سألني أحدهم عن اتجاهي السياسي ، الاتجاه السياسي له عندنا ثلاث صور: اما ملتزما بآيدولوجيا (شيوعية ، ليبرالية ، اسلاموية ، بعثية ...الخ) ، او متبعا لبيت طائفي (ايدولوجيا أخرى) ، او تابعا لحزب ليس له اي محتوى فلسفي (كأغلب الاحزاب بما فيها المؤتمر الوطني واحزاب الفكة التي تكاثرت كديدان البطن) . وعندما اخبرته انني غير منضو لأي من هؤلاء شعرت بدهشته تتسرب من صوته. ولا اعرف ما المانع من الا ينضوي المواطن الى اي مؤسسة سياسية حتى وان كان له موقف سياسي مع او ضد النظام؟ فهذا هو حال غالبية الشعب ، من عمال وبائعات شاي ، وتجار ، وزبالين وحدادين وخلافه. ان الشعب ربما أذكى من كافة السياسيين وربما غير مكترث. والشعب السوداني عموما لا يميل في اغلبيته الى الادلجة السياسية ، وانا من هذا الشعب. فالايدولوجيا لها قيمتها كمعبر عن هوية للفرد ، لكنها في نفس الوقت تعمل على اقصاء دوغمائي لأي افكار اخرى من عقل الانسان المؤدلج. لاحظ مثلا ان الاخوان المسلمين والشيوعيين هما وجهان لعملة واحدة. فكما يقدس الاخوان سيد قطب وحسن البنا ، يقدس الشيوعيون ماركس وانجلز ، وهذه الايدولوجيا ادت الى عدة نتائج سالبة ، ففي الوقت الذي يعيش فيه الاخواني على تصورات ما قبل سبعين عاما من الآن ، يعيش الشيوعي على مفاهيم ما قبل مائة عام من الآن ، وكذا الحال لدى السلفيين ، وان كان اخف من كل ذلك لدى الليبراليين . مشكلة الايدولوجيا انها ترفض النسبية كحقيقة وحيدة تحيط بكافة المفاهيم ، فمثلا فلنأخذ الليبرالية نموذجا ، وذلك في شقها الاقتصادي ، (فشقها الثقافي لا اختلف حوله كثيرا) ، وذلك حين يستخدم الليبرالي الكلاسيكي مبدأ (دعه يعمل .. دعه يمر) ، هذا أمر يبدو طيبا من أول وهلة ، فهو يعني انفتاحا كبيرا في الفرص ، ولكنه من ناحية ثانية يتجاهل فئات كثيرة ضعيفة. تلك الفئات التي لا يمكن -وفقا للرؤية الكلاسيكية- ان نحمل عبئها على اكتاف الأقوياء. ان من يقولون بذلك يستطيعون ايجاد مبررات قوية جدا ، وأهمها اشكالية فلسفية تتعلق بضبابية مفردة (الأخلاق) ، لكننا ورغم اننا لا نستطيع ان نفند هذه التبريرات فلسفيا لكننا في الواقع نحتاج لها عمليا ، نحتاج لها وحاجتنا هذه كافية بحد ذاتها كمبرر لها وان لم نتمكن من تبريرها بمنطق اداتي. نعم الاخلاق نسبية وربما ان حاولنا ردها جنيالوجيا الى رحمها لما توصلنا الى نتيجة حاسمة بقدر ما وصلنا الى هدمها تماما ، لكننا في الواقع وبعيدا عن كل تفلسف نحتاجها. وحينما نقول نحتاجها فهذا لا يعني اننا كضعفاء فقط من يحتاجها بل الاقوياء انفسهم في حاجة لها ، فالقوة والضعف امران في علم الغيب يتقلبان ويتغالبان على بعضهما البعض. واذا كان الضعف واقعا حتما او احتمالا فهذا في حد ذاته يجعلنا نبحث عن معادل للحرية الاقتصادية وتحجيم دور الدولة في التأثير على قانون السوق. ان صندوق النقد الدولي مثلا يضغط على الانظمة الحاكمة في الدول الافريقية والعربية للاتجاه نحو النيوليبرالية ، وهو يضغط بشدة حماسية وبدون رأفة (لأغراض معلنة يسميها بالاصلاحات الاقتصادية) ولكنه في الواقع يحمل اغراضا أخرى غير معلنة اهمها تدمير اقتصاد دول فقيرة عبر تعرية كل قطاعاتها الاقتصادية من حماية الدولة ، ومن ثم هيمنة الاقتصادات الكبرى على هذه الدول النامية ، فلنلاحظ ان دول اوروبا كلها لم تتوقف عن حماية الكثير من قطاعاتها الاقتصادية ، بل ان ترامب نفسه عمل على فرض حماية لقطاعات كالسيارات والزراعة والتكنولوجيا ، خوفا من الاستحواذ الصيني على السوق الامريكي ومن ثم انهيار القطاعات الاقتصادية الامريكية. رغم هذا لا نجد اي تذمر من المؤسسات الدولية ولا اعتراض على هذه السياسات الحمائية ولكنها تسارع بشكل محموم جدا لتعرية الدول النامية من اي حماية من قبل الدولة. ما الذي نعاني منه الآن؟ ان اي او الغالب في اي منتج سوداني الصنع انه اغلى من اي منتج مماثل مستورد من الصين. ماذا يعني رفض حماية المنتج السوداني؟ هذا في الواقع يعني نهاية الصناعة السودانية تماما. فمن ذلك الذي يستطيع منافسة الصين من حيث قلة تكاليف الانتاج ، اذا كانت صناعة قميص تكلف اقل من نصف دولار في الصين وتكلف ثلاثة دولارات في السودان بسبب الفارق في عدد الايدي العاملة وتكاليف الانتاج فتوقف المصنع السوداني يصبح امرا حتميا. كيف ستتحمل دولة من ثلاثين او اربعين مليون نسمة منافسة دولة عدد سكانها يفوق المليار نسمة؟ بما يعني عمالة رخيصة ، وتكاليف اقل. قامت الحكومة السودانية باتباع اوامر صندوق النقد وخصخصت كل القطاعات الخدمية والسلعية ، وتخلت عن اي دور اجتماعي ، فإذا بها تواجه بكارثة انهيار الاقتصاد تماما ، دعنا نسأل الحكومة السودانية التي اتبعت منهج التحرير الاقتصادي: لماذا تدخلت الآن عبر ما اسمته بمراكز البيع المخفض؟ الا يؤثر ذلك على حرية السوق حين تدخل الدولة كمنافس بوسائل ضاغطة على المنافسين الآخرين في القطاع الخاص؟ قبل ايام دعت الحكومة الى ضبط السوق (وهذا يكشف عن تخبط هائل) فما الذي تعنيه بضبط السوق وهي تتبع سياسة التحرير الاقتصادي؟ هل ستفرض تسعيرة على السلع والخدمات لتنقض غزلها بيدها؟ ضربت ما سبق كمثال بسيط لاشكالية الايدولوجيا سواء كانت ليبرالية او ماركسية او اسلاموية او خلافه ، فلا يمكن بأي حال من الاحوال ان يتم فرض نموذج واحد على واقع متغير ومتباين ، ولا يمكن منح اي فلسفة او نظرية قداسة المطلق والا فسنتحول الى داعشيين في اتجاهاتنا الفكرية. ان الفكر الحر لا يستطيع ان ينغلق ، لأن الفكر الحر مرن وقادر على مواءمة النظرية عند التطبيق ، بل قادر ليس فقط على تعديل النظرية بل ايضا على الاستغناء عنها تماما حين تتحول الى معرقل وصاد لأي تطوير فكري. دخلت الى صفحة تيار تجديد ديني لمجموعة من الاسلاميين السودانيين ، ولاحظت انهم يتداولون ذات المؤلفات التي تتداولها الايدولوجيات ذات الخلفية الدينية ، انهم في الواقع يدورون في دائرة مغلقة ، وكأنهم يخشون اقتحام اي فكر او مناهج جديدة لتحليل التراث الديني او تفكيكه او اعادة تأويله بأدوات واسلحة عقلية جديدة. انهم خائفون وغارقون في الأدلجة. وهذا يعني انهم سيظلوا في مكانهم بدون اي احتمال لتقدمهم الى الأمام . ان الأدلجة تتحول الى هوية وهذه هي خطورتها فمن الصعب على الانسان ان يتخلى عن هويته. وكما يرتدي الانصاري جلباب الانصار وعمامتهم وكما يرتدي الصوفي جبة التصوف فهناك من يرتدي الماركسية والليبرالية والبعثية وخلافه بل ويلبسها لأبنائه فيتحولوا الى عبيد لهوية جامدة تقف بهم خلف جدار التاريخ.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة