على المك ولوركا وترجمة الشعر .. ( في ذكراك والشتاء )

على المك ولوركا وترجمة الشعر .. ( في ذكراك والشتاء )


10-04-2006, 08:49 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=60&msg=1159991380&rn=0


Post: #1
Title: على المك ولوركا وترجمة الشعر .. ( في ذكراك والشتاء )
Author: tmbis
Date: 10-04-2006, 08:49 PM

علـــى المــك مغـرم بلوركــا غرامــه بامدرمان وصـوت ابــو داؤود . أذكر عندما كنا طلابا في قسم الترجمة بكلية الدراسات العليا بجامعة الخرطوم طلب منا ترجمة قصيدة قصيرة للشاعر الإسباني غارسيا لوركا من الإنجليزية إلى العربية - و بعد أن استمع إلى محاولاتنا المتواضعة في ترجمة القصيدة اعترض على ترجمة عبارة بعينها كنا قد ترجمناها بعبارة : ( من أجل ) وطلب منا استبدالها بعبارة أخرى لكننا لم نعثر على عبارة تحمل نفس المعنى .. ولما استفسرنا عن سبب رفضه لعبارة ( من أجل ) قال بطريقته المعهودة أن هذه العبارة لاكتها أجهزة الأعلام حتى صارت مستهلكة وباهته فتعجبنا من حساسيته اللغوية ولما عجزنـا عـن إيجـاد الـبديل لتلك العبـارة أقـترح علينـا ، أسـتعمال عبـارة ( بسبب ) بدلا عن ( من أجل ) ثم عرض علينا ترجمته النموذجية للقصيدة التي جاءت على النحو التاـلي :

ما أعظمه من جهد
أن اهواك كما أهواك
***
بسبب هواك
تعذبني الانسام وقلبي ..
قبعتي تؤلمني
***
من منى يبتاع وشاحي هذا
وحزني ذاك وقد صيغ من الكتان الابيض
كما يجعله مناديل

وأذكر أنه بعد فترة من ذلك صادفتني ترجمة أخرى لهذه القصيدة لأحد المترجمين العرب وهالني الفرق الكبير بين الترجمتين .. فهذه الترجمة الأخيرة باهتـه وخالية من روح الشعر .

وقد فتن على المك بشعر لوركا افتتانا عظيما وترجم له العديد من القصائد من اللغة الإنجليزية وأذكر أنني التقيت به في مكتبه بوحدة الترجمة والتعريب بجامعة الخرطوم قبل أسابيع قليلة من رحيله .. وقد أهداني نسخة لخمس قصائد مترجمة للوركا كان قد بعث بها لإحدى المجلات العربية . وقد دبج هذه القصائد بمقدمة رائعة عن لوركا تعبر عن مدى إعجابه وافتتانه بهذا الشاعر جاء فيها : " غارسيا لوركا هو شاعر العصر المقدم ، أنه الأندلس وهو أسبانيا ، هو النيلوفر ومصارعو الثيران والأزهار والفجيعة قرطبة وغرناطة واشبيلية مدن تتلألأ في الشمس وفي الظل ، والريح والدخان .. هو الفلامنجو ، وشعر الطبيعة .. لهذا كرهه الفاشيون لأنه يقود الناس إلى مواطن الجمال ، وإلى الحقيقة ، ولم يسمح له بأكثر من ثمان وثلاثين سـنة ، ولد عام 1898م ثم اعدموه في غرناطة في يوليو 1936م . وكانت تلك فاجعة الفواجع .. "

وهذه واحدة من القصائد الخمس :

أغنية ماء البحر

البحر من بعيد يبتسم
أسنانه زبد
والشفاه من سماء
***
وأنت يا فتاة كدرة المزاج
نهداك صوب الريح
ما بضاعتك ؟
سيدي :
أني أبيع ماء البحر
***
وأنت أيها الأسمر الفتى
ما الذي لديك بالدماء يمتزج ؟
سيدي :
ذاك ماء البحر ..
***


وأنت يا أماه
من أين تأتي دموع الملح ؟
سيدي :
إنما أبكى بماء البحر ..
ويا قلب ، وأنت ، ثم هذا القبر
من أين ينبع الأسى ؟
اجاج ماء البحر ..
***
البحر من بعيد يبتسم
أسنانه زبد
والشفاه من سماء

أن ترجمة الشعر تعد من أصعب أنواع الترجمات فهي تختلف عن الترجمة الأخبارية والعلمية لأن الشعر لا تغنى فيه الإفادة وإيصال المعنى فقط .. فالمفردة الشعرية مقصودة في ذاتها ولذاتها وذلك بقدر ما تثيره في النفس من رؤى وظلال وتبعثه من إيحاءات فالشعر هو ما يثير فينا بفضل صياغته انفعالات وجدانية وأحاسيس جمالية .. لذلك لابد لمن يتصدى لترجمة الشعر أن ينقل إلينا الحالة الشعورية التي هي غاية الشعر وإلا فقدت الترجمة معناها .

وهذا يتطلب بالطبع قدرة لغوية فذة وإحساس شعري مرهف ، ومعرفة بكيمياء الألفاظ والتراكيب اللغوية والنحوية مثل تقديم الخبر على المبتدأ وبناء الفعل للمجهول واستعمال الجملة الاسمية بدلا عن الفعلية والتفنن في استخدام أسماء الإشارة والموصول إلى غير ذلك من دقائق أسرار البلاغة .

ولقد استطاع على المك بفضل ما يتمتع به من شفافية لغوية وذوق نقدي متميز واذن موسيقية مرهفة أن يقدم لنا ترجمات شعرية متميزة يمكن أن تشكل نماذج لما ينبغي أن تكون عليه ترجمة الشعر ..

ولعل كتابه ( نماذج من الأدب الزنجي ) خير شاهد على ذلك حيث يضم هذا الكتاب تراجم رائعة لمختارات من أدب الزنوج الأمريكان في الشعر والقصة تحكي عن معاناة وتطلعات وأشواق الزنجي الأمريكي في الحرية والمساواة واسترداد كرامته المسلوبة ومن الأمثلة التي لا يزال صداها يتردد في أذني مقطوعة شعرية ترجمها على المك للشاعر الزنجي بول لورنس يقول فيها :

الحياة كسرة خبز
ومضجع بالحب يسمو

وبالإضافة للحس اللغوي المرهف لابد للمترجم من أن يتسلح بمستوى عال من الثقافة والاطلاع حتى يتسنى له نقل البيئة الثقافية أو المناخ الثقافي الذي يتنفس فيه الشاعر ويمكن أن تتجلى لنا أهمية ذلك إذا قارنا بين ترجمتين مختلفتين لقصيدة للوركا استلهم فيه قول السيد المسيح ( كل شجرة لا تثمر تقطع وترمى في النار )

الترجمة الأولى لعلى المك وجاءت كالآتي :

يا قاطع الأخشاب
خلصني من العذاب
فأنا شجرة بلا ثمار



فالشاعر يريد أن يقول أن حياته صارت بلا معنى لأنه فقد القدرة على العطاء فاستلهم قول السيد المسيح ليؤدى به هذا المعنى وقد فطن على المك إلى مراد الشاعر وعكسه في الترجمة .. أما المترجم الآخر فقد عجز عن إدراك المعنى الإيحائي الذي يرمى إليه الشاعر فجاءت ترجمته كالآتي :

يا قاطع الأخشاب
خلصني من العذاب
عذاب رؤية نفس مجدبة

_____________________________________

مهداه إلى أخي العزيز : عادل محمد عثمان
______________________________________
عبدالمنعم


على المك...ولوركا