الى صديقي الذي سألني عن الاستنارة!! بقلم د.أمل الكردفاني

الى صديقي الذي سألني عن الاستنارة!! بقلم د.أمل الكردفاني


01-24-2018, 05:28 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1516811339&rn=0


Post: #1
Title: الى صديقي الذي سألني عن الاستنارة!! بقلم د.أمل الكردفاني
Author: أمل الكردفاني
Date: 01-24-2018, 05:28 PM

04:28 PM January, 24 2018

سودانيز اون لاين
أمل الكردفاني-القاهرة-مصر
مكتبتى
رابط مختصر








لا اسمي هذه الرقعة دولة ولا اسميها السودان او البيضان او خلافه ؛ انها فقط رقعة من يابسة وسط القارة الافريقية ، رقعة حارة صيفا وخريفا وليس بها ربيع وشتاؤها كلون سمائها باهت ، رقعة يكرهها نباتها حتى انه ينمو فاقدا لغمقان لونه الاخضر الشاحب ، انها رقعة تمتص رحيق الحياة امتصاصا كبعوضة تمص الدماء ، كل شيء فيها ناقص نقصانا مخلا الا البؤس ، خضرتها ناقصة انسانها ناقص ، لغتها ناقصة ، مفرداتها ناقصة ، مبانيها ناقصة ، افكارها ناقصة فهمها ناقص ، لا شيء فيه يبلغ تشبع الاكتمال ... بلد التراب والصهد ، بلد العرق والموت .... عندما تعيش فيها تشعر بالنقصان يحيط بك ، حتى ان ذاتك ذاتها تنقص وتزداد نقصا يوما بعد يوم... في رقعة اليابسة الافريقية الناقصة هذه ، هناك طموحات -ايضا ناقصة- انها طموحات لأن تتنفس بارتياح نسيما عليلا ، وأن تملأ بطنك وان تستلقي تحت ظل سقف من الزنك الذي يبث حرارة الشمس بدلا من حبسها... طموحات الانسان في هذه الرقعة ناقصة ... ما يتجاوز كفاف الأمل الطبيعي عند الانسان العادي ، هنا في هذه الرقعة الحارة البائسة وفي مساحة التسعين متر اعيش ، اراقب كل شيء كقط ليلي ، اراقب ما يشبه الحياة ومايشبه السياسية ومايشبه الرياضة وما يشبه الثقافة وما يشبه الموت .. اراقب كل النواقص ، ولكن لا...هناك شيء واحد مكتمل وهو الاحتفاء بالموت.... كنت اتحلق مع جماعة حول قبر ...دفنوا الجثة وبكل اتقان واخلاص اكملوا ردم القبر ... كانوا يدفنون موتاهم بعد طقوس سريعة ورتيبة وباتقان شديد ، يحفرون القبور بحماسة ، يبلطونها بحماسة ، يعجنون التراب والماء ليكون طينا ناعما لامعا ، يقبروا الجثة باتقان ، ويردموا قبرها بكل اخلاص ، انهم يحتفلون بالموت بدون كلل ولا ملل ، حفلة الموت تستمر وقتا ليس بالقصير ، لكن تاريخك الناقص ، حياتك الناقصة ، هنا لا تهم أحدا... انت صاحب قيمة كبيرة حينما تموت فقط ... يمكنهم ان يبنوا على جثتك قبة وضريحا ويتبركوا بجثتك المتعفنة لكنهم لا يهتمون ابدا بجثتك الحية المتعطرة ، هنا في هذه الرقعة الافريقية البائسة يبحث بعض الشباب عن الاستنارة كعجوز يبحث عن اكسير الحياة ... يبحثون عن اصباغ ملونة يدهنون بها ارض هذه الرقعة اليابسة البائسة ويدهنون بها مناخها الحار ، ويدهنون بها كل نواقصهم المعنوية والمادية ليبلغوا الكمال بالفن... ولكن اصباغهم ككل شيء ناقص ليست اكثر من احبار سرية تتطاير كغاز وتتشتت ذراتها في الهواء لتضيع مع مكوناته اللا مرئية .. محاولات للبحث عن ادمغة عطلها نحس هذه الرقعة البائسة ، يبحثون عن استنارة ليبصروا من بعد عمى غير طبيعي ابدا ، لكنهم لا يجدون شيئا .. هنا ..في هذه الرقعة الافريقة البائسة يتم اعلان موت الاستنارة على الملأ ... ومع ذلك فهؤلاء الحالمون احلاما هي ايضا ناقصة ، يتشبثون بجثة الاستنارة ليحتفلوا بموتها ، ان كل شيء ميت هو محل حفاوة واحتفال ، ... يمكننا ان نسمي كل هذا الغثاء الزماني بعصر ما بعد الموت ، حين يكون اللا شيء اقيم من الشيء ، وحينما لا يكون اللا شيء الا شيئا .. له قيمة .. وحينما يكون اللا شيء متجاوزا لأي جدل فلسفي ... فهو كنه متعال.
عن اي استنارة تبحث وانت هنا معهم؟؟؟ انك تبحث في استظلام الموت والموتى ... ان الكارثة كبرى لكنهم يعيشون في عمقها وكأنها فردوس زاه ، يعتادون عليها كما يعتاد الكفار على الجحيم . هنا تبدو تلك الكلمة (استنارة) مثيرة للغثيان ، مثيرة للقيء مثيرة لانتصاب جبري للمرض ... هنا الاستنارة (التي هي في الاصل جثة الاستنارة) هي طعام الخنزير المكون من غائطه .. انها جثة تأكل لحمها الأسود المحترق والمتعفن ، تأكله بتلذذ ..تمصمص شفتيها وتتلمظ مطلقة تجشؤا عاليا يحمل رائحة العفونة ...
عن اي استنارة تتحدث يا صديقي ... اي استنارة ..؟؟؟!!! هذا مدهش انك لازلت تحلم بوطن للاستنارة ... تلك الكلمة اللعوب النرجسية المتمنعة يمكنها ان تكون في اي مكان الا هنا...الا هنا..في رقعة اليابسة الافريقية البائسة هذه ... ليس هنا يا صديقي...دعنا نكون أكثر تفاؤلا ولنحتفي معهم ومثلهم بالموت..دعنا نقظم اصابعنا كما فعل بطل اللجنة لصنع الله ابراهيم... دعنا نأكل انفسنا بنهم ..نأكل ونأكل ونأكل ...