"الشلة" في العقل السياسي السوداني- من الشخصنة إلى تعطيل الدولة الحديثة # دارسة

"الشلة" في العقل السياسي السوداني- من الشخصنة إلى تعطيل الدولة الحديثة # دارسة


12-03-2025, 06:50 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=515&msg=1764787855&rn=0


Post: #1
Title: "الشلة" في العقل السياسي السوداني- من الشخصنة إلى تعطيل الدولة الحديثة # دارسة
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 12-03-2025, 06:50 PM

06:50 PM December, 03 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر




مقدمة

لا يمكن فهم الأزمة السودانية الراهنة بمعزل عن البنية العميقة التي تنظّم الممارسة السياسية والاجتماعية. وفي قلب هذه البنية تقف ظاهرة "الشلة" كواحدة من أخطر التشوهات التي تعيق تشكّل الدولة الحديثة
وتمنع تطور المجال العام إلى حقل مؤسسي–ديمقراطي.
فـ"الشلة" ليست مجرد مجموعة مغلقة أو شبكة علاقات شخصية، بل نموذج ذهني وثقافي ومنهجي للعمل السياسي، يقوم على الولاء الشخصي، الإقصاء، وتحويل المجال العام إلى سوق مغلق للمصالح.

إن فهم هذه الظاهرة هو مدخل ضروري لفهم ما حدث في السودان خلال العقود الماضية، وما يفشل اليوم على كل مستويات السلطة والمجتمع.

الفصل الأول: الشلة كنقيض موضوعي للمؤسسة
1. خصائص الشلة: السياسة كعلاقات شخصية

على النقيض من النخبة التي تنتجها المؤسسات وتُضبط بمعايير الكفاءة والشرعية، تنمو "الشلة" في بيئة الفراغ المؤسسي، وتتشكل عبر:

الولاء الشخصي لا الولاء الوطني

النفوذ الكبير مقابل الحجم الصغير

المرونة الانتهازية التي تغيّر المواقف وفق اتجاه الريح

الشرعنة الذاتية دون أي سند ديمقراطي

آليات إقصاء غير رسمية تقوم على التبخيس والشيطنة والتشهير.

في هذا السياق لا تُمارس السياسة كصراع رؤى، بل كـ"لعبة علاقات" تُختزل فيها قضايا الوطن إلى نزاعات بين شخصيات وشلل متنافسة.

2. الجذور التاريخية: الدولة ما بعد الكولونيالية كمولّدة للشلل

تستند الشلة إلى فراغ تاريخي كبير:

دولة استعمارية لم تُبنَ لتكون دولة مواطنة.

إرث طائفي وجهوي لم يتحول إلى مؤسسات حديثة.

حركة طلابية نقلت ثقافة "الدفعة" إلى السياسة.

أنظمة شمولية عمّقت قنوات الولاء الشخصي على حساب الدولة.

هكذا أصبحت الشلة بديلاً عن المؤسسة و"الممر الإجباري" للترقي السياسي والاجتماعي.

الفصل الثاني: آثار الظاهرة — الشخصنة كمنتج بنيوي
1. تفكيك الأحزاب والعمل العام

إن الشلة لا تعطل المؤسسات فقط، بل تنتج:

انشطارات داخل الأحزاب

صراعات بين رؤوس الشلل

تحالفات هشة وتسويات سريعة الانهيار

وتتحول البرامج السياسية إلى ديكور تُعلق عليه الشخصيات نزاعاتها، ويصبح الخطاب السياسي مجرد ساحة لتبادل الرموز والمكاسب.

2. تقويض الديمقراطية الداخلية

تُفرغ الشلة التنظيمات السياسية من مضمونها الديمقراطي عبر:

السيطرة على مراكز اتخاذ القرار

منع التداول الحقيقي للقيادات

اختزال الحركة السياسية في اجتماع مغلق يتخذه "أربعة أو خمسة"

وهكذا تنتقل العدوى من الحزب إلى النقابة والجامعة ومنظمات المجتمع المدني.

3. الشخصنة كمنطق شامل

عندما تصبح الشلة هي الآلية الحاكمة، يصير التفكير السياسي مرهونًا بالأشخاص لا الأفكار، ويجري تفسير كل حدث وقرار باعتباره انعكاساً لعلاقة فرد بفرد، لا لمصلحة عامة أو مشروع مجتمعي.

4. إعادة إنتاج الأزمة

هذه الظاهرة تفسر لماذا تتغير الوجوه ولكن لا يتغير الواقع، ولماذا تنهار الحكومات الانتقالية، ولماذا يفشل أي مشروع وطني في أن يصبح "مؤسسة" بالمعنى الحديث.

الفصل الثالث: السودان كمجتمع انتقال طويل — أزمة تتغذى على منطق الشلة

يعيش السودان حالة "انتقال طويل" تتكرر فيها لغة التغيير دون أن يتغير شيء في العمق؛ لأن البنية التي تدير الفعل السياسي لم تتبدل.

1. تآكل المساءلة وشرعنة الزبونية

بسبب الشلة أصبح:

الولاء أهم من النزاهة

القرب الشخصي أهم من القانون

توزيع المناصب يتم داخل دوائر مغلقة

فيغيب مبدأ "المواطن" لتحل محله "العلاقة".

2. أزمة التمثيل

لا تمثل الشلة إلا نفسها، لكنها تتحدث باسم الشارع والطبقة الوسطى والثورة والمجتمع الدولي. وهكذا تتسع الفجوة بين الخطاب السياسي والواقع الاجتماعي إلى حد الانفصال الكامل.

3. المثقف كزعيم شلة

أصبح المثقف — بدلاً من أن يقود مشروعاً وطنياً — جزءاً من شبكات الولاء الضيقة، منتجاً خطاباً يبرر شلته ويهاجم الشلل الأخرى. وبهذا انهارت فكرة "المثقف النقدي" لصالح "المثقف الوظيفي".

4. تصنيع الرأي العام

تتحكم الشلل الإعلامية في الفضاء الرقمي وتخلق رأيًا عامًا مُصطنعًا، يعمّق الاستقطاب ويمنع ظهور قوة وطنية قادرة على توحيد المجتمع حول مشروع واحد.

الخاتمة: نحو ما بعد الشلة — تأسيس ثقافة المؤسسة

إن تجاوز الأزمة لا يتم عبر تغيير الحكومات أو توقيع الاتفاقيات فقط، بل عبر تحول حضاري في الثقافة السياسية من منطق "الشلة" إلى منطق "المؤسسة".

شروط الانتقال

بناء مؤسسات حقيقية مستقلة
لا تتغير بولاء الأفراد ولا بخروجهم من المشهد.

فصل المجال العام عن العلاقات الشخصية
بحيث يصبح "الدفعة" علاقة اجتماعية لا سياسية.

تأسيس ديمقراطية داخلية في الأحزاب والنقابات
تقوم على الشفافية والتداول المستمر.

استعادة دور المثقف كمحور نقدي
لا كزعيم شلة.

إصلاح المجال الإعلامي
لفك احتكار الشلل للرأي العام.

إمكانية تجاوز الظاهرة

لقد أظهرت ثورة ديسمبر 2019 قدرة المجتمع السوداني على تجاوز منطق الشلل، عندما خرجت قيادة جديدة من خارج الدوائر التقليدية، وأنتج الشارع خطاباً وطنياً جامعاً لا يستند إلى الولاء الشخصي بل إلى المصلحة العامة.

التحدي الآن هو تحويل تلك الروح من "طاقة احتجاجية" إلى "بنية مؤسسية" تُحاصر الشلل وتعيد الدولة إلى وظيفتها الأصلية: خدمة المواطنين، لا خدمة العلاقات.