Post: #1
Title: خطابات مرسلة من الأستاذ محمود محمد طه الي بعض أصدقائه
Author: منصوري
Date: 01-16-2004, 07:42 AM
كوستي 4/7/1966م ص. ب. 71 عزيزي الأستاذ الفاتح . تحية طيبة ، مبـــاركة
أما بعد ، فإني أشكرك علىكتابك الكريم الذي وافاني منذ حين ، وكنت ، و ما زلت ، شديد الإحتفاء به ، و الحرص على أن أفصل الرد عليه تفصيلاً يناسب الأسئلة الذكية التي طفح بها ، ومن أجل ذلك أرجأت الرد عليه طوال هذه المدة ، و كنت أنتظر أن يقل إلحاح العمل على شيئاً ما ، و لما تراخى الزمن ، وإستيأست من أن أجد من الفراغ بعض ما أحب ، أقدمت على الكتابة حتى لا أبطئ عليك أكثر مما أبطأت ..
المثالية و الواقعية و أول ما أشير إليه هو أنه قد سرني كثيراً رأيك في رسالة الصلاة ، و لكنك تقول بأنه: "فيها كثير من المثالية التي لا أعرف أن كان من الممكن أن تتحقق في الأرض" و المثالية إنما تكون معيبة حين تصبح حلماً من أحلام اليقظة ، أو تمنياً من حديث النفس البطالة .. أما حيث توضع الوسائل العملية ، و حين تستحث النفس لتعمل على هدي هذه الوسائل العملية ، فإن الأمر لا يصبح مثالية ، و إنما يصبح غاية عليا ، تشد إليها الرحال ، و تبلغها الهمم ..
الله معك ، فهل أنت معه ؟ و أنت تخبرني بأنك أحياناً تشعر شعوراً عميقاً بآن الله معك ، و أن هذا الشعور يصحبه قلق ، وحالة غير طبيعية .. و لست أرى في ذلك مدعاة للخوف ، بقدر ما أرى فيه مدعاة للسرور .. فإنه بداية تفتح النفس بشعورها بالمسئولية .. و لقد كان الصوفية يعملون عملاً متصلاً ، ويحتالون بشتى الحيل ليصلوا إلى هذا الشعور .. فقد حكى أبو القاسم الجنيد أن خاله السري السقطي ، أخبره ، و هو يافع ، أن يقول ، كلما بدل ملابسه ، أو كلما تعرى للحمام: "الله معي ، الله ناظر إلي ، الله شاهد" و ذلك إستجلاباً لحالة الحضور مع الله ، و حالة الشعور بأن الله معك .. والشيخ المتصوف الذي نصحك بأن تبعد هذا الإحساس عنك ما أحسن ، ولا أجمل ، وهو متوهم في أمره ، يكشف هذا قوله لك: "إن الله موجود حتى مع إبليس" نعم ! إن الله موجود مع كل شئ ، و لكن العبرة بأن نكون نحن معه كما هو معنا .. هو موجود مع إبليس ، و لكن إبليس غير موجود معه .. و هو موجود مع الغافل من الناس ، و موجود مع العارف ، ولكن الفرق بين الغافل و العارف هو أن العارف موجود مع الله أو ، بعبارة أخرى أن العارف شاعر بأن الله معه ، و هو ، بذلك ، مقيد بشريعة ، و مقيد بحقيقة ، و لا يمرح كما تمرح السايمة .. "و أقيموا الوزن بالقسط ، و لا تخسروا الميزان" أحدى كفتي الميزان الله ، و ثانيتهما نحن .. فإذا كان الله حاضراً ، و نحن غايبين عنه ، فإن الوزن غير مقام ، لآن الميزان قد شال .. وإذا كان الله حاضراً ـ و هو دائماً حاضر ـ و نحن حاضرين معه ، فإن الوزن يوشك أن يقام .. و بقدر حضورنا معه تكون إقامة الوزن بالقسط .. و المثل الأعلى: إن نكون معه ، كما هو معنا .. و هيهات !! فشعورك ، إذن ، شعور صحة ، وليس شعور مرض .. . و هو حالة عزيزة من حالات تفتح النفس فأرجو أن تستزيد منه ، و لا تتخلص منه ، كما نصح صاحبنا ، عفا الله عنه .. و الشعور بأن الله معك يجب أن يجد كفايته في العمل .. فإنك ، إذا كان الله معك ، فأنت مراقب ، و أنت محاسب: و قد وجب ، إذن ، أن تحسن كل عمل تقوم به ، على سبيل أنك بعين الله ، وهو ناظر إليك: فإذا وجدت هذه الطاقة التي تشعر بها متنفساً في إتقان العمل ، فإن حالة القلق تزول ، و يحل محلها حالة الإطمئنان بأنك جليس الحبيب ، فيحل الأنس محل الوحشة ... إن القلق يصدر عن سوء ظن بالله ، و عن إهتمام زايد بالنفس .. و كلا الأمرين جهل ، من السهل التخلص منه..
الله كنه كل شئ و في حديثك عن صديقك الذي قال لك أنه لا يعرف كنه العقل تقول أنت: "إن آفتي البحث وراء ما وصل إليه ، و هو ما هية العقل الذي قال أنه لا يعرفه" .. و كنه كل شئ هو الله .. و هو لا يعرف معرفة إحاطة ، و إنما يعرف بأسمائه ، و أفعاله ، وصفاته ، ويتم اليقين بوجود ذاته ، و بكمال صفاته ، مما يسوق النفس إلى الراحة ، و الإطمئنان ، حين تعلم أن الله الكامل ، كل هذا الكمال يعبأ بها ، و يدبر أمرها ، و يتولاها .. فتطرح عناء التدبير ، و تنقلب في برد الرضا ..
النار ليست خالدة و أنت تقول أنك تمتعض لفكرة النار الخالدة .. و الحقيقة أن النار ليست بخالدة ، بل أن عمرها ليس طويلاً .. و الجنة ليست خالدة ، و إن كان عمرها أطول من عمر النار .. و لا بقاء إلا لله و حده: "كل من عليها فان ، و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام" .. فأما فكرة فناء النار فهي في أصل فكرة التوحيد ، ذلك بأن الله خير محض ، و لا يدخل الشر في الوجود إلا من جهة نظرنا نحن إليه .. فإنا ، حين نختار أنفسنا ، نقع في شقوة تدبيرنا ، و نعذب بأعمالنا .. و حين نختاره هو لا نرى إلا الخير .. و عن هذا الخير ورد التعبير بعبارة الجنة .. و عن ذلك الشر ورد التعبير بعبارة النار .. و إلى كل تعبير عن النار وردت الآية التي أشرت إليها أنت في جوابك: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم ، و آمنتم ؟؟ و كان الله شاكراً عليماً".. و عدم خلود الجنة غير معروف ، إلا لدى القلائل من العارفين ، و آيته من كتاب الله: "إن المتقين في جناتٍ ، و نهر ، في مقعد صدقٍ ، عند مليك مقتدر" فتلك مراتب العارفين .. أولها جنات ، ثم نهر ، ثم مقعد الصدق ، ثم "عند مليك مقتدر" .. و معلوم أن الجنة مكان .. فإذا ترقى أصحابها في المراقي فكانوا "عند مليك مقتدر" فإن عند هذه تكون "حيث لا عند" أي في غير مكان ، فإن الله تعالى عن المكان ، كما تعالى عن الزمان .. و قول الأستاذ شلتوت بعدم خلود النار و بخلود الجنة غير صحيح ، على التحقيق ، و نصوص الخلود واردة في القرآن عن النار ، و عن الجنة ، على السواء ، ولكن العبرة بمعنى الخلود .. ذلك بأنه يقول "خالدين فيها أبدا" .. و الأبد زمن ، و هو مخلوق .. و يقول "خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض" .. و ذلك زمن ، و هو محدود .. أما الخلود المطلق فممتنع عن الجنة ، و عن النار .. و لكنه أبلغ إمتناعاً في حالة النار منه في حالة الجنة ..
معنى كون الله منتقم و على حق أنت حين لم تتصور الله ، سبحانه ، و تعالى ، منتقماً .. إنه غير منتقم .. لأنه لا يعصى مراغمة ، و إنما يعصى بأمره .. فهو في ، المعصية ، مطاع .. و حيث وردت الإشارة إليه بالمنتقم فإنما المعنى المقصود هو ما يفهم من عبارة "ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" أو من عبارة "كل نفسٍ بما كسبت رهينة" .. فمعنى المنتقم ، هنا ، هو الذي يرد على الناس أعمالهم .. و إنما يكون عذابهم بأعمالهم .. و الحكمة وراء العذاب بالأعمال إنما هي أن نتعلم من أخطائنا .. و هذا سبيل الحرية .. فالحر هو الذي يملك حق الخطأ ، و يتحمل مسئولية خطئه ، حين يخطئ .. و بذلك يصل إلى الصواب .. و لقد أجمل المعصوم هذه العبارة أحسن إجمال حين قال: "إن لم تخطئوا ، و تستغفروا ، فسيأت الله بقومٍ يخطئون ويستغفرون ، فيغفر لهم" .
عذاب الدنيا طرف من عذاب الآخرة و أما أن عذاب الدنيا طرف من عذاب النار فهذا حق لا مرية فيه .. و الحق إن الجنة موجودة ، الآن .. و النار موجودة .. "وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين * و ما هم عنها بغائبين * وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئا والأمر يومئذ لله" فعبارة "وما هم عنها بغائبين" تؤيد القول بأن عذاب الدينا و ألمها طرف من عذاب النار التي تكون في الآخرة ، و هو موجود الآن في هذه الحياة الدنيا .. و لما كان عذاب الدنيا طرفاً من عذاب الآخرة فإن من يقع عليه يكون كفارة له عن عذاب الآخرة ، ذلك بأن الله لا يعذب مرتين .. و أنت لا شك تذكر القصة المشهورة في التاريخ .. في حرب الجمل حين خرجت عائشة ، رضي الله عنها ، على علي بن أبي طالب ، و كان أخوها محمد إبن أبي بكر في الجيش ، فلما هزم أصحاب عائشة ، أقبل محمد على هودجها ، و أدخل يده عليها ، و هي لا تراه ، فقالت: "من هذا الذي يريد العبث بحرم رسول الله ؟ أحرقه الله بناره .. فقال محمد بن أبي بكر: أنه أنا يا أختاه .. قولي نار الدنيا .. فقالت: نار الدنيا .." فكأن محمداً علم أن دعوة أخته مستجابة .. وقد أستجيبت في حقه ، فلما قالت: نار الدنيا ، سرى عنه .. وقد كان من أمره ، بعد الفتنة الكبرى ، أنه قتل في مصر ، وأحرقت جثته في جوف حمارة .. كما يحدثنا التاريخ ..
وجودك ذنب و أنت تقول: "و لو أنني لا أعتقد أني مذنب ذنباً يتكافأ مع العذاب الذي أعيش فيه" و الصوفية ، عطر الله ذكرهم ، يقولون: "وجودك ذنب لا يقاس به ذنب" ويعنون شعورك بإرادة مستقلة عن إرادة الله هو الذنب الأكبر .. و هذا لا يخلو منه أحد .. و هو يبدو جلياً في قلقك على مصيرك . و إهتمامك بنفسك ، فلكأنك أنت خالقها ، و لكأنك أنت مدبرها .. . و هذا ينطبق علي ، كما ينطبق عليك .. فنحن نحمل على عاتقنا حملاً ثقيلاً ، لولا جهلنا لأرحنا أنفسنا منه .. و قد أشير ، في حق المعصوم ، إلى ذلك في قوله تعالى: "و وضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك" .. و كما قلت آنفاً ، فإني لا أرى ، في جميع ما ورد في خطابك ، أمراً يدعو إلى القلق .. بل على النقيض من ذلك ، فإني مسرور لك ، غاية السرور ، ذلك بأن ما تشكوه إنما هو تفتح نفس ذكية ، ونبضات قلب يريد أن يخرج عن قشرته .. و طريقك قريب ، قريب !!
حياتي ظلال ، و عيشي ملا ل ونفسي مغلقة بالعذاب
و لا خير في نفس ترضى العذاب قبل أن تبلغ كمالها ، ذلك بأن العذاب سوط نساق به إلى القرب .. فكلما شعرت بأمر يسوؤك فأعلم أنك غير ملتصق بالله ، تمام الإلتصاق ، و أن بينك وبينه مسافة مملوءة بالأغيار ، فأخرج ما سواه عما بينك و بينه ، ينقلب عذابك نعيماً ، و ألمك لذة ـ وما سواه الذي يجب أن يخرج من بينك و بينه ، هو نفسك ـ نفسك التي عبر عنها المعصوم حين قال: "إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك" .. يعني جهلك ، و زيادة حرصك ، ومبالغتك في التوقي ، و إتهامك الله فيما يسوق إليك من المصائب ..
النفس المرضية لم تدخل في الوجود و أنت تقول عني: "وإن نفسك إنتقلت من النفس الراضية إلى النفس المرضية ، فإني أحب أن ترشدني إلى الطريق" فأعلم إن نفسي لا تزال تجاهد في منطقة الراضية ، ولكن طالعها من صفاء اليقين ما به علمت أن الرضا بالله ليس أمراً كبيراً ، بل يجب الفرح بالله ، إذ هو متولي أمورنا ، و مدبر معاشنا ، و معادنا ، فإن في هذا ما يوجب نهاية الفرحة ، ونهاية المسرة و البهجة .. وأحب أن أخبرك بأن النفس المرضية لم تدخل في الوجود ، إلى الآن ، ولقد كانت مجاهدة الأنبياء والمرسلين ، كلهم ، في منطقة النفس الراضية .. و لقد يحدثنا القرآن عن المعصوم فيقول: "فأصبر على ما يقولون ، وسبح بحمد ربك ، قبل طلوع الشمس ، و قبل غروبها ، و من آناء الليل فسبح ، و أطراف النهار ، لعلك ترضى" .. و بداية النفس المرضية هي قمة النفس الراضية .. ولكن هناك معنى دقيقاً ، في هذا الباب ، هو أن النفس لا تدخل في مجاهدة النفس الراضية إلا إذا كانت مصطفاة لمرتبة النفس المرضية ، في مآلها .. فكأنها "مرضية" في حالة مجاهدتها في "الراضية" .. ولكن النفس المرضية ، تماماً ، لا ترى ما تكره ، و لا تتعرض لنار المجاهدة ، فهي مكفية المؤونة من جميع الوجوه .. "لهم ما يشاءون فيها ، و لدينا مزيد" ..
النفس بين الصحة والمرض و يعجبني كثيراً قولك: "و لكني ما زلت متمسكاً بالحياة ، وأرى أنها ، إذا زالت منها العقبات التي أكابدها ، تستحق أن تعاش ، و ذلك ليس لملاذها ، و لكن للوصول إلى المعرفة ، التي توصل المرء إلى التيقن و الرضا .. ها أنت ترى أنني متقوقع في داخلي ولكن ، كلما حانت الفرصة للتخلص من آلامي الداخلية ، من حين لآخر ، إنفتحت نفسي للنقاش في مسائل العلم ، والأدب ، و في مسائل الدين المختلفة على وجه الخصوص" .. إن نفسك صحيحة يا صديقي ، أتم الصحة ، و هي نفس حية ، متفتحة علىمشاكلها .. ومشاكل الدنيا ، هي مشاكل الآخرة ، وليس خلاص منها إلا بتحصيل "المعرفة التي توصل المرء إلى التيقن و الرضا" على حد تعبيرك .. و رب نفوس نراها غير قلقة ، وغير معذبة فنغبطها ، وهي أحق برثائنا منها بغبطتنا ، لأنها نفس مريضة ـ نفس غافلة عن مشاكلها ، ومن ثم ، غير مشغولة بحلها ـ ولابد لها من يوم تتفتح فيه على تلك المشاكل بعد غفلة "لقد كنت في غفلة من هذا ، فكشفنا عنك غطاءك ، فبصرك اليوم حديد" ولكن بعد فوات الأوان ..
الدليل الذي لا يضل ولا يضلل و أما كيفية بلوغ المراتب ، في مراقي النفوس ، فقد كان يمكن التفصيل فيه ، و لكنه غير ضروري قبل الشروع في العمل: و لبداية العمل فإني أرشح لك دليلاً لا يضل ، و لا يضلل ، وهو المعصوم ، محمد بن عبد الله .. و أوصيك .. بأمرين في ذلك: الإطلاع على كتيب الحزب الجمهوري "طريق محمد" ، ثم الإستزادة على ذلك بالإطلاع على كتب السيرة ، و كتب الشمائل المحمدية ، حتى تنشأ ، بينك و بين محمد ، علائق الحب ، و الثقة ، و تمام التسليم ، والإتباع .. فإنك لا تسلم لله ، حتى تسلم لمحمد: و إنك لا تتبع الله حتى تتبع محمداً بإتقان تقليده ، و العمل على منواله ، عن حب وثقة ، و يومها سترى ثمار قلقك الحاضر إستقراراً ، وطمأنينة ، وعرفاناً بالله ..
الشريعة: بين الجماعية و الفردية و أنت تسأل: "كيف أعرف شريعتي التي أوتاها من الله بدون واسطة ؟" و الجواب: إنك لن تعرف ، قبل أن تبلغ مشارف الفردية ، بتفريد التوحيد .. فأنت لا تبدأ بشريعة فردية ، و إنما تبدأ بشريعة جماعية ، هي التي بين أيدينا الآن .. فإذا جودت العمل بها ، على هدى محمد ، بدون زيادة ، أو نقصان ، فإنك خليق ، أن تعرف ذلك في حينه .. ولن تكون معرفتك ، يومئذ ، موضع شك .. و أنت تقول: "نحن في الحق فرادى ، وسنعود لله فرادى .. ولكنك داعية ، فما هي الصلة التي تربطك بالمدعوين ، فيما يتعلق بالتجربة الفردية التي خضتها ؟" .. إن الأمر ليس مسألة شخصية ، بمعنى أنه لا يتعدى الشخص الذي يقوم به ، و إنما هو أمر متعد .. فكما أن الناس ، في الشريعة الجماعية ، يقتدي بعضهم ببعض ، ويتأسى بعضهم ببعض ، فكذلك ، في الشريعة الفردية ، يقع الإقتداء ، و يقع التأسئ .. و أما التقليد فإن قدوته محمد .. و أنت تسأل عن الصلة التي تربطني بالمدعوين ، فأعلم ، إذن ، أنها صلة الداعية إلى تقليد محمد ، على أن يكون التقليد وسيلة إلى الإستقلال عن التقليد ـ إلى الأصالة ـ وحين أدعو إلى الأصالة ، عن طريق التقليد ، إنما أدعو إلى تجربة خضتها ، و عرفتها ، وأستطيع أن أستخرج سندها ، وأدلتها ، من أصل الدين .. كما فعلت مثلاً ، في رسالة الصلاة التي قرأتها ، وتكرمت بإبداء ملاحظاتك عليها ، و قلت عنها: أنك ترى أن فيها كثيراً من المثالية ، وقد بدأت هذا الخطاب بالرد على هذه القولة .. إن الأمر الذي سرت فيه يقبل التفسير للآخرين ، ولكن على الآخرين: أن يؤمنوا بما لا يقع تحت فهمهم ، بإعتبار أن كرامة العقل تقضي بألا ننكر كل ما لا نفهم ، وألا نجعل أنفسنا حجة على الحق ، اللهم إلا إذا ظهر لنا باطل ما نحن مدعوون إليه من الوهلة الأولى ، و إلا فقد وجب التصديق ريثما نعلم .. و أنت تسأل عن صلاتي ، و حجي ، وصومي ، وزكاتى ، وتسأل أيضاً عن شهادتي ، إذا صح أن كلمة "الخ" تعني كل أولئك .. و أنت تفعل ذلك في لطف بالغ .. والحقيقة إني لا أعتبر أن هناك شيئاً شخصياً فيما يتعلق بي ، يعتبر السؤال عنه تعدياً على حرمة شخصي .. و أنا أحاول ألا أجعل لشخصي حرماً خاصاً ـ حيث أمكننى ذلك ـ و حيث عجزت ، فإني لا ألوم سائلي ، وإنما ألوم نفسي .. ورد في كتاب "رسال الصلاة " في صفحة 36 أن المعصوم قال: "قولي شريعة وعملي طريقة و حالي حقيقة" .. و ورد فيها في صفحة 46 ـ و هو قول أريد لك أن تتعمقه ـ "أن الإسلام ، في حقيقته ، ليس ديناً بالمعنى المألوف في الأديان ، و إنما مرحلة العقيدة فيه مرحلة إنتقال إلى المرحلة العلمية منه ـ مرحلة الشريعة فيه ، مرحلة إنتقال إلى مرتبة الحقيقة ـ حيث يرتفع الأفراد ، من الشريعة الجماعية ، إلى الشرائع الفردية ، التي هي طرف من حقيقة كل صاحب حقيقة ، و تكون الشريعة الجماعية محفوظة ، و مرعية ، لمصلحة السلوك ، و التربية ، والتنظيم ، للقاعدة البشرية ، التي تستجد كل يوم ، وتجاهد بالتجارب كل حين لترقي المراقي .. والذين يدخلون في مراتب الشرائع الفردية ، هم المسلمون حقاً ـ هم الأحرار ـ الذين سبقت الإشارة إليهم ، في هذا الحديث ، حين قلنا: إن الحر حرية فردية مطلقة ، هو الذي إستطاع ، أن يعيد وحدة الفكر ، و القول ، و العمل ، إلى بنيته .. فأصبح يفكر كما يريد ، و يقول كما يفكر ، ويعمل كما يقول ، ثم لا تكون عاقبة عمله إلا خيراً للناس ، و براً بهم ، وبذلك يستطيع أن يعيش فوق قوانين الجماعة ، لأنه ملزم نفسه بشريعته الفردية ، و هي فوق مستوى الشريعة الجماعية ، في التجويد ، و الإحسان ، و البر ، و التسامي" . فقد وردت الإشارة هنا ، إلى الشريعة ، و الحقيقة .. و الأصل أن لكل شريعة حقيقة .. فالحقيقة بالنسبة للشريعة ، كالثمرة بالنسبة للشجرة .. فإذا رأيت قائماً بالشريعة ، ولا حقيقة له ، فأعلم أنه ، إنما يتعهد شجرة شوك لا ثمرة لها .. و لقد قال السيد المسيح: "كل شجرة لا تصنع ثمراً تقطع و تلقى في النار" . و الشريعة قواعد سلوكية لتنظيم الحياة يقوم الأمر فيها على العقيدة و الإتباع ، والحقيقة معارف إلهية لتنظيم الحياة يقوم الأمر فيها على العلم و الإقتناع .. و الشريعة تفاريق ، والحقيقة جمعية .. "قل إن صلاتي ، ونسكي ، و محياي ، ومماتي ، لله رب العالمين * لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين" .. "إن صلاتي و نسكي" شريعة و "محياي و مماتي" حقيقة .. فحين تكون الشريعة لتنظيم الحياة ، و هي منفصلة عنها ، تكون الحقيقة لتنظيم الحياة و هي طرف منها .. فالشريعة قواعد ، و الحقيقة حياة .. أقرأ مرة أخرى الفقرة المنقولة أعلاه "و الذين يدخلون في مراتب الشرائع الفردية ، هم المسلمون حقاً ـ هم الأحرار ـ الذين سبقت الإشارة إليهم ، في هذا الحديث ، حين قلنا: إن الحر حرية فردية مطلقة ، هو الذي إستطاع ، أن يعيد وحدة الفكر ، و القول ، و العمل ، إلى بنيته .. فأصبح يفكر كما يريد ، و يقول كما يفكر ، و يعمل كما يقول" .. فصلاتي ، وصومي ، و حجي ، و زكاتي ، هي في مجموعها ، وفي تفريقها ، حياتي كلها في منشطي ، و مكرهي .. في يقظتي ، و نومي .. في صحتي ، و مرضي .. و هي حياة يجب أن تكون لله ـ راضية به ، مصححة لحالها في الرضا ، حتى تبلغ بذلك أن تكون فرحة بالله ، أشد الفرحة ..
الله محض الخير إن الحقيقة هي معرفة أسرار الألوهية ، و في قمة أسرار الألوهية ، أن الله خير محض و أن الشر ليس عنده ، و إن كان منه .. و لا يكون الشر ، إلا حين نمشي أمام الله كما ورد التعبير في رسالة الصلاة ، و أوردته أنت في كتابك الطريف .. فإذا سرنا خلفه تماماً ، و لم نتقدمه إطلاقاً ، لا في العلن ، بالقول ، (دع عنك العمل) و لا في السر ، بالخاطر ، و لا في سر السر ، بما إنطوى عليه العقل الباطن ، فإنا لا نرى الشر إطلاقاً ، ولا يرانا بل نعيش في محيط الخير المطلق .. و من أسرار الألوهية الرفيعة ، إن الوجود ، المنظور منه و غير المنظور ، (فيما نتوهم) لا يتحرك فيه متحرك ، و لا يسكن ساكن ، إلا بفعل الله و حده ، لا شريك له .. فإذا بلغت ، بالشريعة ، اليقين بهذه الحقيقة فقد أصبح عملك ، في اللاحقة ، مراقبة ما جرى به القلم في السابقة .. و هذه هي عبادتك ، في جملتها و في تفاريقها .. و لما كانت الشريعة الفردية هي طرفاً من حقيقة كل صاحب حقيقة ، كما وردت الإشارة بذلك في "رسالة الصلاة" ، فإن فيها حظَاً من التفريق أيضاً ، ولكن شرحه يطول ، و ما أجد الفراغ الذي يمكنني من التفصيل الآن .. و لكنك إذا عدت أنت ، عدت أنا أيضاً: و لكن في وقت لاحق ، حيث أملك الفراغ يومئذ ، إن شاء الله أكثر من الآن .. و الآن ، سأختم هذا الكتاب ، و أعلم أن فيه فجوات جمة تحتاج إلى ملء .. و أعلم إنك ستسأل عن كل ذلك ، و لكن جواباتك المقبلة ، قد لا تكون محشوة بالأسئلة كجوابك الماضي ، و حينئذ سيمكن التفصيل أكثر مما أمكن الآن .. أرجو أن تقرأ سلامي على الأخ الكريم الأستاذ عبد الله حامد الأمين و أرجو أن تخبره إني أرسلت له كتاب إبن عربي عقب عيد الفطر مع أحد الأخوان ، وكلفته أن يزوره بنفسه ، ثم إني ، عندما حضرت لعيد الأضحى ، زرت الأستاذ لأراه ، ثم لأعلم علم الكتاب الذي أرسلته ، ولكني لم أجده ، و عندما رجعت لكوستي ، زارني الأخ الذي كلفته بتوصيل الكتاب ، و منه علمت أنه زار الأستاذ و معه الكتاب ، و لما لم يجده ، رجع بكتابه معه ، و أعطاه ذا النون ليوصله إليه ، و لما وصل كتابك ، و منه علمت أن الكتاب لم يصل ، و كان معي هنا الأخ محمد فضل فقد كلفته ، عند رجعته ، أن يعمل على توصيل الكتاب من ذا النون ، والآن فإني لا أدري هل وصلكم الكتاب أم لا يزال عند ذا النون ـ إذا كانت الأخرى فإن تلفون ذا النون 77089 الخرطوم فأرجو الإتصال به لإستعجال الكتاب ـ فإن وصوله إليكم يهمني كثيراً ، و إسم الكتاب "فصوص الحكم" للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي . هذا ولك و للأستاذ عبد الله فائق إحترامي ، و تحيتي
المخلص محمود محمد طه
|
Post: #2
Title: Re: خطابات مرسلة من الأستاذ محمود محمد طه الي بعض أصدقائه
Author: doma
Date: 01-16-2004, 09:17 PM
Parent: #1
Up
|
Post: #3
Title: Re: خطابات مرسلة من الأستاذ محمود محمد طه الي بعض أصدقائه
Author: منصوري
Date: 01-16-2004, 11:51 PM
Parent: #1
الخرطوم في ربيع الآخر 1378 الموافق 5/11/1958م
بسم الله الرحمن الرحيم ، نستغفره و نستعينه .
أما بعد ـ فإلى الأخ الكريم موسى أبو زيد . تحية طيبة .
فقد وصلني خطابك الطريف يسأل عن (الروح) ، و يورد مانشرته مجلة (الإسلام و التصوف) عما دار في ندوة عقدتها في القاهرة ، إشترك فيها بعض العلماء الأجلاء ، و ناقشوا فيها أمر (الروح) ، و تعرضوا للآية الكريمة: "يسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي .. و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" .. و لست أريد هنا أن أتعرض لما قاله العلماء الأجلاء في تلك الندوة الطريفة ، وإنما أريد أن أحدثك عن (الروح) كما طلبت ، وسيكون حديثي مستقلاً .. و على الله قصد السبيل ..
الحق و الحقيقة و يطيب لي أن أفترع حديثي إليك عن (الروح) بجملة مأثورة ، شائعة ، و هي قولهم: "لا يعرف الله إلا الله ، و لا يدخل في ملكه إلا ما يريد" ، و بذلك نكون قد دخلنا على المسألة كلها من الباب ، و هو معرفة الله ، سبحانه و تعالى .. و معرفة الله تقع على مستويين: معرفة (حقيقة) ، و معرفة (حق) .. فأما معرفة (الحقيقة) فتلك معرفة الذات .. و هي معرفة ممتنعة لعدم الضدية فيها .. فإنه ، سبحانه ، وتعالى ليس له كفء ، و لا ضد .. و لوجود الثنائية ، في عقولنا فإنها لا تعرف إلا بالضدية . فلولا النور ما عرفنا الظلام ، و لولا الحر ما عرفنا البرد ، و هكذا سائر معارفنا .. و كل ما يمكن أن نحققه في باب معرفة ذات الله هو الإيقان القاطع بوجوده ، سبحانه ، و تعالى ، و إستحالة الإحاطة بمعرفته ، و الشعور بالعجز التام عن إدراكه ، و لذلك قيل: (العجز عن الإدراك إدراك) .. و أما معرفة (الحق) فهي معرفة الأسماء ، و الصفات ، و الأفعال .. و تلك معرفة ممكنة ، وميسورة ، ويقع تفاوت الناس فيها على مراتب ، و مراحل .. و كلما عظمت معرفتها عند العارف ، كلما إزداد اليقين بوجود الذات .. و معرفة (الحق) إنما كانت ممكنة لوجود الضدية فيها .. فإن الحق ضده الباطل .. ثم إنها لما كانت معرفة الأسماء ، و الصفات ، والأفعال ، فإن الضدية تكتنفها إكتنافاً تاماً ، و ذلك لمشاركة الخلق في جميع صفات الخالق ، ولقد قال المعصوم: "إن الله خلق آدم على صورته" .. و معلوم أن ليس لله ، تبارك ، وتعالى ، صورة حسية ، و إنما المقصود هنا أن الله ، تبارك ، وتعالى ، حين كان حياً ، و عالماً ، و مريداً ، وقادراً ، فقد خلق آدم حياً ، وعالماً ، مريداً ، و قادراً .. إلا أن صفات الله جميعها في نهاية الكمال ، و صفات الخلق في جانب النقص .. وحين قال المعصوم: "تخلقوا بأخلاق الله .. إن ربي على سراطٍ مستقم" ، إنما أراد أن نحاول بالعبادة ، و الإستقامة ، و العلم ، أن نخرج من نقص صفاتنا لندخل في كمال صفات الله ، تبارك ، و تعالى . فليس سير العابد إلى الله قطع مسافات ، وإنما هو تقريب صفات من صفات .. و الكلمة الجامعة التي صدرت بها حديثي هذا تشير إلى هذين المستويين من المعرفة .. فهي حين قالت: "لا يعرف الله إلا الله" ، إنما أشارت إلى الحقيقة ، أو (الذات) و حين قالت: "ولا يدخل في ملكه إلا ما يريد" ، إنماأ شارت إلى (الحق) ، أو الأسماء .. و معنى "لا يدخل في ملكه إلا ما يريد" إشارة إلى الصفة الأزلية ، و هي (الإرادة) .. فإنه ما من خير ، أو شر ، وما من هدى ، أو ضلال ، و ما من إيمان ، أو كفر ، إلا وقد أراده الله ، تبارك ، و تعالى .. ولقد ظن بعض الفرق الضالة ، من فرق المسلمين ، إن الله ، تبارك ، و تعالى ، لا يخلق الشر ، و الضلال ، والكفر ، و إنما يخلق الخير ، و الهدى ، و الإيمان .. فأشركوا مع الله خالقاً آخر ، من حيث أرادوا تنزيهه .. و الإرادة صفة وسط بين صفتين: أعلاها العلم ، و أدناها القدرة .. و بهذه الصفات الثلاث .. العلم ، و الإرادة ، و القدرة برزت المخلوقات جميعها للوجود .. فبالعلم أحاط الله تبارك و تعالى بالمخلوقات ، أوائلها و أواخرها ، و ما بين ذلك .. وبالإرادة خصص صور البدايات ، و ما يليها .. و بالقدرة أبرزها إلى حيز الوجود ، و والى إبرازها .. و تلحق بهذه الصفات الثلاث صفات ثلاث أخر: هي الخالق ، البارئ ، المصور ..
الإرادة الإلهية و لما كانت الإرادة صفة وسطاً بين صفتي العلم و القدرة ، فإن فيها خصائصهما معاً ، و لذلك فحيث تذكر الإرادة مفردة فإنها تعنيهما معاً .. و الإرادة صفة أزلية قائمة بذات الله ، تبارك ، و تعالى و المخلوقات جميعها صور لتجلياتها في الوجود المادي .. و من هنا جاء السؤال القديم عند الصوفية: "هل الخلق هم الحق أم هل هم غيره؟؟" .. و لقد حاول النابلسي ، عليه رحمة الله و رضوانه التعبير عن ذلك حين قال:- إن تكن بالله قائم * لم تكن بل أنت هو أنت ظل الغيب من أسمائه و الشمس هو
و هذا إستطراد ما نحب أن نواصله ، فلنرجع إلى الحديث عن (الإرادة) .. لقد قلنا إنها صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى .. و قلنا أيضاً أن المخلوقات ـ عظيمها و حقيرها ، علويها وسفليها ـ إن هي إلا صور لتجليات الله في الوجود .. و بين المخلوقات تفاوت عظيم في العلم و القدرة ، و لكنه تفاوت مقدار فقط .. فقول الله تعالى: "وفوق كل ذي علمٍ عليم" ينطبق على جميع المخلوقات ، من أدناها إلى أعلاها .. و ينظمها في شكل هرمي ، له قاعدة عريضة ، و له قمة دقيقة ، عليها واحد .. و فيما بين القاعدة و القمة جميع صور المادة ـ الغاز ، و السائل ، و الجامد ، و الشجر ، و الحيوان (بما في ذلك الإنسان) ، و الأرواح ، .. و قد يتبادر إلى الذهن إستغراب أن توصف جميع هذه المستويات بالعلم حتى يكون تفاوتها فيه تفاوت مقدار ، و ما ذاك إلا لأننا نعرف العلم تعريفاً بعينه ، و لا نعلم علماً وراء ما أصطلحنا على تسميته بالعلم .. و لذلك يقول الله تعالى في الخلق ، و فينا: "و إن من شئٍ إلا يسبح بحمده ، و لكن لا تفقهون تسبيحهم" .. و العقول الفطرية الأولية في الحياة البدائية تنسب الحياة لكل جسم تراه ـ فللحجر حياة ، و للأرض حياة ، و للحطب حياة ، و كذلك يفعل الأطفال .. و لأمر ما كان ذلك !! و مهما يكن من شئ فإن المخلوقات جميعها ، و بشكلها هذا الهرمي ، من قمتها إلى قاعدتها ، تطلب الله ، وتسير إليه .. وكما سبق القول فإن السير إلى الله ليس بشد الرحال ، و لا بقطع المسافات ، و إنما هو بتقارب صفات المخلوق من صفات الخالق ، و التقلب في هذا السير هو المعبر عنه بالفناء في قول الله سبحانه و تعالى: "كلٍ من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام" .. و للوجه هنا معنيان: الوجه البعيد هو الذات ، و الوجه القريب هو الوجه الذي يلي الذات من المخلوقات ـ أي هو أرفعها جميعاً ، و هو الذي على قمة الشكل الهرمي ، وهو هو الذي نطلق عليه (الحق) حين نطلق على الله (الحقيقة) .. أو قل هو خلاصة المخلوقات التي هي ، كما سبق و قررنا ، مظهر تجليات الله في الوجود ..
أطوار سبعة و مع أن معارج التقارب بين القاعدة و القمة لا حصر لها إلا أنها تقع في سبع مراتب ، أو قل سبع طبقات .. و لقد ورد التعبير عنها في القرآن كثيراً و بصور مختلفة ـ فمثلاً قول الله تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق السموات ، و الأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاُ ، و الشمس ، و القمر ، و النجوم ، مسخرات بأمره .. ألا له الخلق ، و الأمر ، تبارك الله رب العالمين" .. فذكر ستة الأيام هنا ، و أشار إلى اليوم السابع بقوله: "ثم إستوى على العرش" .. و هذه الأيام السبعة إشارة إلى أطوار الخلق السبعة .. وقوله تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرارٍ مكين * ثم خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاماً ، فكسونا العظام لحماَ ، ثم أنشأناه خلقاً آخر .. فتبارك الله أحسن الخالقين" ، شبيه بقوله تعالى ، الأول .. عبر عن الأطوار الستة بهذا التطور ، و التدرج .. و عن الطور السابع بقوله: "ثم أنشأناه خلقاً آخر" ، و هو هو نفس معناه في قوله: "ثم إستوى على العرش" .. و قوله تعالى: "وإذا قال ربك للملائكة إني خالقُ بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ، و نفخت فيه من روحي ، فقعوا له ساجدين" ، شبيه بقوله تعالى في الآيتين السابقتين .. فإنه هنا أجمل الأطوار الستة في قوله تعالى "فإذا سويته" ، ثم عبر عن الطور السابع بقوله تعالى: "و نفخت فيه من روحي" ، و هو تعبير مقابل تماماً للتعبيرين في الآيتين السابقتين ، وذلك حين قال في الأولى: "ثم إستوى على العرش" ، و في الثانية: "ثم أنشأناه خلقاً آخر".. و لما كان كل شئ موجود في الآفاق موجوداً في النفس البشرية ، ـ في البنية البشرية ـ فإن هذه الأطوار السبعة موجودة أيضاً .. و الله تعالى يقول: "سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، و في أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شئٍ شهيد ؟؟" .. وهذه الأطوار السبعة في النفس البشرية وردت العبارة الصريحة عن ستة منها ، وتركت السابعة للإشارة ، كما جرى في آية خلق السموات ، و الأرض ، التي أوردتها هنا ، و كما جرى ، وبصورة أقل خفاءً ، في الآيتين الأخريين اللتين أوردتهما آنفاً .. فالطور الأول من أطوار النفس هو طور النفس الأمارة ، و هو طور مشترك بين الإنسان و الحيوان .. و قد ورد ذكره في قوله تعالى ، على لسان يوسف الصديق: "و ما أبرئ نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء" .. و الطور الثاني هو طورالنفس اللوامة ، و قد ورد في قوله تعالى: "لا !! أقسم بيوم القيامة * ولا !! أقسم بالنفس اللوامة" وهو أول أطوار الترقي في سلم البشرية .. و الطور الثالث هو طور النفس الملهمة ، وقد ورد في قوله تعالى: "و نفس وما سواها * فألهمها فجورها و تقواها" .. و الطور الرابع هو طورالنفس المطمئنة ، و الطور الخامس طور النفس الراضية ، و الطور السادس طور النفس المرضية .. و قد ورد ذكر هذه الثلاث في قوله تعالى: "يأيتها النفس المطمئنة * أرجعي إلى بك راضيةً مرضية" .. و أما الطور السابع فقد أشار إليه إشارة لطيفة ، خفيفة ، في الآية التي تليهما حين قال: "فأدخلي في عبادي" و هو طور النفس السابعة ..
و حدة الوجود و يهمني من هذه الأطوار السبع التي أبرزتها لك في حديثي هذا ، و التي تظهر في شكل هرمي ، له قاعدة غليظة و قمة رفيعة ، أن أقرر أن الوجود مكون من مادة واحدة ، و أن الإختلاف في أطوارها إختلاف مقدار ، لا إختلاف نوع .. فالروح ، مثلاً ، هي الطرف الرفيع ، الشفاف ، من النفس .. و يمكن القول بأن النفس هي الطرف الغليظ ، الكثيف ، من الروح .. و الحق ، (و هذا أمر يقتضيه التوحيد) أن الوجود كله مصنوع من مادة واحدة ، و هذه المادة تكون في حالة من الذبذبة العالية حتى يتكون منها أرفع الأرواح ، أو تكون في حالة من الذبذبة المنحطة حتى يتكون منها أغلظ الأجسام .. و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "إلا إبليس ، كان من الجن ، ففسق عن أمر ربه " .. و "من الجن" يعني من الملائكة فأنت ترى ، إذن ، ألا فرق بين المادة و الروح ، إلا فرق هذه الذبذبة في المادة الواحدة .. وكل صوفي مجرب يعرف ذلك جيداً . فهو ، في حالات التجليات ، و الإشراقات ، التي تجئ نتيجة للعبادات الجسدية ، من صيام و صلاة ، يشعر بأن حظ روحه من كيانه المادي أكبر ، حتى ليخيل إليه أن الزمان لا يحده ، وأن المكان لا يحويه ، و أنه روح أثيري ، طليق ، حر ، لا سلطان لغير الله ، سبحانه ، و تعالى عليه .. و عندما أسرى بالنبي صلى الله تعالى عليه و سلم ، و عرج به ، كان في حالة من هذه الحالات ، و لقد بلغت مداها ، و تحررت من الزمان ، والمكان ، حين حكى الله تعالى عنها بقوله: "ما زاغ البصر ، و ماطغى" .. أي إتحد البصر و البصيرة ، و استغرق وحدتهما "الحاضر" فلم يكن ندم على "الماضي" ، "ما زاغ البصر" و لا خوف من "المستقبل" ، "و ما طغى" .. ثم فرضت عليه الصلاة ساعتئذ لتكون له ، وللمسلمين ، معراجاً يحقق بلوغ تلك المرتبة الرفيعة بالسير الثابت ، المتصل ، الدائم في الترقي الروحاني ، و إلى ذلك المقام الرفيع الإشارة بقوله تعالى ، و هو خطاب لمحمد و لسائر الخلق ، "ومن الليل فتهجد به نافلة لك ، عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا" .. و نحن نعرج بالصلاة كلما صلينا صلاة حسنة ، متقنة ، و ترتفع بهذه الصلاة ذبذبة أجسامنا ، إرتفاعاً يتصل بالسماء ، نورانياً ، مشعاً ، قوياً .. و إذا ما صلينا في جماعة كان إرتفاع ذبذبة أجسامنا أقوى مما لو صلينا منفردين .. و هذا هو السر في فضل صلاة الجماعة .. و هذا هو السر في الأمر بتسوية صفوف المصلين ، و تلاصق كتوفهم حتى تكون الأجسام المتراصة ، المتصلة ، جسماً واحداً ، فيرتفع ضعيفها بإرتفاع أقواها .. و مهما يكن من الأمر ، فلابد من تسمية الأطوار بأسماء تجعل التفاهم ممكناً ، و لذلك فقد سمى الطرف الرفيع من النفس بالروح .. و بذلك فهي قمة الشكل الهرمي الذي تحدثنا عنه كثيراً .. فالروح هي المعنية بالوجه في قولة تعالى: "كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ، ذو الجلال ، و الإكرام" و هي هي المعنية بنهايات الأطوار في جميع الآيات التي أوردتها آنفاً ، أي هي الطور السابع فيها جميعاً ـ و نجئ هنا إلى الروح مباشرةً ..
ما هو الأمر "و يسألونك عن الروح ، قل: الروح من أمر ربي ، و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" فأولاً !! ما هو الأمر ؟ لقد تحدثنا عن الإرادة ، فقلنا أنها الصفة القديمة ، المتعلقة بالقديم ، و ما المخلوقات جميعها إلا مظاهر لتجلياتها في الوجود المادي ـ فلم يدخل في الوجود شئ إلا عنها ـ فلا كفر ، و لا إيمان ، و لا شر ، و لا خير ، إلا منها .. فهي تتسع لجميع الثنائيات ، و المتناقضات ، و لها شكلها الهرمي ، بقاعدته و قمته .. و تعدداتها و ثنائياتها تكون في القاعدة ، و تتفاوت إلى القمة ، حيث لا يكون إلا الوحدة ـ هذه هي الإرادة ـ و أما الأمر فهو الإرادة عندما تفضي فيها الثنائية على الوحدة ، لأن الوحدة هي الأصل ، و الثنائية المظهر .. فمثلاً: الله خير محض ، و لا يصدر عنه إلا الخير .. و لكنا ، نحن ، لقصور عقولنا ، و لإعتبارنا لأنفسنا وحدها ، نرى أن بعض الأشياء خير ، وبعضها شر .. و نجزع مما نسميه شراً ، و يستبد بنا البطر عندما نظفر بما نسميه خيراً .. و لذلك فإن الله تعالى يقول في تربيتنا: "كتب عليكم القتال و هو كره لكم ، و عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم ، و عسى أن تحبوا شيئاً و هو شر لكم ، والله يعلم ، وأنتم لا تعلمون" .. أو يقول: "و الله أعلم بأعدائكم ، و كفى بالله ولياً ، وكفى بالله نصيراً" .. و لقد قال بعض العارفين في قوله تعالى: "و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة": إن النعم الظاهرة هي العوافي ، و النعم الباطنة هي المصائب .. و نحن حين نتربى على هذا التهذيب السماوي ، و نتفطن لقول الله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ، و لا في أنفسكم ، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، و الله لا يحب كل مختالٍ فخور" ، نسير في الترقي حتى نرتفع إلى مرتبة التوحيد ، ونصبح قادرين على التوحيد بين المظاهر المختلفة في الوجود ، و يظهر لنا جلياً أن الخير هو الأصل ، و الموت ، الذي هو في نظرنا أكبر الشرور ، يبدو لنا في حقيقته ، فإذا هو ميلاد جديد ، في عالم جديد ، أرحب ، و أنضر ، من عالمنا الحاضر .. هذا للصالحين ، بالطبع .. يتضح من هذا أن الأمر هو قمة الإرادة ، و أنه ، بذلك ، أخص من الإرادة ، و الإرادة أعم منه .. أقرأ قول الله تعالى: "و إذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا ، و الله أمرنا بها .. قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء .. أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل: أمر ربي بالقسط ، و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، و أدعوه ، مخلصين له الدين ، كما بدأكم تعودون" .. أو أقرأ قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل ، و الإحسان ، و إيتاء ذي القربى ، و ينهي عن الفحشاء ، و المنكر ، و البغي .. يعظكم ، لعلكم تذكرون" .. يتضح لك ما أردت من خصوص الأمر ، بعد أن إتضح لك شمول الإرادة .. و الإيمان بالأمر ، أو قل: اليقين به ، يوجب الرضا بالإرادة ، و ذلك حظ النفس الراضية ، التي تجئ في المرتبة بعد النفس المطمئنة .. و قد سلفت الإشارة إلى ذلك .. والرضا بالإرادة مرتبة توحيد تام عند العابد ، و به تتغذى روحه ، ويرتفع كيانه جميعه ..
الأمر محرر من الزمان و المكان و تخلص الأمر من الثنائية التي إشتملت عليها الإرادة خلصه من الزمان و المكان .. أقرأ قوله تعالى: "إنا كل شئ خلقناه بقدر ، و ما أمرنا إلا واحدة ، كلمحٍ بالبصر" .. فما يكون الخلق إلا في الزمن ، ولكن الأمر خارج الزمن .. "إنما أمره إذا أراد شيئاُ أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ ، و إليه ترجعون" .. و سنذكر في مقام التحرر من الزمن هذا كل ما سبق ذكره في قوله تعالى: "ثم إستوى على العرش" و من قوله تعالى: "ثم أنشأناه خلقاً آخر" ، و من قوله تعالى: "و نفخت فيه من روحي" .. كما لا بد أن نذكر الحديث عن النفس الكاملة ، تلك التي إنتهى بها تطور النفس في أطوار الترقي حتى بلغت قوله تعالى: "ما زاغ البصر و ما طغى" ، إلى آخر هذه العبارات التي تدل علىنهايات الأطوار التي حدثتك عنها ، و التي جاءت كقمة للشكل الهرمي دائماً .. ولا بد أن نذكر قولنا: أن الروح هي الطرف الرفيع من النفس ، أو هي قمة الشكل الهرمي .. وسيتبين من كل أولئك أن الروح هي "الأمر" ..
الروح ، العلم ، الحياة ، الله "و يسألونك عن الروح ، قل: الروح من أمر ربي ، و ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" .. و قد وردت الإشارة إلىالعلم في هذه الآية ، و هي تحمل كناية طريفة بأن الروح هي العلم أيضاً .. ولو تمعنت في حديثي الماضي يتأكد عندك أن الروح هي العلم .. فقد حدثتك أن الأمر هو قمة الإرادة ، و حدثتك أن الإرادة صفة وسط بين صفتين: من أعلاها العلم ، و من أسفلها القدرة .. و معنى هذا أن العلم هو قمة الإرادة أيضاً .. و العلم هو الحياة ، و هو الله .. فإن صفات الله القديمة قائمة بذاته القديمة ، و هي ليست غيره .. و نحن إنما نجهل أصل الحياة لأننا نجهل الله .. و الحق أن علمنا بكنه الأشياء جميعها قاصر ، و إنا لا نعلم إلا خصائص القوى ، دون كنهها .. فالمادة مثلاً ، على إختلاف صورها ، قد ردت إلى أصل واحد ، و ذلك بفضل تقدم العلم الطبيعي في إكتشاف أسرار الذرة .. و قد وجد أخيراً أن المادة بصورها المألوفة ليست هناك ، و إنما هي شحنة كهربائية ، أو هي طاقة ، تعرف خصائصها ، ولا يعرف كنهها .. ونحن عندنا أن المادة هي مظهر "للإرادة" و إن الإرادة هي الله .. و نحن لا نعرف الله معرفة إحاطة ، و لن نعرفه ، و لكننا سنظل نطلبه حثيثاً .. ولن تكون نهايتنا إلا عنده ، وليس لذلك نهاية .. "و أن إلى ربك المنتهى" .. و لا منتهى .. و هذا الشكل الهرمي الذي صورناه في المخلوقات موجود في كل ذرة من ذرات الوجود ، وهو ، فيما إصطلحنا على تسميته بالأحياء ، أظهر مما في عداه .. و هو في الإنسان ، أظهر منه في النبات ، و الحيوان .. و يبدو أن الروح التي دار حولها نقاش العلماء في تلك الندوة الطريفة هي روح الإنسان ، و لذلك فلا بد من الإشارة إليها في ردي هذا عليك ..
الروح الإنساني يقول الله تبارك و تعالى: "و قلنا يا آدم أسكن أنت و زوجك الجنة ، و كلا منها رغداً حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" .. و لقد إختلف المفسرون في الشجرة هنا ، ما هي؟؟ و هي عندي شجرة التين ، و هي كناية عن النفس الأمارة .. و لقد ذكرنا أن النفس الأمارة هي الطور الذي يشترك فيه الإنسان ، و الحيوان السائم .. و لا يبدأ الإنسان في إرتقاء أطوار الإنسانية إلا حين تبدأ جرثومة النفس اللوامة ، و إنما تجئ تلك كنتيجة لكبح جموح النفس الأمارة بإخضاعها لمقتضيات الحلال ، و الحرام .. و هذا هو السر في تحريم الشجرة على آدم و زوجه في الجنة .. و عند بروز النفس اللوامة تكون قد برزت ثلاث قوى: ذكاء لمعرفة الحلال ، و الحرام ، و إرادة لإجتناب الحرام و عمل الحلال ، و مقدرة على تنفيذ العمل ، أو الترك .. و هذه القوى الثلاث هي ما نسميه في الإنسان بالعلم ، و الإرادة ، و القدرة ، التي أسلفنا عنها القول ، عندما تحدثنا عن قول المعصوم: "إن الله خلق آدم على صورته" ، في الآية الكريمة: "و إذا قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ، و نفخت فيه من روحي ، فقعوا له ساجدين" .. و التعبير: "و نفخت فيه من روحي" يشير إلى بدء جرثومة النفس اللوامة ، وهي كما بينا آنفاً طور من أطوار ترقي النفس .. و لكنه طور إرتفع به الإنسان لفوره عن مستوى الحيوان ، و لذلك فهو طور مشهود .. و لو لا أن هذا الجواب قد طال لتحدثت قليلاً عن كيفية النفخ .. و قد أفعل في وقتٍ آخر ، في جواب مستقل .. هذه الإشراقة النورانية البسيطة ، التي بها يقع التمييز بين الحلال ، و الحرام ، هي الروح ، حين قلنا أنها الطرف الرفيع من النفس .. و كلما ترقت النفس في المعارج التي سلف ذكرها من أمارة ، إلى لوامة ، إلى ملهمة ، إلى مطمئنة ، إلى راضية ، إلى مرضية ، إلى كاملة ، كلما زادت رفعة ، وخفة ، وشفافية .. و كلما زاد طرفها الرفيع ـ "الروح" ـ رفاعة ، و شفافية ، ونفاذاً إلى دقائق التمييز .. قد تسمى الجانب الغليظ ، الكثيف من النفس ، الذاكرة ، أو الماضي .. فإذا ما إلتقى الخيال والذاكرة نشأ الفكر بينهما ، كما ينشأ الجنين بين الأب و الأم .. وهذا الثالوث يسمى العقل .. و قد ذكرت لك هذه النبذة البسيطة عن العقل لأني رأيت أن ذكر العقل ورد في نقاش السادة العلماء مع ذكر الروح .. و لا بد من ختام هذا الجواب بعد أن طال ، و إن كنت أريد أن أحدثك عن الموت ، وعن البرزخ .. و لكن ذلك مما يزيد في طول هذا الجواب فيجعله مملاً ، إن كان قد أبقى من الإملال شيئاً .. و ختاماً أرجو الله أن يعلمنا ، و يعلمك و أن ينفع بعلمنا ، و بعلمك ..
المخلص محمود محمد طه
|
Post: #4
Title: Re: خطابات مرسلة من الأستاذ محمود محمد طه الي بعض أصدقائه
Author: منصوري
Date: 01-18-2004, 06:52 AM
Parent: #1
سوف نواصل الخطابات
|
Post: #5
Title: Re: خطابات مرسلة من الأستاذ محمود محمد طه الي بعض أصدقائه
Author: doma
Date: 01-18-2004, 01:15 PM
Parent: #4
ربي ارحمه وارحمنا واغفر له ولنا وكفر عنه وعناخطايانا انك انت الغفور الرحيم .
|
Post: #6
Title: Re: خطابات مرسلة من الأستاذ محمود محمد طه الي بعض أصدقائه
Author: منصوري
Date: 01-19-2004, 10:50 AM
Parent: #1
الأستاذ محمود محمد طه .. تحية
نحن بعض الطلبة الثانويين بجزيرة توتي نحرر جريدة حائطية بهذا النادي الثقافي ، و رأينا أن هذه فرصة مناسبة لنقدم لقرائنا أحد رواد الفكر الإسلامي .. و نحن هنا نتوجه إلى حضرتك ببعض الأسئلة التي نرجو أن تجيب عليها ، و التي نتمنى أن تكشف بعض الجوانب الغامضة في إتجاهك .. لأن بعض الناس ، كما نعتقد ، لم يفهموك الفهم الصحيح ، و لذا إتهموك بالكفر و الإلحاد ..
السؤال الأول: إنك ، على ما نعتقد ، تتبنى مذهباً جديداً يدعو لبعث الإسلام ، فنرجو أن توضح لنا بإيجاز محتوى هذا الإتجاه ؟؟
السؤال الثاني: لقد إتهمك بعض الناس بالإلحاد ـ فلماذا تعتقد أنهم رموك بهذا الإتهام ؟؟ أو ما هو الشئ الخاص في فكرك الذي يختلط فهمه على هؤلاء الناس فيعتبرونه إلحاداً ؟؟
السؤال الثالث: بصفتك أحد دعاة الإسلام ألا تعتقد أن واجب الداعي يقتضي عليه التدرج في تصحيح المفاهيم الدينية الخاطئة وأن يتجنب التطرف حتى لا تأتي دعوته بنتيجة عكسية ؟؟
السؤال الرابع: ما هو في نظرك أسلم الطرق لتطهير الإسلام من المفاهيم الخاطئة ، و الشبهات التي ألصقت به ، و المفاسد التي ينسبونها إليه ؟؟
الإجابة: حضرات أبنائي الطلبة الثانويين ، أعضاء نادي توتي الثقافي ـ بعد التحية المباركة ، يسرني كثيراً أن أجيب علىأسئلتكم الأربعة الموضحة بعاليه ..
الإجابة على السؤال الأول: حركة بعث الإسلام التي ندعو إليها ليست جديدة ، و إنما هي قديمة جداً ، ولكن الناس نسوها ، لأن الأمد طال بينهم وبين صدر الإسلام ، فأصبحت العبادات تمارس بحكم العادة ، من غير أن تترك أثرها على الأخلاق ، و نحن نريد أن نعيد الإسلام إلى قوته الخلاقة في صدور الرجال والنساء ، حين كانوا يمارسونه على عهد النبي بوعي و بفهم .. ونحن نرى ، كما يرى الإسلام ، أن العبادات وسائل إلى كمال الشخصية ، و نضج الأخلاق ، وليست غاية في ذاتها ، تؤدى ، ثم لا يطلب المؤدي ، وراء أدائها ، شيئاً في هذه الحياة اليومية ، التي يحياها بين الناس ، وإنما ينتظر أن يدخل بها الجنة في الآخرة ـ إن الإسلام يرى أن المصلي ، إذا صلى ركعتين ثم إنصرف من مصلاه ، ولم يزدد بتلك الركعتين طمأنينة قلب ، وصفاء فكر ، فإنما صلاته باطلة .. و نحن ندعو ، لتحقيق ما ندعو إليه من بعث الإسلام ، إلى تقليد محمد ، تقليداً متقناً ، على أن يعرف المقلد أن التقليد وسيلة ، لا غاية .. هو وسيلة إلى الإستقلال عن التقليد ، والوصول إلى الأصالة التي بها تتحقق الحرية الفردية ، وتتم عناصر الشخصية الكاملة .. إن القرآن يقول: "قل إن كنتم تحبون الله فإتبعوني .. يحببكم الله" ... و يقول: "لقد كان لكم في رسول الله إسوةً حسنة" .. و إتباع الرسول المشار إليه في الآية الأولى إنما يكون بإتباعه في أفعاله ، وأحواله ، لا في أفعاله وحدها .. و هذا واضح لمن كان له أدنى معرفة ، و كذلك التأسي برسول الله ، في الآية الثانية ، إنما هو تأس به في أفعاله ، وأحواله أيضاً .. و أفعاله في العبادات تجملها عبارته في دعوته الأمة إلى تقليده حين قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" . . تلك أفعاله ، فما هي حاله ؟؟ حاله الأصالة ، لا التقليد !! فأنت إن كنت تريد أن تكون أصيلاً ، كما كان النبي أصيلاً ، فليس لك إلى ذلك من سبيل إلا تقليد النبي في أفعاله ، على أن تعرف أن التقليد وسيلتك إلى الأصالة ، وليس غاية في ذاته ..
الإجابة على السؤال الثاني: إن من يرمينى بالإلحاد أحد رجلين: رجل يسمع الشائعات عني ولم يلقني ، و إنما إكتفى بما يسمع ، وما يسمع صادر عن سوء فهم لما أقول . و رجل لقيني و منعه عن إدراك ما أقول قشور علم تلقاها ، وظنها اللباب .. فهو يعيش على التبن فلما قدمنا له القمح أنكره ، و نفر منه .. و الذي يصعب على هذا الطراز الأخير هو ما صعب دائماً على المتمسكين بأقوال السلف من غير فكر ، حتى لقد نعى عليهم القرآن فعلهم هذا بقوله: "هذا ما وجدنا عليه أباءنا " .. و تلك سنة قديمة ، و أنتم تعرفون أن الناس عندما جاءهم النبي بقولة: "لا إله إلا الله" ، قالوا ، فيما حكى عنهم القرآن: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟؟ إن هذا لشيئ عجاب !!" .. فإستغربوه ، و من أجل ذلك قال النبي: "بدأ الإسلام غريباَ ، وسيعود غريباً ، كما بدأ .. فطوبى للغرباء" و هو إنما يعود غريباً ، كما بدأ ، لأنه في بعثه من جديد ، كما نحاول الآن أن نفعل ، سترفع قمة التوحيد ، إلى مستوى جديد ، يستغربه الناس ، كما إستغربوا "لا إله إلا الله" من قبل .. و لا يمكن أن يعود الإسلام خلاقاً في صدور رجال عصرنا ، ونسائه ، إلا إذا إرتفعت قمة تحقيق "لا إله إلا الله" إلى مستوى جديد ، لم يسبق له مثيل .. و ذلك أمر سيكون ، بعون الله و بتوفيقه .. و يومئذ سيتم العصر الذهبي للإسلام ، و ستملأ الأرض عدلاً ، كما ملئت جوراً ، وسيستقر على الأرض السلام بين الخلائق ..
الإجابة علىالسؤال الثالث: لست أدري ماذا تعنون بالتطرف .. إن الأمر المهم في تصحيح المفاهيم الدينية هو الرجوع إلى تجديد "لا إله إلا الله" ، ورفع قمتها رفعاً جريئاً .. و "لا إله إلا الله" دائماً مثار الإستغراب ، والإنكار .. فإذا ما جودها أحد ، ونظر من قمة تجويده ، أصبح من الجائز ، عند عامة الناس ، وصفه بشتى الصفات ، ومن ذلك الجنون نفسه ، حتى أن أحد هؤلاء العارفين لما رمى بالجنون قال: مجأنين ، إلا أن سر جنونهم عجيب على أعتابه يسجد العقل فهل تعنون بالتطرف هذا الأمر ؟؟ إنه لا يمكن أن يكون هناك تصحيح للمفاهيم الدينية الخاطئة إلا من هذا المستوى .. و لا تظنوا أن التهم التي تكال إلى الداعي إلى الإسلام تضر بالدعوة .. بل العكس هو الصحيح .. أقول هذا لأنكم في سؤالكم يبدو أنكم ترون أن ما تسمونه تطرفاً "يأتي بنتائج عكسية" على حد تعبيركم .. إن الدعوة إلىتجديد "لآ إله إلا الله" هي من السعة بحيث يتجند في خدمتها مؤيدوها ، و معارضوها ، وإن ظن معارضوها أنهم ، بفعلهم ذلك ، إنما يهدمونها هدماً ..
الإجابة على السؤال الرابع: أسلم الطرق في تطهير الإسلام من المفاهيم الخاطئة التي علقت به هي أن يعمل كل مسلم ، في نفسه ، على تصحيح تلك المفاهيم أولاً ، قبل أن يتصدى لتصحيحها في نفوس المسلمين ، لأن فاقد الشيئ لا يعطيه .. و أسلم طريقة ليصحح المسلم في نفسـه المفاهيم الخاطئة هي تقليد محمد ، في أفعاله ، و أحواله ، كما سبق بذلك القول ، حتى تنبثق الحكمة ، من قلبه ، على لسانه ، فإن الحكمة علم ، و عمل بمقتضى العلم ، و هذا ما نعني بتقليد محمد .. و على كل عابد أن يتجنب العادة في عبادته ، فإن آفة كل عبادة هي أن تصبح عادة .. و هذا ما نعني حين نقول: إن المقلد للنبي يجب أن يعرف أن التقليد وسيلة لا غاية . فإن دخول الوسائل ، والغاية ، في إعتبار العابد هو الذي يخرجه ، من حكم العادة ، إلى منطقة الفكر ، فيظل يسأل نفسه دائماً ، عقب كل تصرف يصدر منه ، سوءاَ كان ذلك التصرف في معاملته الناس ، أي معاشه ، أو في معاملته ربه ، أي عبادته: هل هذا التصرف توسل صحيح إلى غايته التي يريدها ، أم هل هو توسل معيب ؟؟ وأنتم بالطبع تعرفون أن قيمة الفكر في العبادة أعلى القيم جميعاً .. أسمعوا قول الله تعالى: "قل أنظروا ماذا في السموات والأرض !!" .. هل هو دون قوله تعالى: "و أقم الصلاة" ؟؟ إنما وقع التفاوت بين الأمرين لأن الأول لا يمكن أن يكون تشريعاً للعامة ، و لذلك جعل إتقان الأمر الثاني وسيلة إليه .. ثم أقرأ قوله: "و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ، و لعلهم يتفكرون" .. فالذكر هو القرآن برمته ، فإنه قد أنزل ، ومانزل منه للناس هو مايطيقون تطبيقه منه ـ هو الشريعة .. قوله: "ولعلهم يتفكرون" هو المقصود من ممارسة الشريعة ، حتى يرتفع العابد ، من الشريعة إلى الطريقة ـ أعني تجويد تقليد النبي ، عن وعي ، وفكر ، حتى يعطي شريعته الخاصة ، و هي فوق الشريعة العامة ، بما لا يقاس ، و حينئذ يصح منه الإقتداء بحال النبي ، وهي الأصالة التي وردت الإشارة إليها آنفاً .. هذه أسلم الطرق لتصحيح المفاهيم الخاطئة .. بل الحقيقة أنه ليس هناك تصحيح لها غير هذا الطريق ..
ختاماً أشكركم علىأسئلتكم الطريفة جداً ، والحق أنها أسئلة تحتاج إلى تفصيل طويل ، عريض ، ولكني أعلم أنكم تريدون الرد عليها في حيز ضيق يمكن معالجته على جريدة الحائط كما أخبرتموني .. والله المسئول أن يهيئ لنا الظرف المناسب لتفصيل ما جاء إجماله ههنا ..
محمود محمد طه
|
|