في عصرٍ تزداد فيه أهمية المنصات الرقمية كمساحاتٍ للنقاش العام وصياغة الرأي السياسي، برز "كلوب هاوس" في السودان كأحد أبرز ساحات الجدل والحوار، لكنه أيضًا كشف عن خلل بنيوي عميق في علاقتنا بالصوت النسائي في السياسة. فرغم أن العديد من الناشطات السودانيات يطرحن رؤى متقدمة في قضايا الانتقال الديمقراطي، العدالة، والهوية، إلا أنهن يجدن أنفسهن في مواجهة هجوم حاد، ليس بسبب ضعف حجتهن، بل على الأرجح لقوتها.
■ أصوات تُقصى لأنّها تُفكّر الناشطات اللواتي نتحدث عنهن لا يدخلن الساحة كحضور رمزي أو عاطفي. إنهن نساء يمتلكن أدوات تحليل معرفي، كثير منهن على قدرٍ عالٍ من التعليم، وبعضهن مارسن العمل السياسي الميداني أو البحث الأكاديمي. ولكن ما أن تبدأن في التعبير عن مواقف نقدية من أداء القوى السياسية، أو يقدّمن طرحًا نسويًا حول غياب المرأة من مراكز القرار، حتى يُواجهن بحملات تنمّر، مقاطعة، اتهامات جاهزة: "أجندة خارجية"، "نخبوية"، "مقطوعة من الواقع"، "معادية للدين"، أو ببساطة: "ما بتفهم".
■ خطاب لا يحتمل المرأة المفكّرة أغلب من يقود الهجمات على هؤلاء الناشطات لا يقدّم حججًا منطقية، بل ردود فعل انفعالية تحمل في طياتها رفضًا خفيًا لأن تكون المرأة صوتًا تحليليًا عميقًا في السياسة. الذكورية هنا ليست في الشتائم فقط، بل في الأساس الثقافي الذي يرى أن "التحليل" و"التفكيك" و"طرح الحلول" هي مجالات ذكورية، بينما المرأة "مكانها التعبير العاطفي".
الناشطة التي لا ترفع الصوت فقط، بل ترفعه عن وعي، تُصبح مهدّدة، فيُهاجَم صوتها لا لشيء، بل لأنه عاقل.
■ المنصة تفضح البنية جزء من الظاهرة نابع من طبيعة "كلوب هاوس" نفسه: منصة مفتوحة، لا تحكمها معايير مهنية ولا قواعد صارمة في إدارة الحوار. من يمتلك المايك، يمتلك السلطة المؤقتة. لكن هذا كشف عورة المشهد السياسي الرقمي السوداني:
لا توجد ثقافة احترام للرأي المخالف
ولا استعداد حقيقي للاستماع لصوت نسائي ناقد، خصوصًا إذا كان ضد الخطاب الذكوري الثوري نفسه
بعبارة أخرى: لا فرق كبير بين عقلية القمع في الأنظمة الشمولية، وعقلية "الإسكات" في غرف الكلوب هاوس.
■ النسوية تحت سيف التشكيك الكثير من الناشطات يتبنين منظورًا نسويًا في التحليل السياسي، ليس كحركة اجتماعية فقط، بل كمفهوم لتفكيك هياكل السلطة، العنف، والإقصاء. لكن هذا يُقابل بردّ فعل دفاعي عدائي من التيارات الدينية أو حتى بعض اليساريين الذكور، الذين يرون في النسوية خصمًا أيديولوجيًا، بدل أن يفهموها كرافعة ديمقراطية.
يتحول الحوار إلى محكمة تفتيش، وتُجرّد الناشطات من شرعيتهن السياسية لمجرد أنهن نسويات أو يتحدثن عن "الجندر".
■ لماذا الأمر خطير؟ إقصاء هذه الأصوات لا يعني فقط خسارة مساهمات فكرية قيّمة، بل هو مؤشر على أن الديمقراطية التي ننادي بها لم تتجذّر بعد.
ديمقراطية بلا نساء مفكرات هي ديمقراطية عرجاء
ثورة تُقصي النساء لأنها لا تحتمل "صوتًا ناقدًا" ليست ثورة، بل إعادة تدوير للسلطة الذكورية
ثم أن الظاهرة تُرسل رسالة مدمّرة للفتيات السودانيات في الجامعات، في المنافي، في مخيمات النزوح: أن السياسة ليست لهن، أو أنها محفوفة بالشتائم والعدوان.
■ ما العمل؟ نحن بحاجة إلى ما يلي:
صناعة تضامن رقمي: مواجهة الحملات التنمرية بالمنطق، التوثيق، والمناصرة الأخلاقية.
إعادة تعريف السياسة: كمساحة تعبير لكل من يمتلك فكرة، لا فقط من يرفع الصوت.
إنتاج محتوى بديل: من بودكاستات ومقالات تستضيف هذه الأصوات بعيدًا عن الفضاءات العدائية.
نقد ذاتي داخل القوى التقدمية: مراجعة الذات في تعاملها مع الناشطات، بدلًا من التباهي بشعارات الحرية والتعددية.
صوت المرأة السودانية ليس طارئًا على السياسة. لقد كانت في الجبهة، والجامعة، والشارع، والسجن، والمقال، والخيمة، والمايك. أن تُقصى اليوم من فضاء رقمي لأن صوتها "يفكّر أكثر من اللازم"، هو عار سياسي علينا جميعًا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة