عامان على رحيل الترابي ,, بقلم اسماعيل عبد الله

عامان على رحيل الترابي ,, بقلم اسماعيل عبد الله


03-04-2018, 06:31 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1520184715&rn=0


Post: #1
Title: عامان على رحيل الترابي ,, بقلم اسماعيل عبد الله
Author: اسماعيل عبد الله
Date: 03-04-2018, 06:31 PM

05:31 PM March, 04 2018

سودانيز اون لاين
اسماعيل عبد الله-
مكتبتى
رابط مختصر


الراحل حسن الترابي لعب دوراً محورياً في حقلي السياسة والدين , في الحقبة التاريخية للدولة السودانية الحديثة فيما تلى خروج المستعمر , اتفق الناس حول شخصيته المثيرة للجدل او اختلفوا , يعتبر ظهوره في منتصف الستينيات مع ثورة اكتوبر والتماع نجمه , بمثابة الايذان ببداية عهد جديد لانشطة ساس يسوس في السودان , فبصرف النظر عن دوره الرئيس فيما نحن فيه اليوم من مآسي , الا اننا يجب ان نلقي على مسيرته نظرة محايدة اعمالاً لمبدأ النقد البناء , فنحن السودانيون عاطفيون للحد البعيد , وتلك خصيصة سالبة اقعدتنا عن التقدم و الالتحاق بركب الامم المتحضرة , لاستحواذ هذه العاطفة على تفكيرنا عندما نقوم بانتقاد تجاربنا الحياتية , فانا هنا سوف القي بعض البصيص الخفيض من الضوء على دور هذا المفكر و الفقيه السوداني , وتأثيره في الحياة السياسية و الدينية في البلاد , بعيداً عن النظرة التقليدية لمعارضيه الذين لا يطيقون حتى سماع اسمه , فبطبيعة الحال ان اصحاب العواطف الجياشة لا يقرؤون التاريخ بحيادية , وبالتالي لا يستطيعون بناء الاوطان , فلو كان هنالك مردود ايجابي للمشاعر الانفعالية الغاضبة و السالبة , لكانت اناشيد (في حماك ربنا في بسيل ديننا) قد شيدت لنا الامجاد وبنت لنا السؤدد , و بسطت لنا كل اسباب الرفاه بعد مرور هذه السنين الطوال , فالدكتور حسن الترابي ابن القاضي والموظف الحكومي العادي , قد شق طريقاً صعباً في ذلك الزمان , الذي كانت فيه الساحة السياسية ضاجة بفطاحلة رموز السياسة و الخطابة و الفكر , من امثال الاديب والسياسي المحنك محمد احمد المحجوب والمفكر الاستاذ عبد الخالق محجوب , لقد كان من الممكن جداً ان يكتفي حسن الترابي بدوره الاكاديمي , كما فعل غيره من خريجي السوربون و الجامعات الاوربية , و يعتلي ماشاء له ان يعتلي من المناصب الاكاديمية و البحثية , لكنه آثر خوض غمار معترك السياسة من منظور ديني , وليس هو السياسي الوحيد الذي ادخل الدين في شئون السياسة و الحكم , فقد سبقه الى ذلك كل من الامام عبد الرحمن المهدي و السيد علي الميرغني و الاستاذ محمود محمد طه , لكن ما ميز الترابي عن هؤلاء انه جاء بالجديد من الآراء , التي تعتبر قفزة كبيرة في علوم الفقه الاسلامي , فهو يكاد يكون العالم الاسلامي الاوحد الذي حسم ذلك الجدل الفقهي الذي استمر طويلاً , في مناقشة قضايا من شاكلة زواج المسلمة من كتابي , و إمامة المرأة للمصلين , و عدم جواز قتل المرتد.
ان حركة التاريخ لا تتوقف بموت فرد مهما بلغ من شأو و رجاحة عقل , لكن هذا الفرد يمكنه ان يساهم بريشته في رسم بعض من ملامح مستقبل امته و شعبه , ما فعله الترابي انه اجرى عملية جراحية مستعجلة وجريئة لاستئصال داء عضال ظل مستشري في جسد وكيان الامة السودانية الى يومنا هذا , الاوهو ازمة الحكم , فهذه الجراحة برغم اسهامها الكبير في تشتيت وبعثرة هذه الطاقات البشرية و المادية لهذا الكيان , الا انها نقلت السودانيين الى موقع المعركة الحقيقي في غضون سنوات قلائل من خروج المستعمر من البلاد , تلحظ هذا في المشروع الاسلامي الذي تبناه وهو في الواقع مشروع ضرار , مثله مثل مسجد الضرار الذي هدمه رسلونا الكريم عليه افضل الصلوات واتم التسليم , والذي كان يستهدف دعوته و ينافس جماعته و يجعل من المسلمين فرقتين , الامر الذي ان حدث لعصف بمشروع الدعوة المحمدية من اساسه , بعكس حالة المشروع الضرار لحسن الترابي الذي نجح فيه نجاحاً كبيراً , ذلك لقيام مشروعه هذا باضعاف اكبر طائفتين اسلاميتين في البلاد , الختمية و الانصار , فاقعد طموحهما السياسي في مسلكهما وسعيهما الانتقائي والحثيث الى عملية تداول كرسي الحكم في البلاد , ومحاولتهما جعل تداوله حصراً لابناء السادة من هاتين الطائفتين , فانشأ الترابي جماعة منطلقة من ذات المسوغ السياسي وهو استغلال الدين لتحقيق مشروعه الهادف للوصول الى السلطة , ذلك الاستثمار الذي وجد ارضاً خصبة , وشعباً مشبعاً فطرياً بحب العبادة والوله لملاقاة رب العباد , الحافز الذي افتقده وافتقر اليه اليساريون , مما ادى الى فشلهم في تجنيد وتجييش و حشد مثل هذا الشعب , فاصبحوا مجموعة من النخب والاكاديميين و الشعراء و الكتاب و المنظرين , يعيشون في ابراج عاجية عالية منفصلين عن الغبش والكادحين , مبتعدين عن الحطّاب و الجزار و البواب و الخفير و السائق و الترزي و صاحب الدكان وبائعة الشاي , بخلاف الترابي و جماعته الذين نجحوا في الوصول الى شلليات الانس في بيوت القمار , والمتبطلين و المتسكعين في جنبات الطرقات , وفي الارصفة والازقة المشبوهة في حواري مدن السودان بطوله وعرضه.
حسن الترابي كشف الوجه الخفي للوجدان السوداني الموبوء بامراض العنصرية و الاستعلاء العرقي , وذلك باتاحته لتلامذته الذين جاؤوا من كل بقاع السودان حرية التنافس فيما بينهم , في السباقات الانتخابية للحصول على المواقع التنظيمية داخل اروقة الحزب قبل الانقلاب , وفي الوظائف الدستورية والحكومية بعد الانقلاب عندما طبقوا سياسة التمكين الظالمة و المجحفة , فبرز هذا الداء العضال بعدما قُتل النائب الاول الاسبق الزبير محمد صالح , وشغر منصب الرجل الثاني في الدولة , وتسيّد المشهد السياسي آنذاك احتمالية ارتقاء الدكتور علي الحاج محمد لملأ الشاغر الدستوري الرئاسي , المتمثل في حقيبة النائب الاول لرئيس الجمهورية , فكانت العاصفة الجهوية الهوجاء التي أودت بالتنظيم السياسي ذائع الصيت , الذي أسسه وبناه الدكتور حسن عبد الله الترابي , الجبهة الاسلامية التي رعاها ودارى على شمعتها من الانطفاء منذ ان كان فتىً غض الاهاب , فاصطدمت سفينته بصخرة الاستعلاء العرقي و امراض الجهة و القبيلة , و ضاعت تعاليم حسن البنا و سيد قطب , وتطايرت معها الكتيبات التي مهروها بمفردات ومعاني و قيم الاحاديث النبوية الشريفة , الحاضّة المسلمين على الاستمساك بحبل الله المتين , فاعتكف الترابي في بيته بالمنشية و نصح تلامذته بان لا يصعدوا الامر , درءاً للفتنة وخوفاً من ضياع السلطة التي قاتلوا في سبيلها قتالاً عنيفاً حتى ادركوها.
من اكبر عيوب الراحل و مناقص رؤيته الفكرية , تبنيه للدين كايدلوجية سياسية لمعالجة ازمات قطر به تعددية دينية , اذ كان المسيحيون في هذا القطر يمثلون نسبة كبيرة من اجمالي عدد السكان , الأمر الذي ادى الى ازدياد وتيرة الحرب الاهلية و تحويلها الى حرب دينية عمّقت الجراح بين ابناء الوطن الواحد , مما سهّل وعجّل بانتشار مشاعر الكراهية بين سكان جنوب البلاد ومواطني شمالها , ومن ثم انفصال الشعب و الدولة الى شعبين ودولتين شبه فاشلتين , وايضاً من اكثر الاضرار التي لحقت بالبلاد في عهد الدكتور الترابي دخول اكثر الجماعات المتطرفة اسلامياً الى السودان , وعمله الدؤوب على تهيئة الخرطوم لان تكون حاضنة و مفرخة لعتاة الاجرام في العالم , الامر الذي ذهب باموال الشعب المسكين لخدمة قضايا لا تمت الى مصالحه بصلة , تحقيقاً لاجندات روابط اسلامية عالمية اتخذت من الدين ذريعة للوصول الى اهداف غير مشروعة ولا انسانية.
بوفاة الترابي في الخامس من مارس من العام 2016 , فقدت الشاشات البلورية تلك الضحكة الساخرة , و ذلك السياسي الكاريزمي اللبق اللماح و الدرامي , الذي ظل حضوره فاعلاً لمدى نصف قرن من الزمان في المحافل والفعاليات السياسية داخل البلاد وخارجها , فرغم المآخذ التي يأخذونها عليه فيما يتعلق بآرائه وطرائق تعاطيه مع قضايا الشأن السوداني , الا انه ظل معارضاً شرساً لجميع انظمة الحكم المتعاقبة , وقضى جل حياته متواجداً في الضفة الاخرى للانظمة الحاكمة , حتى ابنائه في تنظيمه الحزبي الذين رفعهم من حضيض المجتع الى اعلى مراتب السلطة , ايضاً وقف ضدهم و عارضهم عندما رأى غير الذي يرون , ولكأنه قد خلق ليكون مختلفاً عن الناس في كل شيء , ما يثير التساؤل هو لماذا لم يقم مقدم البرنامج الشهير (اسماء في حياتنا) الاستاذ عمر الجزلي بتوثيق حياة هذا السياسي السوداني الالمعي ؟؟ الا رحمه الله رحمة واسعة و اسكنه فسيح جناته مع الصديقين و الشهداء و الصالحين.

اسماعيل عبد الله
[email protected]