Post: #1
Title: أن تكون كاتباً من... الإخوان المسلمين
Author: omar ali
Date: 02-20-2004, 04:18 PM
أن تكون كاتباً من... الإخوان المسلمين إبراهيم غرايبة الحياة 2004/02/8
التوقف عن الكتابة مثل التوقف عن التدخين أسهل عمل في حياتي. لقد فعلت ذلك مائة مرة على الأقل. أما لماذا أعود إليها بعد كل مرة أقول في نفسي هذه آخر مقالة في حياتي, فذلك سر لا أفهمه.
قبل أكثر من ستة عشر عاما استقلت من عملي في الكتابة عازما ألا أعود إليها مطلقا بعدما أغضبت كثيرين يرون في الجهاد الأفغاني أملا للمسلمين, ويرون في ما أكتبه تخذيلا وإرجافا. وسافرت إلى دولة الإمارات للعمل في التدريس, وكان يمكن أن أكون مدرسا محترما يعد الأيام والدراهم لولا موافقتي على عرض للعمل في النشر والتحرير في مجالات قصص الأطفال في الأردن. كان العرض معقولا: فالعمل في مجال الكتابة. واستجبت لهذا الحنين المرضي والإدمان الذي يقض المضاجع مقنعا نفسي بأن الكتابة للأطفال لا تزعج أحدا ولا تسيء إلى أحد.
كان الأردن يشهد توهجا ديموقراطيا وحريات واسعة, وقررت الحركة الإسلامية أن تنشئ صحيفة أسبوعية, "الرباط", ولم يكن الأمر يعنيني وحافظت على مقاومة إغراء الكتابة في الصحافة. لكن "الرباط" ما أن أصدرت 15 عدداً, حتى كان قد تعاقب عليها ثلاثة رؤساء تحرير. هكذا وجدوا انفسهم يواجهون توقف الصحيفة كأمر واقع بسبب التنافس إلى درجة التهافت على رئاسة التحرير من طامحين وطارئين وقادة ومسؤولين ونواب وأساتذة جامعيين وأئمة مساجد ومهندسين. ولأنه ليس لدى أية حركة سياسية في الأردن, بما فيها أكبرها, فريق إعلامي محترف, كان المشهد مثل كاريكاتير لعلي فرزات تتكدس فيه على المنصة عشرات الشخصيات تمسك بالميكروفون ويجلس في الصالة مستمع واحد. وللخروج من مأزق النزاع والتنافس, وأملا في تشغيل وتدريب فريق من الصحافيين, استدعي من كهفه شاب نحيف إلى درجة ما يشبه المجاعة يحلق لحيته في جو يتفجر لحى وحماسا.
وكان هذا الشاب الذي سافر الى خارج الأردن منذ عشر سنوات عندما كان فتى صغيرا مراهقا لا يكاد يعرفه أحد, وإنما يتذكره بعض قادة الحركة الإسلامية حين كان طالبا في المدرسة يشارك في أنشطة الحركة الناشئة أوائل السبعينات ويلتهم مئات الكتب ويكتب القصص ويخطب في المساجد والتجمعات.
هكذا وجدت نفسي مقاتلاً أعزل هبط وسط معسكر مدجج بالسلاح. فقد انهالت علي منذ اليوم الأول سهام النقد والمحاكمة والتشهير, وكانت مقالتي "فلسفة الدموع والألم" الأولى التي نشرت في "الرباط" مدرجة على جدول أعمال مجلس الشورى إلى جانب المشاركة في الحكومة, والعمل النيابي, وحرب الخليج, وعاصفة الصحراء. فمجلس النواب الأردني في ذلك الوقت كان يرأسه عبد اللطيف عربيات أحد نواب الإخوان المسلمين, وكان يضم في عضويته اثنين وعشرين نائبا من الحركة الإسلامية وعشرة نواب إسلاميين مستقلين, وكانت الحركة تشارك في حكومة مضر بدران بخمسة وزراء.
قُرئت المقالة على أعضاء المجلس وهاجمها شيوخ ونواب وقادة, ودافع عنها آخرون وقرر المجلس إحالة كاتبها على المحكمة, وكلف عبد المجيد ذنيبات, المراقب العام في ما بعد, محاكمة الكاتب. ولم تكن مقالة مهمة أو خطيرة, لكن هاجس الإعلام وسيطرة الذات وعدم احتمال الرأي الآخر تغير الأولويات.
وفي مناقشة لقائد ونائب في الحركة الإسلامية أصدر كتابا يحرم فيه المشاركة في الوزارة, وجدت نفسي مضطرا مرة أخرى للتوقف عن الكتابة بعدما خسرت عملي السابق, واعتكفت في بيتي سنة كاملة, ثم عملت أمين مكتبة في وزارة الثقافة, واعتقدت أني تخليت عن الكتابة الصحافية إلا ما كان قصة أطفال أو شيئا لا يغضب أحدا. لكني وجدت نفسي منخرطا في الصحاف بعدما صدر قانون المطبوعات والنشر, وصار إصدار صحيفة أسهل من فتح بقالة أو محل تجاري صغير. وشاركت في تأسيس صحيفة "السبيل" الأسبوعية وبدأت الصحافة اليومية المحلية والعربية تنشر ما أكتبه, وصارت الكتابة مصدر رزق ترتبت عليه التزامات ونفقات لم يعد التخلي عنها سهلا, وكانت الكتابة قبل ذلك هواية وتطوعاً.
وتوالت المحاكمات التنظيمية والمضايقات الحكومية, فاستقلت من الوظيفة, وتركت الصحافة الإسلامية, وعدت من جديد أشتغل في قصص الأطفال, ونشرت عددا منها, وأحرزت جائزة عربية, وتعاقدت مع مؤسسة خليجية للكتابة للأطفال.
لكني وقعت مرة أخرى في حماقة الصحافة عندما استجبت عرضاً للمشاركة في تأسيس مركز للدراسات ومجلة رأست تحريرها, وعادت اللعنات وأوجاع الرأس, حتى كانت مقالة قاصمة للظهر أقنعتني, كما جميع الناس, بأنه لم يعد لي مكان في الحركة الإسلامية. فقد اكتشفت أني واحد من أربعة يصوغون المواقف والخطط المعادية لـ"حماس" على مستوى الحركة الإسلامية, والحكومة الأردنية, والمخابرات المركزية أيضاً. ولم يعد لي مكان في الصحافة التي توقفت عن النشر لي بناء على اتصال هاتفي من مسؤول حكومي كبير, حتى لو كتبت عن القهوة أو الصحراء أو بمناسبة عيد ميلاد جلالة الملك.
"أنت أحد كبار قادة الجماعة, ومقالاتك ينظر إليها على هذا الأساس", قال لي نائب المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن. كان ذلك بعد مقالة نشرت في صحيفة "الحياة" في 15/4/98 عن الانتخابات التنظيمية للإخوان. وهكذا اكتشفت أني أحد قادتهم, وأني مخير بين الجماعة أو الكتابة, وكنت أحسب أنني كاتب في الصفوف الخلفية يملك رأيا خاصا به, ويستطيع أن يوفّق بين فرديته وانتمائه, وبين إسلاميته وليبراليته. وجُمدت عضوية ذلك القائد الكبير بعد تلك المقالة, في محاكمة طريفة: فقد استدعيت إلى محكمة تنظيمية تتكون من رئيس وعضوين, وكانت صحيفة "المجد" الأردنية الأسبوعية قد سبقت تلك المحاكمة بنشر خبر عن تجميد عضويتي.
كنت واثنين من أعضاء المحكمة نظن أن المحكمة عقدت للمحاسبة على مقالة لي نشرت في "الحياة". لكن تبين عند بدء الجلسة أنها بسبب رسالة داخلية كتبتها إلى المكتب التنفيذي للجماعة, ولم يكن أحد من أعضاء المحكمة قد اطلع عليها من قبل ولا عرف عنها شيئاً. واستغرقت المحاكمة ثلاث دقائق, طلبت من هيئة المحكمة أن تحدد التهمة الموجهة لي, وأن تقدمها مكتوبة, وأن أجيبهم عليها كتابة, وهو التقليد المتبع في المحاكمات التنظيمية للجماعة.
ولم يجد رئيس المحكمة داعيا لذلك, ولم يكن يعرف ما هي التهمة. أما عضوا المحكمة فلم يكونا يعلمان شيئا, ولم يتدخلا بشيء, ولم يرغبا في إضاعة وقتهما في مناقشة لا فائدة منها, فالقرار كان مُعدا من قبل.
يعمل رئيس المحكمة وعضو آخر فيها في المستشفى الإسلامي حيث يعمل أيضاً نائب المراقب العام للجماعة مستشارا شرعياً. وهو منصب يقال انه وهمي افتُعل لتبرير ما يرضي الموظف, فضلا عن ضمان سيطرة تنظيمية وإدارية على موظفي المستشفى وأعضاء الجماعة. وقد لقيت فيما بعد أحد طلاب الدكتوراه في الجامعة الأردنية, وأعلمني أنه قد يعمل سكرتيرا للمستشار الشرعي للمستشفى الذي لم يكن له أي عمل.
هكذا انتهت علاقتي بالإخوان, على نحو يبدو أنه نجم عن الكتابة الصحافية. وعندما أخبرت أحد أعضاء المكتب التنفيذي للجماعة بقصة المحاكمة أبدى استغرابه, وقال إنه لا يعرف عن الموضوع شيئا.
كنت على مدى السنوات الثماني التي سبقت انتهاء علاقتي بالإخوان قد كتبت عشرات المقالات عن الحركة الإسلامية, وألّفت كتابا عن جماعة الإخوان في الأردن لعله المصدر الحقيقي الوحيد عنها. ولم يكن للكتابة تلك برغم ما تضمنته من نقد ومراجعة, وبرغم الاختلاف الكبير بيني وبين قيادة الجماعة حولها, أثر على علاقتي بها ومعظم قادتها, وكان من الممكن تحمل تلك الآراء والمواقف واستيعابها لولا الحديث عن مسألتين يفترض أن لا علاقة لهما مباشرة بالإخوان, الفساد وحركة "حماس". وهذه, في الحالات جميعاً, قصص أخرى منفصلة, لكنها متصلة جداً
|
|