Post: #1
Title: نحو تجاوز دولة الهوية ومخيالها أو من الفشل إلى النجاح!
Author: محمد جمال الدين
Date: 11-17-2025, 09:12 PM
09:12 PM November, 17 2025 سودانيز اون لاين محمد جمال الدين-The Netherlands مكتبتى رابط مختصر
سلام على كل المهتمين بالشأن السوداني
أرفق لكم هذه المرة ورقة للنقاش العام والحر تحت عنوان "من دولة الهوية إلى المواطنة: نظرة في الإيديولوجيات التي سادت وتسود في السودان منذ العهد التركي 1821 حتى اليوم"، والتي تقدم إطاراً تحليلياً لفهم التحولات الكبرى التي شهدها السودان في تاريخه السياسي والفكري الحديث.
تسعى الورقة إلى قراءة متأنية ومتعددة الأبعاد لسجل السودان الوطني، بوصفه سلسلة مستمرة من محاولات بناء دولة عادلة وشاملة تتسع لكل أبنائه، بُعيداً عن الإقصاء والتمييز القائم على الهوية أو العقيدة أو الجنس. وهي تعكس رؤية حوارية تُصطحب الماضي برصيد إرثه الثقافي والروحي، وتتجاوز الانقسامات لتؤسس لأفق دولة المواطنة.
تشمل الورقة تحليل المحاور التالية:
1. مرحلة الخلافة الإسلامية (العثمانية-المصرية، المهدية، الإسلاموية الحديثة).
2. الإيديولوجيا الاتحادية وفكرة وحدة وادي النيل.
3. إيديولوجيا “السودان للسودانيين” وبدايات الوعي الوطني المستقل.
4. الاشتراكية الإسلامية (المدرسة الجمهورية والإصلاح الديني).
5. الاشتراكية الماركسية وأثرها على بنية الصراع السياسي (الحزب الشيوعي).
6. الاشتراكية العروبية (الناصرية، البعث، القومية العربية).
7. التيار الليبرالي ومحاولات إنتاج دولة ديمقراطية تعددية.
8. نظريات الهامش والمركز وتحليل اختلال السلطة والثروة.
9. المشروع الغائب: مشروع دولة المواطنة وأفق الانتقال من دولة الهوية إلى دولة الحقوق.
10. وسائل تحقيق المشروع وسبل تجاوز تحدياته نحو ممارسة سياسية واجتماعية مستدامة.
11. خلاصة وتحليل الاستمرارية والتحديات.
هذه الورقة جزء من مشروع فكري وطني أوسع يحمل اسم "السودان 200" جزئية مشروع دولة المواطنة، وقد تشارك في صياغته عدد كبير من أبناء السودان المخلصين في بحر سنوات عديدة، سعياً نحو حوار عقلاني ومسؤول يرسم ملامح مستقبل مشترك يستحقه الجميع.
نرحب بكل نقاش هادف وتعليق بناء يثري هذا المشروع ويقربه من التطبيق والعمل الوطني الحقيقي. وهو شيء مكمل ولا يتعارض مع المبادرات الأخرى المخلصة القائمة.
مع خالص تحياتي وتقديري،
م. جمال الدين حامد
واتساب: +31684688891
[email protected]
--- الورقة المعنية تأتي في المداخلة المقبلة كنص text ومتوفرة ك pdf عند الطلب لمن شاء.. وهي مطروحة هنا ومعنية لكل مكان إهتمام
|
Post: #2
Title: Re: نحو تجاوز دولة الهوية ومخيالها أو من الفش�
Author: محمد جمال الدين
Date: 11-17-2025, 09:19 PM
Parent: #1
نحو تجاوز دولة الهوية ومخيالها أو من الفشل إلى النجاح!
ورقة تحليلية تسعى إلى توطيد معادلة رابحة للجميع Win–Win Situation في بناء الدولة السودانية وتجاوز دولة الهوية عبر تحليل تطور آيديولوجيات الحكم ومصادر الشرعية في السودان (1821–اليوم) ومدخل إلى مشروع دولة المواطنة ووسائل كيفية تحققه في أرض الواقع. وهي ورقة متفرعة من الفكرة الأم (مشروع دولة المواطنة).
ملاحظات استباقية: لا تُصنع الأمم بالأوراق/الرؤى وحدها، بل أيضاً وحتماً بالإرادة.. ولكن لا إرادة بلا رؤية، ولا رؤية بلا إطار تُقاد داخله التحولات الكبرى. وما نحاوله هنا -مع الآخرين- هو المساهمة في صياغة ذلك الإطار الفكري الذي يمكن أن تنطلق داخله إرادة التغيير الجماعي، رؤيةٌ صالحة في كل الأحوال: سواء سار السودان نحو الوحدة، أو اختار الانقسام، أو اتجه نحو الاندماج في صيغ جديدة.
الهدف: إن الهدف هو الوصول إلى صيغة تكفل للجميع الربح - Win–Win Situation، وتحول مسار قرنين من الصراع حول الهوية إلى أفق جديد عنوانه: الإنسان والحقوق والمواطنة المتساوية.
موجز تمهيدي للورقة: تقدم هذه الورقة -من دولة الهوية إلى المواطنة: نظرة في الآيديولوجيات التي سادت وتسود في السودان منذ العهد التركي 1821 حتى اليوم—إطاراً تحليلياً لفهم التحولات الكبرى في تاريخ السودان السياسي والفكري، من مشروعات الحكم الأولى إلى صيغ الهيمنة الحديثة، ومن تجارب التنوير والتجديد إلى إخفاقات الدولة الوطنية. وهي محاولة لقراءة هذا التاريخ بوصفه سلسلة مستمرة من محاولات البحث عن دولة عادلة تتسع للجميع. وهي رؤية تصطحب ولا تُلغي؛ تتجاوز الماضي، ولكن تسوقه معها: إرث كوش ومروي، والبعد الروحي لحضور يسوع في السودان القديم، وتجربة سنار الثقافية والإدارية، ومشروع المهدية الثوري وأسطورته، وكل المحاولات الوطنية -الناجحة منها والمتعثرة- باعتبارها طبقات في الوعي السوداني لا بد من فهمها واستيعابها، لا محوها. فالتاريخ والثقافة هنا رصيد وطني مشترك لا مجال فيه للاحتكار أو الامتياز أو الهيمنة. وتسعى الورقة إلى تجاوز الغضب والحزن، خطابات الكراهية المتبادلة والعنصرية والأخرى المضادة، كما تتجاوز حسن النوايا وسوئها، من أجل الارتكاز على المصلحة المشتركة التي تنتج احتراماً متبادلاً وشعوراً بالتحديات المشتركة، وتفتح الباب لصيغة عيش سلمي مشترك. وهي رؤية ترى أن الدولة الجامعة لا تُبنى على إقصاء جماعة أي كانت، أو تهميش جهة، أو محاربة هوية، أو تفضيل عقيدة أو أيديولوجيا، ولا على تمييز بين رجل وامرأة، بل على مساواة كاملة تُعلي من قيمة الإنسان بما هو إنسان.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الورقة، والورقة الأم (مشروع دولة المواطنة)، وكذلك الأوراق المشابهة، صادرة عن مشروع "السودان 200"؛ وهو مشروع فكري وطني كبير يمثل ثمرة نقاشٍ صبورٍ امتد لسنوات عديدة، شارك فيه عدد كبير من أبناء وبنات السودان المخلصين، سعياً للوصول إلى رؤية جامعة لمستقبل يستحقه الجميع. وتأتي هذه الورقة بوصفها دعوةً مفتوحة للحوار والتفاعل والإضافة، إيماناً بأن أي قراءة جادة للتاريخ السوداني، وأي مشروع وطني صالح، لا يكتملان إلا بتنوع الخبرات وتعدد الزوايا وتكامل الأصوات، بما يخدم الصالح الوطني العام ويعيد للسودانيين ثقتهم في إمكانية بناء وطن مشترك.
مدخل عام: شهد السودان، منذ 1821 وحتى اللحظة الراهنة، تحولات عميقة ومتقلبة في أنماط الحكم ومصادر الشرعية. وتداخلت تلك التحولات مع صراعات اجتماعية وإثنية ودينية وآيديولوجية وجهوية واقتصادية، حتى أصبح تاريخ السودان الحديث سلسلة من المحاولات المتكررة لفرض هوية مركزية واحدة على مجتمع شديد التنوع، وفي المقابل سلسلة من التمردات والاحتجاجات على تلك الهوية المفروضة—سواء أكانت عرقية أو دينية أو آيديولوجية أو جهوية. وتهدف هذه الورقة إلى تحليل أهم التيارات والمشاريع التي قدّمت نفسها، عبر التاريخ الحديث، باعتبارها الصيغة المناسبة لحكم السودان، والبحث في أسباب تعثرها أو محدودية أثرها، وصولاً إلى المشروع الذي ظلّ غائباً برغم حضوره المنطقي والموضوعي: مشروع دولة المواطنة كما تقدّمه الورقة الأخرى المرفقة "مشروع دولة المواطنة". ومن هذا المدخل، ننظر أولاً—باختصار أرجو أن يكون غير مخل- إلى البنود الرئيسة للورقة التالية: 1. مرحلة الخلافة الإسلامية (العثمانية–المصرية، المهدية، الإسلاموية الحديثة). 2. الآيديولوجيا الاتحادية وفكرة وحدة وادي النيل. 3. آيديولوجيا “السودان للسودانيين” وبدايات الوعي الوطني المستقل. 4. الاشتراكية الإسلامية (المدرسة الجمهورية والإصلاح الديني). 5. الاشتراكية الماركسية وأثرها على بنية الصراع السياسي (الحزب الشيوعي). 6. الاشتراكية العروبية (الناصرية، البعث، القومية العربية). 7. التيار الليبرالي ومحاولات إنتاج دولة ديمقراطية تعددية. 8. نظريات الهامش والمركز وتحليل اختلال السلطة والثروة. 9. المشروع الغائب - مشروع دولة المواطنة وأفق الانتقال من دولة الهوية إلى دولة الحقوق. 10. وسائل تحقيق المشروع وسبل تجاوز تحدياته من أجل تحويله إلى ممارسة سياسية واجتماعية، وإلى مخيال جمعي قادر على الاستمرار والنمو. 11. خلاصة
أولاً: مرحلة الخلافة الإسلامية (1821–1999) عبر ثلاث موجات 1. الحكم العثماني–المصري (1821–1885) جوهر الشرعية: سلطة دينية/سياسية مستمدة من الخلافة العثمانية. إدارة مركزية مرتبطة بالقاهرة وإسطنبول. جهاز بيروقراطي غريب عن نسيج المجتمع المحلي. فكرة المشروع: لم تكن الغاية بناء “أمة سودانية”، بل إلحاق السودان بالمنظومة الإمبراطورية بوصفه ولاية تابعة، لا مجتمعاً ذا سيادة.
2. الدولة المهدية (1885–1898) جوهر الشرعية: تأسيس حكم ديني رسالي يقوده “المهدي المنتظر”. مفهوم خلاص ديني–سياسي يحشد الشعب ضد الاستعمار والظلم. أثر المشروع: أسست المهدية أول دولة سودانية بالكامل بعد سنار، لكنها رسخت شرعية دينية مغلقة لا تحتمل التنوع، فبقيت أسيرة خطاب ديني-ثوري لا يستطيع إدارة مجتمع متعدد.
3. الإسلاموية الحديثة “الخلافوية الجديدة” 1964–1999 المكونات:
الإخوان المسلمون، جبهة الميثاق، الجبهة الإسلامية القومية وبعض التيارات السلفية.
جوهر المشروع: “الإسلام هو الحل” كمصدر شامل للشرعية والقانون. دمج السودان في مشروع أممي إسلامي. بناء دولة شمولية ترى العلمانية خصماً وجودياً.
ذروة وانهيار المشروع: بلغ المشروع أقصاه 1989–1999، تمكين الجماعة على حساب الجميع، ثم خفت بريقه ببروز المفاصلة بين الفكرة والسلطة 1999.
النتيجة العامة: استقطاب حاد، حرب أهلية، وتعميق فجوة المركز/الأقاليم/الهامش (صراع الهويات الصفري) المحاكم الدولية والهبة الشعبية في ديسمبر 2018.
ثانياً: الآيديولوجيا الاتحادية (1924–1956)
شعارها: وحدة وادي النيل. الرؤية: السودان ومصر في وحدة سياسية/ثقافية وجغرافية. شرعية مستمدة من التاريخ والامتداد النيلي. أفول المشروع: انتهى عملياً يوم أعلن البرلمان استقلال السودان عام 1956، فأسقط فكرة “التبعية الدستورية للتاج الباشوي والعرش البريطاني”. وظلت الأحلام قائمة في بعض الخواطر هنا وهناك بلا تحقق.
ثالثاً: آيديولوجيا “السودان للسودانيين” بداية ب 1924
مضمونها: ولادة وعي وطني مستقل. التركيز على الكيان السوداني كهوية سياسية. حدودها: قدمت إطاراً وطنياً عاماً، لكنها لم تنتج رؤية تأسيسية واضحة لكيف تُدار دولة متنوعة مثل السودان فسقطت الدولة في يد الشمولية والمركزية التسلطية.
رابعاً: الاشتراكية والعقيدة (الإصلاح الديني – الجمهوريون)
بقيادة محمود محمد طه 1945 رؤيتهم: قراءة جديدة للإسلام. اشتراكية روحية/أخلاقية. تحرير الإنسان من القهر الفكري والاجتماعي. حدود التأثير: حضور فكري عميق، لكن قاعدة جماهيرية ضعيفة، ومشروع لم يجد فرصة التحول إلى برنامج دولة.
خامساً: الاشتراكية الماركسية (بداية ب 1946)
الحزب الشيوعي السوداني. جوهر الفكرة: تحليل طبقي للمجتمع والدولة. تجاوز الهويات القبلية/الدينية لصالح الهوية الطبقية. دولة مركزية تقودها الطليعة الثورية. معضلة المشروع: ضعف الطبقة العاملة. هيمنة المجتمع التقليدي وسوء إستيعابه للفكرة. الانقلابات العسكرية المتكررة والقهر الذي طال قياداته وكوادره الوسيطة.
سادساً: الاشتراكية العروبية (بداية 1956)
بعثيون، ناصريون، قوميون عرب. الرؤية: السودان جزء من “الأمة العربية”. وحدة عربية ومقاومة الاستعمار الغربي والعبري. تعلية الثقافة العربية.
النتيجة: عمّقت الصدام بين “العروبة” و“الأفريقانية”، وأنتجت أزمة هوية طويلة الأمد.
سابعاً: التيار الليبرالي
الرؤية: ديمقراطية تعددية. اقتصاد سوق وحقوق إنسان. فصل السلطات واللامركزية. الإشكالية: ظل خطاباً نخبوياً لم يتحول إلى مشروع اجتماعي عريض.
ثامناً: نظام الإنقاذ ونظريات الهامش والمركز (1990–الآن)
تمثل هذه المرحلة واحدة من أكثر مراحل الفكر السياسي السوداني حساسية وتعقيداً، لأنها تكشف جوهر الأزمة البنيوية التي رافقت الدولة منذ تأسيسها: اختلال توزيع السلطة والثروة، وهيمنة المركز النيلي الشمالي على بقية الأقاليم. وقد أفرز هذا الاختلال عدداً من المشاريع، تتفاوت في أهدافها، لكنها تلتقي جميعاً عند نقطة واحدة: محاولة إعادة توزيع القوة الوطنية.
1. السودان الجديد 1983-2011 رؤية ربما تُعد الأكثر طموحاً بين مشاريع الهامش، تقوم على: دولة مدنية/علمانية متعددة الثقافات. تفكيك الهيمنة النيلية وبناء نظام جديد على قاعدة "السودان المتعدد". إزالة الحدود بين الجنوب والشمال عبر مشروع وطني جامع لا يقوم على الهوية العرقية.
لكن المشروع تعثر لأسباب عدة: 1. الحرب الطويلة التي أرهقت الجنوب والشمال معاً. 2. تآكل الثقة بين المكونات السياسية. 3. تجذّر ثقافة الهوية في الدولة والمجتمع وإعتماد المشروع على العنصر القبلي والجهوي. وبانفصال الجنوب عام 2011، انتهى الجزء الأكبر من مشروع السودان الجديد، وإن بقيت بعض أطروحاته الفكرية مؤثرة في الخطاب السياسي السوداني.
2. مدرسة الهامش والمركز (متعددة) برز هذا التيار في التسعينيات بشكل أوضح، وبلغ ذروته في مطلع الألفية مع ظهور التحليل البنيوي للصراع القائم على منهج التحليل الثقافي ثم “الكتاب الأسود”، الذي حاول توثيق اختلالات في نسب تمثيل الأقاليم داخل مؤسسات الدولة. جوهر الفكرة:
الصراع في السودان بين مركز محتكر للسلطة وهامش واسع مهمّش سياسياً واقتصادياً وثقافياً. واللعبة تقوم على أفضلية العرق والثقافة العروبية ولون البشرة الفاتحة “نسبياً”. تفسير كلّ الحروب الأهلية منذ الاستقلال بوصفها محاولة من الهامش لكسر احتكار المركز. برغم أن المشروع يقوم على حقوق تاريخية عادلة مرتبطة بإرث التهميش والعنصرية والتخلف التنموي الذي عانت منه الأقاليم منذ عهود طويلة، إلا أنه تعثر لسببين رئيسيين: 1. الاتكاء على الجهة والقبيلة بوصفهما حاملين للمشروع فتحوّل من رؤية وطنية لبناء دولة عادلة إلى صراع جهوي يعيد إنتاج الانقسام بدلاً من تجاوزه. وهذا جعل الخطاب -رغم عدالة قضيته- أسيراً لثقافة الانتماءات الأولية، فعمق الأزمة الوطنية بدلاً من تفكيكها.
2. غياب مشروع دولة متكامل يشبه مشروع المواطنة إذ ركّز الخطاب على تقسيم المظالم دون طرح صيغة واضحة لبناء دولة جامعة، مما أنتج مزيداً من الحروب وعدم الاستقرار. لقد كانت مقدمات المشروع صحيحة، لكن مخرجاته بقيت قاصرة لأنها لم تتحول إلى رؤية وطنية شاملة تتجاوز الجهوية نحو مفهوم الدولة الحديثة.
3. النزعات الجهوية المتجددة وأثرها في تفاقم الانقسام الوطني يمكن فهم هذه النزعات عبر ثلاث موجات تاريخية:
أ. النزعات الجهوية منذ أيام الدولة المهدية – “أهل البحر” و“أهل الغرب” بدأ الصراع بين المركز والهامش مبكراً، حتى في عهد المهدية: أهل الغرب: كانوا القوة البشرية الأساسية التي جاءت النيل كجنود وحملت الثورة المهدية، وشعروا آنها بأنهم أهل ثمار الدولة. أهل البحر (الشمال النيلي): امتلكوا المهارة الإدارية والتعليم التقليدي والحديث، فتولوا المناصب القيادية بعد حين. هذا التوتر التاريخي ترك أثره العميق في الدولة الحديثة، حيث تشكّل وعي مزدوج: وعي الهيمنة لدى النخبة الشمالية، ووعي المظلومية لدى غرب السودان. وتكرر هذا التصور عبر العهود المختلفة، ليصبح أحد أعمدة الصراع السياسي معظم الوقت.
ب. نظام الإنقاذ (1989–2019) ومثلث حمدي طرح وزير المالية أيام الإنقاذ عبد الرحيم حمدي رؤية اقتصادية -سياسية تقوم على: السودان القابل للحياة = الشمال + الوسط + الشرق. الأطراف الأخرى (الجنوب والغرب) تستبعد أو تُدمج بوصفها ملحقات اقتصادية لا مركزية. هذه الفكرة، برغم عدم إعلانها كتوجه رسمي، جسدت رؤية انفصالية مغلقة، نشأت من: غياب رؤية وطنية جامعة، وفشل مشروع الوحدة بعد الحرب، ورغبة في حماية الامتيازات التاريخية للمركز. وقد عمّقت هذه الرؤية الانقسام، وأسست لمرحلة ما بعد الانقاذ من صراع أهلي متعدد المستويات.
د. النزعات الانفصالية الجديدة بعد ثورة ديسمبر بعد سقوط الإنقاذ تقنياً في 2019، ظهرت موجة جديدة من الخطابات الجهوية، منها: خطاب “البحر والنهر”، نزعات انفصالية في الشرق والغرب والشمال، دعوات لتقسيم السودان إلى أقاليم منفصلة على أسس ثقافية واقتصادية. تحليل هذه النزعات: معظم هذه المشاريع لا تقدّم حلاً، بل تعيد إنتاج الأزمة عبر:
1. توزيع تركة الفشل بدلاً من معالجة الفشل نفسه فهي تسعى لتقسيم بلد فاشل إلى عدة كيانات فاشلة صغيرة بغرض تخفيف الأحمال ليس إلا. 2. غياب رؤية دولة أو مشروع وطني إذ تحاول هذه الاتجاهات بناء هوية أحادية جديدة بدلاً من تجاوز مشكلة الهويات كلها. 3. تجاهل حقيقة أن التشظي لا يضمن الاستقرار فالدول المنقسمة حديثاً تعاني عادةً من ذات مشكلات ما قبل الانفصال وربما أسوأ. 4. تحويل الإقليم إلى “هوية سياسية” مما يعمق الاستقطاب ويغذي موجات العنف الأهلي.
وبالتالي، هذه النزعات -مهما كانت مشروعية مظالمها- لا تقدم صيغة حل، بل تزيد تعقيد الأزمة.
مجمل الخلاصة في هذه النقطة:
يمكن القول إن نظريات الهامش/المركز مثلت أقوى محاولات تفكيك اختلالات السودان البنيوية، لكنهامثل غيرها لم تتحول إلى مشروع دولة، لأنها بقيت أسيرة: الجهة، والقبيلة، ورد الفعل والرغبة في إعادة توزيع الامتيازات، وليس بناء عقد اجتماعي جديد. ولهذا يبقى مشروع دولة المواطنة هو الإطار الوحيد القادر على تحويل مطالب الأقاليم والطبقات الضعيفة ( الهامش ) إلى حقوق دستورية بدلاً من أن تبقى بنادق جهوية.
الوحدة والانفصال: لكلٍ متطلباته واستحقاقاته في ضوء التجربة السودانية، يصبح من الضروري الاعتراف بأن الوحدة لها شروطها ومتطلباتها، كما أن الانفصال بدوره يملك استحقاقات لا يمكن تجاهلها. فالتحولات الكبرى -وحدةً كانت أم انفصالاً -لا تُدار بالشعارات، بل بقدرة الدولة والمجتمع على توفير الأسس التي تجعل أي خيار قابلاً للحياة. فـ الوحدة لا تستمر بالهيمنة أو الامتياز، بل تتطلب: عدالة سياسية واقتصادية، اعترافاً بالتنوع، توزيعاً منصفاً للسلطة والثروة، ودولة محايدة تحمي الجميع. وفي المقابل، فإن الانفصال - رغم أنه حق قد تلجأ إليه الشعوب في ظروف قصوى - لا ينجح تلقائياً ما لم تتوفر له شروط الدولة الجديدة: مؤسسات قوية، عقد اجتماعي واضح، قدرة على إدارة الهوية والموارد، واستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي.
ومن زاوية تحليلية محايدة، تتبين الحاجة الملحّة إلى الاستعداد لكل الاحتمالات؛ فعدم الجاهزية للوحدة ينتج مركزية وإقصاء، وعدم الجاهزية للانفصال ينتج دولاً هشة لا تستقر. ولذلك، فإن المعيار الحقيقي ليس شكل الدولة، بل قدرتها على ضمان الكرامة والحقوق والسلام لمواطنيها.
إن دولة المواطنة، بما تقدّمه من مساواة وحياد وعدالة، تمثل الإطار الذي يجعل خيار الوحدة ممكناً، ويجعل -إن وقع الانفصال- الدول الجديدة قادرة على الوقوف على أسس صلبة. وبهذا المعنى، تصبح الرؤية الوطنية الشاملة صالحة لكل السيناريوهات لأنها تُعالج جوهر الأزمة لا مظهرها.
تاسعاً: المشروع الغائب – مشروع دولة المواطنة (استلهاماً من ورقة “مشروع دولة المواطنة)
بعد فشل جميع مشاريع الهوية - الدينية، العرقية، العروبية، الأفريقانية، الطبقية- يظهر مشروع المواطنة باعتباره الوحيد الذي لم يُجرب بعد. جوهر المشروع
1. دولة بلا هوية رسمية لا عربية ولا أفريقية ولا دينية ولا جهوية. الهوية الوحيدة هي الدستور.
2. مجتمع متعدد الهويات لكنها هويات ثقافية، لا أدوات سلطة.
3. مرجعية واحدة: المواطنة المتساوية الحقوق والواجبات لا تُمنح بالعرق أو الدين أو الجهة.
4. ثلاث ركائز تأسيسية
1. القاعدة الذهبية: مساواة كاملة بين المواطنين. 2. القاعدة الفضية: إدارة التنوع بلا قمع ولا محاصصة. 3. القاعدة البرونزية: التداول السلمي للسلطة.
5. الأداة الأساسية: دستور تعاقدي جديد يعكس المصلحة المشتركة، لا الامتياز التاريخي.
المحصلة العامة للتحليل خلال 200 عام، تبدلت مصادر الشرعية وتكررت الأخطاء: المشروع مصدر الشرعية الثغرة الأساسية الخلافة/الدين المقدس إقصاء التنوع العروبة اللغة/الثقافة تجاهل التعدد الاشتراكية الطبقة الاصطدام بالواقع التقليدي الماركسية الثورة ضعف الحامل الاجتماعي السودان الجديد المواطنة + الهوية الانقسام الجغرافي المركز/الهامش الاقتصاد/السلطة غياب رؤية شاملة للدولة الوطنيّة “السودان للسودانيين” غياب برنامج مؤسسي الإسلاموية الدين حرب أهلية واستقطاب المواطنة الفرد/الحقوق المشروع الوحيد غير المجرب = الصالح
خلاصة أولية: نقد فرضية العدالة التلقائية بعد سقوط دولة الهوية (في نقاط) 1. طبيعة دولة الهوية تقوم دولة الهوية على الولاء السياسي لا على الكراهية الأخلاقية. تُقصي من لا يشاركها مرجعيتها المهيمنة (دينية/عرقية/ثقافية). مشكلتها الأساسية: احتكار السيادة لا رفض التنوع.
2. ما يحدث بعد سقوط دولة الهوية: مأزقان أساسيان
أ. مأزق الوعي تستمر القيم التي غذّت دولة الهوية (الامتياز، الولاء، الاستثناء). تُعاد الأدوات القديمة لإنتاج هويات جديدة بنفس المنطق القديم. يحدث سقوط شكلي للنظام، لا تحوّل جذري في الثقافة السياسية. ب. مأزق السلطة تنقسم القوى التي أسقطت الدولة حول "من يمثل الوطن". تُعاد صياغة صراعات جهوية أو عرقية أو فكرية فوق أنقاض الهوية السابقة. يتحول السقوط إلى إعادة توزيع للامتياز لا إلى تأسيس للمساواة.
3. لماذا لا تتحقق العدالة تلقائياً بعد السقوط؟
أ. لأن العدالة نظام مؤسسي لا مجرد غياب للهوية زوال الهوية القديمة لا يكفي. لابد من بنية حكم محايدة: مساواة دستورية، سيادة قانون، مؤسسات مستقلة.
ب. لأن المظلومية حين تتحول إلى هوية مضادة تعيد إنتاج الإقصاء بعض حركات الهامش تستبدل "هوية المركز" بـ"هوية مضادة". يتحول الضحية إلى مركز جديد يعيد إنتاج منطق الإقصاء بالعكس.
ج. لأن تفكيك السلطة لا يعني إعادة بنائها انهيار المركز قد يفتح الباب لـ لامركزيات عنيفة: مليشيات، قبائل، فصائل. نفس منطق القوة يتكرر لكن بصورة أكثر تجزئة.
د. لأن غياب مرجعية مشتركة يخلق فراغاً خطيراً سقوط دولة الهوية يحذف اللغة السياسية الموحدة. إذا لم يظهر مشروع جامع، تتعدد الشرعيات ويزداد الانقسام.
4. نحو تجاوز دولة الهوية الانتقال لا يتم بانتصار طرف على آخر، بل بصياغة عقد اجتماعي جديد = دولة المواطنة. المواطنة يجب أن تحل محل الهوية الرسمية. يتحول السؤال من “من نحن؟” إلى “كيف نعيش معاً؟”.
5. خلاصة الفكرة الاعتقاد بأن سقوط دولة الهوية يعني تلقائياً قيام دولة عادلة وهم تاريخي. العدالة لا تأتي من انهيار القديم، بل من تأسيس الجديد: تحويل المظلومية إلى حق، والحق إلى قانون، والقانون إلى ممارسة، والممارسة إلى وعي جمعي.
ما لم تتغير البنية الذهنية التي تنتج “هوية الدولة”، سيبقى كل سقوط مجرد تغيير أسماء وولاءات لا بناء وطن جديد
نحو وعد جديد – من دولة الامتياز إلى دولة الإنسان تظهر ورقة “دولة المواطنة.. نورا” بوضوح أن كل مشاريع الهوية بلغت حدّها الطبيعي: إما حرب أهلية، أو انفصال، أو انهيار، أو استقطاب دائم. أما المخرج، فلا هوية جديدة، بل غياب الهوية الرسمية. لا سؤال “من نحن؟”، بل:
كيف نعيش معاً؟ وعد دولة المواطنة دولة حيادية بلا امتياز. مجتمع متعدد لكنه متساوٍ أمام القانون. دستور وطني جامع. مؤسسات لا تنتمي لهوية أو جهة. جيش قومي واحد. تنمية عادلة تكسر إرث التهميش. عقد اجتماعي جديد يضع الإنسان قبل كل شيء.
كيف يتنزّل هذا المشروع إلى واقع، ويصبح مخيالاً شعبياً لا ورقة؟ هذا هو السؤال الحاسم.
وللإجابة عليه، لا بد من الانتقال من المرافعة الفكرية إلى إعادة هندسة الوعي العام عبر ثلاث خطوات مترابطة:
1. إعادة تعريف الشرعية في الوعي الشعبي الشرعية لم تعد: نسباً، أو ديناً، أو لغة، أو سلالة، أو جهة، أو قوة سلاح.
بل: الحق، والقانون، والمساواة، والكرامة الإنسانية.
2. بناء حوامل اجتماعية للمشروع لا تتحول الأفكار إلى قوة تاريخية إلا إذا حملتها: مجتمعات محلية واعية (لجان، روابط، اتحادات). منظمات مجتمع مدني مستقلة. قوى سياسية تتجاوز الهويات الكبرى. نخبة فكرية تقدم خطاباً مبسطاً قابلاً للتداول العام. شبكات شبابية وإعلام رقمي يعيد صياغة الوعي.
3. تأسيس مخيال جديد للدولة هذا هو العمق الحقيقي للتغيير: أن يرى الناس الدولة كـ حقل مشترك لا كغنيمة. يتحقق المخيال الجديد عبر: رموز وطنية محايدة وجامعة. سردية جديدة للتاريخ تعترف بكل السودانيين. تعليم يعزز المواطنة، لا الانتماء الحصري. إعلام غير مؤدلج يقدّم التنوع دون تراتبية. تطبيق عدالة انتقالية تُعيد الثقة بين الدولة والمواطن.
عاشراً: العقبات والتحديات ووسائل تجاوزها لتحقيق مشروع دولة المواطنة في أرض الواقع:
برغم وضوح منطق مشروع دولة المواطنة وكونه المشروع الوحيد القادر على تجاوز إخفاقات قرنين من البحث عن “هوية للدولة”، إلا أن الانتقال إليه ليس عملية فكرية فقط، بل تحول ثقافي وسياسي ومؤسسي عميق.
وتواجهه مجموعة من العقبات البنيوية التي تراكمت منذ الاستعمار وحتى الدولة الوطنية وما بعدها. وفيما يلي أهم هذه التحديات، مع سبل تجاوزها:
أولاً: العقبات والتحديات
1. رسوخ الهويات القبلية والجهوية بوصفها البديل الحقيقي للدولة الدولة السودانية فشلت مراراً في تمثيل الجميع، فملأت القبيلة والجهة الفراغ الطبيعي للدولة. هذا جعل الولاء السياسي–الاجتماعي يتوجه نحو الانتماءات الأولية، وليس نحو الوطن. الخطر: أي مشروع للمواطنة يواجه مقاومة من هويات ترى في الدولة تهديداً لوجودها.
2. اختلال مركز/الأقاليم مزمن التفاوت في التنمية، السلطة، التعليم، البنية التحتية، المشاركة السياسية… خلق شعوراً واسعاً بالظلم، جعل المواطنة تبدو “امتيازاً جغرافياً” وليس حقاً وطنياً. التحدي: لا يمكن بناء دولة مواطنة دون عدالة مكانية حقيقية.
3. ميراث العسكر والميليشيات تغوّل المؤسسة العسكرية والأمنية على السياسة، ووجود تشكيلات مسلحة متعددة، يجعل أي انتقال نحو المواطنة محفوفاً بخطر: عسكرة السياسة صراع السلاح غياب الاحتكار المشروع للقوة
4. انهيار الثقة بين المواطن والدولة بسبب عقود من القمع، الفساد، والمحسوبية، أصبحت الدولة بالنسبة لكثيرين جهازاً معادياً لا يمثلهم. غياب الثقة يجعل أي دستور أو مشروع جديد مهدداً قبل أن يبدأ.
5. غياب النخبة السياسية القادرة على إنتاج مشروع وطني جامع غالب الأحزاب التقليدية أسيرة: هويات دينية أو قبلية زعامات تاريخية صراعات شخصية انقسامات داخلية فتعجز عن تبني مشروع دولة المواطنة بجدية.
6. إرث الاستقطاب الأيديولوجي العنيف الإسلاميون، اليسار، القوميون، الحركات المسلحة، الانفصاليون… كل يحمل سردية تعتبر نفسها “الشرعية”، مما يجعل الاتفاق على مرجع واحد صعباً.
7. اقتصاد منهار يعيق بناء مؤسسات قوية لا يمكن للدولة أن تكون عادلة دون: اقتصاد منتج توزيع عادل للموارد نظام ضريبي منضبط قدرة على تقديم خدمات أساسية والسودان اليوم يواجه واحدة من أعمق أزماته الاقتصادية.
8. انفجار النزعات الانفصالية
هذه النزعات تتغذى من الفشل الوطني، وتعيق بناء وعي وطني جامع.
9. ضعف المخيال الوطني السوداني لا تزال صورة “السوداني” كهوية كلية ضعيفة أمام: الديني العرقي الجهوي القبلي المسلح وهو ما يضعف العاطفة الوطنية اللازمة لتبني مشروع المواطنة.
ثانياً: وسائل تجاوز العقبات وتحقيق مشروع دولة المواطنة في الواقع هذه الوسائل ليست شعارات، بل خطوات عملية تتدرج في ثلاثة مستويات: (الوعي – المؤسسات – العقد الاجتماعي).
أولاً: على مستوى الوعي العام 1. إعادة بناء الشرعية في الوعي الشعبي الشرعية لا تقوم على: السلالة الدين القوة الجهة البطولة التاريخية بل تقوم على: الحق الإنساني– القانون – الكرامة – المساواة. هذه النقلة الذهنية هي حجر الأساس للمواطنة.
2. إعادة صياغة التاريخ الوطني ليس تاريخ قبيلة، ولا وسط أو طرف، ولا مذهب أو آيدولوجيا محددة، بل تاريخ: مفاهيم متعددة ثقافات متنوعة مساهمات مشتركة في بناء الوطن السردية الوطنية يجب أن تعترف بالجميع وبكل المساهمات والمعتقدات والأساطير الشعبية.
3. بناء وعي شبابي جديد الجيل الجديد هو الحامل الطبيعي للمشروع. ويجب تمكينه عبر: منصات إعلامية غير مؤدلجة محتوى تعليمي حديث شبكات رقمية تعزز الهوية المدنية خطاب سياسي بسيط وواضح
ثانياً: على مستوى المؤسسات 4. إصلاح جذري للمؤسسة العسكرية والأمنية عبر إحترامها حق الإحترام: . تسجيل تضحياتها حصر للسلاح بيدها وحدها. جيش قومي مهني غير جهوي. دمج الميليشيات وفق معايير مهنية وإلا في المجتمع المدني. إبعاد الجيش نهائياً عن السياسة والسوق.
5. بناء مؤسسات مدنية محايدة : لن تتحقق المواطنة بدون (مثال): قضاء مستقل مفوضية مكافحة الفساد مفوضية الانتخابات مفوضية الخدمة المدنية مفوضية العدالة الانتقالية هذه المؤسسات يجب أن تكون بالهوية الدستورية، لا بالهوية الثقافية.
6. تطبيق عدالة انتقالية حقيقية لا إصلاح بلا مصارحة. ولا مصالحة بلا محاسبة. ولا محاسبة بلا عدالة. العدالة الانتقالية تبني الثقة، وتحول قصص المظلومية إلى حق قانوني لا إلى ثأر أهلي.
7. تنمية عادلة تكسر إرث المركز والهامش المواطنة ليست فلسفة فقط، بل بنى تحتية: مستشفيات – مدارس – طرق – مياه – كهرباء – أسواق – شبكات. أي مشروع للمواطنة يبدأ من التنمية المتوازنة، لا من الخطاب النظري.
ثالثاً: على مستوى العقد الاجتماعي 8. صياغة دستور تعاقدي جديد ليس دستوراً نخبياً، ولا مفروضاً، بل عقد اجتماعي بين مكونات السودان. يجب أن ينص على: المساواة التامة حياد الدولة دينياً وثقافياً اللامركزية المالية والسياسية فصل السلطات حماية الحقوق الفردية التداول السلمي للسلطة استقلال القضاء
9. إعادة تعريف وحدة السودان الوحدة ليست: قهراً، ولا تحاملاً، ولا انصهاراً قسرياً. بل اتفاق إرادي على مشروع مشترك يربح فيه الجميع (Win–Win Situation). حتى لو حدث انفصال أو اتحاد أو اندماج، يظل مبدأ المواطنة صالحاً في كل الأحوال. 10. بناء مخيال جماعي جديد للدولة
لكي يتحول المشروع من ورق إلى واقع، يجب أن: يرى المواطن أن الدولة ملكه لا “خصمه”. يشعر أن القانون يحميه لا “يتعقبّه”. يدرك أن المؤسسات له لا “ضده”. يثق أن هويته الشخصية محترمة وليست سبباً لاضطهاده. حينها فقط يصبح مشروع المواطنة وجداناً لا مجرد نص.
خاتمة الباب: لن يتحقق مشروع دولة المواطنة بقرار سياسي أو دستور مكتوب، بل يتحقق عندما يصبح: قناعة في العقول، وممارسة في المؤسسات، وعادة في الوعي الجمعي، وأفقاً مشتركاً لكل السودانيين. إنه ليس مشروع دولة فقط، بل مشروع إنسان.
الخلاصة النهائية:
على امتداد قرنين من الزمان، ظل السودان ساحةً مفتوحة لتجارب متتابعة من الحكم والآيديولوجيا، تباينت في رؤاها ومصادر شرعيتها، وتعددت في وعودها ومشاريعها، لكنها التقت جميعاً عند النهاية نفسها: عجز الدولة عن أن تكون دولة لكل مواطنيها.
فمن خلافة دينية مغلقة، إلى عروبة توسعية، إلى اشتراكيات متنوعة، إلى مركز يحتكر السلطة وهامش ينشدها، إلى انفصالات ونزعات جهوية… كان النقص الجوهري واحداً: غياب الصيغة الجامعة التي تتجاوز الانتماءات الأولية وتعيد تعريف الدولة بوصفها حَقّاً مشتركاً لا امتيازاً خاصاً. وقد أظهر التحليل أن مشاريع الهوية -مهما اختلفت - انتهت دائماً إلى أحد أربعة مسارات: حرب، أو انفصال، أو استقطاب دائم، أو دولة غير مستقرة.
وهو ما يجعل مشروع دولة المواطنة، كما تقدّم الورقة المرفقة، ليس بديلاً من بين بدائل متعددة، بل الخيار التاريخي الوحيد القادر على كسر الحلقة المفرغة. إن دولة المواطنة ليست هوية جديدة تضاف إلى الصراع، بل غياب الهوية الرسمية لصالح الحقوق.
وليست مشروعاً أيديولوجياً جديداً، بل صيغة تنظيمية للعيش المشترك، تعتمد المساواة، وسيادة القانون، والاعتراف بالاختلاف، وضمان حقوق الفرد بوصفه أساس الدولة. لكن بلوغ هذه الدولة لا يتم تلقائياً، ولا يتحقق بالنوايا وحدها، بل يتطلب: إعادة تعريف الشرعية في الوعي العام، وبناء حوامل اجتماعية جديدة تحمي المشروع، وإصلاحاً مؤسسياً عميقاً يعيد تشكيل الدولة الحديثة، ومخيالاً وطنياً يعيد للمواطن ثقته في بلده ومستقبله.
وما بين الفشل والنجاح، تقف معادلة واحدة ممكنة: Win–Win Situation
حيث تربح كل المكونات من دولة لا تميّز، ولا تقصي، ولا تُقصَّر على جهة أو دين أو ثقافة أو إقليم. إن السودان، لكي يخرج من قرن الدم والشكوك والامتيازات، يحتاج إلى مشروع ينهي عصر الأسيجة ويفتتح عصر الإنسان.
ومشروع دولة المواطنة هو ذلك الجسر الذي يمكن أن يعبر عليه الجميع، المتفقون والمختلفون، الشمال والجنوب القديم، الشرق والغرب، الريف والمدن، الإسلاميون والعلمانيون، القبائل والحضر… جسرٌ لا يُقصي أحداً ولا يحتكره أحد. فإذا كان الماضي قد صاغه صراع الهويات، فإن المستقبل لن يُبنى إلا بهوية واحدة: هوية المواطن الحر المتساوي في دولة عادلة. وبذلك فقط يمكن للسودان أن ينتقل من دولة الامتياز إلى دولة الإنسان، ومن منطق الغلبة إلى منطق الشراكة،
ومن سلسلة الفشل إلى أفق النجاح الذي يتشارك فيه الجميع. لن يبنى السودان بهوية واحدة، ولا بمركز واحد، ولا بامتياز واحد. بل يبنى عبر صيغة جديدة للعيش السلمي المشترك تساوي بين الجميع، وتُحيّد الهويات في السياسة، وتطلق طاقة التنوع كقوة بناء لا كوقود حرب. هذه الصيغة هي دولة المواطنة- مشروع المستقبل، والوعد المؤجل، والفرصة الاخيرة.
|
|