Post: #1
Title: المارشال إبراهيم علي
Author: الطيب عبدالرازق النقر
Date: 06-26-2025, 09:39 PM
09:39 PM June, 26 2025 سودانيز اون لاين الطيب عبدالرازق النقر-السودان مكتبتى رابط مختصر
بسم الله الرحمن الرحيم
المارشال إبراهيم علي
أريد أن أتعرض اليوم بايجاز شديد، لشخصية عظمت مكانتها في دواخلي، وتوثقت بيني وبينها عرى المودة، منذ أن كنت طفلاً غض الإهاب، شخصية عليها الكثير من بهاء الكاريزما، وثراء الحضور ، شخصية أقامت حياتها على الرصانة، وأجرت سيرتها على الحزم، إنسان لا أعرف من أمره شيئاً الآن، إلا ما يعرفه الناس جميعاً عن ماضيه، فقد تفرقت بيننا السبل، وأجبرتنا ظروف الحياة أن نتباعد، "إبراهيم علي" جارنا الشهم في ذلك الحي الحكومي، وفي تلك المدينة القصية، وزوجته التومة محمد محمود، سليلة حي السيد المكي، ذلك الحي العريق بمدينة أمدرمان، أشقيت نفسي، وكلفتها أكثر مما تطيق، عندما أخضعتها للهواجس، وتركت الظنون تندس في حناياها ترتع فيها، وتنتقم منها، وساوس عظيمة، طاغية، متجبرة، تدرك أني قد سلكت إلى الوصول إلى "إبراهيم علي " المرشد الأرضي بالطيران المدني"، وزميل المشير "جعفر محمد نميري" رئيس الجمهورية السابق في حجرات الدراسة، طرقاً مختلفة حتى أظفر ببغية لم أتلكا، أو أتردد، أو استكثر، في سبيل تلك الغاية أي تضحية مهما كانت، كنت أُمني ذاتي أن أوفق إلى حد كبير فيما حاولته، وسعيت إليه، كنت حقاً أود أن التقي به، وتتصل حياتي اتصالاً وثيقاً بأقواله، وأحاسيسه، وعقائده، وأن أقف على منشأ هذه الشخصية الباذخة، وكيفية تطورها. كنت صادقاً أرجو أن تصل المقادير ما انقطع من الأسباب، وتجمع ما تفرق من الشمل.
والمارشال "إبراهيم علي"، لا يستقيم النظر في ذكرياتي معه، إلا بالرجوع إلى تلك الحقبة كلها، واستيعاب الشواهد التي تدعو الحاجة إليها، فجمع أشتات هذه الذكريات كلها، أمر عسير، موغل في العسر والعنت، فتذكر تلك الأيام البعيدة، المسرفة في البعد، تتخطفها الغفلة، ويصرعها النسيان، وتنحرف فيها الذاكرة إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى الشمال،ولكني على كل حال، سأسعى أن أمضي أمامك حازماً، عازماً، كما يقول عميد الأدب العربي، حتى أخبرك عن حياة كانت ألين جانباً، وأرقى ملمساً، حياة كنا نحبها أشد الحب، ونكلف بها أعظم الكلف، رغم أننا كنا نعيش في تلك البيوت الصغيرة، الحقيرة، الضيقة، "بيوت الحجر" التي شيدتها الدولة لعمالها وموظفيها عند تأسيسها، ولكننا كنا سعداء في تلك المدينة التي كانت زمزمة رعودها تهز جوانب الأفق، وهدير يمها المصطخب، يكاد يقتلع أركان صرحها الشامخ، كنا مبتهجين في تلك المدينة، رغم أنها لم تنعم علينا بخفض العيش، أو تجعلنا نستقر في مهاد النعمة، ولكنها كانت حانية علينا، فلم تقتلنا سباعها، ولا ضواريها، ولم تجرعنا نوائب الأيام غصصها، كنت حينها طفلاً مدللاً لا يعرف البؤس، وما يستتبع هذا البؤس من حرمان، وكان "إبراهيم علي" يضيق بهذا التدليل الذي خصتني به والدتي رحمة الله عليها وأفرطت فيه، وفي الحق أن حياة "الدلع" التي أقمت فيها، وأطلت المقام، لم تكن عادية خالصة، فقد فرض عليّ المارشال "إبراهيم علي" أن أذعن لسياطه التي كانت تلهب جسدي كلما أظهرت امتعاضي من عدم وجود الأطعمة التي تنزع إليها نفسي منثورة في الموائد، فقد دأب المارشال أن يتناول طعامه بمعيتنا، وكنت أجد في أطباق مائدته العامرة، كل ما أشتهيه من نعيم، وكل ما ابتغيه من لذة، و"إبراهيم علي" الذي لا يحفل به أحد، أو يتحدث عنه أحد، الآن في مدينتنا، وحتى أكون منصفا ومعترفاً بأفضاله، كان هذا الرجل، يمنحني الشعور بوجود عم حقيقي في حياتي، فقد علمني كيف احتفظ بكرامتي واستقلالي، واستطاع أن يضفي عليّ وأنا في تلك السن، أسلوبه الثر الخصب، الذي كانت وتيرة سرعته يمكن أن ترتفع إلى أقصى حد، فيجذب كل من التقى بك لأول وهلة، والشيء الذي سيظل عالقاً في ذاكرتي الخربة، "المارشال" حينما يصطحبني معه إلى مطار المدينة المنيف، فالشيء الذي ليس فيه شك، أن تلك العربة الفينانة التي تحمل أفراداً وجماعات، والتي كان يقودها "عبد الله خلف الله" الشايقي الأصيل المرح، كنت انتظر في لهفة، أن امتطي تلك العربة، التي كانت إلى عهد قريب محتفظة بمقوماتها كاملة، كنت أجلس فيها، واستمع في اغتباط ومسرة، إلى الأحاديث الرقيقة الحواشي التي تدور بين "عيسى حمدين" وعوض كبسون" والراحل "محمد عطية" رحمه الله والد الطيار النابه عارف الفتى اللوذعي، ولعل الشيء الذي لفت نظري، أن المارشال كان يُحسن الحديث مع جميلات الخطوط، أكثر مما نحسنه نحن الآن، وفي الحق أن رحلة المطار تلك، التي كانت تتكرر على فترات متباعدة، كانت حقاً من الأيادي التي لا ينهض بها شكر، أو يستوفيها ثناء، والمارشال الذي كان طامحاً حريصاً أن تكون شخصيتي تساغ وتهضم، كان يجعل مضيفات الطائرات الحسناوات، يحادثونني ويكثرن معي الحديث، ومنهن من لا تكتفي بالملاطفة، والحديث الشيق، واهداء تلك الأنواع المتعددة من الحلوى والشكولاتة، فتطبع على خدي قبلة عجلى، طاهرة، بريئة، لأجل ذلك أنا أقدر هذا الرجل، وأحب ما بقي من آثاره، وأحب مذهبه في الحياة، فقد أتيحت له الوسائل التي تحقق العزة والكرامة، وكل ما يكفل للناس أن تحسن الظن به، وتحترمه، وتثني عليه.
المارشال "إبراهيم علي" كان صاحب ذكاء متقد، وذوق مترف، ومشاعر تجمع بين الشدة واللين، وقد وفق إلى أبعد حدود التوفيق، أن يشيع في نفسي غير قليل من خصاله، كالجرأة والصدق، والوضوح، دون أن يبذل في هذا كله جهداً، ولا مشقة، ولا عناء. د.الطيب النقر الخميس غرة محرم 1447
|
|