ظهرت لي على الفيسبوك صورة فتاة تضع نظارة "ساينتفك" سميكة، وخلفها مختبر يعج بأنابيب زجاجية ملونة، كأنها خرجت من فيلم خيال علمي. أما البايو فكان أكثر إثارة: "باحثة في الفيزياء النووية، مقيمة في مدينة كان، وهوايتي: إنقاذ البشرية من الطاقة القذرة." ضحكت وقلت في سري "دي ماري كوري السودانية؟!" لكن الحقيقة أن الصورة كانت ساحرة. شعرها المنساب يبدو كخيوط ضوء من مجرة أندروميدا، وعيناها كثقبين أسودين يبتلعان كل "لايك" دون مقاومة. أرسلت لها رسالة على الفور، بنغمة كهرباء لا تأتي إلا لتغادر: "هل تقبلين صداقة من باحث في الطاقة الشمسية؟ (أنا: أملك مروحة سقف وكهرباء تقطع ١٨ ساعة في اليوم)." جاء الرد أسرع من ذرة مشعة -"أهلاً بعبقري الطاقة المتجددة! أنا حالياً في كان، المدينة التي تنام على صوت أمواج المتوسط!" رددت بدهشة "كان؟ دي جنب البحر؟" قالت "بالضبط! أحضر مؤتمرًا عالميًا عن الانشطار النووي، وأبحث عن عقل يفهم طموحي!" واستمرت المحادثة أياماً، نتناقش حول كيف يمكن لليورانيوم أن يُنير أفريقيا، وعن مفاعلات صديقة للبيئة، و"بلوتونيوم اجتماعي". كنت أعجب من طموحها وكلماتها اللامعة مثل المختبرات. حتى قالت فجأة: "لنلتقي! أين أنت؟" ارتجفت يدي. كيف أشرح لها أنني لاجئ في أقصى حدود بلاد العرب، أعيش على منحة إغاثة تحتوي على علبة تونة، كيس عدس، وابتسامة باهتة من موظف المساعدات؟ قلت لها: "أنتِ في كان الفرنسية.. وأنا في كان السودانية.. والفرق أن (كان) عندنا تعني: كان في كهربا.. وانقطعت."
لكنها ضحكت بثقة نووية وقالت: "أنا خلال ٧٢ ساعة أكون عندك! أرسل العنوان فوراً!" فكرت: حتى لو أرسلت لها موقع "قشيرة الكبرى"، غوغل ماب سيبلغني: "عذرًا، هذه المنطقة خارج نطاق المعرفة البشرية."
في اليوم الثالث، كنت جالسًا في قهوة "الترحاب"، المكان الوحيد الذي يلتقط فيه الواي فاي أنفاسه خمس دقائق يومياً، حين رن الهاتف فجأة: "أنا وصلت! وينك؟" قلت- "في قهوة الأصدقاء، خلف عربة الفول وبجوار بائع اللبن."
بعد دقائق، ظهرت من بين أكياس الدقيق المعلقة. لم تكن تلك "الكيوري النووية"، بل ظهرت بنظارة مكسورة وطرحة شعبية، وشعرها مدهون بزيت "اللالوب". تقدمت نحوي بخطوات ثابتة وقالت بلهجة قروية -"أنا كنت في فرنسا فعلاً، لكن البوردو سحبوني عشان الأوراق خلصت. إنت وينو المشروع النووي القلت عليهو؟"
نظرت إليها، ثم إلى فنجان الشاي البايت أمامي، وشربته دفعة واحدة. قلت في سري -"الفرق بين الانشطار والانبهار، إن الأول بيحصل في المفاعل، والتاني بيحصل في الفيسبوك." ثم همست لنفسي وأنا أغلق الهاتف وأخرج من الفيس بوك والي الابد العلم نور.. لكن الفلترة نور أقوى!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة