(مكانو وين)؟ بقلم عبد الحفيظ مريود

(مكانو وين)؟ بقلم عبد الحفيظ مريود


04-19-2018, 07:27 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1524162474&rn=0


Post: #1
Title: (مكانو وين)؟ بقلم عبد الحفيظ مريود
Author: عبد الحفيظ مريود
Date: 04-19-2018, 07:27 PM

07:27 PM April, 19 2018

سودانيز اون لاين
عبد الحفيظ مريود-السعودية
مكتبتى
رابط مختصر

رؤيا


فى سكك حديد بابنوسة كان ثمّة "برّاد" - ميكانيكي عربات القطار أو الديزل - يُدعى محمّد حسن حقّار. من الزّغاوة، كان ضخماً، عريض المنكبين، كما لو أنّه أفلت من قوم عاد. ومع ذلك كان - رحمه الله - طيّباً، ودوداً ودائم الابتسام. حقّار هذا كان مسؤولاً عن التعاون، على أيّام تعاونيات نميري. إذْ كان للتعاونيات شنّة ورنّة. اختلف مساء مع فؤاد، مكانيكي ديزل حلفاوي، قصير يكاد يكون قزماً، أحدب الظهر، يمشي عجِلاً، ولا يخلو من حوَل، رحمه الله رحمةً واسعة. كان فؤاد يطلب شيئاً أزيدَ مما تسمح به بطاقته التعاونيّة. وحين رفض حقّار، تلاسنا، كعادة الرّجال السودانيين، حين يغضبُ الواحدُ منهم من الآخر يقول له "يا ابن الكلب"، مثلما قال الطيّب صالح.
كانت الشمس تميلُ إلى المغيب، حين قرّر فؤاد، برّاد الديزل الحلفاوي أنْ يذهب إلى بيته، يضع ما أخذ من التعاون ويحضرُ شيئاً يفشُّ به غبينته من حقّار، وجدَ عصاةً - في غالب البيوت تكون موجودة تحسّباً للطوارئ - حملها وعاد مصمّماً على تأديب حقّار. كان رجلان أو ثلاثة ينتظرون حقّار حتّى يفرغ من إحكام إغلاق الأبواب وينضمّ إليهم ليغادروا، حين جاء فؤاد. كعادة السودانيين حاولوا إثنائه، دعوه ليلعن الشيطان ويستهدى بالله، وإزاء تصميمه خلّوا بينه وبين هدفه. كان حقّار قد استدبرَ أبواب تعاونه وواجه فؤاداً طويلاً عريض المنكبين وقويّاً. وقف فؤاد أمامه يحمل عصاه، يرفع بصره للرّجل وينزله يرمق عصاه ويهزّها، بضع ثوانٍ قيّمَ فيها الموقف، قبل أنْ يقول لحقّار "هسّه يدقوك وين زاتو؟". ضحكا وتصافحا وعادا، معاً، إذْ كان يسكنان في بيوت العمّال معاً.
قبل أيّام نقلت الأنباء أحاديث الفريق صلاح قوش، بالفاشر، ومليط عن تصميمهم - الحكومة - على مكافحة الفساد، وتوعّدهم استخراج كلِّ قرش أخذه شخص دون وجه حقّ، من بطن الحوت ذات نفسه. وهي تتمّات لأحاديث كثيرة ردّدها رئيس الجمهورية بهذا الخصوص، حملةً لإصلاح الجهاز التنفيذي والسياسي والدولة عموماً والحزب، بعد ثلاثين عاماً. لكأنّ الحكومة كلّها كانت في إجازةٍ، بياتٍ شتوي، غرفة إنعاش لم تفق من غيبوبتها إلاّ قبل أقلّ من عام لتدركَ أنّ الفسادَ وصلَ الزّبى.
قال الرئيس إنّ رئاسة الجمهوريّة تدخّلتْ، حين بلغ الفساد هذا المبلغ. مما يعني أنّ للرئاسة شغلاً آخر يشغلها، ليس الفساد من بينه. لكنّ الشبكات التي وضع جهاز الأمن والمخابرات الوطني يده عليها منذ مجيئ قوش، أوردتِ المعلومات أنّ بعض أفرادها كانوا ممن استُحفِظوا على البلاد، بحيث لا يمكن أنْ يتبادر إلى أحدٍ أنّهم يمكن أنْ يكونوا شبكات فساد وتدميرٍ منظّمة. مما يعني أنّ اختيارهم - من الأساس - والوثوق بهم وترقيتهم - دون رقيب أو مساءلة - هو نفسه نوعٌ من الفساد.
ليس لأحدٍ أنْ يقف ضدّ دعوى مكافحة الفساد إلاّ أنْ يكون سفيهاً. لكن الحكمة تقتضي أنْ تبدأ محاكماتٌ علنيّة وتحقيقات تُنشر نتائجها على الملأ، حتّى ولو أوردت أسماء نافذين، قادة، شيوخ وغير شيوخ. فذلك هو المسار الصحيح، ليس الذي يطمئنُ المواطن على أنّ ما يُقال ليس كلاماً سياسيّاً للاستهلاك، ولخوض الانتخابات القادمة، فقط. وإنّما لأنّه سيردع الذين يتهاونون في المال العام أو الطّامعين في فسادٍ مستقبلي. الأولى - أيضاً - أنْ تجعل الحكومة من الجميع شركاء في مكافحة الفساد، يمكن لذلك أنْ يُزكي روح المسؤوليّة في أجيال قادمة ستقتنع أنّ هذا هو حقُّها الذي يجب أنْ تحافظ عليه وتحرص على صيانته، بدلاً من أنْ يكون معركةً سّرّيةً تدور في الظّلام، وحين ينقشع الليل لا نعرف فيها المنتصر من المهزوم.
تتطلّب المرحلة القادمة في مكافحة الفساد تدابير أوّلها الشفافيّة والصّدق وتمليك الحقائق. وإلاّ، فستكون نظرتنا للأمر مثل المعركة التي كان سيخوضها فؤاد الحلفاوي ضدّ حقّار، سينظر إلى عصاه، وحجم الخصم، ويوقِنُ بهزيمةٍ ساحقةٍ مذلّة، فيضطرّ للتنازل عنها من أساسه، يتصافحان ويذهبان معاً، لأنّهما يسكنان الحي ذاته.

نشر فى صحيفة الاخبار