Post: #1
Title: اللغة كمعيش- عن غربة التعبير حين نخون لساننا الأم #
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 06-04-2025, 09:36 PM
09:36 PM June, 04 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
اللغة كمعيش: عن غربة التعبير حين نخون لساننا الأم
اللغة، كما يتوهم بعض الفلاسفة العقلانيين، ليست مجرّد وعاء للأفكار، بل هي نَسغ الوعي نفسه. ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي الهيكل العميق الذي تتشكّل فيه الذات وتُعاد صياغتها كل لحظة. نحن لا نفكر أولًا ثم نختار اللغة المناسبة، بل نفكر في اللغة، وداخلها، ومعها. إننا نعيش اللغة أكثر مما نستخدمها. كما قال الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر:-"اللغة هي بيت الوجود، وفي مسكنها يسكن الإنسان." إذا كانت اللغة هي بيت الوجود، فإن الحديث بلغة غير لغتك الأم ليس مجرد انتقال من غرفة لغرفة، بل خروجٌ من البيت ذاته إلى فندقٍ مُستعار؛ نظيف، مرتب، لكنه خالٍ من الروائح العائلية، من الألفة، من دفء الأصوات التي نعرفها منذ الطفولة. في لحظة انفعال، حب، فجيعة أو غضب، حين لا تسعك اللغة الأم للتعبير وتجد نفسك تلجأ إلى لغة مكتسبة، فإنك لا تعبّر، بل تترجم نفسك. الترجمة هنا ليست نقلًا، بل مفارقة: إنها خيانة مزدوجة، خيانة للذات، وخيانة للمعنى. كما كتب ميلان كونديرا-"اللغة ليست مجرّد أداة تواصل؛ إنها الوطن الحقيقي للإنسان." الوطن لا يُستعار، ولا يُستبدل. اللغة الثانية قد تحمل المفهوم، لكنها لا تنقل الوجدان. قد تُرضي عقل القارئ الآخر، لكنها تتركك مُعلّقًا بين المعاني، غريبًا عن نفسك. حين نُضطر لكتابة أفكارنا بلغة المركز، فإننا نُقنِع الآخر بلغته لا بلغتنا، ونعيد إنتاج التبعية. إننا نُخضِع تجربتنا الثقافية كي تلائم مفاهيم لم تُصنع لأجلنا. قال نجوجي واثيونغو، الكاتب الكيني المناضل من أجل الكتابة بلغات الشعوب الأصلية:--"اللغة ليست محايدة، إنها جزء من معمار السلطة." في هذا المعمار، تبدو لغتنا "قاصرة" ويُنظر إليها كأداة تراثية لا كوسيلة للمعرفة المعاصرة. وهكذا يُفرض علينا أن نفكر ضد أنفسنا كي نُقنع الآخر بأننا عقلانيون، متقدمون، أو صالحون "للتمويل". اللغة الأم ليست فقط ما نتحدث به، بل هي ما نتذكر به. إنها ذاكرة الطفولة، الحكاية، الدعاء، الغناء. أما اللغة الثانية، مهما بلغنا من الطلاقة فيها، فهي لغة الوظيفة، السوق، والامتثال.
كتب فرانز فانون في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"-"كلما تكلّم الزنجي الفرنسية، أصبح أكثر بياضًا." فانون لا يقصد اللون، بل البُنية الرمزية التي تُمارس فيها اللغة كسلطة تُطوِّع الوجود. إن استعادة التعبير بلغتنا الأولى ليست ترفًا عاطفيًا، بل فعل مقاومة فلسفية ضد الاغتراب. كما أكّد بول ريكور-"أن تحكي قصتك بلغتك، هو أن تستعيد سلطتك على ذاتك." أن نكتب ونفكر بالعربية أو التغرينية أو الزولو أو الأمازيغية أو أي لغة أم، يعني أننا لم نستسلم بعد لمنطق المركز، ولا زلنا نؤمن أن المعرفة لا تُنتَج فقط من أعلى، بل من كل جهات الوعي. حين لا نقدر على التعبير بلغتنا الأم، فإننا لا نعاني من عُسرٍ لغوي، بل من فقدانٍ في الهوية. كما قال إدوارد سعيد-"المنفى هو أن تتكلم في داخلك بلغة، وتُضطر للتعبير بأخرى."
وهكذا، كلما تكلمنا أكثر بلغة لا تسكننا، أصبحنا أكثر بعدًا عن أنفسنا, نبدو مفهومين للآخرين، لكننا نعيش كغرباء في جلدنا. الشفاء يبدأ من هذه النقطة: استعادة حقنا في التعبير بلغتنا، لا كأثرٍ ماضٍ، بل كأفقٍ حيٍّ للمستقبل.
|
|