Post: #1
Title: جدلية الحياة والموت في الآداب الغربية 1
Author: الطيب عبدالرازق النقر
Date: 07-05-2025, 03:40 PM
03:40 PM July, 05 2025 سودانيز اون لاين الطيب عبدالرازق النقر-السودان مكتبتى رابط مختصر
بسم الله الرحمن الرحيم
جدلية الموت والحياة في الآداب الغربية 1
إن الفارق بين الأدب العربي، والآداب الغربية، ثابت لا يتغير، فالآداب الغربية التي نخافها أشد الخوف من جهة، ونعجب بها أشد الاعجاب من جهة أخرى، مؤلفة من وحدات أساسية بسيطة، تأصل على نحو لا يمكن انكاره، الموروث الذي يتعلق بالصيرورة والفناء، ففي الآداب الغربية نصوص طويلة مكتوبة، تهتم ببنية الوجود الإنساني، فالإنتقال من مفهوم الحياة المتدفقة بالنشاط والحركة، إلى جزئية الهمود والسكون الأبدي، ليست مجرد عبث أدبي طنان، ولكنها مفاهيم تنتمي دون شك، إلى الكتابات المبكرة، التي انصب جهدها الفكري، في بحث نظرية نشوء الكون، وحقيقة تأويل التوافر البشري واندثاره، فنحن نرغب في التشديد أولاً، على أن الآداب الغربية، التي امتزجت جميع عناصرها، بثنائية الوجود والعدم، قد تم اقتيادها إلى هذين الشكلين عبر الثقافة الاغريقية، التي هي عبارة عن سلسلة من الأفكار الغامضة، تحتوي على نصوص ذات دلالة كبيرة، على الصعيد الديني والفلسفي، ففرضية نشوء العالم وانعدامه، هي التي حددت أطر الآداب الغربية وتمازجها، تبعاً لتلك الفلسفة، التي يصعب تجميع أقوالها المتباينة وتنسيقها، وبناء على ذلك، نستطيع أن نقرر بشكل حاسم، أن الآداب الغربية، قد استلهمت تلك المفاهيم التي شغفت بتكرارها، من الحضارة الاغريقية التي حملت العالم على الانبثاق، فمن المناسب القول إذن، أننا نستطيع أن نذهب إلى أن الآداب الغربية، تنطوي على نمط جلي من الترابطات البنيوية الدينية، المستمدة من العقائد والفلسفة، وبطبيعة الحال، يفصح هذا الزعم عن تحد قائم على الافتراض المسبق نفسه، الافتراض القائل بأن الدين والفلسفة، هما اللذان دفعا الآداب الغربية، إلى اختبار الأمور، وتمحيص الحقائق، وهما من أغدقا على أجناسها أيما اغداق، وجعلت أصنافها تلك، تصمد في وجه المتاعب والصعاب.
الكوميديا الإلهية لدانتي
إن من أهم السمات الطاغية على الآداب الغربية، هي الانفتاح المحض على كل شيء، لأجل ذلك لا نجدها تتخبط في ظلماء التيه مثل أدبنا العربي، فأدبنا في مكابدة لا تهدأ، رغم أنه أمست تتجاذبه شهوات الدنيا، تماماً كالآداب الغربية، وأضحى يخوض في وحل "الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء، والصدور النواهد" كما تخوض فيها الآداب الغربية، التي نجحت في أن تلم بطبيعة الفكر البشري وتطوره، وحتى نترك عنا هذا الاستطراد، نقول أن بؤرة النص الابداعي في الآداب الغربية، يدور حول هذين النموذجين منذ (ملحمة جلجامش) البابلية التي تعد من أقدم الآثار الإنسانية، التي لعبت دوراً هاماً في إغناء هوية هذه الثنائية وتقويتها، مروراً بالكوميديا الإلهية "لدانتي أليغييري"، تلك الملحمة الرائعة التي ارتبطت بمفاهيم العقاب، والثواب، والمطهر، قد نهضت على دعائم متينة، ومضت بطريقة منتظمة موحدة، وفقاَ للقواعد والقوانين، التي رسمها لها صاحبها، ملحمة"دانتي" التي خطها في القرن الرابع عشر، من الحقائق التي لا تقبل الرد أو التشكيك، أن تفاصيل هذه الملحمة الغنية والمعقدة، تنسجم فلسفتها، ونظمها المعرفية، وتشبيهاتها، وصورها المحسوسة، وقدراتها التخيلية، مع اللاهوت الإسلامي، فالكوميديا الإلهية التي أسهب وأطنب مؤلفها في ذكر مظاهر الترحيب، والحفاوة، والكرم، تلك المظاهر التي اصطفى بها الخالق أهل الجنة، وأغدق عليهم من المنح والنعم والعطايا، تتناقض في واقع الأمر، مع تلك "الدوائر التسع" من الجحيم التي طاف بها "دانتي" أولاً، لقد حصر "دانتي" عنايته، في أن يظهر لنا التفاوت في حجم التنكيل والعذاب الذي يصب على أهل هذه الدوائر بلا انقطاع، ثم يختتم رحلته التي وصل بها إلى أحسن غاية، والتي أضحت موضوعاً لمباحث أهل الفن، والعمارة، والموسيقى، والأدب، بالوصول إلى مركز الأرض، لا كواقع يقرره، بل كشرط ضروري للتطهر من أوضارالجحيم، لقد تأثر "دانتي الإيطالي" أعظم تأثير بأساليب اللاهوت الإسلامي ومنهاجه، فكيف "لدانتي" الذي عاش في عصر انحطاط، أن يقرر أحكاماً هذا مبلغها من الصحة والعمق، هذه الأحكام التي تستحق منا أن نعطف عليها بمقالات أخرى مترفة، تسوغ لنا بلا ريب، أن نزعم أن تفاصيلها العديدة هي التي أرغمت صاحبها على ذلك التوسع، ومن الحق أن ندعي بشكل قاطع، أن هذه التفاصيل لم تنشأ من الفلسفة الإسلامية وحدها، بيد أنها وجدت وترقت في ظلها، ولكنها ليست من صنعها، والكوميديا الإلهية التي لم تكن تصل إلى شيء مما وصلت إليه من الاتساع والتعقد، العامل الجوهري في اتساعها هو اللاهوت، والفلسفة الإسلامية، التي تسامى إليها" دانتي" وتوغل في فهمها ودراستها، وهذه حقيقة مهمة تماماً من وجهة نظري، لا نستطيع أن نتركها وشأنها، فالكوميديا الإلهية كانت عبقريتها الحقة، ستكون ضيئلة جداً، لو لم يلم الشاعر الإيطالي بفلسفة ابن سينا، وابن رشد، وعبقرية رهين المحبسين المعري في رسالته، ويتخذ من هذه المقومات مقاماً لرحلته.
هاملت لشكسبير
ونجد في مسرحية "هاملت" للكاتب الانجليزي الشهير "ويليام شكسبير"، تلك الشخصية المحورية التي أمست من أعظم الشخصيات التراجيدية التي عرفتها مسارح العالم، شخصية اعترت حياتها الكثير من الأحدات المروعة، التي استند "شكسبير" في صياغتها إلى تخيلات تذهب أحيانا مذهب الاغراق والمبالغة، شخصية شديدة الغموض والاتساع، لا تمضي على وتيرة واحدة، ومنهج مستقر، وإنما تنتقل من حال إلى حال، وتتشكل بأشكال مختلفة، فهدفها الذي شبت في كنفه، وتحركت في اطاره، هو أن تشيد ملكها، وتقهر خصومها، ولكنها لا تنتهج إلى ذلك طريقة منظمة مضبوطة، بل تسعى لأن تحقق هذه الغاية التي ارتطمت بجدار التردد والتسويف، بالتأني، والتمحيص، وكثرة التأمل، الأمر الذي قاد إلى أن تلتزم الصمت إزاء كل ما يشين مجدها، وفكرة الانتقام التي امتزجت مؤثراتها في حنايا" هاملت" واتحدت، هي التي أدت لأن ينحصر طابع حياته في ثلاثة أشياء. أولها هو التردد، تلك النزعة التي طرأت عليه، بعد أن أدرك أن عمه هو الذي أقدم على قتل والده، من أجل أن يستحوذ على أعنة الحكم، وعمه هذا الذي سلبه الملك، لم يكتفي بقتل والده، بل تزوج من والدته المتآمرة، وجرّها إلى مخدعه، تلك الأم التي لم تصنع شيئاً من أجل أن تعيد الأمور إلى نصابها، قد أظهرت الرضا والاغتباط بالزواج من عمه، ولم يفصل بين زواجها من عمه، ومقتل والده سوى ثلاثة أيام فقط، لقد كانت نزعة التردد أكثر انتظاماً، وأبلغ نفاذاً عند "هاملت"، ولم تجد هذه النزعة الشاسعة جداً في طبعه، عقبات تعينه على تذليلها، كان كل ما يفعله "هاملت" المسكين حيالها، عينان تحدقان في الفضاء وتتأمل، ومهجة خائرة لم تحتفظ بمركزها، ولم تعرف كيف تلحق الهزيمة بخصومها، لأجل هذا السبب كانت شخصية "هاملت"، التي لم تجد من يدحضها ويعدلها، تتعرض في غداة كل يوم، لتلك الأغلال والقوى التي تمزقها، وتشوهها، وتهيئ لها أسباب الخبل والجنون، والعته الذي كان يجاذب "هاملت" ويجاذبه، كان موضوعاً خصباً لمباحث فرويد، وإرنست جونز وغيرهم، تلك المباحث التي لم تراعي فؤاد "هاملت" الذي تصدع من الأسى، وتثبت له نوعاً من الهيبة بوصفه رجل بلاط، تحميه في الظاهر على الأقل، من أسنة علماء النفس، التي كانت أكثر تمحكاً، ولجاجة، وتعريضاً بفشله في تنفيذ مقصده الرابض في داخله.
والوهم الذي سد كل حاجات علماء النفس، وكفل لهم السعادة، كان أكثر شيئاً يضني" هاملت" ويحزنه، لأن ذاته تنفجر لهذا الوهم انفجاراً هائلا، ويشعر بنار تملأ نفسه، وتذكي حسه، "فهاملت" الذي كان يسعى لاغتيال والده بأي حجة فيما مضى، بات أبوه يتردد عليه، كلما أغمض" هاملت" عينيه، ويحثه على أخذ الثأر من عمه الذي أزهق حياته، وجعل منه شخصاً خامل الحياة، مسلوب الإرادة، ذلك الوهم الذي عكر صفو حياة" هاملت"، لم يكن يستطيع أن يطعن عليه طعناً نهائياً، أو يجاهر بأنه اختلاق لا فائدة منه،" فهاملت" بزعت عبقريته الجمة في التماهي مع هذه الأوهام والصور، فهي التي أثرت شخصيته، وجعلت المجال يتسع لتحصيل ثمار ترفها، فلو لم تكن تلك الأوهام، والالتباسات، والحيرة، مؤثلات في طبع "هاملت"، لما وجدنا فنوناً حقيقية يتعين علينا أن نتعلمها، وأن نتمرن عليها، لولا ذلك الغموض، والعبقرية، وخصوبة الخيال، لتداعت الأسباب التي تجعلنا نتخذ من شخصية "هاملت" أنموذجا للتفرد، ونعتبرها أوثق مصدر يمكن الرجوع إليه في تصاعد المشاعر واضطرابها.
ونزعة الانتقام، الخصيصة الثالثة التي تفرعت منها عند" هاملت"، هي أمزجته المتصارعة التي لم يكن يجمع بين حيثياتها رابط، ونحن لا ندري أي هذه "الأمزجة" قد انتصر، ولكننا نجزم بأن "هاملت" قد ذهب ضحية هذه الأهواء، فإنه من المدهش حقاً ألا نصل إلى هذه النتيجة، بعد أن اجتهدنا، وقدرنا بالضبط ما استحدثته هذه الطبائع، فقد ساءت سيرة "هاملت"، وساء تقديره للأشياء، وقادت لأن يكون القتل عملاً منظما متواصلاً في حياته، لقد رأينا هاملت يقتل خاصته ومحض وادده، الواحد تلو الآخر، ويعجز في ذات الوقت، عن قتل من عرضه لمخاطر الفوضى، بيد أن" هاملت" في جميع أحواله، لم يسعى أن يتكلف الجد لمحق هذه العناصر، التي فرغنا لها نحن وكتبنا فيها، العناصر التي لا نعتقد أن عبقرية شكسبير وحدها، هي التي صنعتها وابتكرتها ابتكاراً، فشكسبير مهما بلغ من أدوات البحث، والاستقصاء، والتعمق، لا يمكن أن يحيط بعناصر هذه الشخصية، إذا لم يعياشها ويرصد كل حركاتها، وسكناتها وخباياها عن قرب. د.الطيب النقر السبت 5/7/2025 Sent from Yahoo Mail on Android
|
|