في زمن تصاعدت فيه نداءات التفكك وعلت فيه أصوات التمزيق تحت عباءات شتى، يطل علينا ما يسمى بـ"مشروع البحر والنهر" كدعوة انفصالية جديدة، تتبنى طرحًا ناعمًا لكنه في جوهره يحمل كل بذور التشظي والانقسام ويهدد وحدة السودان باسم "الهوية" و"التمييز الجغرافي" و"الخصوصية الحضارية".
خطاب مموّه بشعارات الحداثة يرتكز خطاب هذا المشروع على تصور أن المناطق الممتدة من نهر النيل وحتى سواحل البحر الأحمر تمثل "كيانًا خاصًا" ينبغي له أن ينفصل عن بقية السودان ليبني "دولته الحديثة" بعيدًا عن ما يسمونه "الهامش الثقيل" و"الإرث المعيق". ويعيد هذا الطرح إنتاج خطاب صفوي، يرى المركز النيلي-الساحلي كتكوين "متحضّر" متفوق، بينما يُصوّر بقية الجغرافيا السودانية كعبء لا بد من الفكاك منه.
تفكيك الحجج - من الخصوصية إلى الانعزال يدّعي المشروع أنه يطمح لبناء دولة "كفوءة"، لكن هذا الطموح يُبنى على عقلية إقصائية، تحمّل الآخرين وزر فشل المركز، بينما تغفل أن هذا المركز نفسه (الذي يريد أن ينفصل اليوم) كان طوال عقود هو المتحكم في مفاصل الدولة وهو الذي أنتج السياسات الفاشلة التي أضعفت كل البلاد.
الادعاء بالخصوصية الثقافية واللغوية والدينية لا يبرر الانفصال. فلو كانت "الخصوصية" معيارًا للانفصال، لما بقي بلد في أفريقيا أو العالم العربي موحدًا. إذ لا تكاد توجد دولة اليوم تخلو من تعددية لغوية أو عرقية أو دينية.
منطق الانفصال - وهم التفوق وأزمة الذاكرة في جوهره، يقوم المشروع على نزعة استعلاء حضاري، تفترض أن سكان البحر والنهر هم الأكثر تأهيلاً لقيادة مشروع الدولة، وأن الآخر السوداني – سواء أكان من الغرب أو الجنوب أو الفونج أو الجبال – يفتقر لهذا "الاستحقاق الحضاري".
لكن هذا الوهم يتجاهل التاريخ الحقيقي. فالسودان لم يُبنَ يومًا إلا بتداخل الشعوب وتفاعل الثقافات. ومن المفارقات، أن دعاة الانفصال ينسون أن "وحدتهم الضيقة" لم يكن لها وجود أصلاً دون بقية السودان. البحر لا يغني دون النهر، والنهر لا يكون نهراً من دون روافد تنبع من الجبال والسهول والوديان.
التفتيت ليس حلاً - وحدة السودان مسؤولية الجميع ما يحتاجه السودان اليوم ليس دعوات لتفكيك ما تبقى، بل مشروع وطني شامل يعترف بكل الهويات ويعيد توزيع السلطة والثروة بعدالة، دون حاجة لأسوار جغرافية جديدة. إن مشكلات السودان لن تُحل بتقسيمه إلى دويلات، بل ببناء عقد اجتماعي جديد، يعيد تعريف "الوطن" باعتباره ملكًا لكل السودانيين دون تفريق بين نهر وبحر وجبل وسهل.
إن أخطر ما في خطاب "مشروع البحر والنهر" أنه يستخدم لغة براقة – مثل الحداثة والفاعلية والخصوصية – لتسويق الانفصال، متناسياً أن الطريق إلى الدولة المتقدمة لا يُبنى بالانعزال، بل بالمشاركة، والتسامح، والعمل الجماعي.
الوحدة ليست ضد الخصوصية. لكن الخصوصية لا تعني الانقسام. * فلنقلها بوضوح- ما أبغض الدعوة لتفتيت الوطن باسم الأهمية! عبيد وهميين جدا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة