كيف تحوّل الحسد من حيوان مستأنس إلى وحشٍ كاسر؟ بقلم بدور عبدالمنعم عبداللطيف

كيف تحوّل الحسد من حيوان مستأنس إلى وحشٍ كاسر؟ بقلم بدور عبدالمنعم عبداللطيف


12-15-2017, 06:39 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=7&msg=1513359583&rn=0


Post: #1
Title: كيف تحوّل الحسد من حيوان مستأنس إلى وحشٍ كاسر؟ بقلم بدور عبدالمنعم عبداللطيف
Author: بدور عبدالمنعم عبداللطيف
Date: 12-15-2017, 06:39 PM

05:39 PM December, 15 2017

سودانيز اون لاين
بدور عبدالمنعم عبداللطيف-
مكتبتى
رابط مختصر


[email protected]

الحسد إحساسٌ قاتل يقتل النفس والروح معاً .. هذا الداء إذا تمكّن من الإنسان فإنه يسلبه النوم ويحرمه راحة البال. وأتخيّل أيضاً أن أذرع ذلك الأخطبوط قد تمتد لتطال الجسد، حينها يرتفع الضغط والسكري لدى المصابين بأحدهما أو كليهما .. وقد تزداد وتيرة آلام البطن لأصحاب القولون العصبي .. وغيرها من الأمراض التي يفاقم منها بالتأكيد الانفعال والتوتر.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن وجود الشخص "الحاسد" بوجهه "المكفهر" وسط أي مجموعة، يصدّر إحساساً سلبياً "للقعدة" ويحُد من "انسيابية الونسة".

في زمان مضى كان المجتمع بسيطاً وكانت الطبقة الوسطى هي الغالبة وتشمل الموظفين وصغار التجار والمزارعين، وأصحاب المهن الحرفية. أما الطبقة الفقيرة فقد ذابت في الطبقة الوسطى، أولاً لروح التكافل التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وثانياً لأن أي مواطن وقتها كان يتمتع بأسباب العيش من مأوىً ومأكلٍ ومشرب.

أما طبقة التجار ورجال الأعمال فقد كانوا من القِلّة بمكان بحيث لا يشكّلون رقماً يُذكَر. وحتى أولئك الأغنياء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من الغنى (بمفهوم زمان)، إلا بعد جهدٍ جهيد، ذلك أن أموالهم جاءت بوسائل شريفة، فلم تشبها شائبة من سرقةٍ وفساد، ولم تدنِّسها عمليات غسيل أموالٍ أو تجارة مخدرات وغيرها من وسائل الكسب الغير مشروعة.

وحتى أولئك الشرفاء ممّن حباهم الله بنعمة المال، لم يتوانوا يوماً عن إقالة عثرة الفقير والمحتاج، ولم تكِلّ أياديهم عن فعل الخير وكل ما من شأنه أن يفيد مجتمعهم. كان أولئك النفر الكرام يقدمون ما يقدمونه في هدوء ومن غير رياء.. ودون جلبةٍ أو زخمٍ إعلامي.

في زمان مضى، كانت المدارس الحكومية على مستوىً أكاديمي رفيع ورسومها معقولة بالنسبة للقادرين. أما الفقراء فقد كانت الدولة تتكفّل بتعليمهم. كان المواطن يومها يتعالج ويتداوى بالمجان في مستشفياتٍ حكومية مزوّدة بأحدث الأجهزة والمُعِدّات وتحت رعاية أطباء مؤهلين ومن جميع التخصصات.

وهكذا في ذلك الجو الصحي العام، تجد بأن "الحسد" قد يغشى نفس "الحاسد" مثل غمامةٍ تمر مر الخاطر ولا تبقى طويلاً،وإن بقيت فإنها لا تسيطر على الإنسان بذلك الشكل "المرَضي"، فسرعان ما يجرفها سيل المناسبات من أعراسٍ.. وولادات.. ومآتم، حيث تجد الكل يساعد الكل .. والكل يُعاضد الكل فيختفي ذلك الشعور السيء مع تلك المشاركة الوجدانية ويذوب في وسط تلك الحميمية الجميلة التي كانت تميز مجتمعنا.
وهكذا كان الحسد وقتها أشبه بحيوان مستأنس لا يؤذي نفسية "الحاسد" ولا ينغِّص على "المحسود".

وأما الآن فإن العاصمة القومية قد تمدّدت على مستوى الجهات الأربع وأفسحت المجال للأبراج السكنية والفلل الفاخرة.. الآن انتشرت شركات كبار رجال الأعمال كانتشار تلك المطاعم التي تضاهي في تجهيزاتها وتصميماتها وتنوع وجباتها، مطاعم كبرى الدول.
الآن السيارات "الآخر موديل"، تتهادى في شوارع العاصمة، وأرفف المتاجر قد امتلأت بمختلف البضائع العالمية، وصالات الأفراح بأنوارها.. وبهرجها.. وبخورها.. وعطورها، تنقلنا اليوم إلى عوالم ليالي "الف ليلة وليلة".

الآن ظهرت المستشفيات الخاصة.. والمدارس الخاصة.. وظهر معها "المواطن الخاص".
هذه النقلة الاجتماعية قد قلبت موازين المجتمع وأخلّت بمنظومة طبقاته، فأصبحنا الآن أمام طبقتين.(الطبقة العليا) وهى التي دخلت عالم المال عبر بوابة "السلطة والنفوذ"، ففتحت الباب على مصراعيه للفساد بكل صنوفه وأشكاله وأصبح للمنتمي لتلك الطبقة، الحق في أن يغرف من مواعين الذهب والفضة أمام أعين الكل بلا تهيُّب ولا وجلٍ ولا حياء، وهو موقنٌ تماماً أن لا أحد أياً كان يجرؤ على محاسبته وهل يُحاسَب من بيده القلم؟

الطبقة الثانية وهي الأقل ثراءً "نسبياً"، هي طبقة الموالين والمنتفعين، وأولئك أغدقت عليهم السلطة الأموال بلا حساب وتركت لهم الحبل على الغارب لينهبوا ويسرقوا ما شاء الله لهم من السرقة والنهب، وذلك نظير موالاتهم ومساندتهم ما يضمن للنظام بقاءه.

وبما أن المال الذي يجئ عن ذلك "الطريق" يزغْلِل العيون-لسهولة كسبه-ويفتح الشهية كلما ارتفعت وتيرة تدفقه، فمن الطبيعي أن يفتح ذلك الباب للمنافسات والمقارنات وما يستتبعها من "حسد".في وسط تلك الأجواء الملبدة بالصراعات، ظهر نوع جديد من الحسد.."حسد" لا يشبه ذلك الحسد الذي كان مثل حيوان وديع أنيس يغشى النفوس مثل غمامةٍ عابرة لا تلبث أن تنجلي. الآن تحول ذلك الحيوان الوديع إلي وحشٍ كاسر له مخالب وأنياب وأظافر..وحشٌ كاسر يُعْمِل قتلاً وتقتيلاً في نفوس أفراد هاتين المجموعتين ويحرمهم فرصة التمتع "بمغنمهم".

وأما الطبقة الثالثة فتشمل الفقراء وهى الطبقة "الغالبة" اليوم، بعد أن إختفت الطبقة الوسطى ودهستها أقدام الغزاة الجدد. هذه الطبقة يكاد داء "الحسد" أن يكون معدوماً عندها، فليس من بين أفرادها من يَحْسِد أو من يملك ما يُحْسَد عليه (إحساس هذه الطبقة تجاه الأغنياء هو شعور "بالغُبن" ولا يرقى لمرتبة الحسد) وهذا شعور طبيعي نحو من إستأثر بكل خيرات بلدك وتركك تعاني الجوع والحرمان وشظف العيش.

بعيداً عن تلك النماذج هناك أشخاصٌ قد تجذّر الحسد وتأصّل في نفوسهم فتراهم يكرِّسون جلَّ وقتهم في التحسّر ومقارنة حالهم بالآخرين(رغم أن حالهم قد يكون أفضل من حال أولئك الآخرين) ولكنه ذلك الداء اللعين "الحسد"،يزيِّن لهم ما عند الغير فيشعل في نفوسهم نيران الحسد والحقد والبغض، ويزج بهم في خصومات وعداوات لاتنتهي.. قال الإمام الشافعي في شأن "الحسد".
كل العداوات قد تُرْجى مودتها.. إلا عداوة من عاداك عن حسدٍ

وإذا كنتُ قد ركزتُ على خصلة الحسد في إطار المادة ذلك لأن المادة للأسف قد أصبحت هي اللغة السائدة في عالم اليوم، ومع ذلك فإن المجتمع لا يزال بخير طالما فيه أناسٌ يتقززون وتعاف نفوسهم أموالاً تأتي من حرام.

ومن جانبٍ آخر، فهناك الكثيرون ممن تصالحوا مع أنفسهم وأدركوا أن كل أمرٍ من أمور هذه الدنيا بأمر الله.. الرزق..الصحة..الإنجاب..الزواج.. وحتى مغادرتنا هذه الفانية قد حدّدها سبحانه وتعالى بميقاتٍ معلوم لا يتأخر ثانية ولا يتقدم..