الشعب قارة مجهولة: مدينة الحاج مثلاً بقلم عبد الله علي إبراهيم

الشعب قارة مجهولة: مدينة الحاج مثلاً بقلم عبد الله علي إبراهيم


08-25-2019, 06:16 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1566753363&rn=1


Post: #1
Title: الشعب قارة مجهولة: مدينة الحاج مثلاً بقلم عبد الله علي إبراهيم
Author: عبدالله علي إبراهيم
Date: 08-25-2019, 06:16 PM
Parent: #0

06:16 PM August, 25 2019

سودانيز اون لاين
عبدالله علي إبراهيم-Missouri-USA
مكتبتى
رابط مختصر






استحسنت كلمة من ابن صديقي البخاري عبد الله الجعلي قال فيها لنجعل من الثورة مناسبة لاكتشاف شعبنا. وعقيدتي كانت أن صفوتنا، إلا من رحم، مغيبة عن معرفة ثقافة شعبها بالعنية. وصدر لي "بخت الرضا: التعليم والاستعمار" في تشخيص منشأ ذلك الجهل المستعان عليه بالمدرسة.
تسمع من صفوتنا إننا شعب كئيب ما "ضل" طريقه للضحك حتى تعوذ واستغفر. وكثيرهم نسب ذلك للثقافة العربية الإسلامية القابضة المتجهمة. فصورتهم للإسلام نصية جنحت إلى إعلاء تقوى مركزية فيه هي "التقوى الشرعانية" (sharia-minded piety) في مصطلح مارشال هودجسون صاحب "مخاطرة الإسىلام (3 أجزاء) الذي عوجل شاباً فانقطع مدده العلمي المشرق. ويرى هودجسون هذه التقوى حاكمة صارمة ولكنها تعايشت في شد وجذب في تاريخ وحياة المسلمين مع أنواع من أخرى من التقوى مثل الصوفية بل والدهرية العادية.
واتيح لي صدام الإبداع ومترتباته (مثل الضحك) مع الذهنية الشرعانية خلال بحثي عن السحر عند الرباطاب في 1984. وصدرت حصائله في كتاب باللغة الإنجليزية من دار جامعة نورسوسترن للنشر في 1994. وأعانني الأستاذ الخاتم المهدي في تعريبه ليصدر من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 2018 بعنوان "الوخز بالكلمات: مجازات سحر الرباطاب ولجام الشرع".
تجلى لي توتر الطلاقة الإبداعية والذهنية الشرعانية في مقابلة لي مع السيدة مدينة الحاج بقرية العبيداب في 1984. كان ميقات المقابلة عصراً، وقد انفكت قبضة الشمس اللاهبة هوناً عن القرية شبه الصحراوية. وكان مزاج مدينة يومها معتدلاً، وكانت تفيض بهجة وقد حف بها أقاربها، وأحاطوها باهتمامهم. امتدحت مدينة ذكاء السحارين وملاحة خاطرتهم، في مقابل استعصام البقية بالصمت، وأقرت، بواقعية وصدق، بعدم انفصال القطيعة عن الونسة. وعرّفت القطيعة بأنها ذات طبيعة استقطابية (مثل أن تكون ضد ابن عمك ومع ابن عمك على الغريب). فالقطيعة عندها تحالف الحاضرين بمجلس ما ضد من تغيبوا عنهم. وفيها يطلق الحلفاء لسانهم في الغائبين. بل وقرظت الضحك وأعلت من شأن المرح بمقولة ذات روح شعبية تقمصت طرق التعبير في الحديث النبوي: " الجبيهة الصارة والروح الكارة خروج روحها للنار". وانتظرت سلاماً من امرأة دخلت علينا لتناجي نفسها بشفافية رائقة:
"انشاء الله يديني الصحة وطولة العمر... وما أموت والخيرات راقدة، انشاء الله ما أموت {تضحك} البامية مفرهدة في الحواشات، والتمر نجض للقيط، إن شاء الله ما أموت هسي. الحمد لله. أحمده تاني وتالت. من حولي {الحضور}كلهم أولادي وبناتي، أدخل بيوتهم وقت ما أريد، وآكل وأشرب ولا أهم. احمد الله وأشكر فضله".
ومثل هذه المناجاة مكروهة عند الذهن الشرعاني لاطمئنانها الى الحياة الدنيا، وهو اطمئنان مخاتل.
وكنت سألت زينب خلال المقابلة إن كانت تحفظ حجوة، فردت عليّ بأن: "الحُجا ورّثته حبوبتي لأمي التي ماتت ولم تورثنا منه إلا القليل وشالت أكثره لقبرها اليس عيباً منها". فدعاها الذكور من الحاضرين باسم الذهنية الشرعانية، وبصوت واحدـ أن تستغفر لأمها: "قولي الله يرحمها" وتسايرهم مدينة بتعالٍ وأنفة: "الله يرحمها ويغفر لها. {ثم تضحك} ماتت وما خلت لينا غير قليل من الحجا". وحينها ساد المكان صمت عميق. فزينب قد تورطت هذه المرة، ولا منجاة من اللوم إذ خدشت تعليقاتها قداسة الموتى عند الحضور. فألحفوا عليها أن تلوذ بصيغة الاستغفار لأمها الراحلة: "قولي الله يرحمها". لكن زينب صعبة مراس، لا تلين، ونجحت بعد هون في استعادة سيطرتها على الموقف، ودفع عجلة الونسة قدماً، ومنطقها قائم لم ينكسر. ووقع لي بعدها أن قداسة الموتى عند زينب ما هي إلا طريقة واحدة ننظر بها لحصاد الموت. فهي العاشقة للحياة الدنيا، المدلهة بها، ولا تريد أن يعرف لها الموت سبيلا، فلم تتردد في أن تسأل الله، الذي خلق الموت لحكمة يعلمها هو، أن يمد في أجلها لتستمتع بحياتها.