تلفزيون السودان وعودة الروح بقلم عبدالله مكاوي

تلفزيون السودان وعودة الروح بقلم عبدالله مكاوي


12-24-2019, 05:48 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1577206095&rn=0


Post: #1
Title: تلفزيون السودان وعودة الروح بقلم عبدالله مكاوي
Author: عبد الله مكاوي
Date: 12-24-2019, 05:48 PM

04:48 PM December, 24 2019

سودانيز اون لاين
عبد الله مكاوي-السودان
مكتبتى
رابط مختصر



بسم الله الرحمن الرحيم



المشاهد لتلفزيون السودان في الفترة الاخيرة، اول ما يلحظه هو التحول الحقيقي للتعبير عن شعارات الثورة، لدرجة تشعر وانت امام الشاشة وكأنك عدت بعد غربة طويلة الي حضن الوطن، او استرديت الوطن المختطف عنوة واقتدار. ورغم جهلي بالجانب الفني من اضاءة وديكور واخراج وغيره، إلا ان الوجوه المستضافة والمضيفة وطبيعة الحوارات ودسامة المحتوي ترد الروح. وهذا غير الفواصل الموسيقية والصور المعبرة والشعارات المصاحبة، فكلها تنعش الوجدان وتسترجع اجواء الثورة وبما فيها الحزن النبيل المرتبط بشهداء الثورة والجرحي والمغيبين. والمحصلة، تجدك فاغرا فاهك امام الشاشة وانت غير مصدق، ان هكذا برامج ومشاهد يمكن ان تخرج من جوف تلفزيون كان اشبه بالبركة الآسنة، او وكر لمخابرات النظام، تنسج فيه مؤامراتها وتبث فيه سمومها وتزييفها المفضوح للحقائق. اي ما كان يسمي بالتلفزيون الرسمي او الرسالي او (القناة الطاهرة؟!)، هو بالضبط ما يشعرك بتحول هكذا جهاز من الحس الاعلامي الفني الابداعي الي الوجهة المصطنعة او النسخة الطاردة من الاعلام! والذي يصيبك بالغثيات والاحتقار من شدة تيبسه وخواءه والطريقة الآلية في تقديم برامجه وبرمجة مذيعيه وكانهم ربوتات او كائنات فضائية بعيدة عن الواقع والواقعية. خاصة وهي تؤدي ادوار مدفوعة الاجر من دون اي اضافة او مجرد حضور، وعندما يضاف الي ذلك مادة معدة مسبقا، ولا تعبر إلا عن كذب صراح، يستفز المشاهد اكثر من قدرته الساذجة علي محاولة اقناعه. فعندها لا محالة ستجدنا امام مهزلة حامضة وهدر للموارد وضياع للزمن، او كما سبق امام قناة طاردة ليس لها الا ان تطاردها سخرية ولعنات المشاهدين، وهذا بالطبع اذا صادف حظهم العاثر التعرض لها. وهذا ما يدفع للقول ان جهاز التلفزيون (الرسالي/الطاهر، حسب طريقتهم المخادعة في وصف الامور او تعاطيهم المستهتر مع الشعارات)، ما هو إلا نموذج لنوعية الاعلام المبتذل والاعلاميين المنحطين، وهو ما يتوافق بالطبع مع وهمية مشروعهم الحضاري/الرسالي. والحال كذلك، المشاريع الوهمية ليس امامها سوي انتاج وتسويق الاوهام، وهذا ليس للآخرين المستهدفين فقط، ولكن المفارقة ارتداد الاوهام لتجعلهم انفسهم تحت سيطرتها، او ضحية لسحرها وقدرتها الاسطورية لتبرير كل ما لا يمكن تبريره، وتاليا اطمئنانهم علي احتكار الامتيازات من غير وجه حق، او موت الضمير بشكل مريح. وهو ما يؤكد المرة تلو الاخري ان المشاريع المزيفة شبيهة بالرمال المتحركة، والتي بعد ابتلاع الدولة والمجتمعات، تذهب مباشرة لابتلاع صناعها ومؤيديها، وهنا قد ينطبق عليها تعبير هيجل الشهير عن مكر التاريخ.

وعموما من هذه التجربة المريرة يجب علي ادارة التلفزيون وكافة الاجهزة الاعلامية ان تعي الدرس، وهو ان اول طريق لتقبل المادة الاعلامية يبدأ من تعبيرها عن هموم واهتمامات وتطلعات الجماهير، بلغة بسيطة ومباشرة. وان تبتعد نهائيا عن التبشير والدعاية سواء للايدولوجيات او الافراد، وذلك ببساطة لان المتلقي للرسالة الاعلامية اصبح يملك من الوعي والحس الفرزي للصالح من الطالح، ما يجعله مؤهل للحكم وغير قابل (للخم). وهذا ما لن يتأتي دون ان يعلم المسؤولون عن هذه الاجهزة، ان المواطن دافع الضرائب هو صاحب الحق في هذا الجهاز وليس السلطة التي تعين المسؤولين او تنظم شأن الاعلام، اقلاه من ناحية ادبية ان تعذرت الاستقلالية التامة. وكذلك ان يرتفع سقف صبرهم واحتمالهم لتقبل كافة انواع واتجاهات النقد (كثمن للتصدي للمسؤولية العامة) حتي يتم الوصول لمرحلة التحول الديمقراطي الحقيقي. اي كثقافة عامة تتحكم في كافة تفاعلات الفضاء العام. واهمية الاعلام من هذه الزاوية، انه يمثل القطاع الاكثر حساسية وتماس مع مسألة الحريات والحقوق وغيرها من مقومات بناء الدولة العصرية. وهذا ما يقود بدوره لفتح اجهزة الاعلام المجال امام المواهب والمبادرات، للولوج لعوالمها والتمليك لاسرار الصنعة والتدريب المتواصل والتطلع لآفاق غير محدودة، وكذلك التخفيف (وصولا للحماية الكاملة) من كافة انواع الضغوطات المعنوية منها والمادية، وبما في ذلك نقد الثورة والثوار والحكومة والحكام، كوسيلة وحيدة للتقييم الجيد وتدارك الاخطاء مبكرا. وبكلمة محددة، التخلص من ثقافة التخوين وإرث تضخيم الذات، والسعي لبناء ثقافة مغايرة عنوانها الموضوعية والشفافية وطرح الآراء والافكار دون خوف او رياء او مجاملة لايٍ كان.

وكاقتراح بسيط نقدمه للمسؤولين والعاملين بالتلفزيون، نتمني ان نشاهد برامج متخصصة لتثقيف المواطنين بحقوقهم وموظفين الدولة بواجباتهم، والاضاءة لموضوعة الدولة الحديثة، وكذلك كيفية واهمية المحافظة علي البيئة والوقاية من الامراض ودعم كل المبادرات في هذا الاتجاه. ولكن لا يقل اهمية ان يتم ذلك بصورة جاذبة تخرجها من التنميط الاكاديمي او التعليمي الجاف والاسوأ الاسلوب الاستعلائي المنفر. وكل ذلك بالطبع متروك لآليات الابداع واسهامات المبدعين.

وهذا التقدم في جهاز التلفزيون القومي، هو ما نتمني ان نراه في كافة الاجهزة ومؤسسات الدولة. اي ان يري المواطن بام عينه انها في خدمته ومصممة من اجله، وذلك بعد الفرز الذي طالها من جراء سياسة التمكين، لتصبح مجرد اجهزة ومؤسسات (عزبة واقطاعيات) توظف لخدمة الاسلامويين واقرباءهم وانصارهم! والحال هذه، تم نفي الدولة بكافة مؤسساتها واجهزتها واصولها، لصالح علاقات ومصالح وروابط، تنظيمية واسرية وعشائرية غارقة في البدائية، لتتدحرج بالدولة السودانية الي خانة الملهاة الماساة او اللامعقول في اصدق تجلياته.

المهم، وكما ظل الكثيرون يكيلون النقد لوزارة الاعلام وبصورة خاصة الوزير فيصل صالح والوكيل الرشيد سعيد وكذلك ماهر ابو الجوخ مسؤول التلفزيون، وهو علي العموم نقد مستحق في حينه ومطلوب علي الدوام، ولكن نفس مبررات النقد هي ما يبيح الاشادة لكل خطوة في الطريق الصحيح، وهذا ما يستوجب الشكر وتقدير الجهد المحترم، لكل من ساهم في التغيير الذي بان اثره الواضح علي جهاز التلفزيون القومي، خاصة والجميع يعلم طبيعة وظروف العمل التي يتم هذا الجهد في ظلها. ولكن الاهم هو الطمع في المزيد من الانتصارات علي هذه الجبهة الاعلامية، التي عاث فيها الاسلامويون تشويها وتزويرا وتغبيشا وما يزالون.

وعموما، وبما ان الخراب طال كل شئ فمؤكد ان التلفزيون لم يكن استثناءً، ان لم يكن خرابه نفسه كان استثنائيا. وهذا ما يثير او يجدد السؤال المؤرق الذي لم اجد له اجابة شافية او تفسير، وهو لماذا دولة منحت الاسلاموين كل شئ، فعمدوا علي نهبها وتحطيمها وحرمان اهلها كل شئ؟! وساظل اكرره حتي اجد له تفسير مقنع، بعد استنفاد كل التفسيرات طاقتها ولم تفِ بالمطلوب! والمقصود بذلك تفسيرات او تحليلات من شاكلة مركبات النقص وعقد التفوق والنزعات الاستعلائية والعنصرية والشراهة الجنسية وادمان السلطة والتسلط والجهل والغرور وسوء النية والتربية..الخ؟! وذات الشئ ينطبق علي الفساد الذي تعجز كل القواميس عن وصفه؟ وكأننا امام حالة خاصة تحتاج الي لغة جديدة لوصفها، وطفرة في النظريات لتفسير كنهها. ولا حول ولا قوة الا بالله. ودمتم في رعايته.