Post: #1
Title: حـــــــــــــرية التــــعبـــــــــــــــــير
Author: omar ali
Date: 10-12-2004, 07:35 PM
الكتاب 43045 السنة 127-العدد 2004 اكتوبر 13 29 من شعبان 1425 هـ الأربعاء
مؤتمـــــــــر الإســــــــكندرية بقلم:أحمد عبدالمعطي حجازي
لا أبالغ إذا قلت إن المؤتمر الدولي لحرية التعبير الذي نظمته مكتبة الاسكندرية بين الثامن عشر والعشرين من الشهر الماضي, وأسهمت في الاعداد له مؤسسات دولية وشخصيات أجنبية, وانتظم في حضور جلساته عشرات من المثقفين المصريين والعرب والأجانب,لا أبالغ في التفاؤل إذا قلت إن هذا المؤتمر خطا بمصر وبالمنطقة العربية كلها خطوة واسعة جريئة في الطريق الي الحرية.
وأنا واحد من آلاف من المثقفين المصريين والعرب الذين ذاقوا مرارات الطغيان, وتعرضوا للاضطهاد, وصودرت حرياتهم, وقطعت أرزاقهم, فباستطاعتي أن أقيس المسافة الفاصلة بين ماكنا فيه قبل ثلاثين عاما أو أربعين وماصرنا إليه الآن.
ولقد أتيح لي أن أعيش سنوات عديدة في قلب العالم الحر, وأري كيف ينعم أهله بالحرية, وكل شيء نسبي في هذا العالم, فباستطاعتي أن أقيس المسافة الفاصلة بيننا وبينهم.
لكن رؤيتي لحاضر الأوروبيين لاتحول بيني وبين رؤية ماضيهم, كما أن رؤيتي لحاضر بلادي لاتحول بيني وبين رؤية مستقبلها.
الأوروبيون لم يولدوا أحرارا إلا في دساتيرهم الحديثة. أما في ماضيهم الذي ثاروا عليه فكانوا أقنانا مستعبدين مسخرين لخدمة الملك ونبلائه, والبابا وقساوسته.
لم يكن لأي منهم أن يفعل الا مايأمره به الملك, أو يصلي إلا كما يصلي البابا, أو يقول الا كما يقول الانجيل. فاذا كان الانجيل يقول إن الشمس تدور حول الأرض, فعلي جاليليو أن يردد كلام الانجيل, مع يقينه بأنه غير صحيح, وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس وحول نفسها.
ولقد ظلت هذه الحقيقة العلمية المؤكدة محرمة في روما إلي أواسط القرن الثامن عشر, وظلت كتب جاليليو حتي عام1835 ضمن الكتب الممنوعة.
ولقد كان ملوك أوروبا وباباوات روما يتبارون في مطاردة أصحاب الرأي, وفي التنكيل بهم, ومصادرة آرائهم ونظرياتهم. في فلورنسا كان الراهب سافو نارولا ينقد الكنيسة ويتغني بمدينة فاضلة فحوكم وأعدم عام1498.
وفي جنيف قبض علي الكاتب الاسباني سرفيتوس الذي كتب مقالا ينقد فيه بعض المعتقدات المسيحية, فحوكم بتهمة الالحاد وأحرق حيا سنة1553.
وفي روما قبض علي جيوردانو برونو لأنه أنشأ فلسفة جديدة جعل فيها الكون مادة روحها الله, فحوكم وأحرق عام1592 في ميدان كامبو دو فيوري ـ ميدان الأزهار ـ حيث أقيم نصب تذكاري له.
والبابا اسكندر السادس الذي أعدم سافو نارولا في عهده هو أول من أصدر في أوروبا مرسوما بفرض الرقابة علي المطبوعات.
أما ملك فرنسا هنري الثاني فقد أصدر أمرا بإعدام كل من يطبع كتابا بغير ترخيص رسمي. وفي عام1529 فرضت الرقابة علي الكتب في ألمانيا. وبداية من حكم إليزابيث في انجلترا أصبح علي أي مؤلف انجليزي أن يقدم كتابه للرقابة حتي يحصل علي ترخيص بطبعه. ولم يكن مرخصا بانشاء المطابع إلا في ثلاث مدن لاغير هي لندن, واكسفورد, وكمبردج. وكانت قضايا النشر من شأن محكمة خاصة كانوا يسمونها محكمة النجمة. ولم تتحرر حركة النشر في انجلترا إلا في القرن التاسع عشر. ونحن نعرف أن السلطات الفرنسية صادرت مؤلفات لفولتير وأحرقتها, كما صادرت خواطر ديدرو الفلسفية وسجنت مؤلفها ستة أشهر, وكادت تفعل في جان جاك روسو مافعلته في ديدرو, لولا أن فر روسو الي سويسرا التي طردته سلطاتها, فلجأ إلي انجلترا ونزل ضيفا علي صديقه الفيلسوف هيوم الذي ضاق به وخاصمه فعاد الي باريس ليقضي أيامه الأخيرة في أصعب الظروف.
والذي تعرض له الفلاسفة والمفكرون تعرض له الشعراء والروائيون. فقد حوكم الشاعر بودلير وصودر ديوانه أزهار الشر في باريس في أواسط القرن التاسع عشر, كما صودرت في انجلترا والولايات المتحدة روايات للكاتبين د. هـ. لورنس, وجيمس جويس في القرن العشرين, فضلا عما تعرض له فئات من الأدباء والفنانين في ألمانيا النازية, واسبانيا الفاشية, وروسيا السوفيتية.
لكن الحرية هي التي انتصرت في النهاية. العلم انتصر علي الخرافة, والتسامح علي التعصب, والديمقراطية علي الطغيان. وكما انتصرت الحرية في أوروبا فسوف تنتصر الحرية لامحالة عندنا. فالحاجة للحرية واحدة لدي كل البشر, والخوف من الحرية, والتنكر لها أحيانا, واعتبارها ترفا يؤجل, أو زينة يستغني عنها, أمراض يتعرض لها كل البشر. وإلا فكيف تنازل الألمان عن حريتهم لهتلر؟ وكيف أله الروس ستالين؟
لو أنني خيرت جائعا بين أن يأكل أو يعلن رأيه في حكامه الطغاة, فسوف يختار الأول طبعا وله الحق, لأنه لو بقي جائعا هلك, ولو ظل صامتا نجا. وهذه هي السياسة التي كان يتبعها الطغاة المستبدون من رجال الدنيا ورجال الدين مع عامة الناس. جوع كلبك يتبعك. وهم يجوعون الناس لينسوهم أنهم بشر, ويختزلوهم إلي أدني صفاتهم, ويجعلوهم مجرد كائنات جوعي, ثم يلوحون لهم بالفتات فيتلقونه راضين مستغنين به عن التفكير والتعبير, وعن الكرامة والحرية.
غير أن الكائن الانساني الذي تنازل للطغاة عن حريته وكرامته لايستطيع أن يضمن معهم حياته, لأنه ارتضي أن تكون العلاقة بينه وبينهم علاقة قهر وإرغام, عبد مجرد من كل حق, وسيد له مطلق القوة ومطلق السلطان, فبوسعه أن يطعم, وبوسعه أن يجيع, بوسعه أن يحيي, وبوسعه أن يميت. بل هو لايستطيع إلا أن يجيع ويقتل, لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. وكما أن الطغيان يفسد البشر فيجعلهم وحوشا كاسرة وأرانب مذعورة, فهو يفسد الأرض ويلوث الهواء, ويهلك الزرع والنسل. وليس أمام الناس في هذه الحالة إلا أن يستردوا حريتهم ليستردوا حقهم في الحياة.
وهذا ليس مجرد منطق, وإنما هو واقع مشهود متواتر عرفناه في بلاد مختلفة منها بلادنا, وعصور كثيرة منها هذا العصر الذي نعيش فيه. فالطاغية الذي يستخدم كل سلطاته ويحبذ كل زبانيته لكبت الحرية وإهدار الكرامة البشرية لايتعفف ولايتورع عن تبديد الثروة القومية وإهدار المال العام. وإذا كان له أن يتصرف في الرقاب فله من باب أولي أن يتصرف فيما تملكه الرقاب.
حرية الرأي إذن ليست ترفا نستطيع أن نستغني عنه, بل هي شرط من شروط وجودنا. فالذي لا رأي له لاحق له. وهذا ما أدركته الشعوب التي هبت لطلب الحرية, ووقفت في وجه الطغاة, وضحت بأرواح بنيها ليكون كل منهم حرا في أن يفكر كما يشاء, ويعبر كما يشاء, ويعتقد كما يشاء, طالما طلب لغيره ماطلبه لنفسه, ولم يأت باسم الحرية عملا يعطل حرية الآخرين.
وحرية الرأي من جانب آخر ليست حكرا علي المشتغلين بالرأي, وإنما هي نشاط عام يمارسه كل مواطن بطريقته وبأدواته. حتي الأمي الذي لايقرأ ولايكتب يحق له ويجب عليه أن يفكر بحرية, ويعبر بحرية, لأنه كأي مواطن آخر مسئول عن نفسه, محاسب علي اختياراته. وإذا كانت العدالة الالهية ذاتها تقتضي أن يكون الانسان حرا حتي يكون حسابه عادلا, فبأي حق يصادر الحاكم حرية المواطن التي لم يصادرها الله؟ وبأي عقل وبأي منطق يبرر المواطن تنازله عن حريته؟
ولقد رأينا أن النهضة الأوروبية لم تكن في جوهرها إلا فكرا جديدا قاد مسيرة الاوروبيين نحو التقدم, وأنار لهم الطريق. ويوم ربح الأوروبيون معركة الفكر ربحوا كل شيء. يوم خلصوا أرواحهم وأجسادهم من سحر السحرة وشعوذة المشعوذين ودجل الدجالين, وانحازوا للعقل, وتجرأوا علي نقد أنفسهم ومساءلة تاريخهم انهارت نظرية التفويض الإلهي, وانفصلت الدولة عن الدين, وأصبحت الأمة مصدر السلطات, وأجريت الانتخابات البرلمانية, وأعلنت حقوق الانسان.
لهذا يبدي الرجعيون استعدادهم التام لاقتسام كل شيء مع أنصار الحرية إلا الفكر. الرجعيون مستعدون لأن يتنازلوا لك عن أي شيء, إلا عن حقهم في مراقبة الفكر ومصادرة الابداع, لأن الرقابة تمكنهم من أن يقفوا حائلا بينك وبين الجماهير, فلا تستطيع الاتصال بها إلا عن طريقهم, ولاتستطيع أن تستميلها لأفكارك الجديدة التي يمكن للرجعيين أن يتهموها بهدم التراث, والاباحية والإساءة للعقيدة, والخروج علي التقاليد. فليس أمامنا إلا أن نخوض المعركة التي خاضها الأوروبيون, وليس أمامنا الا أن نكسبها كما كسبها الأوروبيون. وفي هذا الإطار نضع المؤتمر الدولي لحرية الفكر الذي نظمته مكتبة الاسكندرية, ونقيس أثره, ونقيمه.
لقد انعقد المؤتمر في إطار المناخ الصحي الذي أوجده مؤتمر الإصلاح العربي الذي احتضنته المكتبة كذلك وعقد في مارس الماضي, وصدرت عنه وثيقة الاسكندرية التي طالب فيها المؤتمرون باطلاق الحريات, وجعلوا الاصلاح الثقافي مطلبا قائما بذاته.
والمؤتمر ينعقد في الوقت الذي تعبر فيه الشعوب العربية عن حاجة ملحة للتغيير, وتراجع فيه النظم العربية أوضاعها في ضوء ماحدث في العراق.
والمؤتمر ينعقد في مرحلة يقف فيها العالم الي جانب الديمقراطية, ويتكاتف في مواجهة العنف والارهاب. ولقد سرت في المؤتمرين روح قوية من الجد والشعور بالمسئولية وضعته في قلب الأحداث, وجعلته خطوة حاسمة جريئة في الطريق الي الحرية
|
|