Post: #1
Title: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: Ahmed Abushouk
Date: 12-02-2006, 01:43 AM
السودان تأليف السير هارولد ماكمايكل وتعريب الأستاذ محمود صالح _____________
عرض وتحليل د. أحمد إبراهيم أبوشوك
صدق حدس الأستاذ الشاعر محمد المكي إبراهيم عندما وصف مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان بأنه "منبر الثقافة الرئيس، للقراء السودانيين في الوطن، وفي أقطار الشتات"، وقد استمد هذا الوصف حُجيَّته من تثمين "ود إبراهيم، الشهير بود المكي" لعطاء المركز المتميز في صِنْعَة الكتاب السوداني، وفي رفد المكتبة العربية بإصدارات جيِّدة المحتوى، وحَسُنة المظهر والإخراج، ونذكر منها: "الوثائق البريطانية عن السودان، 1940-1956م"، و"تاريخ الموسيقى والغناء السوداني"، و"مذكرات يوسف ميخائيل عن التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان"، وإطلالات الدكتور حسن أبشر الطيب في عشق الوطن. ومن مَعِين هذا العطاء الثَّر الذي لا ينضب أهدى إليَّ الأخ الصَدِيق الأستاذ محمود صالح عثمان صالح باقةً رمضانيةً مُجوَّدة الصِنْعَة، ومزهَّرةً بحزمة سنابل من روائع التراث السوداني وأدبياته، في واسطتها كتاب الإداري المخضرم السني بانقا عن الشاعر السوداني المغمور "معاوية محمد نور"، وعلى جنباتها "مذكرات الشريف حسين الهندي"، ونسخة مُعرَّبة لكتاب السير هارولد ماكمايكل، الموسوم بـ "السودان". طالعتُها بتمعنٍ، وقرأتُها بإمتاعٍ ومؤانسة، وأخيراً استقر رأيَّ على مراجعة كتاب "السودان"، لأن بضاعتي في النقد الأدبي بضاعة ضامرة، علاوة على أن سِفر معاوية محمد نور قد قدَّم له الأديب الألمعي الطيب صالح، فتقديم الطيب في حدِّ ذاته لوحة أدبية فريدة، ومراجعة متميزة، جامعة في ذاتها، ومانعة لما بعدها؛ وأما مذكرات الشريف حسين الهندي فهي أجدَّر أن يراجعها أيٌ من الذين عاصروا أحداث تلك الحقبة التاريخية، واشتركوا في صياغتها، ما دام نفرٌ منهم على قيد الحياة، لأنهم كانوا شهود عيانٍ على مفردات أحداثها، وشهاداتهم ترقى في صدقيتها إذا صدقت على إفادات السماع، وتضاهي في جزئياتها موضوعية الاطلاع الأكاديمي عبر كُوةٍ بعيدة الموطن زماناً ومكاناً، فلا غرو أن مراجعاتهم من هذه الزاوية، إذا كُتب لها أن ترى النور، ستكون ذات مغذًى معرفي، ودلالات توثيقية مهمة بالنسبة لعُشِّاق فن التاريخ وعلم السياسة.
صدرت النسخة الإنجليزية لكتاب "السودان" عام 1954م، والمُعرَّبة منها في شهر رمضان سنة 1427هـ الموافق سبتمبر/أكتوبر 2006م، أي بعد مضي أكثر من نصف قرن من الزمان، عن مطابع أرنست بني المحدودة في لندن، وفي ديباجة عربية جيَّدة الصنعة، حافظت على القواعد المرعية في لغة الضاد، وأوفت الهدف المنشود، وعرضت النص عرضاً موضوعياً، ثم تدثرت في ذاتها بغلاف النسخة الإنجليزية، ذي اللون الأخضر الفاقع، والخطوط الأفقية الحمراء الرفيعة، وحملت هذه النسخة العربية أيضاً على واجهة غلافها الورقي صورة بَعيرٍ سوداني أسود اللون، وعلى خلفية الغلاف تبصرة مقتبسة من نص للمؤلف، مفادها عن واقع التعليم في القارة الإفريقية وما صاحبه من إخفاقات جوهرية. ويتكون الكتاب من 326 صفحة من الحجم المتوسط، مُقسَّمة إلى سبعة عشر فصلاً رئيساً، في صدرها تقديم المترجم الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، وتمهيد المؤلفة ومقدمته؛ وفي عجزها حاشية عن نتيجة انتخابات ديسمبر 1953م، وتداعياتها السياسية في السودان، وملحق عن اتفاقية الحكم الثنائي في السودان، وثبت للمراجع، وفهرس للإعلام والأماكن. وبهذه الكيفية وُلد كتاب السودان ميلاداً جديداً، أخرج النص التاريخي ومعطياته من غياهب الإنجليزية إلى رحاب العربية، التي جعلت مادته متاحةً للسواد الأعظم من أهل السودان، فلا جدال أن هذه النقلة المعرفية ستسهم في إندياح دائرة القُرَّاء، وسماع الرأي والرأي الآخر، مدحاً وقدحاً في محتويات الكتاب، التي سأعرض معالمها وأعلق عليها في الفقرات اللاحقة للفقرة الخاصة بشخصية السير هارولد ماكمايكل، الرجل الذي ترك بصماته واضحة على أرض السودان، وعلى نص الكتاب روحاً ومعنًى.
من هو السير هارولد ماكمايكل مؤلف كتاب السودان؟ أشتهر السير هارولد ماكمايكل في بوادي السودان بـ "مكميك، وهذا التحريف مرتبط بحادثة صدامية وقعت بينه وبين ناظر الكواهلة الشيخ عبد الله علي جاد الله، الذي كسر قلم السير ماكمايكل، عندما حاول هذا الأخير أن يمهر حكماً إدارياً يقضي بملكية عِدّ كجمر الواقع في شمال كردفان لصالح الكبابيش، وبذلك أضحى الناظر ود جاد الله يُعرف بـ "كسّار قلم مكميك"، كناية عن شجاعته وجُرأته السياسية. وقد أتخذ الدكتور عبد الله علي إبراهيم هذا الحادث عنواناً رئيساً لسلسلة مقالات كتبها عن "هُوية الجعليين الكبرى"، أنتقد فيها أدبيات الموروث الإثنوغرافي الاستعماري-التبشيري، الذي أصَّل له ماكمايكل في كتابه عن "تاريخ العرب في السودان"، وأعطاه القس الأنجليكاني أسبنر ترمنقهام بُعداً دينياً في سفره المشهور بـ "الإسلام في السودان"، وبموجب ذلك وُصف إسلام أهل السودان بأنه "تأسلم"، وعروبة عربه بأنها "استعراب"، وبتلاقح هذين "الحظين المبخوسين" ولد مصطلح "الإسلاموعربية". وفي هذه المراجعة لكتاب ماكمايكل "السودان"، لا أود الخوض في غمار هذا المصطلح ومنعطفاته الفكرية، ولا في موقف الرأي والرأي الآخر منه، بل أود أن أعرض جوانب مهمة من شخصية السير هارولد ماكمايكل حسب اللوحة التي نُسجت لها في مخيلة العقلية السودانية، ومذكرات الإداريين البريطانيين، التي وصفته تارة بـ"الرجل الأبيض العظيم"، وتارة أخرى بـ "العبقري الشرير"، وبين هذه النعوت المتقابلة دلالات رمزية مرتبطة بتاريخ الرجل الإداري في السودان، وبعطائه المنبسط في بناء دولة الحكم الثنائي، وتوابعها من مؤسسات الإدارة الأهلية، التي بخس بعض الباحثين كفايتها الإدارية دون تدقيق وتمحيص، وطعنوا في ولائها الوطني، وعيَّرُوها بأنها صنيعة استعمارية. وتكمن عظمة هذا "الرجل الأبيض العظيم" في خلفيته الأسرية، وإعداده الأكاديمي في كلية ماجدولين بجامعة كمبردج ذائعة الصيت، وسِجل تأهيله الإداري المتفرد كسباً وعطاءً في السودان، وتنجانيقا (تنـزانيا)، وفلسطين، والملايو، ومالطة. ولد السير هارولد ماكمايكل في أكتوبر 1882م، في أسرة بريطانية عريقة الأصل، ومشهود لها بالكفاية السياسية، ونذكر من أعلامها البارزين خاله اللورد كيرزون، الذي تقلد مناصب عليا في الحكومات البريطانية المتعاقبة في الفترة بين 1885م و1924م، وشملت هذه المناصب السكرتارية الخاصة للورد سالزبري رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، ووكالة وزارة شؤون الهند، ووزارة الخارجية البريطانية، وحكمدارية الهند العامة. فلا عجب أن هذا الواقع الأسري المتجذر في عمق العهد الفكتوري قد مكَّن ماكمايكل من الدراسة في كلية ماجدولين، حيث حصل على درجة الشرف الأولى في التاريخ، ثم أصبح زميل شرف في جامعة كمبردج. وبعد تخرجه من كمبردج بدأ حياته العملية في خدمة السودان السياسية عام 1905م، حيث ترقى في مراتب العمل الإداري إلى أن شغل منصب السكرتير الإداري لحكومة السودان (1926-1934م)، وتنقل بين مديريات السودان المختلفة، حيث عمل في كردفان، ودارفور، والبحر الأحمر، والنيل الأزرق، وأخيراً استقر به المقام في الحاضرة الخرطوم. وبعد أن تقاعد عن خدمة حكومة السودان عام 1934م، عين حاكماً عاماً لتنجانيقا، ثم مندوباً سامياً لفلسطين والأردن، ثم مندوباً خاصاً للحكومة البريطانية في إقليم الملايو، وأخيراً أختتم هذا السجل الإداري الحافل بمفوضية الشؤون الدستورية في مالطة عام 1946م، وبعدها آثر الجلوس على كرسي الحياة المعاشية الآثر، إلى أن توفي عام 1969م. وفوق هذا كله اهتماماته الأدبية بتاريخ السودان وتراثه الثقافي، حيث ألف جملة من الكتب المهمة، ونذكر منها: "قبائل شمال ووسط كردفان" (1912م)، و"وسوم الجمال التي تستعملها القبائل الكبرى في كردفان" (1913م)، و"تاريخ العرب في السودان" (1922م)، و"السودان الإنجليزي-المصري" (1934م)، و"السودان" (1945م) موضوع مُدارستنا. ويُعدُّ "تاريخ العرب في السودان" من أكثر كتب المترجم له التي وجدت رواجاً في السودان، لأن مُجلَّده الأول قام على فرضيَّة مفادها أن عرب شمال السودان خليط من العرب والنوبة، والثاني حوى جملة من مخطوطات النسَّابة السودانيين التي تعارض مفردات الفرضيَّة التي ذهب المؤلف نفسه إليها. ونلحظ أن هذه الفرضيَّة قد تبناها بعض الباحثين السودانيين أمثال: البروفسير يوسف فضل حسن، والبروفسير سيد حامد حريز، والدكتور حيدر إبراهيم؛ بيد أن الدكتور عبد الله علي إبراهيم قد شكَّك في صدقيتها، ووصفها بأنها فرضيَّة باخسة لنسب المجموعة الجعلية الكبرى، لأنها تقدح في شرعية أصلها العربي وانتمائها القرشي. إلا أن هذا الموقف الرافض لفرضيَّة السير هارولد ماكمايكل قد صُنِّف في دائرة خطاب الهُوية الأيديولوجي، ولم يحظ بتأييد نفر من دعاة الغابة والصحراء، ومن بينهم الأستاذ كمال الجزولي، الذي يتفق مع ما ذهب إليه ماكمايكل والذين تواضعوا على فرضيَّته في "حقيقة الهجنة العربية النوبية" في شمال السودان، التي يصفها بأنها حقيقة "ماثلة للعيان بقوة لا تحتمل المغالطة". أما الجانب الآخر من شخصية السير هارولد ماكمايكل فيرتبط ببعض السياسات الإدارية التي صاغها أو اشترك في صياغتها عندما كان نفاذاً في خدمة حكومة السودان، فلا عجب أن هذه السياسات كانت موطن قدْحٍ بالنسبة لبعض الإداريين البريطانيين والموظفين السودانيين، الذين نعتوه بـ "العبقري الشرير". وتأتي في مقدمة هذه السياسات مذكرته الشهيرة لعام 1930م، التي برر فيها قرار حكومة السودان القاضي بإنشاء مناطق مقفولة في الجنوب، "يكون قوام النظام فيها مرتكزاً على العادات المحلية، والتقاليد، والمعتقدات، بقدر ما تسمح به ظروف العدالة المحلية والحكم الصالح". وكانت هذه السياسة الانفصالية بلا شك واحدة من أمات الكبائر، التي عمَّقت جذور الفرقة وفقدان الثقة بين جنوب السودان وشماله. والخطيئة الثانية الكبرى، حسب وجهة نظر معارضيه، تتجسد في مناصرته الثابتة لسياسة الحكم غير المباشر (الإدارة الأهلية)، وتنفيذها على صعيد الواقع، فلا جدال أن هذه السياسة كانت تهدف في المقام الأول إلى خلق ترياق معادٍ أو غدة واقية ضد "جرثومة الوطنية"، التي بدأت تنتشر في أوساط الطبقة المتعلمة من السودانيين. وقد مهد لتنفيذ هذه السياسة، بتآمره الحاذق والمدروس ضد السير جفري آشر، حاكم عام السودان (1926م)، الذي تم رفعه واستبداله بالسير جون مافي (1926-1934م)، وبذلك تحققت طموحات السير هارولد ماكمايكل وتطلعات تجاه تأسيس إدارة أهلية فاعلة، سُداها زعماء العشائر، وقوامها قلة الكُلفة المالية، وغايتها تحجيم نفوذ القيادات الوطنية المتعلمة من بث "سمومها الوطنية" في ربوع السودان الإنجليزي-المصري، لأن تلك القيادات الوطنية كانت تحمل قيماً معارضة لأجندة حكومة السودان وأتباعها في القيادات التقليدية.
تقويم كتاب السودان إذا أنعمنا(أو أمعنا) النظر في كتاب السودان، فيمكننا أن نصفه بأنه تقرير ٌ إداريٌ ضافٍ، مهد له المؤلف بسبعة فصول تاريخية عن طبيعة البلاد وأهلها، وواقعها في ظل الحكم التركي المصري وحكومة المهدية التي نعتها المؤلف جزافاً بحكومة "الدراويش"، وأسباب إعادة احتلال السودان عام 1898م، والخلفية السياسية التي أُسست عليها بنود اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899م. ثم انطلق من هذه الفصول التاريخية الممهدة، التي ربما يختلف حولها الرأي الآخر، ليعطي صورة مفصَّلة عن كيفية إعادة الأمن والاستقرار إلي ربوع السودان المضطرب آنذاك، وينتقل بعد ذلك إلى كيفية تطوير الأجهزة الإدارية، التي تكفَّلت ببسط الأمن والقانون، وتطوير الخدمات الاجتماعية، وتأسيس مشروعات الري وإعمار الأرض، وتصريف شؤون المال والتجارة. وفي الجزء الثالث والأخير صوب المؤلف نظره تجاه التطورات السياسية والدستورية التي شهدها السودان في العقود الثلاثة السابقة للاستقلال، وأعقب ذلك بفصل مشحون بالغيرة السياسية تجاه مصر، التي وصفها بنكران الجميل لحكومة صاحب الجلالة، لأنها قابلت ذلك الجميل المزعوم "بحملة شعواء حاقدة، ومملوءة خبثاً، وإساءة للمحسنين... [وإنها] كانت مصدر أذى وخراب للسودان، لمدة قرن من الزمان ...، وإذا لم تستعمل الحكمة، وتقبل أي شيء يقدمه السودان لها بطيب خاطر، فالخطورة عليها ستكون جسيمة، ولن تقتصر على مياه النيل فقط." (السودان، ص 299-300) فالكتاب بهذا التقسيم يحتاج إلى قراءة فاحصة، تمِيْز بين توجهات المؤلف الإمبريالية ذات النـزعة النرجسية تجاه الآخر، وبين القيم الإيجابية، التي وثق لها عبر تجربته الإدارية التي استمرت قرابة ثلاثة عقود في السودان (1905-1934م)، وهذه القيم الإيجابية يمكن أن يُستأنس بها في تثقيف التجربة السودانية المعاصرة، التي تعاني من ضبابية الرؤية الاستراتيجية، وقلة الكفاءة الإدارية، وضحالة الخبرة المهنية المرتبطة بمشروعات التخطيط الإعماري. ونلحظ من مطالعتنا للجزء الخاص بتشييد مشروعات الري وإعمار الأرض، وتطوير الخدمات الاجتماعية، أن جميع هذه المشروعات قد أنجزت بطريقة تدريجية، مبرمجة وفق خطط إستراتيجية متأنية، قوامها الاستشارة المهنية الناجعة، والتنفيذ الإداري المتقن، الذي أولى اهتماماً خاصاً بالجوانب الفنية، والآثار الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، التي صاحبت تنفيذ أي مشروع إعماري في السودان. وأبلغ شاهد على ذلك مشروع خزان مكوار (سنار)، الذي بدأ العمل فيه عام 1906م، حيث استغرقت الخطوات الأولية المرتبطة بتسوية الأراضي وتسجيلها قرابة سبع سنوات من التدقيق والتمحيص المتواصلين، وبعد البت في دعاوى المتضررين من تنفيذ المشروع تم إجراء المسح التفصيلي للأراضي الزراعية، وأعقب ذلك إيجار الأراضي الزراعية من أصحابها المسجلين، ثم تقسيمها إلى وحدات متسقة مع متطلبات الري النظامي والدورة الزراعية، وبموجب هذا التقسيم تمت عملية إعادة التخصيص في شكل حواشات ذات مساحة متساوية، يسهل ريَّها، وحرثها، وإدارتها. وبعد الفراغ من هذه الخطوات الأولية جاءت عملية بناء الخزان وشق الترعة الرئيسة في مطلع عام 1914م، وقبل اكتمال الخزان (1924م) تمت عملية ربط الخزان ومشروع الجزيرة بخطوط السكك الحديدية السودانية، وتبع ذلك تشييد مباني العاملين في المشروع، وتوفير الخدمات الاجتماعية المختلفة للمزارعين والعاملين على حد سواء. وبفضل هذا التخطيط المبرمج أحدث مشروع الجزيرة نقلة نوعية في المنطقة، أسهمت في تطوير حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وقد علق على هذه الطفرة الإنمائية الدكتور محمد أفضال، مدير أبحاث لجنة الأقطان المركزية الباكستانية، بقوله: "إن الجزيرة تمثل أعظم تجربة رائعة لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في هذا القرن [أي القرن العشرين]، وإن نجاحها عظيم لدرجة تؤهلها إلى دخول التاريخ كأسطورة رومانسية في الإنجاز الإبداعي." (السودان، ص 204-205). إلا أن الشيء المؤسف حقاً أن مشروع الجزيرة قد تقوقع تقوقعاً مريعاً في عهد الحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال، بيد أن تقوقعه هذا لا يمنعنا من الاستئناس بتجربته الفريدة في وضع اللمسات النهائية لسد مروي، وتجاوز الأخطاء الإدارية التي ارتبطت بترحيل أهالي أمري وإعادة توطينهم، وبنـزع بعض الأراضي الزراعية في الولاية الشمالية وضمها إلى إدارة الخزان. وذلك علماً بأن سد مروي من المشروعات التي تم اقتراحها في عهد الحكم الثنائي حسب رواية السير هارولد ماكمايكل، لحماية الأراضي المصرية من الفيضانات المدمرة، ولتخزين كميات المياه الزائدة عن الحاجة، للاستفادة منها في فصول الجفاف. علماً بأن عمليات المسح المائي والحفريات الجيولوجية قد أثبت آنذاك جدوى بناء الخزان، لكن بناء السد العالي لاحقاً صرف نظر السلطات المصرية عن تنفيذ المشروع، وظل المشروع حبيس أضابير الحكومات المتعاقبة إلى أن شرعت حكومة الإنقاذ الحالية في تنفيذه عام 2001م، وتحديد غرضه الأساس في توليد الطاقة الكهربائية، وأن تدشينه سيتم في أغسطس 2008م. والقيمة الإيجابية الأخرى التي تطرق إليها ماكمايكل هو التأهيل الإداري المتفرد الذي حظي به العاملون الإداريون والمهنيون في خدمة السودان السياسية، وبموجبه ذلك استطاعوا أن يؤسسوا خدمة مدنية عامة، راسخة القواعد في السودان، إلا أنها فقدت كفايتها المهنية، وحيدتها الإدارية في عهد الحكومات الوطنية. ويبدو أن حدس ماكمايكل قد صدق في هذا الشأن، لأنه طرح سؤالاً في الفصل العاشر مفاده: "هل يا ترى سيبرهن التعليم والخبرة العملية التي تلقاها السودانيون خلال فترة نصف القرن الوجيزة على أنها أساس متين يسندهم في تصريف أمورهم بحكمة واعتدال، أم ستنحط نزعاتهم الوطنية إلى طموحات شخصية وطائفية وضيعة وذاهلة عن احتياجات البلاد الحقيقية؟" (انظر السودان، ص 174) فلا جدال أن فساد الخدمة المدنية في فترة ما بعد الاستقلال كان ولازال واحداً من التحديات التي تواجه أهل السودان حكاماً ومحكومين، والتي جعلت القائمين بأمر السلطة السياسية يستبدلون الذي هو أدنى (الولاء) بالذي هو خير (الخبرة)، ويفسحون المجال للعمل التنفيذي والإداري الأخرق، الذي لا يلتزم بأدبيات الخدمة الديوانية، والأعراف المهنية المرعية في الخدمة المدنية العامة، ومن ثم تصدر القرارات التنفيذية في المحافل العامة، والتجمعات الجماهيرية دون دراسة أو تمحيص، ويُؤسس بعضها على استشارة بطانة قطاعية لا تفكر إلا داخل النسق التنظيمي والمطامع الذاتية. وبذلك فقدت الخدمة المدنية العامة التي ورثها السودان من المستعمر مصداقيتها وحيدتها الإدارية والمهنية، ومن ثم أضحت كـ"المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى". وفي ختامة هذه المراجعة يطيب ليَّ أن أقدم التهنئة الصادقة للأخ الأستاذ محمود صالح على الجهد الذي بذله في تعريب "السودان"، بصورة تليق بقيمة المعلومات الواردة بين دفتيه، ويحدوني الأمل أن يكون كتاب السودان المُعرَّب مادة علمية ووثائقية دسمة لصناع القرار السياسي والإداري في السودان، إذا أدركوا أن التاريخ هو حادي ركب المدُلجين، الذين يحمدون السُري عندما تشرق عليهم شمس ضحى الغد، والقلة من جيل السودنة الذين عاصروا طرفاً من أحداث تلك الفترة الحرجة من تاريخ السودان الحديث، وطلاب الدراسات السودانية الذين لم يسعفهم الحظ بمطالعة الكتاب في أصله الإنجليزي لأسباب ترتبط بضيق ذات اليد وعجمية اللسان الذي كُتب به.
|
Post: #2
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: yasiko
Date: 12-02-2006, 02:42 AM
Parent: #1
أخي دكتور أبو شوك أشكرك على هذه المدارسة والإضاءة القيمة سأرسل لك بعض التعليقات من قراءتي الأولى بالايميل ولكن دعني أن أقتبس الوارد أناده دون تعليق
Quote: وبموجبه ذلك استطاعوا أن يؤسسوا خدمة مدنية عامة، راسخة القواعد في السودان، إلا أنها فقدت كفايتها المهنية، وحيدتها الإدارية في عهد الحكومات الوطنية. ويبدو أن حدس ماكمايكل قد صدق في هذا الشأن، لأن طرح سؤالاً في الفصل العاشر مفاده: "هل يا ترى سيبرهن التعليم والخبرة العملية التي تلقاها السودانيون خلال فترة نصف القرن الوجيزة على أنها أساس متين يسندهم في تصريف أمورهم بحكمة واعتدال، أم ستنحط نزعاتهم الوطنية إلى طموحات شخصية وطائفية وضيعة وذاهلة عن احتياجات البلاد الحقيقية؟" (انظر السودان، ص 174) فلا جدال أن فساد الخدمة المدنية في فترة ما بعد الاستقلال كان ولازال واحداً من التحديات التي تواجه أهل السودان حكاماً ومحكومين، والتي جعلت القائمين بأمر السلطة السياسية يستبدلون الذي هو أدنى (الولاء) بالذي هو خير (الخبرة)، ويفسحون المجال للعمل التنفيذي والإداري الأخرق، الذي لا يلتزم بأدبيات الخدمة الديوانية، والأعراف المهنية المرعية في الخدمة المدنية العامة، ومن ثم تصدر القرارات التنفيذية في المحافل العامة، والتجمعات الجماهيرية دون دراسة أو تمحيص، ويُؤسس بعضها على استشارة بطانة قطاعية لا تفكر إلا داخل النسق التنظيمي والمطامع الذاتية. |
|
Post: #3
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: Ahmed Abushouk
Date: 12-02-2006, 03:47 AM
Parent: #2
الأخ يس شكري وتقديري على مطالعتك الفاحصة، وملاحظاتك القيمة التي تم استيعابها في النص المعدل
|
Post: #4
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: Nasr
Date: 12-02-2006, 04:32 AM
Parent: #1
جهد مقدر وقراءة ثاقبة ورؤية تأخد في الإتساع تباعا شكرا أبوشوك
|
Post: #6
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: Ahmed Abushouk
Date: 12-03-2006, 00:22 AM
Parent: #4
ألأخ الفاضل: محمد عباس (نصر) شكري وتقديري على قراءة الفاحصة، ودعنا نتواصل
|
Post: #5
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: yasiko
Date: 12-02-2006, 12:38 PM
Parent: #1
Up
|
Post: #7
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: أبو الحسين
Date: 12-03-2006, 04:18 AM
Parent: #1
Quote: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك |
الأخ الكريم إبن عمي د. أبو شوك...
صبحك الله بالخير والرضا...
حقيقي يا أخي هذا جهد جميل ومقدر تستحق عليه الإشادة والتقدير والقومة كمان...
وتشكرات للخواجة السير هارولد ماكمايكل والأستاذ محمود صالح الذي قام بالترجمة ولك عزيزي أبو شوك الذي قُمت بجهد كبير في المراجعة والتحليل... وتعظيم سلام لمركز عبد الكريم ميرغني بأُمدرمان... والتحية لكل أهل الثقافة والفكر والمعرفة في أُمدرمان الوطن السودان...
كميات مودتي...
أبو الحســـــــــــــــين...
|
Post: #8
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: كمال علي الزين
Date: 12-03-2006, 04:38 AM
Parent: #7
أأسف على التكرار
|
Post: #9
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: كمال علي الزين
Date: 12-03-2006, 04:38 AM
Parent: #7
د. أبشوك ..
لا زلت تمارس هوايتك في التحليق بنا بعيداً في سماوات يكاد يكون إرتيادها ضرباً من السباحة عكس
التيار في منابر الحوار السودانية , فلك فضل حراك ثقافي يكاد يكون منعدماً ..
سير (ماكمايكل) رغم إختلافنامعه و حوله إلا أنه ربما يكون أكثر الذين تناولوا تاريخنا صدقاً ,
ليس من أجل الصدق كقيمة, يضعفها عمله في خدمة إطماع الإستعماريين , وإنما لأنه تناوله من باب
أنه مدخل لإيجاد نظام إداري محكم , يقوم على الإدارة الأهلية , والتي يعتبر التأريخ والنسبة إحدى
أهم ما يجب الإحاطة به عند العمل على صياغتها..
واصل فنحن معك ..
خارج النص :
أجمل التهاني للأخ محمد أبشوك وهو يتأهب لدخول القفص الذهبي ..
|
Post: #10
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: Ahmed Abushouk
Date: 12-03-2006, 11:34 AM
Parent: #9
الأخوان أبو الحسين وكمال ود الزين لكما خالص تحيتي ومودتي، وشكري وتقديري على ملاحظاتكما المشجعة، وأمل أن نتلقي إما في حوش أبوالحسين الآثر بتراث أرض البرتكان والمنقة والموز شال هدل، أو في أي من منعطفات ود الزين الصحافية.
الأخ كمال لم يزعفنا الحظ بحضور مراسيم زواج محمد أبوشوك، ومن ثم أضحى الأمل أن يزونا في ماليزيا بعد أن يكمل نفسه الحلو.
|
Post: #11
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: نصار
Date: 12-03-2006, 08:25 PM
Parent: #1
تشكر د. ابو شوك علي هذا العرض الشيق المفيد و مزيداً من العطاء
|
Post: #12
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: موسى الحسين سيد أحمد
Date: 12-04-2006, 08:09 AM
Parent: #11
وبهذه الكيفية وُلد كتاب السودان ميلاداً جديداً، أخرج النص التاريخي ومعطياته من غياهب الإنجليزية إلى رحاب العربية، التي جعلت مادته متاحةً للسواد الأعظم من أهل السودان، فلا جدال أن هذه النقلة المعرفية ستسهم في إندياح دائرة القُرَّاء، وسماع الرأي والرأي الآخر، مدحاً وقدحاً في محتويات الكتاب، التي سأعرض معالمها وأعلق عليها في الفقرات اللاحقة للفقرة الخاصة بشخصية السير هارولد ماكمايكل، الرجل الذي ترك بصماته واضحة على أرض السودان، وعلى نص الكتاب روحاً ومعنًى.Quote: ÊÔßÑ Ï. ÇÈæ Ôæß Úáí åÐÇ ÇáÚÑÖ ÇáÔíÞ ÇáãÝíÏ æ ãÒíÏÇð ãä ÇáÚØÇÁ |
الأخ العمدة د/أحمد أبو شوك لا شك أن عرضكم الرائع لكتاب السودان للسير هارولد ماكمايل حافز ومشهي لإقتناء هذا الكتاب . مع تحياتي
موسى
|
Post: #13
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: Ahmed Abushouk
Date: 12-04-2006, 10:10 PM
Parent: #12
الأخوة الأعزاء الأستاذ موسى الحسين والأستاذ نصار لكما خالص تحيتي ومودتي، وشكري وتقديري على قراءتكما الفاحصة، وأمل أن نتواصل. الأخ الأستاذ موسي ود شيخنا الحسين لعمري لو كان لي نسخة زائدة لآثرتها لشخص الكريم، تقديراً لود قديم وتوثيقاًً لتواصل أسري ممتد مع إمتداد الزمن، ودمتم. أبوشوك
|
Post: #14
Title: Re: السودان: تأليف السير هارولد ماكمايكل، ترجمة الأستاذ محمود صالح، مراجعة أحمد إبراهيم أبوشوك
Author: موسى الحسين سيد أحمد
Date: 12-07-2006, 06:56 AM
Parent: #13
العمدة ودالعمد د/احمد
تحياتي أشكركم على مشاعركم الصادقة حين عدتم للبلد (بعد غيبتكم الطويلة والمثمرة ولله الحمد) غبنا نحن عن البلد قسراً في غربة تحس بمرارتها عندما تفقد أنسان عزيز كما الحال في فقدنا للغالي عبود، وأرجو أن نلتقي انت طيب ونحن طيبين.
|
|