Post: #1 Title: العملية التربوية التعليمية بين المنظور الرسالي والمنظور التجاري بقلم د.الصادق محمد سلمان Author: د.الصادق محمد سلمان Date: 08-31-2016, 08:58 PM Parent: #0
النظريات التربوية تقول أن التعليم يعتبر أكبر إستثمار للدولة لأن المستقبل في الأجيال التي يصنعها هذا التعليم ، فهو الذي يوفر للدولة ما تحتاجه من الأفراد المؤهلين للعمل في جهاز الدولة ، إضافة إلي ما يحققه التعليم من إنتشار الوعي بين أفراد الشعب ، وإعداد أفراد المجتمع لتحمل مسؤلياتهم وواجباتهم الوطنية ، وبالتالي كانت الدولة هي ولا غيرها المسئولة عن تقديم هذه الخدمة وفقا للغايات التي ترجوها منه ، مما يحتم عليها أن تكون حريصة على إعتماد مستوى جيد لهذا التعليم يحقق تلك الأهداف . منذ أن أستولت الإنقاذ على الحكم تبنت فلسفة إقتصادية تقوم على إقتصاد السوق ، ووفقاً لهذه السياسة خصخصت كثير من الأنشطة والخدمات التي كانت يقدمها القطاع العام والمؤسسات في الدولة ، وكان قطاع التعليم من الخدمات التي طالها هذا التوجه . وهكذا فُتح الباب للتعليم الخاص ، ولم تشترط الجهات المسئولة أن يكون ذلك من خلال مؤسسات لها خبرات في مجال التعليم أو على الأقل لها مقدرات مالية لإنشاء مدارس بمعايير ومواصفات تلبي العملية التعليمية والتربوية ، وترك الأمر للأفراد وأصبح تصديق المدرسة مثل تصديق أي كنتين في الحي ، يقام في أي مكان وبأي شكل ، فأنتشر مثل هذا النوع من المدارس في كل أرجاء البلاد ، وتوارت المدارس الحكومية المهيأة بميادينها وأفنيتها مع فيضان المدارس الخاصة . ظاهرة التعليم الخاص والسلبيات المصاحبة لها تناولتها أقلام الكتاب في الصحافة والتربويين والمهتمين بقضايا التعليم ، وشكا أولياء الأمور من المغالاة في الرسوم الدراسية ورسم الزي المدرسي الذي تبارت هذه المدارس في ألوانه ، وفيما مضى كانت البساطة من أهم مقاصده بنفس الفهم الذي نستخدم به كلمة " تجاري " لوصف منتج أو صنف يخضع لشروط السوق ، يمكننا أن نصف حال التعليم الخاص بنفس الكلمة ، حيث أنه عبارة عن عمل تجاري أو استثمار يهدف إلي الربح ، لذلك نجد أن معظم مؤسساته لا تفي بمعايير العملية التعليمية والتربوية في عدد من الجوانب ، لأن الهدف التجاري طغى على الجوانب الأخرى ، لذلك أطلقنا عليه مسمى التعليم التجاري بدلا من الخاص . التعليم في السودان كان يُضرب به المثل ، ولأن أصحاب القرار في الزمن الماضي كانوا يدركون أهمية المدرسة كمؤسسة تربوية وليس للتعليم فقط ، لذا جعلوه في يد الدولة بكامل مؤسساته ولم يترك للأهواء . كانت المدارس الخاصة في أضيق الحدود وهو ما كان يُعرف بالتعليم الأهلي تمييزاً له عن التعليم الحكومي ، أما في مجال التعليم العالي فلم تكن هناك جامعات خاصة غير كلية جامعية واحدة هي كلية الأحفاد الجامعية والتي تحولت إلي جامعة في عام 1995 . الأنظمة العقائدية التي استولت على السلطة بإنقلابات عسكرية ، في مشروعها لصياغة الأنسان في السودان وفقاً لآيديولوجيتها إستهدفت التعليم ، فكان قرار نظام مايو بتغيير السلم التعليمي من 4/ 4 / 4/ إلي 6 / 3 / 3 / أي أصبح الأبتدائي ( الأولية ) سابقا 6 سنوات ، والثانوي العام ( الوسطى سابقا ) 3 سنوات ، والثانوي العالي 3 . وأحدثت تغييراً في محتوى المناهج ، وتم التعريب في الثانوي العالي والجامعة ، ولم يعد شرطا أن يكون المعلم خريجا من معاهد التربية التي تخرج المعلمين المتدربين ، حيث سُمح لخريجي الثانوي العالي بالعمل كمعلمين في المدارس الإبتدائية والثانوي العام ، هذه التغيرات أثرت في مستوى التعليم وكانت تلك بداية التدهور ، لكن مع ذلك كان التدهور محدوداً . في عهد الإنقاذ تم تغير السلم التعليمي وأدُخلت تغيرات في المناهج ، ثم نفذت ما سمي بثورة التعليم التي تمثلت في التوسع في المدارس والجامعات ، وكان ذلك التوسع على حساب عدد من العناصر في التعليمية والتربوية ، إذ جاء هذا التوسع دون الإعداد له الإعداد الكافي فكان هناك نقص في المعلمين في التعليم العام وأساتذة الجامعات بسبب الإحالة للصالح العام والهجرة إلي الخارج ، كما كان هناك تقصير في إعداد المعلمين وأساتذة الجامعات ، كل ذلك كانت له تأثيرات وخيمة على كل العملية التربوية والتعليمية على مستوى التعليم العام والجامعي ، وقد أعترف البروفسير إبراهيم أحمد عمر رئيس االمجلس الوطني وهو يتحدث في ورشة العنف الطلابي ، بأن ثورة التعليم كان لها إفرازات سلبية ، ومما قاله : " توسعنا في المباني والقبول لكن أهملنا النشاط الطلابي الآخر أين النشاط الثقافي في الجامعات والجمعيات الأدبية والميادين وغيرها " وقال أن ثورة التعليم العالي حققت طفرة غير مسبوقة ....لكن الآن يجب يجب النظر فيها بلا خجل .....وقال إن ما يحدث بالجامعات من عنف لا يخرج من هذا الأمر . ( صحيفة الصيحة 24 / 8 / 2016 ) التوسع غير المدروس ، وفتح الباب على مصراعيه للتعليم الخاص كانا الطامة الكبرى على التعليم في السودان ، فالتعليم الخاص لم يكن مؤهلاً للقيام بهذه المهمة الخطيرة ، ومع ذلك سُمح له بأن يكون موازياً للتعليم الحكومي ، فانتشرت المدارس الخاصة والكليات الجامعية والجامعات الخاصة بصورة سرطانية ، في ظل إهمال الدولة لتعليم الحكومي خاصة مراحل التعليم العام ، هذا التساهل والسماح لخصخصة التعليم كان تطبيقاً لسياسة التحرير الاقتصادي والسوق الحر التي بموجبها رفعت الدولة يدها من إلتزاماتها في مجال الخدمات من صحة وتعليم والتي كان المواطن يحصل عليها مجانا من الدولة وتركت الحبل على الغارب للقطاع الخاص في مجال هذه الخدمات . وما يطلق عليه التعليم الخاص هو تعليم تجاري ، يدخل في باب الإستثمار الإقتصادي ، والتساؤل هنا هو : هل البنية التحتية والبيئة التعليمية والتربوية في هذه المدارس تلبي أبسط قواعد العملية التربوية والتعليمية ؟ ، كثير من هذه المدارس الخاصة تتخذ من المنازل المخصصة للسكن مقار لها ، فهل يكفي دورة مياة واحدة أو أثنين لفصل واحد ناهيك عن مدرسة بها ثمان فصول ، بعض المدارس لا يوجد بها فناء للطابور الصباحي الذي يعد من أهم مقومات العملية التربوية ، أين الميادين التي يمارس فيها التلاميذ النشاط الرياضي أين المعامل ....أين .....أين . في المدرسة الأولية التي درسنا فيها كان بها حوالي ست ميادين للنشاط الرياضي ، ومدرسة خور طقت كان بها حوالي ست عشر ميدان بلإضافة للمسرح وقاعات التربية الموسيقية ونادي الطلبة . باختصار معظم هذه المدارس الخاصة لا توجد بها هذه الأنشطة التي تنمي شخصية التلميذ أو الطالب ، وفي إعتقادي إن مثل هذه المدارس غير صالحة للعملية التعليمية والتربوية بصفة خاصة وأنا أشدد علي الجانب التربوي تحديدا هنا لدوره المهم في بناء أجيال الأمة . التعليم التجاري لا بأس أن يكون له دور لكن يجب أن يكون محدداً بنسبة معينة لا يتعداها لأسباب موضوعية ، وأن تكون هناك شروط ومواصفات للمنشآت التعليمية والتربوية ويجب أن يكون في مستوى التعليم الحكومي إن لم يكن أجود في المبنى والمحتوى ، ما دام يتكلف تلك المبالغ الخرافية ، فالتعليم الحكومي بميراثه الطويل من الخبرة ، وعقيدته العريقة التي تربى عليها أجيال من السودانيين ، ومؤسساته المنتشرة في كل أنحاء البلاد يجب ، أن يظل هو الأصل كما كان في السابق ويجب على الدولة أن تعيد له الإعتبار ، ومهما كان حجم التدهور الذي أعتراه فيمكن إصلاحه ، ومع خلو معظم مدارس التعليم التجاري من الأنشطة التربوية ، فهناك الرسوم الباهظة لهذه المدارس التي يدفهعا أصحاب الدخول الطفيلية ،ويستميت البعض في دفعها سعيا " للبرستيج " وإنخداعاً باللافتات الخادعة من شاكلة " العالمية " و " الإنجليزية " و " الدولية " وقد رأيت بأم عيني عدد من المدارس في أزقة الأحياء الشعبية تحمل لافتاتها أحد هذه العبارات ، وفي منطقة من أحياء الدرجة الأولى أحصيت حوالي ست لافتات في مساحة لا تتعدى5ك .م ×5 ك . م تحمل لافتاتها هذه العبارات . أعيدوا للتعليم الحكومي مكانته فهو ركن هام في عملية بناء الإنتماء القومي .