني شنو؟ * يعني قبل عشر سنة، زي الليلة كدي بتّو إتولدت .. فالجماعة ديل بيقوموا بيعملوا حفلة زيّ اللي إنتا شايفها دي. - يعني زي السماية كدي؟ * سماية شنو يا الريّس ... بتبالغ!! عيد ميلااااااد .. أصلو ما حصل سمعت بعيد الميلاد. - حرّم أنا ما سمعت غير بعيد الفطر والأضحى والكرسماس وشم النسيم والمولد. هو في عيد تاني غير دول كمان؟ * حسي حتشوف العجب .. كل ما تمر سنة على ولادة زول من أولاد الجماعة ديل .. بيعملوا ليهو حفلة .. والليلة حفلة بت زولك الحنفولي داك .. ما شايفو مبسوط لمن وشو بقى عامل زيّ الفشّة كيف؟ - والعلبة الشايلا في يدّو دي بتاعت شنو؟ * دي غالباً بتكون علبة طورتة .. ولا هدية .. الله أعلم. - طيب يا أمير .. الجماعة ديلاك .. قاعدين يركّبوا في شنو؟ * ديل تبعين محل "العديل والزين" بتاع الأعراس .. بيركّبوا جهاز البخار. - ديشك !! جهاز بخار؟ يعني شنو؟ * جهاز بيطلّع بوخ كده غريب - لزوم شنو يعني؟ * أنا عارف !! أهو هبل وخلاص.
- في بورتسودان يحلف جميع الرجال بالطلاق إذا كان الأمر بالغ الجديّة، ولا يشترط أن تكون متزوجاً بالفعل ليتم تصديقك. وتحلف النساء بالحياة: وحياة غلاوتك، وحياة أولادي، وحياة أبوي وأمي، وحيات معزّتك ... بينما يعتبر الحلف بالله هو الحلف الرسمي في المحاكم ودور القضاء فقط. حتى مولانا عبد القادر كرّار، بعيداً عن رسميات المحاكم وفي جلسات سمره مع أصدقائه من تجّار مراكب الصيد وتجّار الفاكهة وأصحاب المحلات يحلف بالطلاق دائماً.-
ظلّ الريّس – بعد أن سحب إليه زجاجة البيرة وأخرج علبة التبغ المحلي – يراقب ما يحدث بكل اهتمام ، وكلما سمع صوتاً التفت إليه، وكأنه لا يريّد أن يفوّت على نفسه أي مشهد قد لا يتكرر مرّة أخرى. أو كأنه يريد أن يفهم بسرعة ما يجري قبل أن تنتهي زجاج البيرة، ويضطر إلى الخروج؛ إذ لم يكن يسمح لأحد بالجلوس دون أن يطلب مشروباً أو وجبة. وكم تمنى أن لو كان يملك أكثر من عينين في رأسه! وما هي إلاّ بضع دقائق حتى امتلأ النادي بالناس: رجال أنيقون، ونساء حسناوات يرتدين فساتين ملوّنة ومزركشة، حتى شعورهن كانت ملّونة، تساقطت على نحورهن القلائد الذهبية التي تعطي بريقاً كلما تقاطعت مع ضوء الإسبوت لايت على السقف المستعار الممتلئ بالأنوار الملونة هي الأخرى. هنا حتى السُمرة لها رونق آخر غير سُمرة النساء العابرات في الأحياء البسيطة، فتلك سُمرة متعَبة وكالحة، بينما سمرة نساء النادي الإفرنجي سمرة تملك سر العلاقة بين الضوء والفراشات المنتحرة على أعتابها. وكان كلما سئل الريّس عن اللون الذي يعشقه، يتردد قبل أن يجيب : "السَمَار نص الجمال طبعاً !!" وهو الذي كان لفترة طويلة يؤمن بأن بياض البشرة علامة من علامات رضا الله على عبده. وعندما كانت تشتعل النوافير المائية والجدول لاصطناعي يتعجب الريّس – في كل مرّة – من أين يأتي وأين يصب، ولم ينل متعة اكتشاف ذلك بمفرده، بل أخبره أمير. لم يكن يهتم كثيراً لنظرات البعض التي كانت ترمقه بين الحين والآخر. نظرات وكأنها تتساءل في حيرة: ما الذي أتى بهذا الرجل إلى هنا؟ أو: كيف سمح لهذا الشخص بالدخول بهذه الهيئة؟ لم يكن يكترث لها لأنه يعتبر نفسه جاء من أجل الفرجة عليهم. كان يعتبر نفسه وكأنه على إحدى مقاعد السينما.
عندما دخلت تلك الحسناء الشيرازية صالة النادي ذات الإضاءة الخافتة، وأضواء الإسبوت لايت ترمي بأطراف أصابعها الملوّنة على شعرها الذي لم يُعرف لونه على وجه التحديد، ومشيتها الواثقة التي تقطر أنوثة مع كل خطوة تخطوها على أرضية الصالة الأبلكاشية، وفستانها الضيّق الذي يبرز تكويرة أردافها. تذكّر حورية البحر التي طالما سمع عنها في قصص الصيّادين القدماء؛ لم يصدّق الريّس نفسه، وهو ينظر إليها في حين بدت مبتسمة للحضور الذين وقفوا في صفين متوازيين. بدأ الجميع يقبّلون يدها التي تشبه قطعة الجيلاتين الغضّة وهي تمدّها بكبرياء وابتسامة ملوكية، حتى توقفت في مقدمة الطاولة الاحتفالية. عندها توجّه أمير نحوها مسرعاً ليناولها بكل أدب جمّ كأساً من النبيذ الأحمر المخفّف بالثلج. ولا ينسى الريّس كيف كانت ابتسامتها له وهي تتناول منه الكأس في امتنان. ظلّ يراقبها أنّى اتجهت، وكلّما حال بينه وبينها أحدهم، ألصق مقعده في مؤخرته وتحرّك مرّة لليمين ومرّة لليسار. كان وكأنه لم ير امرأة قط. شعر الريّس بشيء بارد يسري في أوصاله كلّما رآها مبتسمة. ورغم أنها لم تره – لأنه كان في موقع مظلم في آخر الصالة - إلاّ أنه كان يشعر بدغدغة في صدره كلما التفتت برأسها نحوه. ولم يصدّق الريّس نفسه عندما مرّ أمير بجواره مسرعاً، فتلقّفه :
* كويس إنّك جيت براك.. تعال وريني النجفة ديك منو؟ - هاها .. يا مان والله دي إلاّ تقعد تعاين ليها من بعيد بس .. مالك ومالا إنتا * ها يا الهطفة .. حسي أنا قلت ليك داير أعرسا؟ - دي يا سيدي خوّاجية طليانية .. * طليانية؟ ياخي لاكين دي ما مبالغة .. - طليانة لاكين بتتكلم عربي زي الطلقة * قلت لي اسمها شنو؟ - اسمهااااااا ... أيوا .. أوديت. * شنو ؟؟ - أوووديييت * ياخ الخواجات ديل قدر ما سمحين .. قدر ما أساميهم مكعوجة .. ما تعرف ليه.. حسي عليك الله دا اسم بني آدم ، ولا دوا كحة!!
يواصل أمير في عمله، وهو يبتسم لقفشات الريّس التي يعرفها جيداً، بينما عاد الريّس لمتابعة الشيرازية التي أسرته منذ الوهلة الأولى. كانت ترتدي فستاناً بلا أكمام، ونهداها البارزتان تكادان أن تندلقا من تكويرةٍ طالما تعجّب فيهما الريّس وهو يمصمص شفاهه ويقول: "ياخي ديل مخلوقين من شنو أصلو؟." كان أكثر ما يدهشه هو ابتسامتها الساحرة ذات الكبرياء الواضح والتي لا تفارق وجهها أبداً. كانت ذات ملامح جميلة وهادئة جداً، تضع في منتصف فستانها من الخلف، وردة قماشية حمراء كبيرة، تنسدل من تحتها قطعة مخملية كالذيل، تجرها ورائها كلما تحركت. كانت تشبه أميرات الأحلام. وتهافت الجميع للسلام عليها وتقبيل أطراف أناملها، كان كلّما فعلها أحدهم، شعر بشيءٍ ما يوخزه، لم يعرف ما إذا كانت غيرة أم حسد. ظلّ الريّس على حالته تلك حتى انتهت زجاجة البيرة الرخيصة، ولم يفِ أمير بوعده له بزجاجة بيرة مجانية أخرى، فاضطر لمغادرة المكان مأملاً نفسه بالعودة في الشهر القادم.
يخرج؛ فتنخفض أصوات الموسيقى في أذنيه، وتختفي الأضواء الملونة في عينيه، ويتركها خلفه وكأنه خارج من الجنة إلى الدنيا، أو من الدنيا إلى الجحيم. متراقصاً على أنغام الموسيقى التي تبدأ بالذوبان في أذنيه كلّما ابتعد. يضرب كفاً بكف وهو يركل حجارة الطريق نادباً حظه العاثر متسائلاً: أين سمعت هذه العبارة "المال روث الشيطان"؟ ومن يا ترى هذا الشيطان الذي زرع في رؤوسنا هذه الخزعبلات؟ وفي كل مرّة كان يتنهد بصوتٍ عالٍ وهو يقول: إإإإإيه .. ناس عايشة، وناس دايشة!!!
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 05:31 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 05:35 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 05:42 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 05:55 PM |
Re: بين حجرين - رواية | Mohammed Elhaj | 06-26-07, 05:57 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 06:02 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 06:05 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 06:09 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-26-07, 06:17 PM |
Re: بين حجرين - رواية | محمَّد زين الشفيع أحمد | 06-27-07, 05:15 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 07:10 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 08:49 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 09:35 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 09:44 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 10:08 AM |
Re: بين حجرين - رواية | محمد على النقرو | 06-27-07, 10:10 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 10:40 AM |
Re: بين حجرين - رواية | محمَّد زين الشفيع أحمد | 06-27-07, 10:43 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:01 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:14 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:21 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:23 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:27 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-27-07, 01:29 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 06:24 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 06:44 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 06:48 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 06:56 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 08:11 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 08:33 AM |
Re: بين حجرين - رواية | محمَّد زين الشفيع أحمد | 06-28-07, 09:21 AM |
Re: بين حجرين - رواية | محمد جميل أحمد | 06-28-07, 10:15 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 11:43 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 11:27 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 11:47 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-28-07, 12:07 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 08:05 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 08:50 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 09:08 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 09:19 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 10:49 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 11:47 AM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 12:48 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 01:04 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 03:07 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 03:11 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 03:31 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 03:39 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 07:19 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 07:25 PM |
Re: بين حجرين - رواية | هشام آدم | 06-30-07, 07:28 PM |
|
|
|