ليس بالضرورة أن تكون الثورة دائماً مفتاحاً ( للتغيير ) السياسي ، كما أن الثورات يمكن أن تتعدد صورها لتخرج أحياناً كثيرة عن شكلها و مضمونها ( التقليدي ) في أذهان الخاصة و العامة ، و لنقبل مبدئياً بأن ( التفاوض ) هو شكل آخر من أشكال الثورة ضد النظم السياسية ، من منطلق أن غايته النهائية هي إرساء مبدأ ( التغيير ) ، فضلاً عن تحقيقه للمطالب الأساسية التي تم التوافق عليها بالعرف أو الإتفاق أو البرامج المشتركة ، يبقى السؤال المطروح : كيف يمكن أن تحوز مؤسسة الحوار أو التفاوض مع الحكومة مشروعيتها لتُعبِّر تعبيراً حقيقياً عن مطالب الثورة و غاياتها ؟! .. من وجهة نظري الشخصية لن تتحقق هذه الشرعية المنشودة دون البدأ في التأكد المبدئي من مجريات تكوين مؤسسة حوار ( شرعية ) و قادرة بالفعل على التعبير عن كافة التوجهات بأحزابها و حركاتها المسلحة و كافة أشكال طيفها السياسي و الثقافي و النوعي ، كما أن عدم تحقيق هذا الشرط يعني ببساطة أن هناك أكثر من مناسبة منطقية أو غير منطقية كفيلة بخلق جسم خارجي قادر على لعب دور المعارضة في مواجهة مؤسسة الحوار ، إنطلاقاً من هذا التحليل البسيط لحالة الحوار الوطني الذي سيتم الإحتفال بتسليم مخرجاته النهائية في الساعات القليلة القادمة ، تكون الحكومة و ( المتحاورون ) قد جلسوا في كفة و بقية عقد المعارضة التي إمتنعت عن الحوار في كفة أخرى ، مما يوحي للمتأمل أن كل تلك المجهودات و الأموال الطائلة التي صُرفت على مائدة الحوار لم تغيَّر واقع ( التناقض الإستراتيجي ) بين الفرقاء حتى في التوافق حول آلية الحل الذي سمَّاه البعض سلمياً ، مع أن باطنه مليء بالكثير من الألغام الموقوته التي يمكن أن تندرج تحت بند ( محاولة المقصيين لفت الأنظار إليهم ) .. عبر التفعيل المتزايد للأزمات و الإتهامات و المعارك ، عليه كان لابد أن يتم التحقق من الإيفاء بالشرط الأول للشرعية الإيجابية لمؤسسة الحوار و التروي و الصبر في مجال تحريك كل القوى الفاعلة و المؤثرة للمشاركة فيه ، حتى لا يبدو الإنجاز مبتوراً ومشوباً بالأصوات الرافضة و المتهكمة للمعارضين الواقفين خارج حظيرة التفاوض ، إن تجاوز عناصر أساسية و فاعلة على المستوى القاعدي الجماهيري و عدم بذل المزيد من ( التضحيات و ( التنازلات ) في سبيل إدماجها في الحوار الوطني ، هو ما يجعل المراقبين و المهتمين أكثر توجساً من مخرجاته و أنها لن تمثل العلاج الأمثل و النهائي و الفعاَّل لقضايا السودان الشائكة على كافة المستويات ، و هو أيضاً ما دفع الكثير من المحللين إلى إتهام المؤتمر الوطني بانه يتخذ من آلية الحوار ( مطية ) للمزيد من التلكوء و التباطوء في تحقيق المطالب الأساسية و الفاعلة و التي هي واقعياً خارج أجندة الحوار ، و ذلك لكسب المزيد من الوقت لترتيب الأحوال الساسية و الإقتصادية بغية الإستمرار أمداً جديداً و مديداً في الحكم المنفرد للبلاد ، لقد ملَّت البلاد و العباد المظاهر الشكلية المضطربة لمحاولات النظام و المعارضة الوصول إلى إتفاقٍ يرضي ( أطماع الطرفين ) .. هم و نحن و الجميع على علم بأنْ لا توافق سُيفضي إلى نتيجة إيجابية تفيد الوطن المواطن دون حوار جامع (حقيقي ) على مستوى الشكل و المضمون و على مستوى إتساعه ليحتوي كل القوى المؤثرة داخلياً و خارجياً.