Post: #1
Title: المرأة ونحن #
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 11-12-2025, 03:28 PM
03:28 PM November, 12 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
الحمد لله الذي جعل الحوار نبراسًا يُضيء عتمات الأفكار، والصلاة والسلام على مَن أرسى بِحكمته قواعدَ الخطاب، وعلى آله وصحبه أهل الفكر والرَّشاد. أمَّا بعد..
فإنَّ الأفكارَ كالغيثِ المنهمر، لا تُثمر إلا إذا وقعت على تربةٍ خصبة، وتلاقحتْ في حوارٍ هادف. ومن هذا المنطلق، كان لي شرفُ المشاركة في ندوة فكريّة جمعت تسعةَ أرواحٍ مثقفة، خمسٌ منهنّ من بنات جنسنا اللطيف - كما يُفضلنَ أن يُنادى بهنّ - إلى جانب أربعةٍ من الرجال. كان لقاءً أسبوعيًا نتحاور فيه حول شتى القضايا، نبحثُ عن فِكْرٍ يهزُّ جمودَ الحياة، ويوقظُ السّاكن في الأعماق. وقد حَفِظتُ من ذلك الحوار الذي دار قبل خمسة أشهر خواطرَ وفتاتَ أفكار جَمَعْتُ شتاتَها لِتُصبح مادةً لأقلامٍ جادة، وها أنا ذا أتحفُ بها القرّاء، عسى أن نصلَ سويًّا إلى رؤيةٍ تُضيء الدرب.
لقد وجّهتْ إليّ إحدى الأخوات الفاضلات سؤالاً محوريًا عن رؤية الرجل السوداني للرجولة في زماننا هذا، بمعزلٍ عن الموروث والمقدّس. وحمّلتِ المثقفينَ وزرَ ما تعانيه المرأة السودانية من قمعٍ وتهميش، وهالتْها أن ترى فيّ امتدادًا لنسقِ الأسلاف في النظر إلى المرأة. وقد آلمني ذلك؛ لأنني أحسبُني أبعدَ ما أكون عن النزعة الذكورية المتعالية، ولكنّ الانفعالَ - أحيانًا - يُذهبُ برّيقَ الكلام، ويُضيّعُ الحكمةَ في زحمةِ المشاعر.
ولجأتُ إلى فكرتي التي أؤمن بها: إنَّ الأصالة السودانية تضع المرأة في مقامٍ رفيع في نفس كل رجل، فهي ذلك الشِّقُّ العزيز في كيانه، بل إنَّ في كلِّ رجلٍ شقًّا أنثويًا لا ينكرُه إلا جاحد. لكنَّ الخللَ المجتمعيَّ المتمثل في هيمنة الرجال وتحجيم دور المرأة ليس طارئًا علينا وحدنا، بل هو إرثٌ سلوكي تراكمي، رُضعناه مع حليب الأمهات، وقُرنَّ بفكرة "الرجل القويّ صاحب القرار". ولا تخلو مجتمعٌ من المجتمعات - حتى أكثرها تحررًا - من هذه النزعة، وإن اختلفت درجةُ طغيانها. فالمجتمعات التي تتمتع فيها المرأة بحقوقٍ راسخة تختلف جذريًا عن تلك التي تفتقر إليها، ولكنّ المسألة تتعدّى الحقوق الشكلية إلى درجة التمكين الحقيقي، وتغيير البنى الثقافية العميقة.
إنَّ إشكاليةَ العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعنا تمتدّ جذورها إلى "العقل الرعوي" الذي تحدث عنه المفكّر السوداني الدكتور النور حمد، والذي يُعيد كلَّ شيء إلى منطق الامتلاك والسيطرة. والسيطرة هنا تشمل حتى المرأة، سواءً أكانت زوجةً أم أختًا، بل إنَّ غيرتَنا على الأمهات قد تتحول إلى محاولةٍ للاستحواز على اهتمامهن. وفي زمن الحروب والعسكرة، تتعاظم النزعة الذكورية، وتُغيّب المرأة كليًا عن المشهد العام فالحربُ عبر التاريخ كانت أداةً لتأكيد سيطرة الرجل.
وفي عصر العولمة، تحوّلت النظرة إلى المرأة إلى سلعةٍ في أسواق الرأسمالية، حيث تحتلّ تجارةُ الجسد مراتبَ متقدمةً بعد السلاح والمخدرات. أما في تجربتنا السودانية، فإنَّ للنزعة الذكورية خصوصيةً تاريخيةً واجتماعيةً جعلتها تصل إلى حدودٍ مفرطة، أفقدت المجتمع توازنه، وجعلت العلاقة بين الرجل والمرأة أشبهَ "بعاهةٍ مستدامة".
لقد ساهمت ثقافتنا الشعبية بمفاهيمها عن العيب والشرف، وبالقصص الأسطورية مثل "فاطمة السمحة" التي تجسّد المرأة كغوايةٍ ومتعةٍ وقطعةٍ ثمينة في المنزل، في ترسيخ هذه الصورة النمطية. فالرجل في المجتمع التقليدي لا يعرف المرأة إلا في الليل، أما في النهار فهو يعيش في عالمٍ ذكوريٍ بحت، مشبعٍ بالنظرة الدونية للمرأة، والتي تجعلها مصدرَ فتنةٍ وشكّ.
وتتعمّق الأزمة مع موروثاتنا التي تدمر العلاقة بين الرجل والمرأة، مثل التركيز على "ستر العائلة" والزواج من بنات العم، وغيرها من الممارسات التي تحافظ على سيطرة الرجل حتى بعد زواج البنات. وقد أدّى اغتراب الرجل عن المرأة إلى ظهور "شهرزادات" العصر، اللواتي يكسرن غربة الرجل، لكنّ المفارقةَ أن الرجلَ حين يصحو من حلمه، يعمل كلَّ ما في وسعه لمنعها من تحرير ذاتها، وبالتالي تحريره هو أيضًا.
إنَّ الذكورةَ التقليدية لم تعد مدعاةً للفخر في المجتمعات الحديثة، بل أصبحت في كثيرٍ من الأحيان مصدرًا للعنف والجرائم، بدءًا من جرائم الحرب إلى جرائم الشرف. وفي المقابل، فإنَّ السمات الأنثوية تميل إلى الاستقرار والسلام وهما أساس استمرار الحياة وازدهارها. وقد لاحظتُ تغيراتٍ إيجابيةً في مفهوم الرجولة، التي تعني امتلاك صفاتٍ إنسانيةٍ رفيعة، والقبول بالمشاركة مع المرأة في بناء المجتمع.
ولا يفوتني أن أؤكد أنَّ الذكورة البيولوجية لا تعني بالضرورة الرجولة الحقيقية. فالرجولةُ موقفٌ وشهامةٌ ونخوة، وهي لا تعني التسلط على المرأة، بل حمايتها واحترامها. وكم أسئنا إلى المرأة عندما جعلناها synonym للإهانة، فإذا أردنا أن نشتم رجلاً قلنا له "يا امرأة"! وكثيرًا ما تأتي المرأة بأعمالٍ يعجز عنها الرجال، وتصبر على ما لا يصبرون عليه.
إننا في السودان بأمس الحاجة إلى إعادة تعريف قيم الرجولة والذكورة، وأن يدرك شبابنا أنَّ مسؤولية المجتمع اليوم مشاركةٌ أصلية بين الرجال والنساء. بهذا الطرح، أرجو أن أكون قد أوضحت رؤيتي، مع الاعتذار للإطالة التي فرضها عمق الموضوع. وتحياتي الدائمة لحواء السودان، تلك الشريكة الأصيلة في بناء الوطن، التي تظلُّ موضعَ فخرٍ واحترامٍ كأمٍّ وشقيقةٍ وزوجة.[/B
*اعيد صيغة افكار المقال بالذكاء الاصتناعي
|
|