-/ "يوم الرحمتات"‏/-

-/ "يوم الرحمتات"‏/-


04-05-2025, 08:11 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=515&msg=1743837073&rn=0


Post: #1
Title: -/ "يوم الرحمتات"‏/-
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 04-05-2025, 08:11 AM

08:11 AM April, 05 2025

سودانيز اون لاين
محمد عبد الله الحسين-
مكتبتى
رابط مختصر



‏"يوم الرحمتات"‏
أعزاءنا الراحلين، عليكم سلام الله
دعوني أستعيد ذكرى قصيدة أثيرة لدي منذ سنوات شبابي المبكر..وهي قصيدة للشاعر ‏بدر شاكر السياب بعنوان " الباب ما قرعته غير الريح" .
يخاطب السياب في هذه ‏القصيدة طيف أمه المتوفاة، بعد أن سمع قرع الريح على الباب ويتخيّل أن أمه هي ‏من تقرع الباب.. حيث يقول في إحدى أبياتها:‏
الباب ما قرعته غير الريح
آه لعل روحا في الرياح هامت ‏
تمر على المرافئ أو محطات القطار
لتُسائِل الغرباء عنيّ....‏
عن غريب أمس راح
يمشي على قدمين وهو اليوم يزحف في انكسار
هي روح أمي هزها الحب العميق..‏
منذ سنوات مبكرة كنت أعيش حجم الإحساس الذي تحمله هذه القصيدة، وأنا أعايش ‏مرة فمرة إحساس الحزن والفقد وذكرى الأعزاء الذين يرحلون،
والذين لن نلتقي بهم ‏أبداً في هذه الفانية مرة أخرى.‏
يوم الجمعة الأخيرة من رمضان (الجمعة اليتيمة) هو بمثابة قرع الريح لذاكرتنا الحية ‏بِصور أحبائنا الراحلين، الغائبين جسدا لكنهم حاضرون بيننا ومعنا
حضورا طاغيا ‏وباذخا في كل لمحة ونفَس. ‏
ذهبت في يوم الجمعة اليتيمة من هذا العام على غير العادة مبكرا إلى السوق. هالني ‏عندما وصلت السوق الزحام وكثرة المتسوقين في هذه الساعة
المبكرة. تساءلت لمدة ‏دقائق من أين أبدأ. أخيرا قررت أن أعرج ابتداء على محلات الجزارة، لاختار لحما ‏جيدا يليق بهذه المناسبة. وقفت مترددا أمام أحد
المحلات. كان صاحب المحل ينظر ‏إلى متفحصا ملامحي وهو يدعوني بابتسامة ساحرة هزمت خجلي المتردد...هؤلاء ‏الباعة لهم نظرة ثاقبة في الزبائن
المحتملين حيث ينتقون بخبرة وفراسة ٍ سيكولوجية ‏زبائنهم من بين العشرات من مرتادي السوق خاصة المترددين مثلي. فهم يتلقفونهم ‏بأعين نسر ماكر
قبل أن يفوقوا من ترددهم. تفحصت مجموعات اللحم المعروض ‏مستنداً على خبرتي المزعومة. وهي خبرة رغم اعتزازي بها أفشل أن أنال بها ‏الاعتراف
من (أم العيال)، وهذا موضوع آخر سنناقشه فيما بعد. المهم دخلت المحل ‏وبدأت في تفحص اللحم، واخترت حسب سمعت وقرأت، الأجزاء الأمامية -الكتف
‏‏(يقولون إن أجود لحوم الضأن هي في الأجزاء الأمامية وتقل الجودة كلما ذهبت ‏للخلف. عكس البقر فأجوده في الأطراف الخلفية..لذلك يتلذذ الناس
بتذوق العِكَوْ( ذنب ‏البقر). ابتسم الجزار شبه ابتسامة لسبب لم أدري كنهه عند اختياري للحكم.. ثم بدأ ‏في توضيب اللحم وفق توجيهاتي(التي قد يرها
هو لا داعي لها)..أكمل صاحب المحل ‏التوضيب ووضع اللحم داخل الكيس. خرجت من المحل وأنا أحمد الله على ‏الانتصار (وما أندر انتصاراتنا الحقيقية)
الذي تكلل بإنجاز أهم مرحلة. خاصة ان ‏اختياري تم وفق معلومات قديمة قالها يوما بشكل عابر بروفسير بيومي رحمه الله: ‏الخواجات لا يختارون إلا اللحم
ذي اللون اللؤلؤي..وهكذا حُقَّ لي أن أشعر بالرضا ‏التام وأنا أحمل اختياري، لحما تم اختياره وفق المواصفات العالمية، موشَّى بلون ‏لؤلؤي غير مزيف. أخيرا
خرجت من محلات الجزارة يسوقني زهو كاذب، فحواه ‏أن شراء اللحم هو الإنجاز الأعظم في هذه الغزوة المبكرة، وأن شراء باقي الأشياء ‏هو مجرد (قزقزة) و
شوية تشطيبات ليس إلا..شفتوا كيف؟.‏
لما عرجت على محلات التشاشة( لا أدري السر في التسمية- لكن خليها لمرة تانية) ‏أدركت فعلا أن السوق لا يفهمه إلا من عمِل فيه. المهم حاولت أن أخرج
من محلات ‏بأسرع ما يمكن (فأنا لا أطيق أي نوع من أنواع الحصار حتى ولو كان لصالحي). ‏كان علي هنا شراء المجموعة السحرية من البهارات التي يتوقف
عليها طعم ونكهة ‏ومذاق المرقة المبتغاة، وهي الكوكبة المتميزة التي لا يطيب طعم المرق والطعام ‏عموما بدونهم. لذلك بدأت الشراء مباشرة دون تمييز
أو تردد: الفلفل، جوزة الطيب، ‏الهيل وأخواتهم من التوم والقرنفل والشمار والكسبرة –نسيت حاجة؟ أخشى أن أنسى ‏فيجعلوني أرجع على وجه السرعة. خرجت
من منطقة التشاشة وأنا أحمل البهارت ‏العزيزة وبعضا من الرشح واحمرار العيون، واحتقان الجيوب الأنفية أما الجيوب ‏الأخرى فلا عزاء لها. ‏
الآن أنا على أعتاب الدخول إلى، منطقة العمليات الحقيقية، حيث زحام الحج ورمي ‏الجمرات، وضيق الممرات...منطقة سوق الخضار هذه هي المنطقة الأشد
إزعاجا. ‏وهي منطقة تحتاج إلى تدريب من نوع خاص، وإلى إحساس جامد، يجب أن تكون ‏فيه باردا كالثلج. أما إن كنت حساسا فسوف تفقد صبرك ويفشل
إحساسك المتوَهَّم ‏بأنك شخص راقي يتهادى في هذه المنطقة في زهوٍ وخيلاء. يسقط كذل ذلك عندما ‏تخرق أذنيك نداءات الباعة المزعجة ورشقات أصواتهم
وهم ينادون عليّ في إلحاح ‏وقح لكي أشتري منهم ، خاصة من الباعة الذين يفترشون الأرض. ‏
تذكرت وأنا أعيش هذا الضجيج بأنه يجب على أن أحاول أركز شوية حتى لا أنسى ‏شيئا، فجميع الطلبات من هذه المنطقة مهمة وكل واحدة أهم من الأخرى
، فيجب ألا ‏أنسى أي واحد منها فيقولون لكل منها أهميته في الطبخة (بالرغم من أنها قد تكون ‏مجرد كومبارس، غير أساسي،يلا..وأنا حأفهم أكتر من الحكومة؟.‏
في مثل هذا اليوم كان شراء لوازم السلطة لوحدها يحتاج إلى صبر مثل صبر أيوب و ‏إلى حنكة وخبرة في الشراء وإلا ... المهم بعد دقائق عديدة صُلتُ فيها
يمنة ويسرى ‏ومع جولات من الجدل والمفاصلات خرجت منتصرا وأنا أحمد الله.. شعرت ‏بالارتياح وأنا أراجع الأكياس لأتأكد من شراء جميع الطلبات: الطماطم،
البصل ‏الأخضر، الجرجير، والشطة الخضراء والليمون والبصل الأبيض والباذنجان والفلفل ‏الأخضر.‏
أخيرا عدت إلى البيت وانا في منتهى الفرح، ويسوقني إحساس خادع بالإنجاز، رغم ‏التعب. ‏
عند بداية العصر كانت أنحاء البيت تعبِق برائحة البهريز المميزة المعبأة برائحة التوم ‏والبهارات التي أرهقتني.، ونكهة اللحم اللؤلؤي، معلنة عن قرب النضج
المنتظر. ‏
‏ قبل ساعة من موعد الإفطار كانت حوالي سبعة صحون كبيرة وواسعة (حسب ‏التقليد المتوارث) مرصوصة وممتلئة ومعبأة بحُب، في انتظار التوزيع.
وما كنتم ‏هناك لترون وأنا أنظر في بهجة وإحساس بالرضا التام منظر الأرز وهو يكلل هامة ‏الصحون، تعلوه في جرأة قطع اللحم المحمر وهو يحيط
بالمنطقة الاستراتيجية في ‏الوسط وفي الأطراف، رغم مزاحمة وعناد سلطة الأسود التي كانت تقف شامخة في ‏المنتصف مثل جبل البركل. ولا نامت أعين الجبناء... ‏
عندما حان موعد الإفطار، كانت الصحون قد تم توزيعها، وبدأ الاسترخاء ما بعد ‏الإفطار يدب في الأجسام، كنا على يقين من أن أحبابنا الراحلين كانوا
حاضرين معنا، ‏شهودا عدولا عند تناول أول بلحة وأول جرعة ماء، وعند أول دعوة. الحمد الله فقد ‏ابتلت العروق وثبت الأجر وصعدت الدعوات إلى السماء.‏
‏ د. محمد عبد الله الحسين.‏
‏(الدوحة- 3 أبريل 2025)‏