أستاذنا الهادي آدم - بقلم الأستاذ/ عبد الله علقم ( جريدة الخرطوم )

أستاذنا الهادي آدم - بقلم الأستاذ/ عبد الله علقم ( جريدة الخرطوم )


12-07-2006, 04:18 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=60&msg=1165461511&rn=0


Post: #1
Title: أستاذنا الهادي آدم - بقلم الأستاذ/ عبد الله علقم ( جريدة الخرطوم )
Author: Badri
Date: 12-07-2006, 04:18 AM

‏(كلام عابر)‏
أستاذنا الهادي آدم


‏(عبدالله علقم)‏
[email protected]

ماذا يكون إذا انقضى أجلي
وتوقف الخفاق في صدري
وتطلعت روحي محلقة ‏
عبر الفضاء تطوف كالنسر
أترى الحياة تظل صاخبة
وكما عهدت نظامها يجري
أم سوف تقضي الكون واجفة
تجتاحه حينا من الدهر

سيظل نظام الحياة يجري إلى ما شاء الله،ما في ذلك شك، وستظل الحياة كما كانت ‏صاخبة أو ساكنة، ولكنها قطعا لن تكون جميلة بمثل الجمال الذي كان يضفيه عليها ‏وجود الاستاذ الهادي آدم الذي رحل عن دنيانا يوم الأربعاء الماضي . عرفناه أستاذا ‏للغة العربية في مدرسة حنتوب الثانوية ، طيبة الذكر، في سنوات الستين من القرن ‏الماضي وكنا نراه صارما شديد البطش والبأس رغم كلماته الرقيقة الرصينة التي عشنا ‏عصرها وشهدنا ميلاد بعض منها ، وكانت تتجاذبنا مشاعر متناقضة نحسها نحو ‏أستاذنا هي خليط متناقض من الرهبة والحب ، وقد انقضت سنين طويلة كبرت خلالها ‏أعمارنا واتسع إداركنا قبل أن نكتشف أن في داخل تلك الشخصية التي كنا نراها شديدة ‏الصرامة شخصية أخرى تقطر عذوبة وأبوة وتستهويها الطرفة والكلمة الرقيقة.‏

كان يجمع بين احترام الذات والإعتداد بها والتواضع وبساطة الزاهد. لما اختارت ‏السيدة أم كلثوم أن تغني له قصيدته "أغدا ألقاك" ، وهي ليست أفضل قصائده وإن غدت ‏أشهرها، كانت هناك مشكلة حقيقية في إقناعه بالموافقة على تعديل طفيف ارتأته السيدة ‏أم كلثوم في كلمة أو كلمتين من القصيدة لمتطلبات التلحين ، وكانت هذه عادة درجت ‏عليها السيدة أم كلثوم، فرفض الأستاذ التعديل ورفض أن يسافر للقاهرة تلبية لدعوة ‏السيدة أم كلثوم لهذا الغرض، ولكنه في النهاية رضخ أمام ضغوط المحبين والحادبين ‏ووافق على السفر إلى القاهرة ولقاء المطربة الشهيرة. كان لديه نفور غريزي من ‏الأضواء ولكن الأضواء ظلت تلاحقه وتحاصره وتقض مضجعه. أكسب منبر أم كلثوم ‏اسم الهادي آدم الانتشار والقبول في مجتمع الآداب في العالم العربي المستعصي ‏تاريخيا على المبدع السوداني، أيا كان، رغم أن القاريء أو المستمع العربي يظل هو ‏الخاسر الأكبر من هذا التغييب العفوي أو المتعمد للمبدع السوداني.‏

‏ كان الاستاذ الهادي آدم شديد السخرية من كل الظواهر السالبة والمظالم الإجتماعية، ‏حدث أن كان ذات مرة مسافرا بالسكة الحديد والتقى في إحدى المحطات التي يتوقف ‏فيها القطار طالبا من طلبته كان مسافرا على نفس القطار، وكان ذلك الطالب يرتدي ‏بزته العسكرية التي تدل على أنه قد التحق بالكلية الحربية. أخذ الأستاذ والطالب ‏يتجاذبان أطراف الحديث حتى أطلق القطار صافرته إيذانا بالتحرك،فطلب الطالب من ‏أستاذه أن يتقدمه بالصعود للقطار في درجة النوم ، تأدبا منه وظنا منه أن أستاذه من ‏ركاب درجة النوم، ولكن الأستاذ اتجه إلى حيث الدرجة الثانية وقال ضاحكا إن مكانه ‏هناك وإذا شاهده رجال الشرطة في درجة النوم أو الدرجة الأولى فسيمسكون به لا ‏محالة. كان السفر على الدرجة الثانية أقصى ما يسمح به لمن هو في درجة الأستاذ ‏الهادي آدم الوظيفية آنذاك رغم كونه أستاذا في المرحلة الثانوية، في حين أن الطالب ‏الحربي الذي لم تزين كتفه دبورة واحدة بعد، يحق له ركوب الدرجة الأولى، القابلة ‏للنوم بلغة السكة الحديد، أي أنه يستطيع أن يدفع فرقا ماليا زهيدا لترقية درجته ‏الأولى إلى درجة النوم. ‏

رحيل أستاذنا العملاق الهادي آدم يشكل خسارة فادحة وفقدا شخصيا لكل طلابه على ‏امتداد الوطن ولكل قرائه ومحبيه في الوطن العربي ولكل أهل الهلالية وأهل السودان ‏في أزمنة بخيلة تخنق الفرح ، فالعزاء لهم جميعا فبرحيله يرحل معقل وطيد من معاقل ‏الشعر الرصين والكلمة الصادقة المعبرة الملتزمة التي ستبقى بعده إلى أن يرث الله ‏الأرض ومن عليها. وليت أعماله كلها تجد طريقها للنشر ، إذ أنه لم ينشر منها على حد ‏علمي إلا القليل وأتمنى ألا تتعرض هذه الكنوز للضياع كما ضاعت من قبلها كنوز ‏التجاني وجماع وصلاح وابراهيم عوض بشير ، والأخير لم يسمع الناس بأي من ‏قصائده سوى قصيدة "سلمي" التي تغنى بها الأستاذ عبدالكريم الكابلي و يقول مطلعها ‏‏"أنا أبكيك للذكرى *** ويجري مدمعي شعرا" ، وسنظل ندعو لأستاذنا الهادي آدم ‏بالرحمة والمغفرة ونردد ، إلى أن نلحق به، كلماته التي كانت أجزل ما قيل في وداع ‏جمال عبدالناصر: ‏
أكذا تفارقنا من غير وداع يا زينة الأبصار والأسماع


رحم الله أستاذنا الهادي آدم الذي نحت اسمه في ذاكرة الكلمة العربية وفي وجداننا ‏جميعا.‏