|
اليمين واليسار
|
__________ قديمة هي قدم الحضارة المكتوبة تلك الثنائيات التي تحبس العقل: النور والظلام - السماء والأرض - الخير والشر - النظام والفوضى .. إلخ إلى هذه الثنائيات العريقة أضافة الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثمن عشر ثنائية جديدة وفريدة من نوعها : اليمين واليسار.
هذه الثنائية والمستخلصة من البنية العضوية للجسم البشري لم تكن مجهولة بطبيعة الحال لدى شعوب الحضرات القديمة فالعرب كانت تتفاءل باليمين وتتشاءم من اليسار وفي الحضارتين الرومانية والمسيحية كان من يجلس إلى يمين الملك أو السيد مقدماً في المرتبة عمن يجلس إلى يساره.
الثورة الفرنسية أحدثت انقلاباً في هذا التقييم: فالذين يحتلون مقاعدهم إلى يسار رئاسة الجمعية العمومية هم أكثر ثورية وأشد تطرفاً في ملاحقة أهداف الثورة من أولئك الذين يحتلون مقاعدهم إلى يمينها. وهذا التوظيف للاستعارة المكانية في اللغة السياسية اقترن بانقلاب طبوغرافي في مدلولها ، فمن قبل كانت السياسة أي العلاقات بين الحكام والمحكومين يتم تعقلها بمقردات عامودية: الطبقة العليا والطبقة الدنيا. وفيما بعد أصبح للسياسة بعد أفقي أيضاً : فاليمين واليسار مقولتان تسميان علاقات الحكام فيما بينهم أو كذلك علاقات المحكومين بقدر ما يتمثلون في احزاب يمينية ويسارية. وبديهي أن الاستعارة الأفقية لم تلغ الاستعارة العمودية: فالعلاقات بين الحكام والمحكومين ظلت تقوم على أساس هرمي تراتبي ولكن المساواة بين المحكومين (المواطنين) بلغة السياسة الحديثة ، صارت ناظمة لعلاقاتهم الأفقية وكما مثلت الاشتراكية محاولة - لم يكتب لها النجاح - لإلغاء الطابع الطبقي أي العامودي للعلاقات بين الحكام والمحكومين فإن الديمقراطية تسعى بدون إلغاء ذلك المضمون إلى تسويته أفقياً بأكبر قدر ممكن.
ومن منظور مبدأ القيمة فإن اليمين واليسار مقولتان متحركتان وصحيح أن تسييس المقولتين ابتداء من الثورة الفرنسية قد شحن (اليسار) بحمولة موجبة عززتها فيما بعد الأيدولوجيا الاشتراكية التي انتزعت الغلبة على امتداد القرن الفاصل ما بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين ولكن تآكل الرأسمال المعنوي للاشتراكية ثم سقوط النظام السوفياتي الذي حاول تجسيدها تاريخياً قد رد كثيراً من الاعتبار القيمي إلى (اليمين) وعلى حين أن فقدان القيمة كن يمنع في الماضي أهل اليمين من أن يقبلوا عن طيب خاطر بتسميتهم باليمينيين فإن العقود الخيرة قد شهدت مولد (يمين جديد) ينتحل التسمية باعتزاز ويبدي عن كفاحية كانت مقصورة على اليسار.
|
|
|
|
|
|
|
|
|