الأسلحة الكيميائية وحقيقة استخدامها في السودان في منتدى ميديكس للحوار
|
Re: خطابات مرسلة من الأستاذ محمود محمد طه الي بعض أصدقائه (Re: منصوري)
|
الخرطوم في ربيع الآخر 1378 الموافق 5/11/1958م
بسم الله الرحمن الرحيم ، نستغفره و نستعينه .
أما بعد ـ فإلى الأخ الكريم موسى أبو زيد . تحية طيبة .
فقد وصلني خطابك الطريف يسأل عن (الروح) ، و يورد مانشرته مجلة (الإسلام و التصوف) عما دار في ندوة عقدتها في القاهرة ، إشترك فيها بعض العلماء الأجلاء ، و ناقشوا فيها أمر (الروح) ، و تعرضوا للآية الكريمة: "يسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي .. و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" .. و لست أريد هنا أن أتعرض لما قاله العلماء الأجلاء في تلك الندوة الطريفة ، وإنما أريد أن أحدثك عن (الروح) كما طلبت ، وسيكون حديثي مستقلاً .. و على الله قصد السبيل ..
الحق و الحقيقة و يطيب لي أن أفترع حديثي إليك عن (الروح) بجملة مأثورة ، شائعة ، و هي قولهم: "لا يعرف الله إلا الله ، و لا يدخل في ملكه إلا ما يريد" ، و بذلك نكون قد دخلنا على المسألة كلها من الباب ، و هو معرفة الله ، سبحانه و تعالى .. و معرفة الله تقع على مستويين: معرفة (حقيقة) ، و معرفة (حق) .. فأما معرفة (الحقيقة) فتلك معرفة الذات .. و هي معرفة ممتنعة لعدم الضدية فيها .. فإنه ، سبحانه ، وتعالى ليس له كفء ، و لا ضد .. و لوجود الثنائية ، في عقولنا فإنها لا تعرف إلا بالضدية . فلولا النور ما عرفنا الظلام ، و لولا الحر ما عرفنا البرد ، و هكذا سائر معارفنا .. و كل ما يمكن أن نحققه في باب معرفة ذات الله هو الإيقان القاطع بوجوده ، سبحانه ، و تعالى ، و إستحالة الإحاطة بمعرفته ، و الشعور بالعجز التام عن إدراكه ، و لذلك قيل: (العجز عن الإدراك إدراك) .. و أما معرفة (الحق) فهي معرفة الأسماء ، و الصفات ، و الأفعال .. و تلك معرفة ممكنة ، وميسورة ، ويقع تفاوت الناس فيها على مراتب ، و مراحل .. و كلما عظمت معرفتها عند العارف ، كلما إزداد اليقين بوجود الذات .. و معرفة (الحق) إنما كانت ممكنة لوجود الضدية فيها .. فإن الحق ضده الباطل .. ثم إنها لما كانت معرفة الأسماء ، و الصفات ، والأفعال ، فإن الضدية تكتنفها إكتنافاً تاماً ، و ذلك لمشاركة الخلق في جميع صفات الخالق ، ولقد قال المعصوم: "إن الله خلق آدم على صورته" .. و معلوم أن ليس لله ، تبارك ، وتعالى ، صورة حسية ، و إنما المقصود هنا أن الله ، تبارك ، وتعالى ، حين كان حياً ، و عالماً ، و مريداً ، وقادراً ، فقد خلق آدم حياً ، وعالماً ، مريداً ، و قادراً .. إلا أن صفات الله جميعها في نهاية الكمال ، و صفات الخلق في جانب النقص .. وحين قال المعصوم: "تخلقوا بأخلاق الله .. إن ربي على سراطٍ مستقم" ، إنما أراد أن نحاول بالعبادة ، و الإستقامة ، و العلم ، أن نخرج من نقص صفاتنا لندخل في كمال صفات الله ، تبارك ، و تعالى . فليس سير العابد إلى الله قطع مسافات ، وإنما هو تقريب صفات من صفات .. و الكلمة الجامعة التي صدرت بها حديثي هذا تشير إلى هذين المستويين من المعرفة .. فهي حين قالت: "لا يعرف الله إلا الله" ، إنما أشارت إلى الحقيقة ، أو (الذات) و حين قالت: "ولا يدخل في ملكه إلا ما يريد" ، إنماأ شارت إلى (الحق) ، أو الأسماء .. و معنى "لا يدخل في ملكه إلا ما يريد" إشارة إلى الصفة الأزلية ، و هي (الإرادة) .. فإنه ما من خير ، أو شر ، وما من هدى ، أو ضلال ، و ما من إيمان ، أو كفر ، إلا وقد أراده الله ، تبارك ، و تعالى .. ولقد ظن بعض الفرق الضالة ، من فرق المسلمين ، إن الله ، تبارك ، و تعالى ، لا يخلق الشر ، و الضلال ، والكفر ، و إنما يخلق الخير ، و الهدى ، و الإيمان .. فأشركوا مع الله خالقاً آخر ، من حيث أرادوا تنزيهه .. و الإرادة صفة وسط بين صفتين: أعلاها العلم ، و أدناها القدرة .. و بهذه الصفات الثلاث .. العلم ، و الإرادة ، و القدرة برزت المخلوقات جميعها للوجود .. فبالعلم أحاط الله تبارك و تعالى بالمخلوقات ، أوائلها و أواخرها ، و ما بين ذلك .. وبالإرادة خصص صور البدايات ، و ما يليها .. و بالقدرة أبرزها إلى حيز الوجود ، و والى إبرازها .. و تلحق بهذه الصفات الثلاث صفات ثلاث أخر: هي الخالق ، البارئ ، المصور ..
الإرادة الإلهية و لما كانت الإرادة صفة وسطاً بين صفتي العلم و القدرة ، فإن فيها خصائصهما معاً ، و لذلك فحيث تذكر الإرادة مفردة فإنها تعنيهما معاً .. و الإرادة صفة أزلية قائمة بذات الله ، تبارك ، و تعالى و المخلوقات جميعها صور لتجلياتها في الوجود المادي .. و من هنا جاء السؤال القديم عند الصوفية: "هل الخلق هم الحق أم هل هم غيره؟؟" .. و لقد حاول النابلسي ، عليه رحمة الله و رضوانه التعبير عن ذلك حين قال:- إن تكن بالله قائم * لم تكن بل أنت هو أنت ظل الغيب من أسمائه و الشمس هو
و هذا إستطراد ما نحب أن نواصله ، فلنرجع إلى الحديث عن (الإرادة) .. لقد قلنا إنها صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى .. و قلنا أيضاً أن المخلوقات ـ عظيمها و حقيرها ، علويها وسفليها ـ إن هي إلا صور لتجليات الله في الوجود .. و بين المخلوقات تفاوت عظيم في العلم و القدرة ، و لكنه تفاوت مقدار فقط .. فقول الله تعالى: "وفوق كل ذي علمٍ عليم" ينطبق على جميع المخلوقات ، من أدناها إلى أعلاها .. و ينظمها في شكل هرمي ، له قاعدة عريضة ، و له قمة دقيقة ، عليها واحد .. و فيما بين القاعدة و القمة جميع صور المادة ـ الغاز ، و السائل ، و الجامد ، و الشجر ، و الحيوان (بما في ذلك الإنسان) ، و الأرواح ، .. و قد يتبادر إلى الذهن إستغراب أن توصف جميع هذه المستويات بالعلم حتى يكون تفاوتها فيه تفاوت مقدار ، و ما ذاك إلا لأننا نعرف العلم تعريفاً بعينه ، و لا نعلم علماً وراء ما أصطلحنا على تسميته بالعلم .. و لذلك يقول الله تعالى في الخلق ، و فينا: "و إن من شئٍ إلا يسبح بحمده ، و لكن لا تفقهون تسبيحهم" .. و العقول الفطرية الأولية في الحياة البدائية تنسب الحياة لكل جسم تراه ـ فللحجر حياة ، و للأرض حياة ، و للحطب حياة ، و كذلك يفعل الأطفال .. و لأمر ما كان ذلك !! و مهما يكن من شئ فإن المخلوقات جميعها ، و بشكلها هذا الهرمي ، من قمتها إلى قاعدتها ، تطلب الله ، وتسير إليه .. وكما سبق القول فإن السير إلى الله ليس بشد الرحال ، و لا بقطع المسافات ، و إنما هو بتقارب صفات المخلوق من صفات الخالق ، و التقلب في هذا السير هو المعبر عنه بالفناء في قول الله سبحانه و تعالى: "كلٍ من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام" .. و للوجه هنا معنيان: الوجه البعيد هو الذات ، و الوجه القريب هو الوجه الذي يلي الذات من المخلوقات ـ أي هو أرفعها جميعاً ، و هو الذي على قمة الشكل الهرمي ، وهو هو الذي نطلق عليه (الحق) حين نطلق على الله (الحقيقة) .. أو قل هو خلاصة المخلوقات التي هي ، كما سبق و قررنا ، مظهر تجليات الله في الوجود ..
أطوار سبعة و مع أن معارج التقارب بين القاعدة و القمة لا حصر لها إلا أنها تقع في سبع مراتب ، أو قل سبع طبقات .. و لقد ورد التعبير عنها في القرآن كثيراً و بصور مختلفة ـ فمثلاً قول الله تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق السموات ، و الأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاُ ، و الشمس ، و القمر ، و النجوم ، مسخرات بأمره .. ألا له الخلق ، و الأمر ، تبارك الله رب العالمين" .. فذكر ستة الأيام هنا ، و أشار إلى اليوم السابع بقوله: "ثم إستوى على العرش" .. و هذه الأيام السبعة إشارة إلى أطوار الخلق السبعة .. وقوله تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرارٍ مكين * ثم خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاماً ، فكسونا العظام لحماَ ، ثم أنشأناه خلقاً آخر .. فتبارك الله أحسن الخالقين" ، شبيه بقوله تعالى ، الأول .. عبر عن الأطوار الستة بهذا التطور ، و التدرج .. و عن الطور السابع بقوله: "ثم أنشأناه خلقاً آخر" ، و هو هو نفس معناه في قوله: "ثم إستوى على العرش" .. و قوله تعالى: "وإذا قال ربك للملائكة إني خالقُ بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ، و نفخت فيه من روحي ، فقعوا له ساجدين" ، شبيه بقوله تعالى في الآيتين السابقتين .. فإنه هنا أجمل الأطوار الستة في قوله تعالى "فإذا سويته" ، ثم عبر عن الطور السابع بقوله تعالى: "و نفخت فيه من روحي" ، و هو تعبير مقابل تماماً للتعبيرين في الآيتين السابقتين ، وذلك حين قال في الأولى: "ثم إستوى على العرش" ، و في الثانية: "ثم أنشأناه خلقاً آخر".. و لما كان كل شئ موجود في الآفاق موجوداً في النفس البشرية ، ـ في البنية البشرية ـ فإن هذه الأطوار السبعة موجودة أيضاً .. و الله تعالى يقول: "سنريهم آياتنا ، في الآفاق ، و في أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شئٍ شهيد ؟؟" .. وهذه الأطوار السبعة في النفس البشرية وردت العبارة الصريحة عن ستة منها ، وتركت السابعة للإشارة ، كما جرى في آية خلق السموات ، و الأرض ، التي أوردتها هنا ، و كما جرى ، وبصورة أقل خفاءً ، في الآيتين الأخريين اللتين أوردتهما آنفاً .. فالطور الأول من أطوار النفس هو طور النفس الأمارة ، و هو طور مشترك بين الإنسان و الحيوان .. و قد ورد ذكره في قوله تعالى ، على لسان يوسف الصديق: "و ما أبرئ نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء" .. و الطور الثاني هو طورالنفس اللوامة ، و قد ورد في قوله تعالى: "لا !! أقسم بيوم القيامة * ولا !! أقسم بالنفس اللوامة" وهو أول أطوار الترقي في سلم البشرية .. و الطور الثالث هو طور النفس الملهمة ، وقد ورد في قوله تعالى: "و نفس وما سواها * فألهمها فجورها و تقواها" .. و الطور الرابع هو طورالنفس المطمئنة ، و الطور الخامس طور النفس الراضية ، و الطور السادس طور النفس المرضية .. و قد ورد ذكر هذه الثلاث في قوله تعالى: "يأيتها النفس المطمئنة * أرجعي إلى بك راضيةً مرضية" .. و أما الطور السابع فقد أشار إليه إشارة لطيفة ، خفيفة ، في الآية التي تليهما حين قال: "فأدخلي في عبادي" و هو طور النفس السابعة ..
و حدة الوجود و يهمني من هذه الأطوار السبع التي أبرزتها لك في حديثي هذا ، و التي تظهر في شكل هرمي ، له قاعدة غليظة و قمة رفيعة ، أن أقرر أن الوجود مكون من مادة واحدة ، و أن الإختلاف في أطوارها إختلاف مقدار ، لا إختلاف نوع .. فالروح ، مثلاً ، هي الطرف الرفيع ، الشفاف ، من النفس .. و يمكن القول بأن النفس هي الطرف الغليظ ، الكثيف ، من الروح .. و الحق ، (و هذا أمر يقتضيه التوحيد) أن الوجود كله مصنوع من مادة واحدة ، و هذه المادة تكون في حالة من الذبذبة العالية حتى يتكون منها أرفع الأرواح ، أو تكون في حالة من الذبذبة المنحطة حتى يتكون منها أغلظ الأجسام .. و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "إلا إبليس ، كان من الجن ، ففسق عن أمر ربه " .. و "من الجن" يعني من الملائكة فأنت ترى ، إذن ، ألا فرق بين المادة و الروح ، إلا فرق هذه الذبذبة في المادة الواحدة .. وكل صوفي مجرب يعرف ذلك جيداً . فهو ، في حالات التجليات ، و الإشراقات ، التي تجئ نتيجة للعبادات الجسدية ، من صيام و صلاة ، يشعر بأن حظ روحه من كيانه المادي أكبر ، حتى ليخيل إليه أن الزمان لا يحده ، وأن المكان لا يحويه ، و أنه روح أثيري ، طليق ، حر ، لا سلطان لغير الله ، سبحانه ، و تعالى عليه .. و عندما أسرى بالنبي صلى الله تعالى عليه و سلم ، و عرج به ، كان في حالة من هذه الحالات ، و لقد بلغت مداها ، و تحررت من الزمان ، والمكان ، حين حكى الله تعالى عنها بقوله: "ما زاغ البصر ، و ماطغى" .. أي إتحد البصر و البصيرة ، و استغرق وحدتهما "الحاضر" فلم يكن ندم على "الماضي" ، "ما زاغ البصر" و لا خوف من "المستقبل" ، "و ما طغى" .. ثم فرضت عليه الصلاة ساعتئذ لتكون له ، وللمسلمين ، معراجاً يحقق بلوغ تلك المرتبة الرفيعة بالسير الثابت ، المتصل ، الدائم في الترقي الروحاني ، و إلى ذلك المقام الرفيع الإشارة بقوله تعالى ، و هو خطاب لمحمد و لسائر الخلق ، "ومن الليل فتهجد به نافلة لك ، عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا" .. و نحن نعرج بالصلاة كلما صلينا صلاة حسنة ، متقنة ، و ترتفع بهذه الصلاة ذبذبة أجسامنا ، إرتفاعاً يتصل بالسماء ، نورانياً ، مشعاً ، قوياً .. و إذا ما صلينا في جماعة كان إرتفاع ذبذبة أجسامنا أقوى مما لو صلينا منفردين .. و هذا هو السر في فضل صلاة الجماعة .. و هذا هو السر في الأمر بتسوية صفوف المصلين ، و تلاصق كتوفهم حتى تكون الأجسام المتراصة ، المتصلة ، جسماً واحداً ، فيرتفع ضعيفها بإرتفاع أقواها .. و مهما يكن من الأمر ، فلابد من تسمية الأطوار بأسماء تجعل التفاهم ممكناً ، و لذلك فقد سمى الطرف الرفيع من النفس بالروح .. و بذلك فهي قمة الشكل الهرمي الذي تحدثنا عنه كثيراً .. فالروح هي المعنية بالوجه في قولة تعالى: "كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ، ذو الجلال ، و الإكرام" و هي هي المعنية بنهايات الأطوار في جميع الآيات التي أوردتها آنفاً ، أي هي الطور السابع فيها جميعاً ـ و نجئ هنا إلى الروح مباشرةً ..
ما هو الأمر "و يسألونك عن الروح ، قل: الروح من أمر ربي ، و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" فأولاً !! ما هو الأمر ؟ لقد تحدثنا عن الإرادة ، فقلنا أنها الصفة القديمة ، المتعلقة بالقديم ، و ما المخلوقات جميعها إلا مظاهر لتجلياتها في الوجود المادي ـ فلم يدخل في الوجود شئ إلا عنها ـ فلا كفر ، و لا إيمان ، و لا شر ، و لا خير ، إلا منها .. فهي تتسع لجميع الثنائيات ، و المتناقضات ، و لها شكلها الهرمي ، بقاعدته و قمته .. و تعدداتها و ثنائياتها تكون في القاعدة ، و تتفاوت إلى القمة ، حيث لا يكون إلا الوحدة ـ هذه هي الإرادة ـ و أما الأمر فهو الإرادة عندما تفضي فيها الثنائية على الوحدة ، لأن الوحدة هي الأصل ، و الثنائية المظهر .. فمثلاً: الله خير محض ، و لا يصدر عنه إلا الخير .. و لكنا ، نحن ، لقصور عقولنا ، و لإعتبارنا لأنفسنا وحدها ، نرى أن بعض الأشياء خير ، وبعضها شر .. و نجزع مما نسميه شراً ، و يستبد بنا البطر عندما نظفر بما نسميه خيراً .. و لذلك فإن الله تعالى يقول في تربيتنا: "كتب عليكم القتال و هو كره لكم ، و عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم ، و عسى أن تحبوا شيئاً و هو شر لكم ، والله يعلم ، وأنتم لا تعلمون" .. أو يقول: "و الله أعلم بأعدائكم ، و كفى بالله ولياً ، وكفى بالله نصيراً" .. و لقد قال بعض العارفين في قوله تعالى: "و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة": إن النعم الظاهرة هي العوافي ، و النعم الباطنة هي المصائب .. و نحن حين نتربى على هذا التهذيب السماوي ، و نتفطن لقول الله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ، و لا في أنفسكم ، إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، و الله لا يحب كل مختالٍ فخور" ، نسير في الترقي حتى نرتفع إلى مرتبة التوحيد ، ونصبح قادرين على التوحيد بين المظاهر المختلفة في الوجود ، و يظهر لنا جلياً أن الخير هو الأصل ، و الموت ، الذي هو في نظرنا أكبر الشرور ، يبدو لنا في حقيقته ، فإذا هو ميلاد جديد ، في عالم جديد ، أرحب ، و أنضر ، من عالمنا الحاضر .. هذا للصالحين ، بالطبع .. يتضح من هذا أن الأمر هو قمة الإرادة ، و أنه ، بذلك ، أخص من الإرادة ، و الإرادة أعم منه .. أقرأ قول الله تعالى: "و إذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا ، و الله أمرنا بها .. قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء .. أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل: أمر ربي بالقسط ، و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، و أدعوه ، مخلصين له الدين ، كما بدأكم تعودون" .. أو أقرأ قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل ، و الإحسان ، و إيتاء ذي القربى ، و ينهي عن الفحشاء ، و المنكر ، و البغي .. يعظكم ، لعلكم تذكرون" .. يتضح لك ما أردت من خصوص الأمر ، بعد أن إتضح لك شمول الإرادة .. و الإيمان بالأمر ، أو قل: اليقين به ، يوجب الرضا بالإرادة ، و ذلك حظ النفس الراضية ، التي تجئ في المرتبة بعد النفس المطمئنة .. و قد سلفت الإشارة إلى ذلك .. والرضا بالإرادة مرتبة توحيد تام عند العابد ، و به تتغذى روحه ، ويرتفع كيانه جميعه ..
الأمر محرر من الزمان و المكان و تخلص الأمر من الثنائية التي إشتملت عليها الإرادة خلصه من الزمان و المكان .. أقرأ قوله تعالى: "إنا كل شئ خلقناه بقدر ، و ما أمرنا إلا واحدة ، كلمحٍ بالبصر" .. فما يكون الخلق إلا في الزمن ، ولكن الأمر خارج الزمن .. "إنما أمره إذا أراد شيئاُ أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ ، و إليه ترجعون" .. و سنذكر في مقام التحرر من الزمن هذا كل ما سبق ذكره في قوله تعالى: "ثم إستوى على العرش" و من قوله تعالى: "ثم أنشأناه خلقاً آخر" ، و من قوله تعالى: "و نفخت فيه من روحي" .. كما لا بد أن نذكر الحديث عن النفس الكاملة ، تلك التي إنتهى بها تطور النفس في أطوار الترقي حتى بلغت قوله تعالى: "ما زاغ البصر و ما طغى" ، إلى آخر هذه العبارات التي تدل علىنهايات الأطوار التي حدثتك عنها ، و التي جاءت كقمة للشكل الهرمي دائماً .. ولا بد أن نذكر قولنا: أن الروح هي الطرف الرفيع من النفس ، أو هي قمة الشكل الهرمي .. وسيتبين من كل أولئك أن الروح هي "الأمر" ..
الروح ، العلم ، الحياة ، الله "و يسألونك عن الروح ، قل: الروح من أمر ربي ، و ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" .. و قد وردت الإشارة إلىالعلم في هذه الآية ، و هي تحمل كناية طريفة بأن الروح هي العلم أيضاً .. ولو تمعنت في حديثي الماضي يتأكد عندك أن الروح هي العلم .. فقد حدثتك أن الأمر هو قمة الإرادة ، و حدثتك أن الإرادة صفة وسط بين صفتين: من أعلاها العلم ، و من أسفلها القدرة .. و معنى هذا أن العلم هو قمة الإرادة أيضاً .. و العلم هو الحياة ، و هو الله .. فإن صفات الله القديمة قائمة بذاته القديمة ، و هي ليست غيره .. و نحن إنما نجهل أصل الحياة لأننا نجهل الله .. و الحق أن علمنا بكنه الأشياء جميعها قاصر ، و إنا لا نعلم إلا خصائص القوى ، دون كنهها .. فالمادة مثلاً ، على إختلاف صورها ، قد ردت إلى أصل واحد ، و ذلك بفضل تقدم العلم الطبيعي في إكتشاف أسرار الذرة .. و قد وجد أخيراً أن المادة بصورها المألوفة ليست هناك ، و إنما هي شحنة كهربائية ، أو هي طاقة ، تعرف خصائصها ، ولا يعرف كنهها .. ونحن عندنا أن المادة هي مظهر "للإرادة" و إن الإرادة هي الله .. و نحن لا نعرف الله معرفة إحاطة ، و لن نعرفه ، و لكننا سنظل نطلبه حثيثاً .. ولن تكون نهايتنا إلا عنده ، وليس لذلك نهاية .. "و أن إلى ربك المنتهى" .. و لا منتهى .. و هذا الشكل الهرمي الذي صورناه في المخلوقات موجود في كل ذرة من ذرات الوجود ، وهو ، فيما إصطلحنا على تسميته بالأحياء ، أظهر مما في عداه .. و هو في الإنسان ، أظهر منه في النبات ، و الحيوان .. و يبدو أن الروح التي دار حولها نقاش العلماء في تلك الندوة الطريفة هي روح الإنسان ، و لذلك فلا بد من الإشارة إليها في ردي هذا عليك ..
الروح الإنساني يقول الله تبارك و تعالى: "و قلنا يا آدم أسكن أنت و زوجك الجنة ، و كلا منها رغداً حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" .. و لقد إختلف المفسرون في الشجرة هنا ، ما هي؟؟ و هي عندي شجرة التين ، و هي كناية عن النفس الأمارة .. و لقد ذكرنا أن النفس الأمارة هي الطور الذي يشترك فيه الإنسان ، و الحيوان السائم .. و لا يبدأ الإنسان في إرتقاء أطوار الإنسانية إلا حين تبدأ جرثومة النفس اللوامة ، و إنما تجئ تلك كنتيجة لكبح جموح النفس الأمارة بإخضاعها لمقتضيات الحلال ، و الحرام .. و هذا هو السر في تحريم الشجرة على آدم و زوجه في الجنة .. و عند بروز النفس اللوامة تكون قد برزت ثلاث قوى: ذكاء لمعرفة الحلال ، و الحرام ، و إرادة لإجتناب الحرام و عمل الحلال ، و مقدرة على تنفيذ العمل ، أو الترك .. و هذه القوى الثلاث هي ما نسميه في الإنسان بالعلم ، و الإرادة ، و القدرة ، التي أسلفنا عنها القول ، عندما تحدثنا عن قول المعصوم: "إن الله خلق آدم على صورته" ، في الآية الكريمة: "و إذا قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ، و نفخت فيه من روحي ، فقعوا له ساجدين" .. و التعبير: "و نفخت فيه من روحي" يشير إلى بدء جرثومة النفس اللوامة ، وهي كما بينا آنفاً طور من أطوار ترقي النفس .. و لكنه طور إرتفع به الإنسان لفوره عن مستوى الحيوان ، و لذلك فهو طور مشهود .. و لو لا أن هذا الجواب قد طال لتحدثت قليلاً عن كيفية النفخ .. و قد أفعل في وقتٍ آخر ، في جواب مستقل .. هذه الإشراقة النورانية البسيطة ، التي بها يقع التمييز بين الحلال ، و الحرام ، هي الروح ، حين قلنا أنها الطرف الرفيع من النفس .. و كلما ترقت النفس في المعارج التي سلف ذكرها من أمارة ، إلى لوامة ، إلى ملهمة ، إلى مطمئنة ، إلى راضية ، إلى مرضية ، إلى كاملة ، كلما زادت رفعة ، وخفة ، وشفافية .. و كلما زاد طرفها الرفيع ـ "الروح" ـ رفاعة ، و شفافية ، ونفاذاً إلى دقائق التمييز .. قد تسمى الجانب الغليظ ، الكثيف من النفس ، الذاكرة ، أو الماضي .. فإذا ما إلتقى الخيال والذاكرة نشأ الفكر بينهما ، كما ينشأ الجنين بين الأب و الأم .. وهذا الثالوث يسمى العقل .. و قد ذكرت لك هذه النبذة البسيطة عن العقل لأني رأيت أن ذكر العقل ورد في نقاش السادة العلماء مع ذكر الروح .. و لا بد من ختام هذا الجواب بعد أن طال ، و إن كنت أريد أن أحدثك عن الموت ، وعن البرزخ .. و لكن ذلك مما يزيد في طول هذا الجواب فيجعله مملاً ، إن كان قد أبقى من الإملال شيئاً .. و ختاماً أرجو الله أن يعلمنا ، و يعلمك و أن ينفع بعلمنا ، و بعلمك ..
المخلص محمود محمد طه
| |

|
|
|
|
|
|
Re: خطابات مرسلة من الأستاذ محمود محمد طه الي بعض أصدقائه (Re: منصوري)
|
الأستاذ محمود محمد طه .. تحية
نحن بعض الطلبة الثانويين بجزيرة توتي نحرر جريدة حائطية بهذا النادي الثقافي ، و رأينا أن هذه فرصة مناسبة لنقدم لقرائنا أحد رواد الفكر الإسلامي .. و نحن هنا نتوجه إلى حضرتك ببعض الأسئلة التي نرجو أن تجيب عليها ، و التي نتمنى أن تكشف بعض الجوانب الغامضة في إتجاهك .. لأن بعض الناس ، كما نعتقد ، لم يفهموك الفهم الصحيح ، و لذا إتهموك بالكفر و الإلحاد ..
السؤال الأول: إنك ، على ما نعتقد ، تتبنى مذهباً جديداً يدعو لبعث الإسلام ، فنرجو أن توضح لنا بإيجاز محتوى هذا الإتجاه ؟؟
السؤال الثاني: لقد إتهمك بعض الناس بالإلحاد ـ فلماذا تعتقد أنهم رموك بهذا الإتهام ؟؟ أو ما هو الشئ الخاص في فكرك الذي يختلط فهمه على هؤلاء الناس فيعتبرونه إلحاداً ؟؟
السؤال الثالث: بصفتك أحد دعاة الإسلام ألا تعتقد أن واجب الداعي يقتضي عليه التدرج في تصحيح المفاهيم الدينية الخاطئة وأن يتجنب التطرف حتى لا تأتي دعوته بنتيجة عكسية ؟؟
السؤال الرابع: ما هو في نظرك أسلم الطرق لتطهير الإسلام من المفاهيم الخاطئة ، و الشبهات التي ألصقت به ، و المفاسد التي ينسبونها إليه ؟؟
الإجابة: حضرات أبنائي الطلبة الثانويين ، أعضاء نادي توتي الثقافي ـ بعد التحية المباركة ، يسرني كثيراً أن أجيب علىأسئلتكم الأربعة الموضحة بعاليه ..
الإجابة على السؤال الأول: حركة بعث الإسلام التي ندعو إليها ليست جديدة ، و إنما هي قديمة جداً ، ولكن الناس نسوها ، لأن الأمد طال بينهم وبين صدر الإسلام ، فأصبحت العبادات تمارس بحكم العادة ، من غير أن تترك أثرها على الأخلاق ، و نحن نريد أن نعيد الإسلام إلى قوته الخلاقة في صدور الرجال والنساء ، حين كانوا يمارسونه على عهد النبي بوعي و بفهم .. ونحن نرى ، كما يرى الإسلام ، أن العبادات وسائل إلى كمال الشخصية ، و نضج الأخلاق ، وليست غاية في ذاتها ، تؤدى ، ثم لا يطلب المؤدي ، وراء أدائها ، شيئاً في هذه الحياة اليومية ، التي يحياها بين الناس ، وإنما ينتظر أن يدخل بها الجنة في الآخرة ـ إن الإسلام يرى أن المصلي ، إذا صلى ركعتين ثم إنصرف من مصلاه ، ولم يزدد بتلك الركعتين طمأنينة قلب ، وصفاء فكر ، فإنما صلاته باطلة .. و نحن ندعو ، لتحقيق ما ندعو إليه من بعث الإسلام ، إلى تقليد محمد ، تقليداً متقناً ، على أن يعرف المقلد أن التقليد وسيلة ، لا غاية .. هو وسيلة إلى الإستقلال عن التقليد ، والوصول إلى الأصالة التي بها تتحقق الحرية الفردية ، وتتم عناصر الشخصية الكاملة .. إن القرآن يقول: "قل إن كنتم تحبون الله فإتبعوني .. يحببكم الله" ... و يقول: "لقد كان لكم في رسول الله إسوةً حسنة" .. و إتباع الرسول المشار إليه في الآية الأولى إنما يكون بإتباعه في أفعاله ، وأحواله ، لا في أفعاله وحدها .. و هذا واضح لمن كان له أدنى معرفة ، و كذلك التأسي برسول الله ، في الآية الثانية ، إنما هو تأس به في أفعاله ، وأحواله أيضاً .. و أفعاله في العبادات تجملها عبارته في دعوته الأمة إلى تقليده حين قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" . . تلك أفعاله ، فما هي حاله ؟؟ حاله الأصالة ، لا التقليد !! فأنت إن كنت تريد أن تكون أصيلاً ، كما كان النبي أصيلاً ، فليس لك إلى ذلك من سبيل إلا تقليد النبي في أفعاله ، على أن تعرف أن التقليد وسيلتك إلى الأصالة ، وليس غاية في ذاته ..
الإجابة على السؤال الثاني: إن من يرمينى بالإلحاد أحد رجلين: رجل يسمع الشائعات عني ولم يلقني ، و إنما إكتفى بما يسمع ، وما يسمع صادر عن سوء فهم لما أقول . و رجل لقيني و منعه عن إدراك ما أقول قشور علم تلقاها ، وظنها اللباب .. فهو يعيش على التبن فلما قدمنا له القمح أنكره ، و نفر منه .. و الذي يصعب على هذا الطراز الأخير هو ما صعب دائماً على المتمسكين بأقوال السلف من غير فكر ، حتى لقد نعى عليهم القرآن فعلهم هذا بقوله: "هذا ما وجدنا عليه أباءنا " .. و تلك سنة قديمة ، و أنتم تعرفون أن الناس عندما جاءهم النبي بقولة: "لا إله إلا الله" ، قالوا ، فيما حكى عنهم القرآن: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟؟ إن هذا لشيئ عجاب !!" .. فإستغربوه ، و من أجل ذلك قال النبي: "بدأ الإسلام غريباَ ، وسيعود غريباً ، كما بدأ .. فطوبى للغرباء" و هو إنما يعود غريباً ، كما بدأ ، لأنه في بعثه من جديد ، كما نحاول الآن أن نفعل ، سترفع قمة التوحيد ، إلى مستوى جديد ، يستغربه الناس ، كما إستغربوا "لا إله إلا الله" من قبل .. و لا يمكن أن يعود الإسلام خلاقاً في صدور رجال عصرنا ، ونسائه ، إلا إذا إرتفعت قمة تحقيق "لا إله إلا الله" إلى مستوى جديد ، لم يسبق له مثيل .. و ذلك أمر سيكون ، بعون الله و بتوفيقه .. و يومئذ سيتم العصر الذهبي للإسلام ، و ستملأ الأرض عدلاً ، كما ملئت جوراً ، وسيستقر على الأرض السلام بين الخلائق ..
الإجابة علىالسؤال الثالث: لست أدري ماذا تعنون بالتطرف .. إن الأمر المهم في تصحيح المفاهيم الدينية هو الرجوع إلى تجديد "لا إله إلا الله" ، ورفع قمتها رفعاً جريئاً .. و "لا إله إلا الله" دائماً مثار الإستغراب ، والإنكار .. فإذا ما جودها أحد ، ونظر من قمة تجويده ، أصبح من الجائز ، عند عامة الناس ، وصفه بشتى الصفات ، ومن ذلك الجنون نفسه ، حتى أن أحد هؤلاء العارفين لما رمى بالجنون قال: مجأنين ، إلا أن سر جنونهم عجيب على أعتابه يسجد العقل فهل تعنون بالتطرف هذا الأمر ؟؟ إنه لا يمكن أن يكون هناك تصحيح للمفاهيم الدينية الخاطئة إلا من هذا المستوى .. و لا تظنوا أن التهم التي تكال إلى الداعي إلى الإسلام تضر بالدعوة .. بل العكس هو الصحيح .. أقول هذا لأنكم في سؤالكم يبدو أنكم ترون أن ما تسمونه تطرفاً "يأتي بنتائج عكسية" على حد تعبيركم .. إن الدعوة إلىتجديد "لآ إله إلا الله" هي من السعة بحيث يتجند في خدمتها مؤيدوها ، و معارضوها ، وإن ظن معارضوها أنهم ، بفعلهم ذلك ، إنما يهدمونها هدماً ..
الإجابة على السؤال الرابع: أسلم الطرق في تطهير الإسلام من المفاهيم الخاطئة التي علقت به هي أن يعمل كل مسلم ، في نفسه ، على تصحيح تلك المفاهيم أولاً ، قبل أن يتصدى لتصحيحها في نفوس المسلمين ، لأن فاقد الشيئ لا يعطيه .. و أسلم طريقة ليصحح المسلم في نفسـه المفاهيم الخاطئة هي تقليد محمد ، في أفعاله ، و أحواله ، كما سبق بذلك القول ، حتى تنبثق الحكمة ، من قلبه ، على لسانه ، فإن الحكمة علم ، و عمل بمقتضى العلم ، و هذا ما نعني بتقليد محمد .. و على كل عابد أن يتجنب العادة في عبادته ، فإن آفة كل عبادة هي أن تصبح عادة .. و هذا ما نعني حين نقول: إن المقلد للنبي يجب أن يعرف أن التقليد وسيلة لا غاية . فإن دخول الوسائل ، والغاية ، في إعتبار العابد هو الذي يخرجه ، من حكم العادة ، إلى منطقة الفكر ، فيظل يسأل نفسه دائماً ، عقب كل تصرف يصدر منه ، سوءاَ كان ذلك التصرف في معاملته الناس ، أي معاشه ، أو في معاملته ربه ، أي عبادته: هل هذا التصرف توسل صحيح إلى غايته التي يريدها ، أم هل هو توسل معيب ؟؟ وأنتم بالطبع تعرفون أن قيمة الفكر في العبادة أعلى القيم جميعاً .. أسمعوا قول الله تعالى: "قل أنظروا ماذا في السموات والأرض !!" .. هل هو دون قوله تعالى: "و أقم الصلاة" ؟؟ إنما وقع التفاوت بين الأمرين لأن الأول لا يمكن أن يكون تشريعاً للعامة ، و لذلك جعل إتقان الأمر الثاني وسيلة إليه .. ثم أقرأ قوله: "و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ، و لعلهم يتفكرون" .. فالذكر هو القرآن برمته ، فإنه قد أنزل ، ومانزل منه للناس هو مايطيقون تطبيقه منه ـ هو الشريعة .. قوله: "ولعلهم يتفكرون" هو المقصود من ممارسة الشريعة ، حتى يرتفع العابد ، من الشريعة إلى الطريقة ـ أعني تجويد تقليد النبي ، عن وعي ، وفكر ، حتى يعطي شريعته الخاصة ، و هي فوق الشريعة العامة ، بما لا يقاس ، و حينئذ يصح منه الإقتداء بحال النبي ، وهي الأصالة التي وردت الإشارة إليها آنفاً .. هذه أسلم الطرق لتصحيح المفاهيم الخاطئة .. بل الحقيقة أنه ليس هناك تصحيح لها غير هذا الطريق ..
ختاماً أشكركم علىأسئلتكم الطريفة جداً ، والحق أنها أسئلة تحتاج إلى تفصيل طويل ، عريض ، ولكني أعلم أنكم تريدون الرد عليها في حيز ضيق يمكن معالجته على جريدة الحائط كما أخبرتموني .. والله المسئول أن يهيئ لنا الظرف المناسب لتفصيل ما جاء إجماله ههنا ..
محمود محمد طه
| |

|
|
|
|
|
|
|