Post: #1
Title: الهوية بين الاستلاب والاستعلاء- قراءة في مأزق المشروع الإسلاموي السوداني
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 06-24-2025, 04:08 AM
04:08 AM June, 23 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
في مشهد يُشبه تصدعًا حضاريًا أكثر منه مجرد سقوط سياسي، انهار المشروع الإسلاموي في السودان، لا لأنه فشل في تقديم الخدمات أو ضبط الأمن، بل لأنه قام منذ بدايته على خيانة الواقع السوداني نفسه. فمنذ الاستقلال، حاولت النخب الإسلاموية بتجلياتها المختلفة، فرض تصورٍ أحادي لهوية البلاد، يقوم على مركزية العروبة وتديين السياسة، ورفض كل أشكال التعدد التاريخي والثقافي والعرقي والديني التي تشكل نسيج السودان الحقيقي.
فشلت هذه النخب لا لأنها لم تحكم جيدًا، بل لأنها لم تفهم السودان. قامت برؤية مشوشة استوردت رموزها من صحراء الحجاز وتاريخ الخلافة، وظنت أنها تملك "رسالة سماوية" تفرضها على شعب تعددي ممتد من نوبة الشمال إلى أفارقة الغرب وجنوبيات الأديان والمعتقدات. كان الإسلام بالنسبة لها مشروع سلطة، لا مشروع أخلاق. وكانت العروبة أداة تمييز، لا وعاء ثقافي جامع.
يقول المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد، أحد أوضح الأصوات في نقد هذا التيار، إن مأزق الإسلام السياسي لا يكمن فقط في أدواته، بل في بنية وعيه، الذي حوّل الدين إلى أيديولوجيا مغلقة، تنزع للسيطرة بدل الحوار، وتستخدم العقيدة لفرض الوصاية لا لبناء الدولة. في كتابه السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، يشير إلى أن ما سُمّي "التمكين" لم يكن إلا تمكينًا للاستعلاء العربي على حساب بقية المكونات السودانية، باسم الإسلام.
هذا النهج أدى إلى انفجار الواقع. انفصل الجنوب في واحدة من أبشع تجليات الإخفاق الوطني، واشتعلت نيران الحروب في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. لم تكن هذه مجرد أحداث عنف، بل ردًّا على مشروع لم يرَ في التنوع سوى تهديد ولم يعرف كيف يبني وطنًا من تعدد، فاختار القهر بدل التعايش. إن تجربة الإسلاميين في الحكم كشفت عجزهم البنيوي عن تصور الدولة كمكان للكل. فبدل بناء دولة مدنية، أقاموا دولة أيديولوجية، لا تسع إلا من "ينتمي"، عرقيًا وعقائديًا، للمركز النيلي المهيمن. وهو ما انتقده حاج حمد، ودعا بدلاً منه إلى "الدولة الحضارية" التي تقوم على المواطنة المتساوية، والتعدد الحضاري، والوعي المتحرر من سلطة التاريخ الكاذب.
في مقابل أطروحات مثل "الخطاب والحجاب" لأدونيس، التي فسّرت التخلف العربي بردّه إلى بنى الاستبداد الديني والقبلي، طرح حاج حمد قراءة أكثر التصاقًا بواقع السودان. دعا إلى تجاوز الثنائية القاتلة بين الاستلاب للغرب والاستعلاء على شعوب الهامش، وقال بوضوح إن العروبة ليست قدر السودان، وإن الإسلام السياسي ليس قدرًا إلهيًا، بل خيارًا تاريخيًا يمكن نقده ومراجعته وتجاوزه.
من هنا، تمثل ثورة ديسمبر 2018 تتويجًا لمسار طويل من المقاومة. فهي، وإن حملت شعارات معيشية، إلا أنها كانت في عمقها ثورة على مشروع الهيمنة الأحادية، وتمردًا على استلاب وعي السودانيين لحساب هوية مفروضة عليهم من "المركز".
إن سقوط المشروع الإسلاموي لا ينبغي أن يكون استبداله بوصاية جديدة، بل يجب أن يكون لحظة تأسيس لمشروع بديل، سوداني الجذور، يعترف بتنوع أهله، وينحاز للمواطنة لا للانتماء الضيق، ويعيد تعريف العلاقة بين الدين والدولة خارج منطق الاستغلال. فكما قال حاج حمد لا خلاص للسودان إلا بالخروج من أسر الأيديولوجيا، ومن عبودية المركزية العربية، ومن اختزال الهوية في الدين أو العرق.
اليوم، أمام السودان فرصة تاريخية لكتابة نص جديد، لا يقتبس من خارطة الخلافة أو من قواميس العروبة السياسية، بل ينطلق من تراب السودان وتاريخه العميق المتشابك، ليبني دولة تعرف أبنائها لا حسب أنسابهم، بل وفق حقوقهم وأحلامهم المشتركة.
*المراجع----
أبوالقاسم حاج حمد، جدلية الأصل والفرع: الفكر السوداني بين الوحدة والتعدد، دار الأمين، 2001.
أبوالقاسم حاج حمد، السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، مركز الدراسات النقدية، 1996.
أبوالقاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، المؤسسة العربية، 2002.
عبد الله علي إبراهيم، الثقافة والديمقراطية في السودان، دار عزة، 2000.
أدونيس، الخطاب والحجاب، دار الساقي، 2002.
|
|