يستفيض حديث الدجال محمود محمد طه عن امكان امتزاج الإنسان بالإله، ويتواتر في كتبه، وقل أن يخلو منه كتاب من كتبه التأسيسية. وإذا تكرر طرق المؤلف لموضوع معين، وجاء حديثه عنه بألفاظ صِراح، فيصعب حينئذ تأويل كلامه على نحو آخر. وإنما يلجأ الناس إلى التأويل عند وقوفهم على نصوص طارئة لا متواترة، وغريبة غامضة لا بيِّنة واضحة. ولكي يباح التأويل يتوجب أن يحتوي النص المراد تأويله على قرائن تدل على أن ظاهره غير مراد. وإذا اقتنعنا بهذه القاعدة التفسيرية واستصحبناها عند نظرنا إلى نصوص إمام الفكر الجمهوري فيما يتصل بعقيدتي الحلول ووَحدة الوجود، فسنرى أنه قد أعاد وأبدأ في الحديث عنهما في سائر كتبه. وأنه عبر عنهما في كل مرة بألفاظ ساطعة قاطعة. وأنه قصدهما ولم يقصد سواهما من العقائد التي ربما أمكن إيجاد سند لها من الشرع، مثل عقيدة الفناء في الله، وعقيدة وَحدة الشهود. وأنه قد تبنَّى عقيدتي الحلول ووَحدة الوجود بأشد صيغهما شطحا وتطرفا. وأنه طبقهما على نفسه الإنسانية، فزعم لها حظا من الحلول الإلهي، والتوحد مع ذات الإله. إذ زعم أنه الإنسان الكامل الذي امتزج بالإله، وحلت فيه روح الإله، ولم يصبح وجوده ووجود الإله إلا وجودا واحدا، لا انفصال له، ولا تمايز فيه. ودعنا نشرح ما المقصود بعقيدتي الحلول ووَحدة الوجود في البدء. كان أول زجَّ بعقيدة الحلول في الفضاء الفكري الإسلامي هو الدجال الحسين بن منصور الحلاج. وقد شرح هذه العقيدة وعلَّلها قائلا:" إن من هذب نفسه بالطاعة، وصبر على اللذات والشهوات، ارتقى إلى مقام المقربين، ثم لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة، حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه حظ من البشرية حل فيه الإله الذي حل في عيسى ابن مريم، ولم يرد حينئذ شيئا إلا كان كما أراد، وكان جميع فعله فعل الله". (نقلا عن: عبد القادر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 82) ثم صور الحلاج عقيدته الزائغة شعرا فقال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا! وقال: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدا في خلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب حتى لقد عاينه خلقه كلمحة الحاجب بالحاجب! وقال: أنا أنت بلا شك فسبحانك سبحاني فتوحيدك توحيدي وعصيانك عصياني! وأما عقيدة وَحدة الوجود فقد استكمل التنظير لها والتعبير عنها ابن عربي الحاتمي الطائي. وفي هذا قال العلامة أبو العلا عفيفي:" لم يكن لمذهب وحدة الوجود وجود في الإسلام في صورته الكاملة قبل الشيخ ابن عربي، فهو الواضع الحقيقي لدعائمه والمؤسس لمدرسته، والمفصِّل لمعانيه ومراميه، والمصوِّر له بتلك الصورة النهائية التي أخذ بها كل من تكلم في هذا لمذهب من المسلمين من بعده ". (محي الدين بن عربي، فصوص الحكم والتعليقات عليه، بقلم أبي العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 25) وتعني هذه العقيدة أنه ليس هنالك إلا وجود واحد، يشترك فيه الحق والخلق. وقد أشار إلى هذه العقيدة ابن عربي بقوله:" فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها، لأن نـَفـَس الرحمن عينه، ونَفَسه تعالى واحد لا يتكثر، فالوجود واحد لا يتكثر، إذ الحق هو الوجود ليس إلا". (الفتوحات المكية، ج/ 2 ص 502) وقوله:" إن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء". (الفصوص، ص 192) وقوله:" والعارف المكمَّل من رأى كل معبود مجلى للحق يُعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك". (الفصوص، ص 195) وقوله: يا خالق الأشياء في نفسه أنت لما تخلق جامع تخلق ما لا ينتهي كونه فيك فأنت الضيق الواسع! وتعتبرعقيدة وحدة الوجود عند علماء السلف أخطر بكثير من عبادة الأصنام. لأن من عبدوا الأصنام من الجاهليين لم يقولوا بألوهيتها ولا امتزاجها بالله تعالى. وإنما قالوا كما أورد القرآن حديثهم:(مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ) الزمر: 3. وعلى نهج دعاة وَحدة الوجود سار دجال السودان الكبير محمود محمد طه. حيث قال:" فالله إنما يعرف بخلقه، وخلقه ليسوا غيره، وإنما هم هو في تنزُّل، هم فعله، وفعله ليس غيره". (محمود محمد طه، أدب السالك في طريق محمد، الخرطوم، 1982م، ص 8) وهذا نص واضح الدلالة على أن الدجال لم يقصد بقوله هذا سوى اختلاط البشر بالإله وامتزاجهم بذاته العلية. والمطلع على فكر ابن عربي سرعان ما يدرك أن هذا النص قد سرقت فكرته من فص من (فصوص الحكم) صاغ فيه ابن عربي فكرة أن الله - تعالى عن ذلك - يكون خلقا أو مخلوقا عند امتزاجه بالإنسان. وعبرعن ذلك شعرا فقال: فالحقُّ خلقٌ بهذا الوجه فاعتبروا وليس خلقًا بهذا الوجه فادَّكروا مَن يدرِ ما قلتُ لم تخذل بصيرتُه وليس يدريه إلا مَن له نظرُ جمعٌ وفرقٌ فإن العين واحدةٌ هي الكثيرة لا تُبقي ولا تَذِرُ!