رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 11-08-2024, 11:00 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.نجاة محمود احمد الامين(د.نجاة محمود&bayan)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-28-2003, 04:32 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960


    مدخل:

    الحركة الفكرية والثقافية في السودان (1900 ـ 1960)


    أولاً ـ الحركة الفكرية:
    قيل "بين الماضي والحاضر تفاعلاً مستمراً*. والماضي يكيف الحاضر".** ومن هذا المنطلق لا يتأتى لنا أن ندرس حركة فكرية مثل الغابة والصحراء بمعزل عن الحركات التي سبقتها وكذلك لا يمكن أن ندرس شاعراً أو أديباً دون الرجوع إلى الخلفية التي وقف عليها. إذ أن مدرسة الغابة والصحراء تطور طبيعي للفكر السوداني، الذي يبحث عن التفرد منذ مملكة مروي، حينما نبذ المرويّون الآلهة المصرية واتخذوا الإله (أبيداماك)*** الإله المروي المحلي. وعندما تكاثرت الهجرات العربية في أوقات مختلفة، ومن أماكن مختلفة، ولأسباب مختلفة، وتزاوجوا مع السكان الأصليين من النوبة والزنوج، ليكون هذا الهجين الخلاصي الذي يسمى الآن بالسوداني. هذا الإنسان الخلاصي الذي أفلح في تكوين مملكة سنار في القرن الخامس عشر، وتمثلت في هذه المملكة الثقافة العربية الإسلامية، ثم في القرن الثامن عشر حيث جمع المهدي كل السودانيين تحت لواء المهدية، لدحر الاستعمار فتكونت هذه الوحدة رافعة شعار الإسلام، وفي ذلك يقول محمد أحمد محجوب: "في سنة 1885 نجحت قوات المهدي أخيراً في التغلب على الحكام العثمانيين وأسست حكماً سودانياً ودرجة من الوحدة بين العرب الإفريقيين الشماليين وزنوج الجنوب".
    ومن ثم نجد أن توحيد السودان لدحر الاستعمار من قبل المهدي، لم يكن بقصد تكوين قومية سودانية، إذ أن المهدي كان يعتقد أن دعوته دعوة أممية، والدليل على ذلك الرسائل التي أرسلها إلى ملك الحبشة وفيما بعد الرسائل التي أرسلها الخليفة عبد اللَّه التعايشي إلى الملكة "فكتوريا" ملكة بريطانيا العظمى يدعوها للإسلام، وقيل في ذلك "وعلى الرغم من أن دمج المهدي لهذه المجموعات القبلية لم يتم من الناحية النظرية على أسس قومية، بل تم في إطار فكرة تحقيق المجتمع الواحد الذي يقوم على أسس دينية".
    ومن ثم يمكن أن ينظر إلى المهدية على أنها سعت لبث الروح القومية بين السودانيين. وحينما تم التوحد حققت المهدية الهدف بدحر الاستعمار "فإذا نظرنا إلى المهدية من حيث كونها بعثاً للتراث المحلي على ضوء من المفاهيم السلفية في الدين" نجدها قد نجحت حقاً في ذلك إلى حد بعيد حيث اندرج تحت لوائها عدد كبير من الأنصار من مختلف القبائل والثقافات المحلية في السودان.*
    ولكن سرعان ما دحرت قوات المهدي في كرري سنة 1898م، وبهذا أسدل الستار على حقبة من تاريخ السودان امتازت بالبطولات والبحث عن الاستقلال والتفرد. ثم أتت مرحلة الاستعمار تحت إدارة الحكم الثنائي البريطاني المصري ومنذ بداية الاستعمار شهد السودان عدة ثورات مناهضة للاستعمار مثل ثورة ود حبوبة في الحلاويين التي انتهت بإعدامه.
    وفي بداية سنوات العشرين ظهرت بوادر الثورة في السودان تيمناً بثورة سعد زغلول في مصر حيث قامت حركة اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف بمواجهة عسكرية سنة 1924 انتهت بالهزيمة، وكان شعار هذه الحركة "وحدة وادي النيل تحت التاج المصري".
    وبعد ذلك اتجه السودانيون إلى الأدب يدفنون فيه خيبة أملهم بعد أن تأكد لهم أن المواجهة المسلحة لا جدوى منها. وكذلك بعد أن خذلهم المصريون وصاروا يبحثون عن حلول فردية لبلادهم .. ومن هذا المنطلق بدأ المثقفون السودانيون في البحث عن قومية خاصة بهم وحدهم ليتوحد الصف الداخلي لدحر الاستعمار.
    وفي البدء كانت القومية مرتبطة بوحدة وادي النيل، ثم بعد ذلك للأسباب المذكورة آنفاً بدأ السودانيون في البحث عن قومية خاصة بهم والتخلص من الاستعمار الإنجليزي المصري وكان شعار هذه الدعوة "السودان للسودانيين".
    ثم بعد ذلك نشط المثقفون السودانيون في مسألة البحث عن قومية سودانية وسادت فترة سنوات العشرين على الرغم من تجميد الاستعمار للنشاط الثقافي بعد ثورة 1924 حركة مكثفة في اتجاه التنظير عن القومية السودانية. ونجد أن هناك كثيراً من العوائق التي قد تقف في توحيد الصف السوداني وتكوين قومية سودانية واحدة منها على سبيل المثال وليس الحصر: تفشي الأمية الأبجدية والحضارية بين السودانيين آنذاك. ومن أكبر العوائق على الإطلاق هو عصبية القبيلة والولاء للقبيلة قبل كل شيء، حيث لعب الاستعمار دوراً كبيراً في إذكاء هذه الروح القبلية من قبيل "فرق تسد" إذ أنهم يعرفون أن توحد الصف السوداني يعني خروجهم من البلاد وفي هذا الأمر ذكر أحد طلاب كلية غردون "وكان عدد القبائل في فرقتي يربو على العشرين وكنا إذ ذاك ندرس التاريخ الطبيعي ونحس جلياً كثرة الحشرات وتعدد فصائلها فلاحظ أحد الزملاء أن كثرة القبائل عندنا تشبه فصائل الحشرات. ولذلك صممنا أن تكون لنا جنسية واحدة. فإذا سئل أحدنا عن جنسيته كان جوابه على الفور سوداني لأن في تعدد تلك القبائل وتفرقها ما يزيد في آلام هذا البلد الناشئ ويكبله بالقيود فيشب أبناؤه على التفرقة خصوصاً إذا كان تأريخ القبيلة يفرض فرضاً". وسرعان ما انعكست هذه الدعوة على الأدب حيث كتب إبراهيم العبادي خاتماً مسرحيته المك نمر:
    جعلي وشايقي ايه فايداني
    خلو نبانا يسري في البعيد والداني
    غير خلقت خلاف خلت اخوي عاداني
    يكفي النيل أبونا والجنس سوداني

    وعندما حلت الثلاثينات بدأت مجلة الفجر في الصدور تحولت بدورها إلى منبرٍ لدعاة القومية حيث نُشرت كثير من المقالات بين مؤيد ومناهض لفكرة القومية، ومن بواكير الكتابات في موضوع القومية ما كتبه أحد مفكري سنوات الثلاثين قائلاً:
    "وكم سألت نفسي أصحيح أن هناك قومية سودانية؟ وكم رددت هذا السؤال، فكان الجواب دائماً سلباً. أجل هناك أفراد ولكنهم مبعثرون، لا تربطهم غاية، ولا يجمعهم مبدأ يسيرون في أودية مختلفة وشعاب متفرقة فكلهم في بيداء الحياة وهناك وكلهم فريسة سهلة لذئب الفلاة ولقمة سائغة لكل قادم".
    ثم بعد ذلك توالت الكتابات التي تدعو إلى القومية وتوصف السودان بالأمة كما تدعو إلى توحد الشعور والرجوع إلى التاريخ وفي هذا يقول أحد المفكرين:
    "أول ما يعوزنا هذا الشعور القومي فلنوجه العناية إليه، ولنبذل الجهد في خلقه ولنشعر أننا أمة لها كيانها الخاص، وتقاليدها الموروثة، ولها تاريخ، وأن لم تكن صفاته أروع الصفحات وأبعدها في المجد حيناً فهو على كل حال يطبعها بطابع الشجاعة والنخوة ويسمها بميسم الكرم والسماحة ويصلح أن يكون نواة طيبة لما قد يضيف من اللبنات".
    ومن ثم انتقلت دعوة القومية من السياسة إلى الأدب، حيث دعا بعض الأدباء إلى أدب سوداني قومي ليذكي روح النضال ويخلق التوحد الذي يقود إلى التحرر من ربقة الاستعمار، حيث بدأت تظهر مقالات تتحدث عن الأدب القومي خصائصه وشروطه. والملاحظ أنه كانت هناك اتجاهات مختلفة للنظر إلى هذه الدعاوى، فهناك من نظر لها على أنها مجرد حركة سياسية تدعو إلى الانفصال عن مصر ويمثل هؤلاء محمد سعيد العباسي الذي كتب قصيدة يوضح رأيه في هذه الدعوة قائلاً:
    ما تريدون من قومية هي في
    لا تخدعوا إن في طيات ما ابتكروا
    ليصبح النيل أقطاراً موزعةً
    لسنا القطيع قطيع الضأن يزجره
    راي السراب على القيعان رقراقا
    معنى بغيضاً وتشتيتاً وإرهاقا
    وساكنو النيل أشياعاً وأذواقا
    الراعي كما شاء أشياخاً وأعراقا

    كما أن هناك من نظر إلى هذه الدعوة بتحفظ مثل محمد عشري الصديق الذي وضع شروط لهذه الدعوة قائلاً:
    "إننا نحتاج إلى أدب قومي ونشجع الداعين إلى الأدب القومي لأننا في حاجة إلى أدب قومي".
    وعلى الرغم من أنه يرى أن دعاة الأدب القومي "لم يمحصوا الفكرة ولم يعملوا الرأي ويدرسوا المسألة من جميع أقطارها فيستبينوا غرضهم واضحاً من غير إبهام ولا تلميح".
    وهو كذلك يرى أن هؤلاء الدعاة لم يرجعوا إلى تاريخ القوميات ليدرسوها، حتى لا تنبت قوميتهم من فراغ، ثم اختتم مقاله قائلاً:
    "إذا كان عندنا إخلاص وأمل كبير فلندرس تاريخ المسارح في أوربا، ولنعمل كل ما في وسعنا لإنشائها في بلادنا وتمثيل الروايات المنقولة والموضوعية حتى يفهم الناس الحياة على وجهها الصحيح وحتى يستطيع الكاتبون أن يكتبوا الأدب القومي الحقيقي الجدير بالإعجاب".
    ومن جهة أخرى نجد من المتحمسين إلى دعوة الأدب القومي الذي كتب سلسلة من المقالات، الشاعر حمزة الملك طميل حيث حوّمت هذه المقالات حول فكرة ربط شخصية الأمة وكينونتها الخاصة بآدابها حيث كان يريد للأدب أن يكون عاكساً للسودان وروحه قائلاً عن الآداب التي يريدها أن تكون:
    "دالة على السودان ومذكرة من إهابه أعني سودانية بكامل معناها حتى الشلوخ والوشم".
    وقد حدد دعوته هذه بصورة واضحة وجلية قائلاً:
    "نريد أن يكون لنا كيان أدبي عظيم فريد، أن يقال عندما يقرأ شعرنا من هم خارج السودان أن ناحية هذا التفكير في هذه القصيدة أو روحها تدل على أنها لشاعر سوداني، هذا المنظر الطبيعي الجليل الذي يصفه الشاعر هو حالة السودان ـ هذا الجمال الذي يهيم به الشاعر هو جمال نساء السودان، نبات هذه الروضة التي يصفها الشاعر ينمو في السودان".
    فالناظر إلى دعوة حمزة الملك طمبل يجدها مرتبطة بالبيئة السودانية مما يمثل نظرة أحادية إقليمية ضيقة لها كثير من الحس الشوفيني وقد وجه لدعوته هذه الكثير
    من النقد مثل ما قيل عنها:
    "تأكد لنا دعوته عن نزعة إقليمية ضيقة وأنه لم يستشرق الآفاق الواسعة لمفهوم قومية الأدب بمعناه الصحيح ذلك لأن الأدب القومي يقوم وفق هذا المفهوم على ركيزتين أساسيتين أولهما استكشاف التراث الشعبي المحلي وتنقيته من الرواسب التي تعوق تطوره ونضجه، والثانية استيعاب التراث الإنساني والاستفادة منه. وحقن التراث المحلي بدماء جديدة ومن التفاعل العضوي بين القومية والإنسانية وخلال التأثر والتأثير يستطيع الأدب القومي أن يساهم في الأدب الإنساني لأنه في الحقيقة ليس سوى مجموعة متناسقة من الآداب القومية بلغت حداً من النضج الفكري والذي جعلها تساهم في التراث الإنساني وتضيف إليه وتوسع رقعته".
    بالإضافة إلى أن دعوته لم تقف عند الارتباط بالبيئة السودانية، بل ذهب أبعد من ذلك، إذ دعا إلى التخلي عن التراث العربي إذ يرى أنه لا يفيدنا بل يقيدنا كما أنه عاجز عن مساعدتنا في خلق ما نحتاجه من أدب جديد. وهذا الرأي مخالف لآراء غالبية الذين كتبوا عن القومية ودعوة الأدب القومي السوداني، إذ نرى رأي الغالبية أن هذه القومية المرتجاة تقوم على دعامتين هما: اللغة العربية والثقافة الإسلامية وقيل تدعيماً لذلك "فالخطوة الأولى في سبيل إحياء الأدب القومي، تكون بإحياء اللَّغة العربية المتميزة".
    كما نوه إلى أهمية الإسلام في هذه القومية المحجوب قائلاً:
    "نحن بما عندنا من عصبية للعرب وما خصنا اللَّه من عقيدة إسلامية ثابتة، تنظم جل أفراد الأمة لا يمكن أن يتجه شعورنا القومي نحو الهمجية والإلحاد".
    كما أن هذه الدعوة إلى الرجعة إلى الماضي كانت قوية وملحاحة من جانب
    عدد كبير من الأدباء مثل محمد أحمد محجوب، ومحمد عبد الرحيم وهذا على سبيل المثال وليس الحصر، حيث علق أحدهم على هذه الرغبة القوية في الرجوع إلى الماضي العربي وأمجاده قائلاً:
    "هذا ألا يغال في العودة إلى الماضي العربي لا نرى شبيهاً لها في أدب أي قطر عربي بما فيهم الشاميين (أعرق الأقطار العربية في الشعور بالقومية وأكثرها تجرداً عن النزعات الإقليمية ونزوعاً إلى الوحدة العربية)* لا نعتقد أن السودانيين أعرق من الشاميين عروبة، ولكن عقدة السودنة عملت عملها في هذا الموقف المتطرف. فالسودانيّون يعرفون أن تحدرهم من أصل هجين تختلط فيه الدماء العربية بالدماء الإفريقية، ولكن هاجسهم الأكبر التخلص من عقدة الزنوجة المرتبطة تاريخياً بفكر العبودية".
    كما نجد أن المحجوب من المتحمسين لفكرة الأدب القومي هذه قد سعى جاهداً لخلق نماذج لهذا الأدب ولكنه رأى أن يكون للأدب القومي غرضٌ محددٌ وهو نشر الوعي والإسهام في تحرير البلاد سياسياً واجتماعياً "هذا الأدب الخاص يكون خاصاً ويكون أدباً سوداني الوجه والروح ووطني التوجه والنزعة".
    كما يضيف المحجوب محدداً موضوع هذا الأدب بأن يكون التاريخ ولكن عندما نرجع إلى تاريخ الأمة يجب أن نكون انتقائيين فنختار لهذا الأدب الشخصيات التاريخية والبطولية والعادات الحميدة لنرسخها في وجدان شعبنا وتكون مثالاً يحتذى قائلاً:
    "للشعر القومي خصائصه ومميزاته التي إذا لم تراع كان من سقط المتاع موضوعه على الدوام مستمد من حياة الأمة تليدها والطريف كالإشادة بذكر الأبطال الذي يحق للجيل الناشئ أن يتخذ منها قدوة".
    ومن الملاحظ أن المحجوب على الرغم من دعوته إلى الأدب القومي والرجوع إلى التراث المحلي، إلا أنه يرى أن الحياة في السودان حياة ميتة، لا توحي للأديب ولذلك فهو يرى أنه في الوقت الحالي (آنذاك) يجب ألا يكون هذا الأدب مرآة عاكسة لما في السودان، بل يجب أن يكون هدف هذا الأدب "نقداً واستخلاصاً وتوجيهاً لقوم غافلين". ويضيف موضحاً رأيه: "ما دام الأدب وليد الحياة وأن انفقدت الحياة فليكن أدبنا في الوقت الحاضر نقداً واستخلاصاً وتوجيهاً لقوم غافلين، حتى يفتحوا عيونهم على الدنيا فيرحبوا بأدب الحياة".
    بينما نجد من يرى خلاف رأي المحجوب قائلاً:
    "أصحيح أن مجتمعنا فقير في مادته لا يستطيع الأديب أن يستوجبه نثراً أو نظماً؟ أنا لا أظن ذلك، بل لنجعل من هذا الفقر مادتنا التي نبني منها أدبنا. لنجعل أمراضه العديدة همنا الأول نحيا من أجل إصلاحه ونموت في سبيل إصلاحه نفرح له ونتألم له ونتغنى بما فيه من فضائل الشجاعة والكرم والمروءة والنجدة وندعوه إلى سبيل الإصلاح وننير أمامه طريق النجاة".
    فالمتأمل لدعوة الأدب القومي في السودان يلاحظ أن لها كثيراً من الغايات والمقومات والخصائص نلخصها في الآتي:
    1 ـ من غايات هذا الأدب هو الإصلاح الاجتماعي والانتقائية في العادات والتقاليد فيقول عرفات محمد عبد اللَّه في ذلك: "أمامكم عاداتنا في البيت والسوق، في الزواج والطلاق في كل شيء وفيها من العيوب ما استعصى مع
    الزمن وتأبى على الدواء".
    2 ـ وكذلك هناك غايات سياسية في هذه الدعوة للأدب القومي حيث تدعو الدعوة إلى القومية إلى توحد السودان لدحر المستعمر الذي يستفيد من حالة الشتات هذه وقد نوه لهذا المحجوب قائلاً: "وبذلك تنقلب هذه الحركة من نهضة أدبية إلى نهضة سياسية تكون نتيجته استقلال البلاد سياسياً واجتماعياً".
    ولكي تتحقق هذه الغايات يجب أن تكون هناك دعامات وأسس سليمة لقيام هذه الدعوة ولتصل إلى الأمل المنشود ومن هذه الدعامات والمقومات:
    1 ـ أن يتغير التعليم نوعياً وكيفياً، وليس ذلك التعليم الذي يعني به مسح الأمية الأبجدية لعدد مخصص من الناس ليشغلوا المناصب الدنيا في الدولة* بل تعليم جديد يهدف إلى تحقيق السعادة والرفاهية ويعني بحاجة الحاضر والمستقبل.
    2 ـ الرجوع إلى تاريخ الأمة وإعادة كتابته وتنقيته من أهواء كتابه "إعادة كتابته فالأجنبي مهما نزهت غايته وشرف مقصده فهو أجنبي لا يعرف من ألوان حياتنا إلا مظاهرها".
    3 ـ الاهتمام باللغة العربية بوصفها الوعاء الذي يصب فيه هذه الأفكار يعد من أهم الدعامات التي يقوم عليها الكيان القومي.
    4 ـ الدين الإسلامي الذي نجد غالبية هؤلاء الدعاة يرونه موضع توحيد ويطالبون بأن الدين الإسلامي والثقافة العربية هما بمثابة المنهل الذي يستسقي منه الأدباء.
    كما يرى البعض في خصائص هذا الأدب المرجو أن يكون أدباً واضحاً
    وجميلاً حتى يجذب الناس وفي ذلك يقول المحجوب ملخصاً خصائصه:
    "فالشعر القومي يحتاج إلى جمال ساحر يجذب الناس إلى قراءته وتذوقه والتغني به حتى يسكرهم ويتغلغل في الصميم من أرواحهم، فيكون قد أدى حينذاك وظيفته، وهذا الجمال الساحر، لا أعني به الألفاظ البراقة ولا الجمل الموشاة، ولا أقصد به التلاعب اللفظي ولكني قصدت إلى الجمال المعنوي، والتعبير التام الموافق، ومن خصائص هذا الجمال الساحر البساطة والسهولة".
    كما نرى أنهم لم يقفوا (دعاة القومية) عند ذلك الحد بأن يحددوا موضوعاته ولغته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث حددوا الشكل الذي يكون عليه فتخيروا له من الأوزان والبحور ما يجعله شعراً جميلاً ملهباً للمشاعر ويقول المحجوب في ذلك أيضاً: "الشعر القومي إذا فقد الموسيقى كان كالجثة الهامدة في حاجة إلى من يحركها ومن المحال أن يثير العواطف أو يلهب النفوس لأن الموسيقى هي شرارته الحية".
    ونخلص إلى أن دعوة القومية هذه في كثير من الأحيان لم تكن منزهة عن الغرض فالذين رفعوا شعار "السودان للسودانيين" بأن يحكم الإنجليز إلى أن يعدوا السودانيين لحكم أنفسهم بأنفسهم كانت لهم فائدة مباشرة ومنفعة من وجود الإنجليز في البلاد مثل حمزة الملك طمبل الذي نشأ في مصر، وعين في السودان في السلك الحكومي بواسطة الإنجليز ولذلك انصبت دعوته على نبذ ما هو عربي وإسلامي بالتالي مصري وكانت هذه رغبة الإنجليز بالانفراد بحكم السودان دون مصر.
    وفي المقابل نجد من اتجه إلى دعوة القومية متأثراً بمصر ورفع لذلك شعار وحدة وادي النيل وحكم السودان ومصر تحت التاج المصري، إذ يرون من هذا الانتماء انحيازاً للثقافة العربية الإسلامية مثل المحجوب.
    ومهما تكن الغاية فقد وجهت لهذه الدعاوى كثير من النقد حيث أنها لم تتجاوز حد التنظير ولم تأت بإنتاج تطبيقي ليدعم البيان بالعمل ويورد محمد فوزي في كتابه القيم "عاب على دعاة الأدب القومي أنهم لم يتبعوا القول بالعمل ولم يخرجوا لنا نماذج من الأدب الذي يدعون إليه فانحصرت دعوتهم في مجموعة من الأوامر الفكرية".
    ومن الملاحظ أن دعاوى القومية في السودان لم تعتبر العنصر الزنجي كمكون من مكونات الثقافة السودانية فلذلك أتى خطابها قاصراً، وفي هذا يقول محمد عبد الحي:
    "ليس في كتاباتهم مبدعو مدرسة الفجر غير طائف نظري حول الذاتية العربية الإفريقية للسودانيين لم يتنزل إلى اتخاذ شعر لتزاوج الثقافة العربية الإفريقية".

    ثانياً ـ الحركة الثقافية (1900 ـ 1960):
    التعليم (1900 ـ 1960):
    من المعروف أنه لم يكن هناك نشاط ثقافي بالمعنى المعروف في فترة التركية والمهدية في السودان، لأسباب عديدة أهمها:
    الأمية المتفشية بين السودانيين إذ كان النشاط الأدبي الوحيد لا يتعدى القصائد والإخوانيات ولكن في المقابل كان هناك ثراء كبير في الأدب الشفاهي الشعبي.
    ونحن إذ نتحدث عن الأرضية الثقافية في تلك الفترة فلا بد لنا بالضرورة أن
    نتطرق للتعليم آنذاك، فمن المعروف أن السودان عرف المدارس الحديثة قبل الحكم الثنائي في فترة التركية ، ولكن أثره كان محدوداً نسبة لقلة هذه المدارس، فسرعان ما اختفى هذا النوع من التعليم بعد حلول الثورة المهدية التي رجعت إلى التعليم التقليدي المتمثل في الخلاوي والزوايا، وعند بداية الحكم الثنائي بدأ الاهتمام بالتعليم الحديث ولكن لأغراض تخص المستعمر نستخلصها من حديث اللورد كرومر حدد فيه الهدف الذي لأجله افتتحت هذه المدارس: "إنني أوضح ما أعنيه بالطبقة المتعلمة، فإنني لا أرمي إلى التعليم العالي ... فإن كل ما تتطلبه الحاجة الآن هو تلقي بعض المعلومات من القراءة والكتابة والحساب، لعدد خاص من الشباب حتى يتمكنوا من احتلال بعض المناصب الصغرى في إدارة القطر وأن الحاجة لهذه الطبقة لجد عظيمة".
    ومن هذا المنطلق تم إنشاء أول مدرسة ابتدائية في سنة 1900 في أم درمان وكان طلابها خليطاً من السودانيين والمصريين ثم تلا ذلك إنشاء خمس مدارس أخرى لحاجة البلاد لعدد أكبر من الخريجين ليسدوا الوظائف الصغرى في البلاد. ثم بعد ذلك تم إنشاء "كلية غردون التذكارية" التي نقلت لها مدرسة أم درمان الابتدائية، والمدرسة الصناعية، ومدرسة المعلمين، ومدرسة القضاة الشرعيين حيث بلغ عدد طلابها 1533 طالباً سنة 1905م وتم استيعابهم في الخدمة المدنية.
    وبعد ذلك توالى افتتاح المدارس على حسب حاجة الخدمة المدنية حيث افتتحت مدرسة أم درمان الصناعية سنة 1907م لتخريج فنيين مؤهلين لتغطية حاجة البلاد من الفنيين ثم افتتحت مدرسة عطبرة الصناعية سنة 1924م ليعمل خريجوها في ورش السكة الحديد بعطبرة، واستمر الحال هكذا إلى أن كونت لجنة لدراسة وضع التعليم في البلاد وكانت اللجنة برئاسة "دي لاوار" الذي كتب تقريراً مفصلاً وخطة لتحسين التعليم وكان من أحد مقررات هذه التقرير "أن توقف
    الحكومة التعليم الوظائفي الذي انتهجته لتخريج موظفين في الكلية وأن تتجه للتعليم العام ثم إنشاء تعليم بعد الثانوي".
    ومن نتائج هذا التقرير تم إنشاء بعض المدارس العليا مثل الآداب والعلوم والبيطرة والزراعة والهندسة حيث صارت هذه المدارس نواة لجامعة الخرطوم فيما بعد.
    وقد تم إنشاء معهد أم درمان العلمي سنة 1913 تحت إشراف الشيخ أبو القاسم هاشم وكان الهدف من إنشاء هذا المعهد هو تخريج قضاة شرعيين ومعلمين للغة العربية والتربية الإسلامية وكان شبيهاً بالأزهر وكان الطالب يقضي فيه اثنا عشر سنة يتخرج بعدها بدرجة تسمى العالمية.
    ومن المعهد العلمي بأم درمان تخرجت أعداد من الطلاب أثروا الحياة الأدبية والثقافية في السودان وعلى سبيل المثال "التيجاني يوسف بشير" و"خالد أبو الروس"، وقد شكل خريجو هذا المعهد الذين عملوا في الثقافة التيار العربي الإسلامي في الثقافة السودانية، وبالمقابل شكل خريجو كلية غردون بطابعها الغربي التيار الآخر الذي يعتمل في داخل الثقافة السودانية وهو التيار الغربي.
    والجدير بالذكر أنه كانت هناك هجرات مكثفة إلى مصر للدراسة هناك على الرغم من محاولة الاستعمار للحد من هذه الهجرة إلا أنه لم تنقطع هذه البعثات، التي أسهم خريجوها في إثراء الثقافة السودانية أيضاً حيث نقلت هذه الفئة كل المستجدات الثقافية والأدبية في مصر إلى السودان مما كان لها أبلغ الأثر في الثقافة في السودان ، عندما بدأت بشائر التجديد في الأدب العربي الحديث على يد "محمود سامي البارودي" و"أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم" وشعراء المهجر كان لها صدى في كل الدول العربية بما فيها السودان (الذي كان يتلقى الصحف والكتب من مصر) بعد أن كان كغيره من الدول العربية يجتر التراث العربي القديم وتاريخه المجيد في انبهار وإعجاب، ظهر أثر هذا التجديد في السودان في كتابات كثيرة لشعراء تلك الفترة ونذكر منهم تقليد الشاعر "مدثر البوشي" لهمزية "أحمد شوقي" عن السيرة النبوية وتقليد البنا لـ"حافظ إبراهيم" بقصيدة عن "عثمان بن عفان" مجارياً فيها عمرية حافظ.
    ومن ثم نرى أن التعليم الحديث في السودان الذي بدأ في التوسع منذ بداية القرن العشرين قد أسهم في خلق وعي واستنارة بين الشعب السوداني وقيل:
    "لما أشرف التعليم في السودان على نهاية أعوام الحرب الثانية كان قد أعد شباباً يؤمن بالفكر والحرية والديمقراطية بالإضافة إلى العلوم والمعارف، وكانت لتلك التعاليم الجديدة أثرها في الحركة الوطنية فيما بعد".
    والجدير الذكر أن الشريحة المتعلمة في السودان تجمعت فيما بعد لتكون اتحاد الخريجين الذي لعب دوراً عظيماً في الاستقلال ومفاوضاته ونشر الوعي بين الناس من خلال نواديه المنتشرة في السودان.

    أندية الخريجين (1918 ـ 1938م):
    لقد لعب الخريجون دوراً عظيماً في إذكاء روح الكفاح، والنضال، وبث الوعي بين الشعب السوداني الذي كان غارقاً في ظلمات الجهل والخرافة والفقر فقد كان "الجهل يخيم على الشعب كل الشعب. والفقر منتشر في أنحاء البلاد، والتأخر يبدو في كل مرفق ... وأسباب الإصلاح غير موفورة، بل معدومة، والمستعمر القابض على أجهزة الدولة وأعناق الناس، لا يترك متنفساً واحداً ... والحرية عملة غير متداولة وغير متعارفة، وهزيمة المهدية، الضربة القاصمة التي لقيها السودانيون، وما تلاها، خلقت حالة من الذهول أنست جل الناس كل المعاني الكبيرة، وزرعت في نفوس الأغلبية الشعور بالنقص والضعف المخزي، فسادت مظاهر الأنانية والنفاق والكبرياء على أنقاض العزة الجريحة والكرامة المهدورة". هكذا كان حال السودان كما وصفه الدرديري، فكان لا بد من منافذ ومنابر لبث الوعي، فإن المدارس منابر محدودة والصحافة مقيدة بشدة، والاستعمار يجثم على أنفاس المثقفين ويريد تحجيم دورهم، فكان أن اهتدى البعض لفكرة إنشاء نادٍ يجمع الخريجين لا سيما أن الأندية كانت تلعب دوراً كبيراً بالنسبة للجاليات الأجنبية في السودان، حيث قال الدردري: "كان أكثرنا من المدرسين، وكنا نندفع بوحي المهنة لنقل مهمتنا في التربية والتعليم والإرشاد من ميدانها الضعيف في المدارس، إلى ميدان أرحب يشمل أكبر عدد من أفراد المجتمع، استحوذت على أذهاننا فكرة قيام نادي الخريجين، وجدت الفكرة إقبالاً واستحساناً ولما استكملت الفكرة طور النضج نقلناها إلى حيز التنفيذ".
    ومن ثم تأسس نادي الخريجين سنة 1918، أي بعد الحرب العالمية الأولى حيث اجتذب عدد كبيراً من الجمهور واللاّفت للنظر أنه قد انضمت إليه فئات كانت محسوبة على السلطة الدينية. "ففي هذا النادي وفروعه الموزعة في الأقاليم، برزت ذاتية الخريجين، ووضح كيانهم مع الزمن، وترسخت شعاراتهم في الأوساط الشعبية، فأصبحوا عاملاً مؤثراً في المحيط العام".
    فقد كان هناك دوافع عديدة لقيام هذه الأندية؛ فهناك من ذكر أنها مأخوذة من فكرة النوادي المصرية، كما ذكر بعض آخر أنها فكرة من الاستعمار لأغراض سياسية، ولقد لعبت هذه الأندية دوراً أساسياً في مسرح الحركة الوطنية في السودان إلى أن حل عام 1931م حيث وقع الانشقاق السياسي بين أعضائها.
    لقد كان نادي أم درمان بمثابة الرأس لهذه الأندية، لم يقتصر أثر هذه الأندية على العاصمة فقط بل تجاوزها إلى الأقاليم المختلفة، لانتشار الخريجين، وعملهم في الخدمة المدنية في السودان، حيث مورس نشاط ثقافي وفكري واضح في هذه الأندية، وكان فيه يناقش الشباب أفكارهم بموضوعية وتجرد بعيداً عن التناحر والتنافر الفكري والمذهبي، وكان الكل يعتقد أن كل هذه التيارات تصب في منبع واحد وهو المجتمع السوداني.
    وكما أسلفنا فإن نادي أم درمان كان هو النادي الأساسي، حيث نجح أعضاؤه في خلق علاقات خارجية "مع مفكري البلدان العربية والأجنبية، فكان مركزاً لمحاضرات المستشرقين الأجانب، ومنبراً للنثر والشعر في مختلف المناسبات". ومن هذا النادي لمعت نجوم كثيرة من قادة العمل الوطني في السودان، مثل "محمد أحمد محجوب"، "محمد عبد الحليم"، و"مصطفى يوسف التني" ... الخ.
    كما أن نشاط هذه الأندية كان رافداً من روافد أندية الجاليات التي كان للخريجين علاقات قوية بها خاصة النادي المصري حيث ثبتت هذه العلاقة في محاكمة "علي عبد اللطيف" في جلسة 16 مارس 1925م حيث قال: "أنا لم أدخل النادي المصري إلا مرة واحد لأشاهد مسرحية (الويه الواجب) وكنت أعلم أنه لا يقبل عضواً غير مصري".
    ثم كانت لاتفاقية 1936م الأنجلو-مصرية ردة فعل عنيفة بين الخريجين إذ أغضبتهم بنود هذه الاتفاقية خاصة البند رقم (11) حيث نص على وجوب استمرار الحكم الثنائي الأنجلو المصري، وتمسك الحاكم العام بسلطاته نيابة عن الدولتين، وكذلك تقيد الوظائف الجديدة وإعطائها للمصريين والبريطانيين في حالة عدم وجود سودانيين أكفاء، كما اشتملت على بنود مجحفة أخرى، أثارت الاستياء العام بين المثقفين، مما جعلهم يبدأون في تنظيم أنفسهم، لمجابهة الاستعمار وإبداء عدم الرضى، حيث اقترح عقد مؤتمر للخريجين حيث يقول المحجوب: "أعطانا استياؤنا العميق دافعاً إلى تنظيم أنفسنا سياسياً في الحال، وأخذنا نحض
    على تأليف جبهة موحدة تقيم برنامجاً للعمل، ثم اقترحنا عقد مؤتمر للخريجين لوضع هذا البرنامج".
    كما أكد المحجوب أيضاً أنهم كانوا معجبين بالنموذج الهندي، وكان لكتابات "غاندي" و"نهرو" أبلغ الأثر مما جعلهم يتبنون التجربة الهندية، كما أن نادي الخريجين في الخرطوم كان قد تبنى نفس هذه الآراء على الرغم من تردد رئيسه "إسماعيل الأزهري" في بادئ الأمر، ولكنه وافق بشرط أن يشمل كل الخريجين لا أعضاء النادي فقط، ثم تم تغيير معنى خريج حيث صار "أي شخص تلقى تعليما ما يعادل مستوى المدرسة الابتدائية" وبذلك اتسعت القاعدة للخريجين.
    ومن ثم قام مؤتمر الخريجين سنة 1938 وكانت أهم أهدافه كما ورد في رسالة إلى الحاكم العام "خدمة مصالح البلد العامة، ومصالح الخريجين" وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية حجمت من نشاط هذا المؤتمر، مما حد من انتشاره في السودان.
    وبعد أن عمل المؤتمر أربع سنوات كقاعدة موحدة في الحركة القومية والوطنية أخذ يتضاءل نشاطه ويتقلص، حيث ظهرت فئات سياسية جديدة منها جماعة الأشقاء التي ترأسها الأزهري "هذه الجماعة، وجماعات أخرى تألفت بعد انحلال المؤتمر، وتحولت في النهاية إلى أحزاب سياسية هيأت القاعدة في تقدمنا الأخير نحو الاستقلال".
    كما أن المحجوب كان يرى أن تبرز الحركة الوطنية في السودان وترتبط بالكفاح من أجل الاستقلال الذي كان يعم القارة الإفريقية فقال:
    "السودان بلد إفريقي الوجود، عربي التطلع والمصير لأسباب جغرافية
    وعرقية وتاريخية وثقافية، ولكنه سيبقى عربياً في مظهره ومصيره، إنه كبلد سيشكل رأس حربة في الشرق الأوسط وفي إفريقيا جنوب الصحراء".

    الصحف والمجلات (1889 ـ 1960):
    لعبت الصحف دوراً كبيراً في إذكاء روح النضال ضد الاستعمار وبوجود هذه الصحف اتخذت الثقافة السودانية منحى جديداً حيث تحولت هذه الصحف إلى منابر لإبداء الرأي ونشر الوعي وإذكاء روح النضال الوطني.
    يقال إن أول مطبعة دخلت السودان لا يعرف تاريخها بالتحديد. إلا أنها استخدمت في إنجاز الأعمال الحكومية البسيطة، ولقد اهتمت القوات المنتصرة عند دخولها السودان بهذه المطبعة حيث جلبت لها معدات حديثة ماكينة للطباعة لعمل المطبوعات الحكومية كما طبعت فيها "الفازيتا السودانية" في شهر مارس 1899م. وكانت هذه الصحيفة مختصة بنشر قوانين الحكومة وأوامرها، وإعلاناتها إذ أنها كانت الصحيفة الوحيدة في السودان.
    وفي عام 1903م صدرت أول صحيفة في السودان تحت إشراف "خالد نمر" و"يعقوب صروفي" و"شاهين مكاريوس"*، وكانت هذه الصحيفة نصف أسبوعية.
    وفي عام 1909م صدرت أيضاً صحيفة اسمها "الخرطوم" تحت إشراف "أسعد يس" ولكن سرعان ما توقفت، ثم حاول "أسعد يس" إصدار صحيفة أخرى باسم كشكول المساح سرعان ما توقفت بعد ذلك.
    وفي يناير 1913م تم إصدار مجلة "رائد السودان" ، وهذه المجلة أيضاً بجهود
    أجنبية إلا أنها كانت ذات صلات قوية بالمتعلمين السودانيين الذين زاد عددهم في تلك الفترة.
    وفي عام 1918م صدرت مجلة السودان في رسائل ومدونات.*
    وشهد كذلك عام 1919 ظهور أول صحيفة سودانية الملكية وهي "حضارة السودان" وكانت تحت إشراف "حسين شريف" الذي يعد الصحافي السوداني الأول، وقد أشرفت على هذه الصحيفة شركة مكونة من السادة "عبد الرحمن المهدي" و"محمد الخليفة شريف" و"حسين شريف"، و"عثمان صالح" و"حسن أبو" و"محجوب فضل المولى" و"عبد الرحمن جميل" وكان الجامع لهذه الجماعة أنهم ينتمون لحركة الأنصار. وقد قامت هذه الصحيفة كردة فعل للَّهجوم الذي شنته الصحف المصرية على السودان بعد أن قام وفد من أعرق البيوت السودانية بزيارة إلى بريطانيا لتهنئتها بالنصر في الحرب العالمية فقامت الصحف المصرية بمهاجمة هذا الوفد ولذلك قامت هذه الصحيفة لتبرير هذه الزيارة والرد على الصحف المصرية. ثم توقفت هذه الصحيفة في عام 1934م وعاودت الصدور تحت اسم "ملتقى النهرين" وكان رئيس تحريرها "أحمد عثمان القاضي".
    وفي عام 1927م قام "سليمان داؤود منديل" بطلب لإصدار "الجريدة التجارية" ومن اسمها نعرف أن الغرض منها نشر الأخبار التجارية وقد تم له التصديق بإنشاء هذه الصحيفة حيث خرج عددها الأول سنة 1928م.
    وفي عام 1930م قدم "محمد عباس أبو الريش" أول طلب لإنشاء مجلة النهضة وهي مجلة أدبية أسبوعية، كانت ملتقى لعدد من الأدباء السودانيين مثل: "محمد أحمد محجوب" و"إسماعيل العتباني" و"عرفات محمد عبد اللَّه".
    وفي عام 1934م صدرت مجلة "الفجر" تحت إشراف "عرفات محمد عبد اللَّه" حيث التف حول هذه المجلة لفيف من أدباء السودان الأماجد الذين أثروا الساحة الأدبية بإسهاماتهم العديدة والمتنوعة، وقد كانت هذه المجلة منبراً حراً طرحت فيه الكثير من الآراء المختلفة وهي بحق كانت مرآة صادقة للصراعات التي كانت تدور في الساحة الفكرية والأدبية آنذاك، ولقد توقفت هذه المجلة بموت صاحبها "عرفات محمد عبد اللَّه" ثم عاودت الظهور مرة أخرى بإشراف "أحمد يوسف هاشم" سنة 1938م.
    لقد أدى ظهور الأحزاب في منتصف الثلاثينات إلى ظهور ما يسمى بالصحف الحزبية، التي تكون لسان حال الحزب وناطقه الرسمي حيث أصدر حزب الأمة صحيفة "الأمة" وأصدر الحزب الوطني الاتحادي صحيفة "العلم" وكذلك الأحزاب التقليدية ذات المرجعية الدينية كانت قد أصدرت صحف خاصة بها مثل طائفة الختمية أصدرت صحيفة صوت السودان، أما طائفة الأنصار فكان اسم صحيفتهم "النيل".
    والجدير بالذكر أن سياسة التساهل التي انتهجها الإنجليز في تلك الفترة تجاه حرية التعبير ساعدت في أن تنشر كثير من الصحف المستقلة حيث صدرت في منتصف الأربعينات صحيفة "السودان الجديد" وفي سنة 1945 صدرت صحيفة "الرأي العام" وصحيفة "كردفان" وفي عام 1952 صدرت صحيفة "الأيام" وفي سنة 1954 أصدر الحزب الشيوعي السوداني صحيفته "الميدان".*
    وعلى الرغم من الاستقلال الظاهري لهذه الصحف إلا أنها كانت تخضع للرقابة التي وضعت بعض الشروط لتحد من انتشار الصحف الجديدة، كما أضيفت مواد ولوائح لقانون الصحافة لمحاسبة الصحف والصحافيين وكانت العقوبات تتراوح من الغرامات إلى التوقيف وفي الحالة الشديدة السجن.
    ولقد مارست الحكومة سياسة المحاباة والتقريب لبعض الصحف ورؤساء تحريرها الذين يسايرونها، ومن قبل أن تنال البلاد استقلالها كان هناك سبعة صحف يومية وأربع عشرة صحيفة أسبوعية باللغة العربية وصحيفة يومية باللغة الإنجليزية وكذلك صحيفة باللغة الإغريقية، على الرغم من أن نسبة التعليم المنخفضة التي لم تكن تتجاوز 5% من عدد السكان.
    وفي الفترة العسكرية الأولى تم إيقاف كل الصحف الحزبية وكانت تصدر فقط "الأيام"، و"الرأي العام"، و"السودان الجديد"، كصحف يومية، أما الصحف الأسبوعية التي كانت تصدر فهي: "الأخبار"، و"الناس"، و"أبناء السودان"، و"الصراحة"، ولقد فرضت على هذه الصحف رقابة صارمة من قبل النظام العسكري آنذاك، وقد شهدت هذه الفترة محاكمات لبعض الصحافيين الذين نشروا أخباراً لا تتوافق وسياسة الدولة.
    ومن ثم نخلص أن كل هذه المؤثرات التي اعتورت داخل الثقافة السودانية منذ بداية القرن العشرين، هي التي وجهت الحركة الثقافية والفكرية في السودان، لتؤول إلى ما آلت إليه في منتصف سنوات الخمسين، ولتؤدي إلى ظهور ما يسمى بالغابة والصحراء فيما بعد.
    نجد أن عزلة المثقف السوداني بدأت منذ بداية التعليم الحديث في السودان، بواسطة السياسة التي مارسها الاستعمار مع المتعلمين حيث كونوا طبقة مستنيرة ومتعالية على بقية الشعب، وفي المقابل كلية غردون بطابعها الغربي العلماني والمعهد العلمي بطابعه الإسلامي شكلا تيارين من الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، التي لا زالت تحمل في جوفها هذه الثنائية، وصراعاً، يظهر ويختفي بين القيم الغربية والقيم العربية الإسلامية، وما زال الحال هكذا حتى ظهرت حركة السودنة ولكنها كانت مربوطة بالثقافة العربية الإسلامية، لتأتي في سنوات الستين حركة الغابة والصحراء لتبعث العنصر الإفريقي في المكون السوداني، داخل الثقافة السودانية، الذي كان مهملاً، ومنكراً تماماً من قبل السودانيين. وفي ذلك يقول اليازجي: "فإن الشعور بالانتماء العربي في السودان كان يقويه عنصر التحدي للزنوجية أو السودنة والهروب من هوان الانتماء إلى الإفريقية التي لم تكن قد استقطبت قوميتها بعد".
                  

العنوان الكاتب Date
رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan09-28-03, 04:32 PM
  Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan09-28-03, 04:34 PM
    Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 Elmosley09-28-03, 04:51 PM
      Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan09-28-03, 05:08 PM
  Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 نصار09-28-03, 04:54 PM
  Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 altahir_209-29-03, 05:26 PM
  Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 MOHDY09-29-03, 07:24 PM
    Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan09-30-03, 08:02 AM
  Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 MOHDY10-02-03, 09:38 PM
    Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan10-03-03, 01:03 AM
    Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan10-03-03, 01:04 AM
  Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 MOHDY10-03-03, 02:02 AM
    Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan10-03-03, 03:27 AM
  Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 MOHDY10-03-03, 02:18 PM
    Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan10-03-03, 05:52 PM
  Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 MOHDY10-04-03, 03:23 AM
    Re: رصد تأريخى للحركة الثقافية فى السودان من 1900 الى 1960 bayan10-09-03, 02:14 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de